السبت، 7 أبريل 2012

الذاكرة التاريخية والتخطيط المستقبلي‏!‏ بقلم: السيد يسين



العالم كله ـ كما ذكرنا من قبل ـ يعيش حقبة التخطيط المستقبلي للمجتمعات المختلفة‏,‏ والتي تنتمي إلي ثقافات متعددة‏.‏ وهذا التخطيط المستقبلي لابد له ـ وقد يكون فيما نقول متناقضا مع نقدنا السابق لغرق المجتمع العربي في الماضي ـ لابد له أن أريد له أن يكون تخطيطا مستقبليا رشيدا أن يوثق الذاكرة التاريخية للمجتمع‏,‏
وأن يحلل وقائعها تحليلا موضوعيا ونقديا في آن واحد.
ونقصد بتوثيق الذاكرة التاريخية الرصد الدقيق للوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حدثت في المجتمع في مراحل تاريخية سابقة.
والمراحل التاريخية وتقسيمها وتصنيفها تثير مشكلة منهجية في علم التاريخ وهي مايطلق عليها مشكلة التحقيب
PERIODIZATION ونعني بذلك تقسيم تاريخ أي مجتمع إلي حقب تاريخية متمايزة, وتحديد بداية ونهاية كل حقبة. وهذه بالذات من المشكلات التي يختلف بشأنها المؤرخون في كل مجتمع. وذلك لأن تحديد الحقبة يعتمد علي مفهوم آخر هو القطيعة التاريخيةHISTORICALBREAK بمعني نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة.
وحتي لايكون حديثنا علي سبيل التجريد فلنضرب مثالا من التاريخ المصري المعاصر, هناك اتفاق بين المؤرخين علي أن ثورة يوليو1952 بدأت في هذا التاريخ, ولكن متي انتهت؟ أولا هناك خلاف هل كانت انقلابا أم كانت ثورة؟
خصوم الثورة يختزلونها في كونها كانت مجرد انقلاب عسكري قام به الضباط الأحرار الذين حكموا المجتمع المصري باستخدام القوة وممارسة القمع علي الجماهير. بعبارة أخري هؤلاء الضباط الأحرارـ في نظر هذا الفريق من المؤرخين ـ أقاموا حكما استبداديا ألغي الأحزاب السياسية, وأقاموا بدلا منها حزبا واحدا اعتمدوا عليه في الحكم.
غير أن هناك فريقا آخر من المؤرخين يقبل ابتداء بأن ماحدث كان فعلا انقلابا عسكريا, غير أنه سرعان ماتحول إلي ثورة, لأن الضباط الأحرار طبقوا في الواقع برنامج الحركة الوطنية المصرية الذي صاغته القوي السياسية المختلفة من اليمين إلي اليسار, وكان الهدف منه في الواقع ليس مجرد الإصلاح, وإنما تأسيس انقلاب اجتماعي يقوم أساسا علي الإصلاح الزراعي ورفع شأن الفلاحين والعمال, وإقامة صناعة حديثة في مصر, والتغيير النوعي في أدوات وعلاقات الإنتاج.
وهكذا يمكن القول ـ في رأي هذا الفريق من المؤرخين وأنا أؤيدهم ـ أن23 يوليو1952 كانت بالفعل انقلابا ولكنه سرعان ماتحول إلي ثورة حاولت تحقيق العدل الاجتماعي الذي سعت الجماهير المصرية إلي تحقيقه منذ عام1945 علي الأقل وهو تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية إلي عام1952
غير أن الجماهير والأحزاب السياسية فشلت في حل المشكلة الوطنية التي تتمثل في إجلاء الاحتلال الإنجليزي عن مصر, وحل المشكلة الاجتماعية, والتي هي عبارة عن الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء.
وإذا تركنا هذا الخلاف المبدئي جانبا تظل أمامنا الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في البداية, وهو متي انتهت ثورة يوليو1952.
في قول أنها انتهت بوفاة زعيمها جمال عبد الناصر عام1970 غير أنني أري أنها انتهت في الواقع في5 يونيو1967, وهو تاريخ الهزيمة التي لحقت بمصر في الحرب ضد الدولة الإسرائيلية.
ومبرري في هذا الرأي أن الثورة حين قامت أعلنت عدة مبادئ منها تكوين جيش قوي قادر علي الدفاع عن البلاد, وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. غير أن التجربة أثبتت ـ من واقع تخبط قرارات القيادة السياسية قبل وأثناء الحرب ـ بالإضافة إلي الضعف الشديد في المستوي المهني للقيادات العسكرية ـ أن الثورة لم تف بوعودها للشعب, ومن هنا منطق أن نقول إنها انتهت بالفعل عام1967 ونعني ذلك بالمعني التاريخي للكلمة.
توثيق الذاكرة التاريخية إذن وتحليلها موضوعيا ونقديا مهمة أساسية ينبغي أن تسبق أي تخطيط مستقبلي. وذلك لأنه من الضروري لأي مجتمع أن يستخلص العبرة من تاريخه الماضي, حتي يتلافي السلبيات التي عوقت مسيرة تقدمه, غير أننا في مجال التحليل الموضوعي والدراسة النقدية للوقائع نصطدم بمشكلة تأويل التاريخ. بعبارة أخري الوقائع التاريخية أمامنا وقد وثقناها بالفعل من مختلف المظان والمصادر, ولكن كيف يمكن لنا أن نؤول هذه الوقائع!
هنا تظهر لنا مشكلة التفسير في العلوم الاجتماعية, فلا يكفي حتي في البحوث الميدانية الاعتماد علي المؤشرات الكمية ونشر الجداول الإحصائية, وإنما لابد من تفسيرها والتفسير ـ بحسب أدق التعريفات في فلسفة العلوم ـ هو وضع الظاهرة المفسرة في سياق قانون عام غير أن هذه الإجابة لاتحل المشكلة, لأنه سيثور سؤال عن طبيعة هذا القانون العام.
ويمكن القول إن فلاسفة التاريخ المشاهير مثل توينبي في كتابه المعروف دراسة للتاريخ, ويثيرم سوروكين في موسوعته النادرة الديناميات الاجتماعية والثقافية حاولوا صياغة قوانين عامة عن التطور الاجتماعي والتغير الثقافي بعبارة أخري قدموا نظريات عن نشأة وانهيار المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن ثم يمكن ـ في مجال تأويل التاريخ ـ الاستناد إلي هذه النظريات.
وفي ضوء ذلك يمكن القول إننا لو كنا بصدد تخطيط مستقبلي لدولة مثل مصر فلابد أولا من تحليل الحقبة التاريخية التي بدأت بإصدار دستور عام1923, حتي نهاية الحقبة بقيام انقلاب أو ثورة1923.
ونفس التطبيق ينبغي أن يتم بالنسبة لبلد كالكويت علي سبيل المثال ـ لابد من دراسة التجربة الديمقراطية في الثلاثينيات, إن أريد رسم تخطيط مستقبلي للدولة الكويتية.
توثيق الذاكرة التاريخية وتحليلها موضوعيا ونقديا إذن هو الخطوة الأولي اللازمة قبل الشروع في التخطيط المستقبلي لمجتمع ما.
غير أن الخطوة الحاسمة الثانية هي ضرورة القراءة المستوعبة والنقدية للتغيرات الأساسية التي لحقت ببنية المجتمع العالمي, وذلك لأن أي تخطيط مستقبلي لايقوم علي أساس فهم التحولات الكبري التي حدثت في العقود الأخيرة يعد لا معني له في الواقع, لأن المستقبل لابد أن يبني علي ماحدث في الحاضر, غير أن رسم خريطة معرفية للتغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالمي ليست هينة ولاميسورة. لأنه يقتضي الرصد الدقيق لهذه التغيرات من ناحية, وفهم المنطق الكامن وراء كل تحول من ناحية أخري, في ضوء منهج تكاملي يغطي ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.
ورسم هذه الخريطة يقتضي أولا: تحديد القطيعة التاريخية التي حدثت بين نهاية نموذج المجتمع الصناعي وصعود نموذج مجتمع المعلومات العالمي, والذي يتمثل أساسا في بداية عصر البث التليفزيوني الفضائي من ناحية, وبروز شبكة الإنترنت من ناحية أخري, والتي تمثل فضاء عاما جديدا تتم فيه تفاعلات عديدة ومتنوعة لم تشهد الانسانية له مثلا من قبل.
غير أنه بالإضافة إلي ذلك لابد من التركيز علي الظاهرة الكبري التي تملأ الدنيا وتشغل الناس وهي العولمة.
والعولمة ـ كما صغنا من قبل تعريفا إجرائيا لها ـ هي سرعة تدفق المعلومات والأفكار ورءوس الأموال والسلع والخدمات والبشر من مكان إلي مكان آخر في العالم بغير حدود ولاقيود.
وهذا التعريف الإجرائي يمنحنا في الواقع فرصة لتحديد العمليات الأساسية التي تنطوي عليها العولمة. غير أنه لايغني في فهم تناقضات العولمة ذاتها باعتبارها عملية تاريخية.
فهناك أولا أنصار العولمة الذين يعتبرونها حلا شاملا لمشكلات الاقتصاد والتطور الاجتماعي, وهناك فريق آخر يعتبرها أكبر عقبة في سبيل تنمية المجتمعات عموما, ومجتمعات العالم الثالث خصوصا.
ومن ثم لابد لصانع القرار ـ أيا كان ـ الذي سيتصدي للتخطيط المستقبلي لمجتمع ما أن يكون قادرا علي فهم وتحليل تناقضات العولمة. وقبل ذلك تكون له القدرة علي اتخاذ موقف رشيد, لايتمثل في رفض العولمة بطريقة مطلقة لأن هذا في حد ذاته مستحيل عملا, أو في قبولها بشكل كامل, فذلك يمكن أن يؤدي إلي الإضرار بالمصالح القومية.
ومن هنا تدعو الحاجة إلي صياغة حل يقوم علي التأليف الخلاق بين جوانب العولمة المتعددة بحيث يقلل ذلك من الخسائر ويعظم من المكاسب.
غير أن القدرة علي صياغة هذا الحل التأليفي الخلاق لايمكن أن تتبلور إلا إذا صدر صانع القرار عن رؤية استراتيجية متكاملة لصورة المجتمع المرغوب, ونحن ـ في مجال الدراسات المستقبلية ـ نفرق بين المجتمع المرغوب, والمجتمع الممكن.
بعبارة أخري قد نرغب في صياغة مستقبل مجتمع ما بصورة معينة, غير أن ذلك قد لايكون ممكنا لعدم توافر الشروط الذاتية والموضوعية للتغيير.
والشروط الذاتية تتعلق أساسا بالنخب السياسية التي ستقوم بالتغيير من ناحية وبالجماهير من ناحية أخري.
والسؤال هنا: هل هذه النخب السياسية التي ستقوم بعملية التغيير جاهزة لهذه المهمة من الناحية المعرفية أولا:ونقصد معرفة ما جري من تحولات في العالم, ومن الناحية السياسية ونعني توافر إرادة التغيير من ناحية والقدرة علي القيام به من ناحية أخري, وأهمية استعداد الجماهير للتغير بما في ذلك التخلي عن عديد من القيم السلبية المعوقة, وتبلور الإرادة الجماعية للاحتشاد وراء مشروع قومي قابل للتنفيذ وليس مجرد يوتوبيا نظرية.
غير أن العوامل الموضوعية لاتقل أهمية عن الشروط الموضوعية, ونعني بذلك حالة أدوات الإنتاج السائدة في المجتمع وامكانية تحديثها وتطويرها وشكل علاقات الإنتاج, والحاجة إلي إعادة صياغتها بما يتفق مع الرؤية الإنتاجية المطلوبة.
بعبارة موجزة.. نحن في مجال التخطيط المستقبلي لأي مجتمع نحتاج إلي التأويل الصحيح للماضي والفهم العميق للحاضر, والرؤية الاستراتيجية للمستقبل.

