الخميس، 17 يونيو 2010

التجريد





التجريد abstraction، هو عملية الفصل بين ما هو رئيس، وما هو ثانوي عارض ومتغير. ويعد التجريد عملية حاسمة، تساعد على الانتقال من المستوى الحسّي التراكمي، ومن التعامل مع خليط الخبرة، وتداخل عناصرها ومكوناتها (حسّية، حركية، إدراكية، مشخّصة، مجرّدة، وغير ذلك) إلى المستوى المعرفي النظري، القائم على إدراك ما هو مشترك بين أنواع الخبرة هذه، أي المستوى الذي يشتمل من حيث التكوين والبناء على مفهومات ومبادئ وقواعد وقوانين ونظريات.
وللتجريد درجات، فإذا نظرت إلى الورقة التي أمامك، فانتزعت منها لونها أو شكلها، كان تجريدك فرز المجتمع في الإدراك الحسي، وهو أبسط درجات التجريد. وإذا نظرت إلى اللّون عامة، من دون أن يكون هذا اللون أحمر، أو أزرق، أو نظرت إلى الشكل عامةً، من دون أن يكون هذا الشكل مستطيلاً أو مربعاً، فأنت لم تقتصر في ذلك على درجة الفرق، أو حتى على مجرد الفرق بينهما، بل تجاوزت ذلك إلى درجة أعلى، ولا تزال ترتقي من تجريد أدنى إلى تجريد أعلى حتى تصل إلى تصور المعاني الكلية، والمفهومات الراقية، لذلك، قال ابن سينا: «إن أصناف التجريد مختلفة، ومراتبها متفاوتة».
أولاً ـ ماذا يعني التجريد
يمكن للباحث في الفلسفة، أو التربية أو علم النفس، أن يجد معاني وتعريفات كثيرة لعملية التجريد، وقد يجد فيها بعض الاختلاف، غير أن معظمها متشابه، ليس على مستوى الاختصاص الواحد فقط، بل على مستوى الاختصاصات المختلفة. وهذا الاتفاق يدل على تماسك هذا المفهوم، وثباته وأصالته. وفيما يلي عرض لأهم هذه المعاني والتعريفات:
1ـ التجريد في الفلسفة: يشير التجريد بالمعنى الفلسفي إلى «الجانب الإدراكي، الذي يعزِل عقلياً خصائص الموضوع، عن أي موضوع آخر بهدف تجزئة عناصره، وعزل جوانبها الأساسية، وتحليلها من نواحيها المتعددة، وفي صورتها الخالصة».
2ـ التجريد في المنطق: «هو تبرئة عن شيء، لو لم يبرأ عنه لكان لاحقاً من خارج، فإن من قال إن الإنسان قد يتجرد عن الإنسانية، قال شططاً إلا إن كان يعني أن مادة الإنسانية، قد جُردت عن الإنسانية، فحينئذٍ تكون الإنسانية أمراً خارجاً عنها أيضاً».
3ـ التجريد في علم الاجتماع: يرى جورج لندبرج «أنَّ التجريد عملية إدراكية، وظيفتها توجيه الانتباه نحو خبرات محددة، من أجل تسهيل عملية التعميم، والتجاوب مع معطيات البيئة»، في حين يرى ثيودورسون Theodorson أنَّ التجريد «عملية عقلية، يستخدمها الباحث استخداماً إدراكياً انتقائياً، بهدف الوصول إلى تعميمات، مرتكزاً على جانب معين من الواقع الذي يختار من البيئة عدة ظواهر مدركة».
4ـ التجريد في علم النفس: التجريد عند شيرد «عملية عقلية راقية خاصة بالإنسان، وهو يتحقق على قاعدة المفاهيم والفئات». والتفكير المجرّد هو تجرد واستخلاص علاقات من الأشياء المحسوسة الموجودة، واستخدام هذه العلاقات للوصول إلى تنظيمات أخرى.
ثانياً ـ نشأة مفهوم التجريد وتطوره من الطفولة إلى الرشد
لا يستطيع الطفل حديث الولادة أن يفهم بيئته، وما تنطوي عليه من أشياء وكائنات وأحداث، غير أنه يكتسب هذا الفهم تدريجياً من خلال عمليات النضج، والتعلم، والخبرة.
وينشأ الفهم من خلال الخبرات الحسية الأولية التي يعيشها الطفل، فالمفهومات «ليست معطيات حسية مباشرة، ولكنها شيء ناتج عن ربطٍ وحبك لهذه المعطيات وهي التي تحدد ما يعرفه الطفل، وما يعتقد، ومن ثم، وإلى حد كبير، ما يفعله».