تحديات النهضة الثقافية العربية بقلم: السيد يسين

                                                                    18/02/2010

تشهد سجلات الفكر العربي المعاصر علي أن المثقفين العرب لم يتوانوا عن ممارسة النقد الثقافي الشامل لسلبيات المجتمع العربي‏.‏ فعلوا ذلك كمثقفين أفراد‏,‏ نشر بعضهم من أصحاب القامات الفكرية العالية كتبا بالغة الأهمية أثرت علي وعي المثقفين في المشرق والمغرب والخليج‏.‏
وبعض هؤلاء المثقفين كانوا أصحاب مشاريع فكرية متكاملة, تمثلت في سلسلة من الكتب المترابطة التي انطلقت من صياغة مشكلة بحثية رئيسية, تفرعت عنها مشكلات فرعية متعددة.
ولعل أبرز أصحاب هذه المشروعات الفكرية المتكاملة هم الدكتور محمد عابد الجابري في سلسلة كتبه المهمة عن العقل العربي, والدكتور محمد أركون الذي قدم قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي معتمدا في ذلك علي المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, والدكتور حسن حنفي في كتاب' التراث والتجديد' وما تبعه من كتب متعددة أخري, والدكتور الطيب تزيني في كتاب' من التراث إلي الثورة', وما تبعه من كتب أخري.
وقد اختلفت المناهج التي طبقها أصحاب هذه المشروعات الفكرية الكبري, وإن كانوا جميعا علي دراية وثيقة بالمناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, مثل الدراسات الفينومولوجية والأنثروبولوجية, وتحليل الخطاب, والمدرسة الماركسية الحديثة.
ومن هنا يمكن القول أنه إذا أردنا أن نتتبع الجهد الفكري والنقدي لأجيال المثقفين العرب, فلابد أن نقف عند عدد منهم ركزوا تركيزا خاصا علي الخصائص الحاكمة للمجتمع العربي.
ومن أبرز المحاولات في هذا الاتجاه رؤية محمد أركون للمجتمع العربي باعتباره نصا جامدا لابد من تفكيكه, وهو عند محمد عابد الجابري بمثابة عقل متهافت, وأخيرا هو عند المفكر هشام شرابي بنية اجتماعية قمعية.
ويحدد' أركون' هدفه الأساسي من مشروعه وهو التوصل إلي معرفة أفضل لوظائف العامل العقلاني والعامل الخيالي( الذي يطلق عليه المخيال), ودرجات انبثاقهما وتداخلهما وصراعهما في مختلف مجالات نشاط الفكر التي سادت المناخ الإسلامي.
وفي رأيه أن أحد أسباب الأزمة العميقة في المجتمع العربي هو سيطرة الفهم الأسطوري للدين, والذي كان من شانه أن يخفي الجوانب العقلية فيه. ويري أنه بدون الكشف عن جذور هذا الفهم الأسطوري وتعريفه وإظهار حقيقة المعارك السياسية والاجتماعية التي دارت باسم فهم خاص للنص الإسلامي كغطاء ديني, لا يمكن للمجتمع العربي أن يتقدم.
أما' محمد عابد الجابري' فهو ينظر للمجتمع العربي باعتباره عقلا متهافتا يحتاج إلي تحديث, لأنه عقل ساكن هيمن الجمود علي جنباته, وهو يحتاج إلي نقد جذري يكشف عن الأنظمة المعرفية الأساسية التي يقوم عليها. وهذه الأنظمة ثلاثة, وهي' النظام المعرفي البياني' الذي يؤسس الموروث العربي الإسلامي الخالص( اللغة والدين كنصوص), و'النظام المعرفي العرفاني' الذي يؤسس قطاع اللامعقول في الثقافة العربية الإسلامية( طريق الإلهام والكشف). وأخيرا' النظام المعرفي البرهاني' الذي يؤسس الفلسفة والعلوم العقلية( الأرسطية خاصة), والبرهان في العربية هو الحجة الفاصلة البينة.
والجابري يرد أزمة المجتمع العربي إلي تفكك هذه النظم الثلاثة واختلاط مفاهيمها وتداخلها. وهذا التداخل يسميه التداخل التلفيقي. الذي أدي إلي تهافت التفكير العربي. ونصل أخيرا إلي' هشام شرابي' الذي وجد مفتاح أزمة المجتمع العربي المعاصر في مفهوم المجتمع البطريركي أو الأبوي, والذي أدي إلي تغير اجتماعي مشوه.
والمجتمع العربي الأبوي عنده هو المجتمع العربي التقليدي الذي تأثر بالحداثة الأوروبية, وهو عنده يشمل الأبنيةالاجتماعية الكلية( المجتمع والدولة والاقتصاد) كما يشمل الأبنية الاجتماعية الجزئية( العائلة أو الشخصية الفردية), والمجتمع العربي التقليدي الحديث يعد ـ في نظره ـ ناتجا من نواتج هيمنة أوروبا الحديثة, لأن عملية التحديث وفقا لمعطيات المجتمع الأبوي لا يمكنها إلا أن تكون مبنية علي التبعية, وعلاقات التبعية تؤدي حتما لا إلي الحداثة, بل إلي مجتمع أبوي' ملقح بالحداثة', بحيث إن عملية التحديث تصبح نوعا من الحداثة المعكوسة! وفي رأي' شرابي' أن النظم السياسية العربية القائمة تحتكر الكلام باعتباره شرطا للاستقرار والاستمرار. ومن هنا الدور الذي يقوم به ما يسميه الكلام اللاحواري( المونولوج). وفي جميع أشكال الخطاب البطريركي الحديث يظهر نمط الخطاب اللاحواري في ميل أصحابه إلي استثناء المتكلمين الآخرين أو تجاهلهم!
غير أنه يلفت نظرنا إلي أن النمط اللاحواري موجود في صلب الخطاب ذاته, بمعني أنه ليس ناجما عن القوة أو السلطة وحدها, بل أيضا عن اللغة ذاتها, لأنها تشجع البلاغة علي حساب الحوار.
وخطورة الخطاب اللاحواري حين يسود المجتمع تبدو فيما يتعلق بنظرية المعرفة, وذلك فيما يتعلق بطريقة إثبات الحقيقة أو تقدير صحة الوقائع. وبناء علي ذلك لا يظهر في الكلام أو الكتابة علي النمط اللاحواري أي شك أو تردد. فالحقيقة التي تؤكد في الخطاب اللاحواري هي الحقيقة المطلقة, المرتكزة أولا وأخيرا علي الوحي أو علي الخيال الاجتماعي. وسيادة هذا الخطاب في المجتمع يعني في الواقع نفيا لخطاب الآخر. وذلك لأن الحوار علي العكس يعني أنه ليس هناك خطاب نهائي, علي أساس أن حرية التساؤل وحدها هي التي تؤدي إلي المعرفة الحقة. فالحقيقة ليست من فعل السلطة, بل هي نتيجة بحث ونقد واتفاق في الرأي والنظر.
في ضوء هذه المداخل الثلاثة لتشخيص أزمة المجتمع العربي المعاصر, يمكن القول أنه بالرغم من اختلاف الزوايا التي نظر منها كل مفكر من المفكرين الثلاثة للأزمة, فإنها جميعا يمكن اعتبارها تشخيصا متكاملا.
وعلي ذلك يمكن أن نطرح سؤالا أساسيا: هل يمكن إحياء المجتمع العربي المعاصر عن طريق المواجهة المباشرة مع كل السلبيات التي أبرزها هؤلاء المفكرون؟
فلننظر إلي التشخيص الأول حيث ركز' محمد أركون' علي هيمنة النص الديني علي مختلف جنبات المجتمع العربي, وامتدت سطوته إلي كل الميادين في السياسة والاقتصاد والثقافة. ولنحاول أن ندرس واقع المجتمع العربي المعاصر في العقود الثلاثة الأخيرة, سنجد سيطرة لتفسيرات محافظة ورجعية تخلط التفسير العقلاني بتفسيرات تعكس فكرا أسطوريا وخرافيا لا علاقة له إطلاقا بالتأويل الصحيح للقرآن الكريم أو السنة النبوية.
وقد صدق' محمد أركون' حين أكد أن تفكيك هذه النصوص بتفسيراتها الرجعية نقطة بداية لإحياء المجتمع العربي المعاصر. فقد شهدنا زيادة معدلات الفتاوي الدينية التي تقوم علي تحريم عديد من الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية, وتأسيس قنوات فضائية دينية يقوم خطابها الديني علي أساس تفسيرات أسطورية وخرافية, مما أسهم في صياغة عقل جمعي جماهيري يتسم باللاعقلانية, ويفتقر إلي معرفة مبادئ التفكير العلمي.
ومن ناحية أخري تبدو أهمية الكشف الذي توصل إليه' محمد عابد الجابري' في التمييز بين النظام المعرفي البياني والعرفاني والبرهاني. وذلك لأن الخطاب العربي المعاصر لو درسناه بطريقة نقدية, لاكتشفنا أن البلاغة فيه تجور علي استخدام المنطق وصياغة الحجج العقلانية المقنعة, كما أنه في حالات أخري تختلط فيه أوهام الإلهام والكشف بالصياغات البلاغية الفارغة من المضمون, مع بعض الحجج التي لا تستند إلي أساس منطقي متماسك.
وإذا تأملنا أخيرا في تشخيص' هشام شرابي' للمجتمع الأبوي العربي المعاصر حيث تتحكم السلطة في صياغة الخطاب الصادر عنها, والذي يتسم أساسا بأنه خطاب لا حواري, بمعني أن السلطة تزعم فيه أنها تمتلك الحقيقة المطلقة, وتنزع في نفس الوقت إلي رفض الاستماع إلي خطاب الآخر وإقصائه من الساحة تماما, لأدركنا عمق الأزمة الديمقراطية التي يمر بها المجتمع العربي المعاصر.
كيف يمكن لنا أن نتجاوز سلبيات المجتمع العربي المعاصر؟
هناك أولا حاجة لخطاب ديني جديد كما حاول أن يفعل حسن حنفي في كتبه المتعددة يركز بصورة عقلانية علي المتن الرئيسي, ونقصد المقاصد العليا للدين, ويستدرج إلي مناقشة الهوامش التي تستند إلي تفسيرات غير عقلية للنصوص الدينية, بغرض تقييد الحركة الاجتماعية للمواطنين في الملبس والمأكل والحديث, بل في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ونحن من ناحية أخري في حاجة ملحة إلي تنقية الخطاب العربي المعاصر من البلاغيات الفارغة من المعني, من ناحية, ومن التهويمات الصوفية من ناحية أخري, والتركيز الشديد علي النظام البرهاني الذي يقوم علي نظرية المعرفة المعاصرة التي استطاعت أن تفصل فصلا تاما بين العقل والأسطورة, واعتمدت في ذلك أساسا علي المنهج العلمي من ناحية, وعلي المشاهدات الميدانية التي تسجلها العلوم الاجتماعية المختلفة, والتي تقوم علي الثبات والصدق.
غير أن المطلب الثالث وهو تنقية المجتمع الأبوي العربي من كل مظاهر' الأبوية' سواء في ذلك سلطة الرؤساء السياسيين أو شيوخ القبائل أو أرباب الأسر فتبدو حقا مهمة بالغة الصعوبة!
فالنخب السياسية العربية الحاكمة بغض النظر عن النظم السياسية التي تحكم باسمها ملكية كانت أو جمهورية, مازالت مصرة علي خطابها اللاحواري الذي ينفي الآخر. وهذه الحقيقة تترجم في المجال السياسي باحتكار السلطة والممانعة في مجال مشاركة الجماهير في اتخاذ القرار. كما أن السلطات الاجتماعية التقليدية ـ بالرغم من التغيرات الكبري التي لحقت ببنية المجتمع العالمي- مازالت متشبثة بالحفاظ علي نفوذها التقليدي.
ومع كل هذه الصعوبات في مجال إحياء المجتمع العربي المعاصر هناك مؤشرات علي أن الديمقراطية ستشق طريقها في تربة المجتمع العربي المعاصر, بعد أن أصبحت في عصر العولمة شعارا عالميا, كما أن نجم العقلانية لابد أن يسطع بالرغم من شيوع سحابات الفكر الخرافي, فذلك أصبح الشرط الأساسي لنهضة الأمم ورقي الشعوب.
 