إن التفكير المجرد يتخطى كثيراً حدود المعرفة الحسية، لكنه لا يمكن أبداً أن ينقطع انقطاعاً تاماً عن الإحساسات والإدراكات والصور. إن هذه العلاقة الوثيقة للنشاط العقلي بالخبرة الحسية العملية، لها أهمية كبيرة في أثناء تكوين المفهومات لدى الأطفال.
ومفهوم التجريد كغيره من المفهومات العقلية الأخرى، ينمو ويتطور تدريجياً، مسايراً في ذلك مراحل النمو المختلفة التي يمر بها الفرد والتي سيتم تناولها على النحو التالي:
1ـ الطفولة المبكرة (مرحلة ما قبل المدرسة) 3ـ5 سنوات: تتميّز هذه المرحلة بما يلي:
أـ يتمحور التفكير على العمليات الحسية المتعلقة باللذة والألم عند الطفل.
ب ـ يتصف تفكير الطفل بأنه خيالي، بعيد عن المنطق، كما أن الطفل يكون متمركزاً حول ذاته، ولكنه يبدي تقدماً ملحوظاً وانتظاماً في خبراته الحسية الحركية، ويبرز اللعب كنشاط رئيس لديه في هذه المرحلة.
جـ ـ يطرح الطفل أسئلة كثيرة تدور حول مشاهداته وخبراته اليومية، ويكتشف أن التفكير يرتبط بالكلام، وأن لكل شيء اسماً يقابله.
د ـ يكون تعلم الطفل شرطياً، يعتمد على الاستجابة المباشرة للمثيرات الخارجية.
هـ ـ تكون استجابات الطفل جزئية تحليلية، وليست تركيبية أو كلية، والمثير في لحظة نشاطه يستحوذ على الطفل استحواذاً كلياً، وينبثق معناه من شكله الخارجي فقط.
يبدأ الطفل بتعلم المفهومات في بداية هذه المرحلة، وربما قبلها، أي في نهاية السنة الثانية.
أما المفهومات التي يبدأ الطفل بتكوينها في هذه المرحلة فهي كثيرة مثل: مفهوم الفراغ، والوزن، والزمن، ومفهوم الذات، إضافة إلى المفهومات الاجتماعية التي تتشكل من خلال علاقته بالناس، وعلى رأسهم ذووه. إلا أن المفهومات في هذه المرحلة تكون غائمة جداً وغير محددة ويمكن تعلمها من خلال الخبرة الحسية فقط، بل يمكن عدها على الأرجح، المستوى التمهيدي الذي لابد منه لتعلم المفهوم المجرد. 
2ـ الطفولة المتوسطة 5ـ8 سنوات: ويتميّز تفكير الطفل في هذه المرحلة بما يلي:
أ ـ تفكير تجريدي ناقص وغير مكتمل، يعتمد على اكتشاف أوجه الشبه بين المثيرات المختلفة.
ب ـ لا يتمكن الطفل من استخدام المعاني الكلية، أو الألفاظ المجردة، كما أنه غير قادر على تركيز انتباهه لمدة طويلة في موضوع واحد، أي أن تفكيره انتقالي موزع.
ج ـ يستخدم الطفل الصور البشرية للأشياء التي يخبرها، ويتمكن من إدراك العلاقات المكانية بين الموضوعات، لكنه غير قادر على إدراك فكرة العلة والمعلول على نحو كامل.
د ـ يتمكن الطفل من الاستجابة لعدد من المثيرات دفعة واحدة، كما يكون قادراً على اختيار مثير والاستجابة إليه دون غيره، وتأجيل الاستجابة لمثيرات أخرى لوقت لاحق.
هـ ـ تعمل حواس الطفل المختلفة (البصر والسمع واللمس...) متآزرة مترابطة، مما يجعله يدرك أن ما يلمسه، هو نفسه ما يراه، وأن ما يقرؤه هو عين ما يسمعه.
وعموماً، يمكن القول، إن تفكير الطفل في هذه المرحلة، يتميز بخصائص تجعله أكثر تعقيداً عما كان عليه في السابق، غير أنه مازال بسيطاً، يفتقر إلى الثبات والتماسك إذا ما قورن بالتفكير في المرحلة اللاحقة، أي مابين الثامنة والحادية عشرة.
إن للمفهوم المحسوس في هذه المرحلة، خمسة مستويات من التجريد، يمكن توضيحها في المثال التالي: الكلب بوسي، المستوى الأول بوسي، والثاني كلب، والثالث حيوان، والرابع مادة حية، والخامس مادة. وتزداد هذه المستويات في درجة تجريدها على أساس منطقي هرمي، وقد بُني هذه الترتيب المنطقي على حقيقة مفادها أن المستويات العليا تتضمن المستويات الدنيا، وهكذا إلى أن نصل إلى أعلى المستويات. فالمستوى الأول وهو بوسي، متضمن في الثاني، وهو كلب، والثاني متضمن في الثالث، وهكذا...