المثقفون العرب في عصر العولمة‏!‏ بقلم: السيد يسين



هناك أدوار متعددة لعبها المثقفون العرب منذ بداية النهضة العربية الحديثة حتي الآن‏.‏ وأبرز هذه الأدوار تشخيص تخلف المجتمع العربي من الجوانب السياسية والاقتصادية والسياسية‏,‏ واستنهاض همم الشعوب العربية عن طريق تطوير التعليم‏,‏ وإنشاء الصحف‏,‏ ورفع معدلات الوعي الجماهيري بأهمية السير في طريق النهضة الشاملة‏.‏
وفي دور آخر ومهم من أدوارهم ارتحل عدد من أبرز المثقفين العرب إلي أوروبا وعادوا وألفوا كتبا هامة عن مشاهداتهم الميدانية, وعن تحليلهم لقيم الحضارة الغربية ومحاولاتهم لزرع بعضها في البيئة العربية.
ولم يتخل المثقفون العرب في البلاد العربية المستعمرة عن خوض النضال الوطني, وتعبئة الجماهير وحشدها ضد الاستعمار والاحتلال.
وحين حانت لحظة الاستقلال الوطني في الخمسينيات, اندفع المثقفون العرب للمشاركة في حكم بلادهم سواء عن طريق الاصلاح أو بانتهاج أسلوب الانقلاب أو الثورة, وشارك كثير من مثقفي العرب ممن لم يدخلوا في إطارات السلطة الحاكمة في الجهد العلمي والفكري, لرسم ملامح التنمية المستدامة والنهضة الشاملة للمجتمع العربي.
غير أن المثقفين العرب واجهوا في مسيرتهم الطويلة تحديات متعددة حاولوا مجابهتها بطرق شتي وباجتهادات متنوعة.
ولعل التحدي الأول تمثل في النزوع إلي اعتبار التخلف بكل أبعاده مرده إلي الاستعمار الأجنبي, مما أدي إلي تجاهل الأسباب الكامنة في صميم المجتمع العربي, والتي أدت إلي بلورة ظاهرة التخلف.
ولعل أهم هذه الأسباب هو استمرار ميراث الاستبداد الذي عرفته الدولة الإسلامية عبر قرون متعددة في الدول التي نالت استقلالها والتي تحول بعضها ـ بالرغم من الماضي شبه الليبرالي الذي عرفته ـ إلي دول شمولية أو سلطوية.
كذلك لايمكن تجاهل ارتفاع معدلات الأمية, مما أدي إلي انخفاض الوعي الاجتماعي لدي الجماهير العريضة, بالإضافة إلي تخلف نظم التعليم, واعتمادها علي التلقين أساسا وليس علي تربية العقل النقدي.
وإذا أضفنا إلي ذلك تخلف البني الاقتصادية, لأدركنا أن إلقاء مسئولية التخلف علي عاتق الاستعمار الأجنبي, فيه محاولة للهروب من تحديد الأسباب الداخلية للتخلف.
ولايمكن من ناحية أخري القول أن الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية الصعبة التي أحاطت بالمثقفين العرب حدت من قدرتهم علي العطاء, وذلك لأن التحديات يمكن أن تخلق استجابات إبداعية.
ومطالعة السجل التاريخي للأدوار المهمة التي لعبها المثقفون في المجتمعات الأوروبية منذ بداية النهضة وبزوغ عصر التنوير, وكذلك في المجتمعات الآسيوية كاليابان والصين, تشهد علي أن الصعوبات والعقبات قد تكون في ذاتها حافزا لإبداع المثقفين في مجال مواجهة مشكلات مجتمعهم, والمثقفون في مسعاهم الاجتماعي لايحتاجون فقط إلي معرفة دقيقة بتاريخ بلادهم وتاريخ العالم, ولابسمات الشخصية القومية السائدة, ولا بالسمات الأساسية للأنساق السياسية والاجتماعية لمجتمعهم, ولكنهم ـ بالإضافة إلي ذلك ـ هم في حاجة إلي تبني نسق متكامل من القيم, أبرزها الانتماء إلي الوطن, وتبني فكرة القومية العربية, وقبل ذلك كله قيمة الالتزام. فالمثقف الملتزم هو الذي يمكن أن يناضل بشكل منهجي ضد كل علامات التخلف, وهو الذي يجيد التعبير عن المصالح الاساسية للجماهير وأهم هذه المهام قاطبة هو القدرة علي قراءة التحولات الأساسية في بنية النظام العالمي. وأبرز هذه التحولات قاطبة هي الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي الذي كان يقوم علي مؤسسة السوق, إلي نموذج حضاري جديد هو مجتمع المعلومات العالمي, الذي يدور حول فضاء عام جديد تماما في تاريخ الإنسانية, هو مايطلق عليه الفضاء المعلوماتيCyberSpace.
بعبارة موجزة نحن نعيش في عصر العولمة بكل تجلياتها. والعولمة عملية تاريخية هي نتاج تراكمات شتي في المجتمع العالمي, أبرزها علي الإطلاق الثورة العلمية والتكنولوجية, التي جعلت العلم مصدرا أساسيا من مصادر الإنتاج, والثورة الاتصالية الكبري, والتي تتمثل في البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت.
ويمكن لنا ـ بالرغم من الاختلافات الجسيمة حول تعريف العولمة وببيان ماهيتها الحقيقية ـ تعريفها إجرائيا بأنها سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر من مكان إلي مكان آخر في العالم بغير حدود ولاقيود.
وهكذا إذن أصبحنا في عصر العولمة نعيش في الزمن الواقعيRealTime, بمعني أصبح سكان الكوكب جميعا قادرين علي متابعة الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية لحظة وقوعها, مما خلق نوعا من أنواع الوعي الكوني, والذي هو ضرب جديد من ضروب الوعي, سيؤدي ـ علي المدي الطويل ـ إلي تخليق ثقافة كونية.
وإذا كان المثقفون العرب قد دخلوا في معارك إيديولوجية شتي دارت حول العولمة, حيث رفضها البعض منهم رفضا مطلقا باعتبارها صورة من صور الاستعمار الجديد, وقبلها آخرون باعتبارها مفتاح التقدم الاقتصادي, فإن المهمة الملقاة علي عاتقهم اليوم بعد أن هدأت عواصف الجدل النظري, هو كيف يمكن لهم أن يوجهوا مجتمعاتهم للتفاعل الخلاق مع العولمة, بهدف تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب وفق رؤية استراتيجية بصيرة.
ومما لاشك فيه أن العالم اليوم في عصر العولمة وبحكم تدفق المعلومات والأفكار والصور, قضي علي انعزال بعض المجتمعات وبعدها عن التفاعل العالمي الخلاق. ومن هنا بات يقع علي عاتق المثقفين العرب بعد أن انتهت المعركة الإيديولوجية الكبري بين صراع الحضارات وحوار الثقافات, تهيئة المجتمعات العربية للتفاعل مع الآخر من منظور الندية المعرفية وبدون تهويل أو تهوين.
لقد شهدت الممارسات الفكرية في العقود الماضية لعدد من المفكرين العرب النظر إلي الآخر الغربي, وكأنه يمثل قمة التقدم والرقي, ولذلك دعوا إلي احتذاء النموذج الحضاري الغربي بالكامل سياسة واقتصادا وثقافة. وهم في هذا الاتجاه تجاهلوا الدراسة النقدية لمنطلقات وممارسات الحضارة الغربية, والتي تحفل بعديد من السلبيات, بالإضافة إلي إيجابياتها المشهودة.
وهناك فريق آخر من المثقفين العرب هونوا بشدة من مكانة الحضارة الغربية بل إن بعضهم من ذوي الاتجاه الإسلامي المتشدد نعتوها بأنها حضارة ملحدة وكافرة وينبغي الحذر من تطبيقها, وفي قول آخر ينبغي شن الحرب عليها بلا هوادة!
كلا الموقفين يجافي النظرة الموضوعية للحضارة الغربية من ناحية, ويتجاهل النقد الذاتي للحضارة العربية الإسلامية من ناحية أخري.
كيف نقيم التوازن بين النقد الذاتي المطلوب وبين نقد الآخر؟ هذه هي المهمة الأساسية للمثقفين العرب في عصر العولمة, حيث تقاربت المسافات وانضبط الزمن!
غير أن القيام بهذه المهمة ليس سهلا علي الإطلاق, لأن لدينا المشكلة المزمنة في المجتمع العربي المعاصر وهي علاقة المثقفين العرب بالسلطة.
وهذه العلاقة بالغة التعقيد من ناحية, وتختلف اختلافات متعددة من بلد عربي إلي بلد آخر.
ولاشك أن قمع المثقفين النقديين ممارسة معروفة في كل البلاد العربية تقريبا. غير أننا ونحن في عصر العولمة حدثت تحولات أساسية في مجال العلاقة بين السلطة والمثقفين.
وذلك لأن تجليات العولمة السياسية يمكن تحديدها في شعارات ثلاثة هي الديمقراطية واحترام التعددية واحترام حقوق الإنسان.
وهكذا أصبحت الديمقراطية مطلبا عالميا, وأصبحت عديد من النظم العربية تحت ضغوط السياسيين والمثقفين العرب في الداخل, والضغوط الخارجية مطالبة بالتحول من الشمولية والسلطوية إلي الليبرالية.
وهذه هي العملية التي أصبح يشار إليها اليوم باسم الإصلاح السياسي.
وهذا الإصلاح في الواقع ـ إن شئنا أن نكون واقعيين ـ ليست مهمة النظم السياسية الحاكمة فحسب, بل هي مهمة المجتمع العربي بكل,مؤسساته. وفي مقدمة ذلك الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وروابط المثقفين واتحادات الكتاب. بل إن الجماهير العريضة نفسها مدعوة لكي تغير من قيمها وسلوكها لتكون أكثر أيجابية, وأكثر قدرة علي المشاركة في صنع القرار.
ولاشك أن شبكة الإنترنت ساعدت علي خلق فضاء عام جديد ظهر فيه فاعلون سياسيون لاسابقة لهم هم المدونون, الذين ينشرون علي الشبكة مدوناتهم الزاخرة بالنقد السياسي العنيف أحيانا والموجه ضد النظم السياسية الحاكمة وبعيدا عن رقابتها, لأنها في الواقع تسبح حرة طليقة في الفضاء المعلوماتي!
آن للمثقفين العرب أن يجددوا أساليبهم في مجال النضال الديمقراطي والتنمية الثقافية.

هل هناك أزمة ثقافية عربية؟ بقلم: السيد يسين



مما لاشك فيه ان غياب العقل النقدي العربي‏,‏ الذي اهتممنا بموضوع تكوينه وأسسه‏,‏ يعد احد مظاهر الازمة الثقافية العربية‏,‏ لأن غياب هذا العقل أدي إلي سلبيات متعددة سواء في الممارسة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية‏.‏
وقد يكون من العلامات الايجابية ان النخبة الفكرية والسياسية ادركت خطورة هذه الازمة, وضرورة مواجهتها بسياسات ثقافية متكاملة.
وأريد بهذا الصدد ان اقدم إطارا نظريا لدراسة الظواهر الثقافية بشكل عام, من شأنه ان يبرز الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر عليها بالايجاب أو بالسلب.
والواقع ان هناك منهجيات متعددة يزخر بها الآن ميدان التحليل الثقافي, ولكننا آثرنا ان نتبني منهجية خاصة بالازمة الثقافية لانها هي التي تصلح لتطبيقها علي الوضع الراهن للثقافة العربية, وهذه المنهجية سبق ان اقترحها وطبقها عالم الاجتماع الالماني هانز بيتر درايتزل في دراسة له بعنوان في معني الثقافة نشرت عام1977 في كتاب جماعي حرره نورمان بيرنبوم بعنوان اجتياز الازمة.
في الإطار النظري المقترح مبدأ نظري مهم, ينطلق منه اي باحث نقدي في علم الاجتماع, وهو ضرورة تحليل العلاقات بين الثقافة وبناء القوة في المجتمع,POWERSTRUCTURE ومن ناحية اخري يحدد الإطار الوظائف المحددة للثقافة في أي مجتمع, والتي تهدف اساسا للحفاظ علي أنماط الانتاج السائدة وعلي عملية اعادة الانتاج, وفي هذا الصدد هناك وظائف يمكن التمييز بينها: الوظيفة الأولي: تتمثل في ان ثقافة مجتمع ما تمد اعضاءه بتبريرات لشرعية نمط الانتاج السائدة ونمط التوزيع. الوظيفة الثانية للثقافة: انها تمد الفرد ـ من خلال إجراءات وطقوس التنشئة الاجتماعية المقبولة ـ ببنية دافعية تربط بين هويته والنمط السائد للانتاج.
الوظيفة الثالثة للثقافة: انها تمد اعضاء المجتمع بتفسيرات رمزية للحدود الطبيعية للحياة الانسانية.
والفكرة الرئيسية التي ننطلق منها في بحثنا هي ان المجتمع العربي قد وصل إلي نقطة, ثبت منها ان النسق الثقافي عاجز عن القيام بهذه الوظائف, ومن هنا تأكيدنا اننا نواجه في الوقت الراهن أزمة ثقافية عربية.
تحليل الأزمة اذن هو المدخل الذي يقترحه درايتزل للتحليل الثقافي, ولذلك نراه يتعمق في مختلف جوانب الازمة, فيتحدث عن ثلاث ازمات: أزمة الشرعية وازمة الهوية, وأزمة العقلانية العملية, غير ان بعض علماء التحليل الثقافي يرون ان التركيز علي مدخل الازمة فقط, فيه قصور نظري واضح, لانه لايستوفي شروط النظرية النقدية.
فالنظرية النقدية ـ عند بريان فاي في كتابه المهم العلم الاجتماعي النقدي تهدف إلي تفسير النظام الاجتماعي بطريقة تصبح هي ذاتها الفاعل الذي يؤدي إلي تغييره, وبالتالي اي نظرية نقدية ـ لكي تستحق هذا الوصف ـ لابد ان تتضمن سلسلة مترابطة من النظريات الرئيسية والفرعية, والتي لاتقنع بوصف الازمة أو تحليلها, وانما ترتقي لمستوي رسم سبل تغيير النظام الاجتماعي من خلال تعليم الجماهير, وتحديد سبل ومسارات الافعال القادرة علي الخروج من الازمة, والانتقال بالمجتمع إلي حالة مغايرة, فالهدف الاسمي من النظرية النقدية هو التحررEMANCIPATION وهذا التحرر لن يتم سوي عبر سلسلة طويلة, أولي حلقاتها هي التنوير من خلال القضاء علي الوعي الزائف وثاني حلقاتها هي تدعيم قوي الجماهير, وفي ضوء هذه المسلمات جميعا يضع بريان فاي التخطيط التالي للنموذج الكامل للنظرية النقدية, والذي يتضمن اربع نظريات رئيسية:
1 ـ نظرية عن الوعي الزائف: تذهب هذه النظرية إلي ان طرق فهم الذات بواسطة مجموعة من الناس هي زائفة بمعني عدم قدرتها علي ان تضع في الاعتبار خبرات الحياة لاعضاء الجماعة أو لكونها غير متسقة لانها متناقضة داخليا أو للسببين معا, وهذا التحليل يشار إليه احيانا بالنقد الايديولوجي.
تشرح النظرية كيف اكتسب اعضاء الجماعة هذه الافهام السائدة, وكيفية استمرارها.
معارضة هذه الافهام بفهم مغاير للذات, واثبات ان هذا الفهم أرقي من الفهم السائد.
2 ـ نظرية عن الازمة تحديد ماهية الازمة الاجتماعية, وتثبت كيف ان مجتمعا ما واقع في مثل هذه الازمة.
وهذا قد يقتضي دراسة ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وانه لايمكن القضاء عليها, اذا ما استمر تنظيم المجتمع علي ماهو عليه, وكذلك افهام الناس السائدة, وتقدم عرضا تاريخيا لنمو هذه الازمة في ضوء سيادة الوعي الزائف, وبالنظر إلي الاسس البنيوية للمجتمع.
3 ـ نظرية عن التعليم: تقدم عرضا للشروط الضرورية والكافية لتحقيق التنوير الذي تهدف إليه النظرية, وتبرز كيف انه بالنظر إلي الموقف الاجتماعي الراهن, فان هذه الشروط تعد مستوفاة.
4 ـ نظرية عن فعل التغيير, تعزل هذه الجوانب من المجتمع, التي ينبغي تغييرها, اذا ما أريد حل الازمة الاجتماعية, والقضاء علي ضروب عدم الرضاء لأعضاء الجماعة, وتقدم خطة للفعل, يحدد فيها من هم الفاعلون الذين سيتحملون مسئولية التغيير الاجتماعي المأمول, وعلي الأقل فكرة عامة عن الطريقة التي سيعملون بها.
وفي تقديرنا ان النموذج النظري الذي يقدمه بريان فاي يتسم بالشمول والترابط العضوي بين مختلف نظرياته, واهم من ذلك انه يؤكد المسئولية السياسية للعالم الاجتماعي, والذي ينبغي ان يكون ناقدا اجتماعيا حتي يستحق هذا الوصف, وهو بهذه الصفة لايقنع بوصف الظواهر الاجتماعية وتفسيرها, وانما يركز في نفس الوقت علي دور المثقف باعتباره مثقفا عضويا اذا استخدمنا مصطلح جرامشي المعروف في تنوير الجماهير من خلال خطابه الذي لابد له ان يكون قادرا علي الوصول إليها, ليس ذلك فقط, بل عليه ان يقترح سبل العمل للتغيير.
وبناء علي ذلك حين ندعو لنظام ثقافي عربي جديد, فهذه الدعوة في حد ذاتها, لاقيمة لها, ان لم تحدد من هم الفاعلون الاجتماعيون الذين سيتولون مهمة صياغة هذا النظام الجديد, وأبعد من ذلك اهمية اقتراح وتحديد استراتيجيات العمل للتغيير الاجتماعي, لصالح الجماهير العريضة. ولو تأملنا النظريات المتعددة التي حددها بريان فاي لمواجهة الازمة الثقافية للمجتمع, لوجدنا انه تقف في صدارتها نظرية عن الوعي الزائف.
وترد أهمية هذا الموضوع إلي انه من المسلمات ان اجهزة الدولة الايديولوجية, ونعني مؤسسات التعليم والاعلام تؤدي دورا مهما في نشر الوعي الزائف لدي الجماهير بشرعية النظام السياسي القائم ايا كانت طبيعته, والزعم بأنه يعمل لصالح الجماهير العريضة.
والمهمة التي ينبغي ان يتصدي لها المثقفون النقديون في المجتمع هو تبديد هذا الوعي الزائف, وتنوير الناس وامدادهم بالوعي الحقيقي الذي يشرح لهم بناء القوة في المجتمع, وكيفية العمل لتغييره باتباع الوسائل السلمية, وعبر نضال لابد ان يطول بحكم تشبث مراكز القوي بأوضاعها. غير ان ذلك يقتضي في المقام الأول إبراز ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وردها إلي اسبابها الموضوعية, وسواء تعلق ذلك باحتكار عملية صنع القرار السياسي بواسطة قلة من النخبة السياسية الحاكمة, أو نتيجة لتطبيق استراتيجيات اقتصادية تهدف في المقام الأول إلي اثراء الطبقات العليا في المجتمع علي حساب جماهير الطبقة الوسطي وجماهير الطبقات الدنيا, مما يؤدي عادة إلي فجوة طبقية واسعة, لها آثار سلبية سواء علي اتجاهات الناس أو علي سلوكهم الاجتماعي.
غير انه اهم من ذلك كله التقدم خطوات اخري تهدف إلي اثبات ان الأوضاع الراهنة لايمكن لها ان تستمر, ان هناك ضرورة لتغييرها, وان هذا التغيير في حد ذاته مسألة ضرورية إن أريد للمجتمع ان يتحرر من قيوده, ويسير في مضمار التقدم.
غير ان تحقيق هذه الاهداف لايمكن ـ في ضوء النظرية التي نعرض لها ـ ان يتم بغير اقناع الناس ان هناك شروطا ضرورية وكافية لتحقيق التنوير الذي تسعي النظرية إلي تحقيقه, وان هذه الشروط مكتملة وجاهزة للتطبيق, ونصل اخيرا إلي فعل التغيير ذاته, ويقتضي ذلك تقديم خطة مفصلة للتغيير تحدد الجوانب الاجتماعية التي ينبغي تغييرها, وأهم من ذلك الاشارة إلي الفاعلين الذين سيتحملون مسئولية التغيير.
ولو نظرنا إلي المشهد الاجتماعي العربي الراهن لاكتشفنا ان هناك حيوية سياسية في كل البلاد العربية بدون استثناء, وأن اصوات المعارضة للأوضاع الراهنة بدأت ترتفع وتعبر عن نفسها بطرق شتي, سواء في إطار الاحزاب السياسية في البلاد التي تسمح بها, أو عن طريق منظمات المجتمع المدني التي نشطت في العقود الأخيرة بصورة ملفتة للنظر في المشرق والمغرب, والخليج, أو من خلال شبكة الانترنت, حيث برزت المدونات العربية التي يمارس فيها مدونون عرب يعدون بالآلاف النقد السياسي العنيف لممارسات النظم السياسية العربية الشمولية والسلطوية, وكذلك النقد الاجتماعي الجذري للممارسات الاجتماعية المحافظة والرجعية.
أمر محمود ان تدرك النخب السياسية العربية الحاكمة أهمية بحث موضوع الثقافة في قمة عربية تعقد في إطار جامعة الدول العربية, ولكن السؤال الأهم هل اعضاء هذه النخب جاهزون للتخلي عن بعض امتيازاتهم الطبقية ونفوذهم السياسي التقليدي, لفتح الطريق امام الجماهير العريضة للمشاركة السياسة في عملية صنع القرار من ناحية, وفي توزيع اكثر عدلا للدخل القومي من ناحية أخري؟
أسئلة استراتيجية لن نجد اجابة عنها إلا اذا عقدت القمة العربية الثقافية المقترحة وتابعنا مناقشاتها وقراراتها النهائية!