وحقيقة الأمر «أنَّ هذه المستويات، التي تتكون المفهومات المجردة من خلالها هي غاية في التعقيد بالنسبة للطفل، وإن كانت تبدو للوهلة الأولى أنها غاية في البساطة».
 أما المفهومات الأكثر أهمية وعمومية في هذه المرحلة فهي: مفهومات الحياة والموت، ومفهومات الفراغ والوزن والزمن والبعد ومفهوم الذات والسببية، إضافة إلى المفهومات الاجتماعية والجمالية.
والشيء الذي يمكن تأكيده هنا، هو أن المستوى التجريدي للمفهومات، أصبح أكثر ارتقاءً من المرحلة السابقة. إلا أنه مازال دون مستوى التفكير المجرد بالمعنى الخالص للتجريد. إن الأطفال على سبيل المثال مازالوا  غير قادرين على فهم حقيقة أن الموت عملية نهائية، فهم يعتقدون أن لكل شيء صفات حيوية تمكنه من العودة. فالعصا بالنسبة للطفل حصان يمتطيه، وقطعة القماش المعقودة بطريقة معينة طفل يداعبه، وهكذا، ولاسيما في بداية هذه المرحلة.
أما مفهوم الذات فيتشكل من خلال الأدوار التي يلعبها الطفل، ويتقمص فيها شخصيات الآخرين. رجل البوليس، المعلم، رجل الإطفاء... ويتجلى ذلك في أنشطة اللعب التمثيلي التي بدأت تأخذ طابعاً شبه منتظم، يعتمد التخطيط، ويتوخى الوصول إلى أهداف شبه واضحة محددة.
3ـ الطفولة المتأخرة: 8ـ12سنة: يتميّز تفكير الطفل في هذه المرحلة بما يلي:
أ ـ تتناقص عملية التمركز حول الذات تدريجياً، ويزداد تفكير الطفل مرونة، ويغدو قادراً على الاستفسار وتقبل آراء الآخرين، ومحاولة فهمها من خلال تفاعلاته الاجتماعية المختلفة الآخذة في النمو والارتقاء.
ب ـ يدرك الطفل ما هو عام، وما هو خاص في اللحظة ذاتها، ويميز بينهما تمييزاً واضحاً.
جـ ـ يصبح التفكير التجريدي لدى الطفل شبه كامل، وخاصة في نهايات هذه المرحلة، إذ تتجلى قدرته في اكتشاف أوجه الشبه، وأوجه الاختلاف بين المثيرات المختلفة كما تتجلى في التمكن من تعليل الظواهر المادية المشخصة.
د ـ يتمكن الطفل من وصف الظواهر والأحداث من حوله، كما يتمكن من إدراك العلاقات ومن الربط والتوحيد بين الموضوعات.
هـ ـ يغدو الطفل قادراً في نهايات هذه المرحلة على القيام بعمليات الربط والتحليل، والتفسير والاستنتاج بوضوح، ولكنه مازال يعود بين الحين والآخر إلى القاعدة المادية التي اعتمد عليها تفكيره في المراحل السابقة.
وـ تقلّ عمليات التشتت الذهني لدى الطفل، ويغدو قادراً على التركيز في موضوع معين بصورة أكثر وضوحاً من ذي قبل.
ى ـ يصبح الطفل قادراً على اكتشاف العلاقات القائمة بين الموضوعات، وفق مبادئ التشابه والتجاور.
ويرى بياجيه، أن الطفل في هذه المرحلة يستطيع أن يقوم بعمليات التصنيف والترتيب والتسلسل والعد والجمع والطرح والقسمة، وبإمكانه إدراك مفاهيم الزمان والمكان والمساحة والعلاقات الهندسية الأولية، إضافةً إلى العمليات الفيزيائية الأولية، ويتم ذلك كله، بصورة تدريجية، وفي إطار العمليات المشخصة، وليس في نطاق الفروض النظرية أو المجردة.
4ـ مرحلة المراهقة والرشد، 12ـ15 سنة فما فوق:
إن استخدام التفكير المجرد الذي يرتقي ويكتمل في هذه المرحلة يستمر إلى نهاية العمر. ومن أهم خصائص التفكير في هذه المرحلة ما يلي:
أ ـ يستطيع الفرد حل مشكلات تتطلب تدخل التفكير الفرضي الاستدلالي، الذي يبنى على معرفة عدد كبير من التنظيمات، مثل التصنيف على أساس محطات متعددة والانتقال بنجاح من التصنيف إلى القانون السببي، وتمييز الغموض في التجريب. ولكن لابد من الإشارة، إلى أنه تمَّ التمهيد لهذه التنظيمات في المرحلة السابقة.
ب ـ يتعلم الفرد عن طريق الاستبصار كمقدمات لإيجاد الحلول للمشكلات الطارئة.
جـ ـ توجد فروق فردية في كيفية التعامل مع المفهومات والقدرة على استعمالها وفهمها. فالعلماء مثلاً أكثر قدرة من سواهم على البحث في أمور غاية في التجريد كالطاقة والجهد والقوة، في حين نرى فريقاً من الناس غير قادر حتى على استخدام المفاهيم العادية. ويركز بعضهم على الاهتمام بالشكل على حساب المضمون.
د ـ تظهر لدى بعض الأفراد على الانتقال من الشكل إلى المضمون وبالعكس، الأمر الذي يمكنهم من اكتشاف مزيد من المفهومات، والقيام بمزيد من عمليات التجريد، وتنقص بعضهم الآخر مرونة التفكير، فيصبح تفكيرهم جامداً أحادي الجانب، ويصير غاية مايبغون الوصول إليه علاقة مناسبة أو مقبولة لعلاقة الشكل بالمضمون.
أما المفهومات التي يصير الفرد قادراً على فهمها واستخدامها في هذه المرحلة، فهي كثيرة وثرية جداً، سواء من حيث الكم أو الكيف، وفيما يلي ذكر لأهمها:
مفهومات النسب والتناسب، والتوازن والمفهومات الاحتمالية واستقراء القوانين وتحليل العوامل إضافة إلى رسوخ المفهومات التي ذكرت المراحل السابقة وتماسكها ووضوحها.
هـ ـ يتناقص اعتماد الفرد على معالجة الأشياء المادية، ويفكر فيما وراء الحاضر، وتظهر قدرته على التفكير العملي وعلى التعامل مع الأشياء عن طريق العمليات المنطقية، ويتطور نحو لامركزية الذات، من خلال مناقشة ذاته وأفكاره بطريقة نظرية وأخرى عملية، يقوم فيها بدور الراشد، وأخيراً يدرك الأشياء من حيث علاقتها بنظام قيم الأشياء.
ثالثاً ـ تطبيقات مفهوم التجريد في الحياة
يمكن تطبيق مفهوم التجريد في الحياة عامة، وذلك من خلال العلوم المختلفة، وعلى رأسها الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الحياة والجغرافية والتربية وعلم النفس والأدب والفن، وأخيراً من خلال علوم الفضاء.
إن تطبيق مفهوم التجريد في الحياة، ماهو إلا عملية عكسية لنشوء التجريد ذاته، فإذا كان تعلم المفهوم المجرد أي مفهوم في الرياضة أو التربية أو الفن، يبدأ من الحسي الملموس ثم لايلبث أن يتخلص تدريجياً مما علق به من أشياء حسية ملموسة، إلى أن يصل إلى أرقى شكل من أشكال التجريد، فإن تطبيق هذا المفهوم في الحياة، يحتاج إلى عودة تدريجية جديدة من أرقى أشكال التجريد إلى الحسي الملموس.
إن صفة التجريد، التي تبدو أنها تباعد بين ماهو نظري وعملي، بين المجرد والملموس هي التي مكّنت وتُمكّنُ الإنسان من السيطرة على عالمه وواقعه المعيش، وتتيح له تطبيقاً أفضل لقوانينه.
وتمتلئ بحوث ودراسات العلم المعاصر بالرموز والمعادلات والأشكال الهندسية، ويُقدم لنا، باستخدام هذه الرموز المجردة ذاتها، اكتشافات واختراعات جديدة في كل يوم، تمكننا من السيطرة على الشروط المحيطة بنا على نحو أفضل، ويعمل على رفع مستوى حياتنا باستمرار.
إن طريقة العلم تكمن في السيطرة على العالم الملموس، والتغلغل فيه وتجريده من صفاته العينية المألوفة، ثم التغلغل فيه من جديد كلما تطلب الأمر ذلك.

أمل الأحمد
 











 

هناك 3 تعليقات:

  1. موضوع مفيد و ممتع شكرا لك و بارك الله فيك.

    ردحذف
  2. بارك الله فيك و موضوع ما شاء الله لكن ذاك الملصق شوش ذهني

    ردحذف