تكوين العقل النقدي العربي بقلم: السيد يسين

                                                                   21/01/2010

اهتممنا منذ سنوات بمشكلة تكوين العقل النقدي العربي‏,‏ إيمانا منا بأن هذا التكوين يعد إحدي المهام الرئيسية لأي ثقافة معاصرة‏.‏ وقد سبقتنا الثقافة الأوروبية في تشكيل هذا العقل منذ رفعت شعارات الحداثة‏.
وأهمها أن العقل هو محك الحكم علي الأشياء وليس النص الديني, كما كان شائعا في العصور الوسطي بتأثير الجمود العقائدي الذي مارسته الكنيسة, والذي أدي إلي تعطيل العقل الأوروبي ردحا طويلا من الزمان.
ومنذ أن أعلنت الثقافة الأوروبية ثورتها المعرفية ضد قيود التفكير, وأرست مباديء الشك الفلسفي الذي من تقاليده مساءلة كل الأفكار المسبقة وحتي المعتقدات الميتافيزيقية, تم إرساء قواعد التفكير النقدي.
ويمكن القول بدون أدني مبالغة إن ممارسة التفكير النقدي الأوروبي في مسائل السياسة وموضوعات الاقتصاد ومشكلات المجتمع والثقافة بواسطة الفلاسفة والمفكرين والسياسيين, هو الذي دفع بالمجتمعات الأوروبية إلي آفاق التقدم. ولايعني ذلك أن التفكير النقدي بمفرده قادر علي تطوير المجتمعات, فلابد أن يصاحبه ـ كما حدث فعلا ـ نهضة صناعية وتكنولوجية وعلمية.
وهكذا حين انتقلت أوروبا من نمط الإنتاج الزراعي إلي نموذج المجتمع الصناعي بكل مايتضمنه ذلك من تطور تكنولوجي ونهضة علمية, انفتحت أمامها أبواب التقدم المجتمعي, وأصبح المجتمع الأوروبي ينضح بالحيوية بعد أن كان مجتمعا سكونيا جامدا. وإن كنا سجلنا رأينا منذ التسعينيات عن أهمية تكوين العقل النقدي في مجتمع متغير وذلك عقب نهاية الحرب الباردة ونشوء عالم جديد, فإننا اليوم نؤكد عليه مرة أخري, ولكن في سياق ثورة المعلومات التي أدت إلي تدفقها في كل المجالات المعرفية, مما يستدعي في المقام الأول عقلا نقديا يستطيع تصنيف هذا الفيض من المعلومات, والتفرقة بين المعلومات الصحيحة والمعلومات الخاطئة, والمعلومات المتحيزة والمعلومات الموضوعية.
ولكن أهم من ذلك كله أن العقل النقدي هو الوسيلة الوحيدة لتحويل المعلومات إلي معرفة, لأن المعلومات بذاتها لاتشكل معرفة. ومن هنا أصبح يقع علي عاتق المجتمعات العربية المعاصرة مسئولية تشكيل العقل النقدي, وهذا التوجه ينبغي ان ينعكس علي السياسة الثقافية بشكل عام, مع تركيز علي التغيير الجوهري لنظام التعليم الذي يقوم علي التلقين وليس علي التحليل, وترشيد النظام الإعلامي ليصبح أداة للتفكير الخلاق ويستدعي ذلك في المقام الاول تغيير نمط التنشئة الاجتماعية لكي يقوم علي أساس تنمية الابداع وتشجيع الحوار الخلاق ويستدعي ذلك في المقام الأول تغيير نمط التنشئة الاجتماعية لكي يقوم علي أساس تنمية الابداع وتشجيع الحوار الخلاق.
ولو تأملنا المشهد المعرفي العربي الراهن لاكتشفنا أننا لم نستطع كعرب أن نجتاز عتبات الحداثة الفكرية كما فعلت أوروبا وأعلنت أن العقل هو معيار الحكم علي الاشياء.. وإخفاقنا في تحقيق الحداثة علي النمط الأوروبي, وتركيزنا علي تجارب التحديث العشوائية التي نجحت أحيانا وفشلت أحيانا أخري, هو الذي أدي إلي هيمنة النص الديني علي جنبات المجتمع, وشيوع التأويلات الجامدة له والتي وصلت إلي درجة الانحراف في بعض الأحيان, مما أدي إلي تكوين الفكر الديني المتزمت,الذي عوق الحركة السياسية والاجتماعية, وشيوع الفكر المتطرف الذي أدي في نهاية المطاف إلي الإرهاب. والواقع أننا لو ألقينا نظرة شاملة علي مسيرة التنمية العربية منذ الخمسينيات حتي اليوم, لاكتشفنا أنه تم التركيز علي الابعاد الاقتصادية والتي عنيت بالنهوض بالمجتمعاات العربية, علي حساب التطور السياسي والتقدم المعرفي. لقد سبق لنا أن وصفنا الثقافة العربية بأنها ثقافة تحت الحصار! وذلك لأنه لا يمكن لمجتمع ما مهما بلغت إنجازاته الاقتصادية أن يتقدم في ظل سيادة الشمولية والسلطوية التي من شأنها أن تمنع إطلاق المبادرات الخلاقة للأفراد والجماعات والتنظيمات السياسية والمؤسسات الاجتماعية, والمشكلة تبدو خطورتها في السياق التاريخي الذي نعيش في ظله حيث تنتقل البلاد المتقدمة من نموذج مجتمع المعلومات إلي نموذج مجتمع المعرفة بالمعني الشامل للكلمة, مما يستدعي فتح باب الإبداع واسعا وعريضا, ورفع القيود أمام حرية التفكير وحرية التعبير.
وإذا كانت المجتمعات العربية المعاصرة قد نجحت في أن تلحق بالتطور العالمي في مجال إرساء قواعد مجتمع المعلومات العالمي وفي قلبه شبكة الإنترنت, إلا أنه تم تجاهل أن مجتمع المعلومات ليس مرادفا لتكنولوجيا المعلومات!
بعبارة أخري لاتتعلق المسألة بعدد أجهزة الكمبيوتر في بلد معين, ولابالزيادة المطردة في عدد مستخدمي الإنترنت وهي حقا ظاهرة إيجابية, ولكن أخطر من ذلك تجاهل أن مجتمع المعلومات العالمي هو نموذج حضاري متكامل يتجاوز بقيمه تكنولوجيا المعلومات, فهو يقوم أولا علي الديمقراطية, وثانيا علي الشفافية, وثالثا علي حرية تداول المعلومات.
ومعني ذلك أنه لايمكن الحديث عن وجود مجتمع معلومات حقيقي في العالم العربي إذا لم تتحقق الديمقراطية ولم تتوافر الشفافية ولم تقنن حرية تداول المعلومات, بحيث يصبح من حق كل مواطن الحصول علي المعلومة مجانا وفي أي وقت.
ولايمكن للمجتمع العربي المعاصر الانتقال من مرحلة مجتمع المعلومات العالمي إلي مرحلة أرقي هي مجتمع المعرفة, وهو التطور الحادث اليوم في المجتمعات الصناعية المتقدمة, بغير القضاء النهائي علي آفة الأمية. وإذا صدقت التقديرات التي تذهب إلي أن معدل الأمية في العالم العربي لايقل عن40% فمعني ذلك أننا أمام كارثة ثقافية قبل أن نكون أمام عقبة معرفية!
وذلك لأن الأمية تعني أساسا الانخفاض الشديد في الوعي الاجتماعي العام, مما يؤثر سلبا علي اتجاهات الجماهير العريضة وقيمها وحتي علي سلوكها الاجتماعي.
ولذلك ليس غريبا في الواقع أن تسود اتجاهات الفكر الخرافي, وأن يصبح الفكر الديني المتزمت هو المسيطر علي عقول الناس!
وإذا كانت الثقافة العربية واقعة تحت الحصار كما أشرنا, فإن من بين مشكلاتها المزمنة شيوع عقلية التحريم فيها,وذلك لأن الثقافة العربية المعاصرة المحاصرة بالنظم السياسية الشمولية والسلطوية تضع قيودا متعددة علي حرية التفكير. ولو تأملنا تاريخ التقدم في مختلف الحضارات, لأدركنا أنه كان محصلة لممارسة حرية التفكير بغير قيود ولاحدود.
ولننظر لتاريخ التقدم الغربي, وسنجد أن أوروبا لم تستطع أن تخرج من عباءة القرون الوسطي بكل تخلفها وأثقالها, إلا بعد أن حطمت المؤسسات التي كانت تحجر علي الفكر, وتضع قيودا لا حدود لها علي العقل الإنساني, بل تمارس البطش الشديد والقمع بمختلف صوره علي كل مفكر أو مثقف أو باحث جرؤ علي تحدي المسلمات العلمية أو الفكرية أو السياسية أو الدينية السائدة.
لقد سمحت حرية التفكير للعقل الأوروبي أن يستطلع آفاق ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد من خلال بلورة علوم كاملة تدرسها, ودفعت به أيضا الي تنمية المنهج العلمي المنضبط لدراسة الظواهر الطبيعية بمختلف تجلياتها. وفي هذا المجال لم يتردد العقل الأوروبي إطلاقا في أن يبني علي القواعد الراسخة التي وضعها العلماء المسلمون في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الطبيعة والكيمياء والفلك والطب. ولم يزعم بعض الأوروبيين أن الفكر العالمي الإسلامي فكر وافد لاينبغي الاستعانة به, ولم ترتفع أصوات غبية ترفع شعارات الغزو الثقافي, أو تندد بالتبعية الحضارية, كما يحدث اليوم في بلادنا في مواجهة الفكر العلمي والإنساني المتقدم. ولذلك ـ نتيجة للتزمت الديني والجمود الفكري ـ تشيع دعاوي الحسبة التي يرفعها أنصار الفكر المحافظ ضد الأدباء والمفكرين, وهي علامة بارزة علي التخلف الثقافي العربي.
وأيا ما كان الأمر فيمكن القول إن من أبرز الكتب العربية التي نشرت اخيرا, أو ناقشت باستفاضة موضوعات المعلومات والمعرفة والتفكير النقدي, كتاب الدكتور نبيل علي الذي سبق ان أشرنا إليه وعنوانه العقل العربي ومجتمع المعرفة الكويت عالم المعرفة, ديسمبر2009.
وهو بعد استعراض عميق لتعريفات التفكير النقدي ومعاييره وحضارته من المنظور العربي, يؤكد في مجموعة نقاط مركزة أهمية أن نأخذ التفكير النقدي مأخذ الجد, وذلك لعدة أسباب رئيسية.
من أهمها تعليميا أن التفكير النقدي هو الحل البديل والأصيل لتخليص التعليم العربي من حتمية التعليم بالتلقين وسلبية التلقين.
ومن الناحية الإعلامية تبدو أهمية التفكير النقدي في كونه أكثر الوسائل فعالية لمواجهة حملات الخداع والتضليل, ورفع الوعي الإعلامي للجماهير.
أما من الناحية الثقافية فهو ضرورة من ضرورات التنمية كما أشرنا بالاضافة ـ كما يقول نبيل علي ـ إلي كونه سلاحا ماضيا للتصدي للحملة الضارية التي يشنها الغرب علي الثقافة العربية والحضارة الإسلامية.
وتبقي وظيفته الأساسية والتي أشرنا إليها مرارا, وهي قدرته الفعالة علي تحويل المعلومات الي معرفة, لأنه الذي يستطيع وحده بلورة المعاني الكامنة, واستخلاص الدلالات المتضمنة في فيضان المعلومات الزاخر.
بعبارة موجزة بغير عقل نقدي لايمكن تحقيق النهضة العربية!

التكوين الثقافي في عصر المعلومات بقلم: السيد يسين

                                                                        15/01/2010

هناك اجماع بين المفكرين والعلماء الاجتماعيين علي أن عصر المعلومات يفترض مراجعة كاملة للسياسات التعليمية والسياسات الثقافية التي كانت سائدة قبل الثورة الاتصالية الكبري‏
كانت برامج التعليم تقوم علي أساس التلقين الكامل أو التلقين النسبي,  بحيث كان الدارس يقوم بدور المتلقي السلبي الذي يأخذ العلم عن المدرس أو الأستاذ غالبا بدون مناقشة, وفي اطار أبوي ـ خصوصا في المجتمعات التقليدية ـ بحيث يصبح كلام المدرس أو الأستاذ وكأنه كلام مقدس لا يأتيه الباطل! كانت علاقة الأستاذ بالطالب أشبه بعلاقة الحاكم بالمحكوم في المجتمعات غير الديموقراطية, حيث الحاكم يأمر, والمحكوم يطيع بلا مناقشة أو حوار.
وكان هذا هو وضع التعليم أيضا في أغلب المجتمعات الأوروبية ما عدا نظام التعليم الأمريكي, الذي ـ بحكم فلسفته ـ كان يتيح الفرصة للنقاش والحوار. والدليل علي غلبة هذه الفلسفة التعليمية العقيمة التي تقوم علي التلقين هو ثورة الطلبة الفرنسيين عام1986, التي وجهت ضرباتها أساسا ضد نظام التعليم الفرنسي التقليدي الذي كان الأستاذ الجامعي يقف في قمته في موضع الحكيم الذي كان يصب الحكمة في أدمغة الطلبة بلا فرصة أمامهم للمساءلة أو المناقشة أو الحوار أو النقد!
ووصل الشطط في بعض شعارات هذه الثورة التاريخيةإلي المطالبة بحق الطلبة في الاشتراك في وضع المقررات الجامعية, حتي لا يفرض عليهم الأساتذة موضوعات تقليدية عقيمة, ويستبعدون الموضوعات الراديكالية التي تعبر عن الفكر النقدي من جميع الاتجاهات, الذي يهدف إلي تغيير بنية المجتمعات الرأسمالية.
كما أن ثورة الطلبة اعترضت علي محاولات النظام الرأسمالي الفرنسي ربط التعليم بالسوق, وإلغاء الأقسام الجامعية في العلوم الاجتماعية والانسانية والتي تدرب الطالب علي التفكير المنهجي, واستحداث مقررات خاصة بإدارة الأعمال والكمبيوتر وغيرها مما تتطلبه السوق.
غير أن عصر المعلومات الذي فتح أبوابا جديدة أمام العقل الإنساني أصبح يتبني قيما جديدة من شأنها أن تحدث ثورة في مجال التعليم, وأبرز هذه القيم هي أهمية التفاعلية. بعبارة أخري: التعليم ينبغي أن يقوم لا علي التلقين لتدريب الذاكرة, وانما علي الفكر التحليلي والرؤية النقدية, في إطار من التفاعل بين المرسل, وهو هنا الأستاذ والمستقبل أي الطالب. وأصبحت هذه قيمة عامة تطبق في التفاعل الإنساني مع شبكة الانترنت, بحيث غالبا ما تجد في نهاية المقال أو الخبر عبارة تقول للمشاهد علق علي هذا المقال.
ويستطيع المتعامل مع الانترنت بعد ذلك أن يقرأ النص الأصلي, بالإضافة إلي التعليقات المتعددة التي أبديت عليه, ومن ثم يمكن له أن يشترك في الحوار الفكري الدائر ويسهم فيه.
ومما لا شك فيه أن التعليم في القرن الحادي والعشرين الذي سيغلب عليه ـ نتيجة اعتبارات شتي ـ ان يكون تعليما عن بعد, سيطبق هذه القيم, ومن ثم ستصاغ العقول صياغة جديدة, بحيث تكون قادرة علي انتاج الفكر الابتكاري, والابداع في كافة المجالات.
وإذا كانت نظم التعليم القديم قد فات أوانها بعد أن دخلنا في مجال التعليم الحديث الذي يستفيد من انجازات ثورة المعلومات, فلا شك أن عملية التكوين الثقافي سيلحقها التغيير أيضا.
والتكوين الثقافي كان يتم في كل المجتمعات المعاصرة عن طريق القراءة المستوعبة في المقام الأول, التي تتجاوز بكثير المقررات الدراسية, سواء في المرحلة الثانوية أو المرحلة الجامعية.
ولو حللت خبرتي الشخصية في هذا المجال باعتباري مثقفا مصريا عربيا تشكل عقله في أواخر الأربعينيات وعقد الخمسينيات, لقلت إن التكوين الذاتي الذي يعتمد علي القراءة في مجالات متعددة, كان هو الأساس الذي اعتمدنا عليه في تنمية شخصياتنا الثقافية.
ولو حللنا تجارب هذا الجيل الذي أنتمي إليه والأجيال التالية, لوجدنا شبها شديدا في الخبرات المشتركة. وأغلبنا ـ كمثقفين ـ قرأنا في مكتبات عامة كانت منتشرة في بلد كمصر في جميع أحياء المدن وفي مراكز العواصم في الريف.
وكانت مكتبات معدة اعدادا جيدا في الواقع, لأنها كانت تضم أهم ابداعات الفكر المصري والفكر العربي الحديث.
وباعتباري نشأت وتعلمت في مدينة الاسكندرية, سواء في المدارس الثانوية أو في كلية الحقوق بالجامعة, فقد تكونت ثقافيا من خلال اطلاعات منظمة في مكتبة البلدية بحي محرم بك بالاسكندرية.
قرأت كل مؤلفات طه حسين وعباس العقاد وأحمد أمين وسلامة موسي, وطالعت كتابات جبران وخليل جبران ومحمد كرد علي, وغيرهم من الكتاب العرب, بالإضافة إلي اطلاعات شتي علي روائع الأدب الانجليزي في الشعر والرواية, بالإضافة إلي المقالات الفلسفية والكتب الفكرية.
ربما كان هذا العصر يشجع الشباب علي القراءة الموسوعية, بالإضافة إلي الجرائد والمجلات الثقافية الشهيرة كالرسالة والثقافة, التي كانت أدوات تواصل عربية رفيعة المستوي, حيث كانت تقرأ في كل أنحاء العالم العربي.
تغير العصر, بعد بروز ثورة المعلومات, ولم يعد التكوين الثقافي لجيل الشباب العرب يعتمد كما فعلت أجيالنا علي القراءة المستوعبة, وانما أصبحت شبكة الانترنت بفيض المعلومات التي تتدفق منها هي المصدر الأساسي, بالإضافة إلي كل أنواع المعارف المعروفة علي هذه الشبكة العجيبة!
وهل حقا ستحل الصحافة الالكترونية محل الصحافة المقروءة التقليدية؟ وهل سيختفي الكتاب التقليدي ويحل محله الكتاب الإلكتروني.
كلها اسئلة بالغة الأهمية يثيرها عصر المعلومات بكل ما أفرزه من أدوات اتصال مستحدثة, لم يسبق للعقل الانساني مجرد تصورها!
ومن ملاحظاتي الميدانية باعتباري باحثا أكاديميا أشارك بإلقاء المحاضرات في الجامعات أحيانا وأسهم في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه أحيانا أخري, وأتفاعل تفاعلا عميقا مع أجيال الشباب, أستطيع أن أقرر أنه انتهي عصر التكوين الثقافي التقليدي للأسف, والذي كان يقوم أساسا علي القراءة المستوعبة في مجالات متعددة, بحيث يمكن للمثقف الشاب أن يتحلي بثقافة موسوعية تسمح له بالتفكير النقدي الخلاق.
لم تعد أجيال الشباب تقرأ كما كان جيلنا يقرأ, ولكنهم ـ علي سبيل القطع ـ أبرع منا جميعا في التعامل مع الانترنت, ويجيدون استخراج المعلومات منها. ولكن المشكلة الحقيقية هي أن المعلومات لاتكون بذاتها معرفة! لأن تشكل المعرفة يقتضي خبرة نظرية راسخة وعقلا نقديا لايمكن تكوينه, إلا عبر القراءة المتعمقة المتأملة بالطريقة التقليدية, التي يعزف عنها الشباب!
جيل الشباب لاصبر له علي القراءة التقليدية, وهم ـ كما ذكر طه حسين ذات مرة ربما في استبصار عميق بالمستقبل ـ يخطفون المعرفة خطفا! وكان يقصد بذلك هؤلاء الذين يقرأون بدون أن يتمثلوا مايقرأونه أو يستوعبوه بالقدر الكافي!
تري ماذا كان يمكن أن يقول طه حسين لو تفاعل مع أجيال شباب الانترنت وأدرك أنهم لم يقرأوا التراث الفكري المصري أو العربي الحديث, ولايعرفون شيئا كثيرا عن تراثهم العربي القديم؟
ولايعني ذلك أن أجيال الشباب التي لاتعني بالقراءة التقليدية يفتقرون إلي أي مزايا ايجابية تميزهم حتي عن أجيالنا, علي العكس هم يفوقون الاجيال العربية الراهنة, لأنهم ابتدعوا صيغة المدونات الأدبية والسياسية كأسلوب جديد للتفاعل السياسي والاجتماعي, متجاوزين بذلك القيود التي تضعها الحكومات العربية علي حرية التفكير وحرية التعبير.
وأصبحت المدونات السياسية الآن من أدوات التحول الديمقراطي في العالم العربي.
واستحدثت اجيال الشباب الفيس بوك وغيرها من أدوات الاتصال الاجتماعية والجماهيرية.
ومعني ذلك أن أجيال الشباب الراهنة إذا كانت قد قصرت في عملية التكوين الذاتي التقليدية التي كانت تعتمد علي القراءة المنهجية والموسوعية, فإنهم يحاولون بطريقتهم أن يثقفوا انفسهم في عصر المعلومات عن طريق التفاعل مع شبكة الانترنت.
ولكن تبدو المشكلة الحقيقية هي أن المعلومات ـ كما ذكرنا من قبل ـ لاتمثل معرفة في حد ذاتها, لأن المعرفة هي نتاج المنهج التحليلي والعقل التقليدي

التكوين الثقافي في عصر المعلومات بقلم: السيد يسين


                                                 14/01/2010
هناك اجماع بين المفكرين والعلماء الاجتماعيين علي أن عصر المعلومات يفترض مراجعة كاملة للسياسات التعليمية والسياسات الثقافية التي كانت سائدة قبل الثورة الاتصالية الكبري‏.‏
كانت برامج التعليم تقوم علي أساس التلقين الكامل أو التلقين النسبي,  بحيث كان الدارس يقوم بدور المتلقي السلبي الذي يأخذ العلم عن المدرس أو الأستاذ غالبا بدون مناقشة, وفي اطار أبوي ـ خصوصا في المجتمعات التقليدية ـ بحيث يصبح كلام المدرس أو الأستاذ وكأنه كلام مقدس لا يأتيه الباطل! كانت علاقة الأستاذ بالطالب أشبه بعلاقة الحاكم بالمحكوم في المجتمعات غير الديموقراطية, حيث الحاكم يأمر, والمحكوم يطيع بلا مناقشة أو حوار.
وكان هذا هو وضع التعليم أيضا في أغلب المجتمعات الأوروبية ما عدا نظام التعليم الأمريكي, الذي ـ بحكم فلسفته ـ كان يتيح الفرصة للنقاش والحوار. والدليل علي غلبة هذه الفلسفة التعليمية العقيمة التي تقوم علي التلقين هو ثورة الطلبة الفرنسيين عام1986, التي وجهت ضرباتها أساسا ضد نظام التعليم الفرنسي التقليدي الذي كان الأستاذ الجامعي يقف في قمته في موضع الحكيم الذي كان يصب الحكمة في أدمغة الطلبة بلا فرصة أمامهم للمساءلة أو المناقشة أو الحوار أو النقد!
ووصل الشطط في بعض شعارات هذه الثورة التاريخيةإلي المطالبة بحق الطلبة في الاشتراك في وضع المقررات الجامعية, حتي لا يفرض عليهم الأساتذة موضوعات تقليدية عقيمة, ويستبعدون الموضوعات الراديكالية التي تعبر عن الفكر النقدي من جميع الاتجاهات, الذي يهدف إلي تغيير بنية المجتمعات الرأسمالية.
كما أن ثورة الطلبة اعترضت علي محاولات النظام الرأسمالي الفرنسي ربط التعليم بالسوق, وإلغاء الأقسام الجامعية في العلوم الاجتماعية والانسانية والتي تدرب الطالب علي التفكير المنهجي, واستحداث مقررات خاصة بإدارة الأعمال والكمبيوتر وغيرها مما تتطلبه السوق.
غير أن عصر المعلومات الذي فتح أبوابا جديدة أمام العقل الإنساني أصبح يتبني قيما جديدة من شأنها أن تحدث ثورة في مجال التعليم, وأبرز هذه القيم هي أهمية التفاعلية. بعبارة أخري: التعليم ينبغي أن يقوم لا علي التلقين لتدريب الذاكرة, وانما علي الفكر التحليلي والرؤية النقدية, في إطار من التفاعل بين المرسل, وهو هنا الأستاذ والمستقبل أي الطالب. وأصبحت هذه قيمة عامة تطبق في التفاعل الإنساني مع شبكة الانترنت, بحيث غالبا ما تجد في نهاية المقال أو الخبر عبارة تقول للمشاهد علق علي هذا المقال.
ويستطيع المتعامل مع الانترنت بعد ذلك أن يقرأ النص الأصلي, بالإضافة إلي التعليقات المتعددة التي أبديت عليه, ومن ثم يمكن له أن يشترك في الحوار الفكري الدائر ويسهم فيه.
ومما لا شك فيه أن التعليم في القرن الحادي والعشرين الذي سيغلب عليه ـ نتيجة اعتبارات شتي ـ ان يكون تعليما عن بعد, سيطبق هذه القيم, ومن ثم ستصاغ العقول صياغة جديدة, بحيث تكون قادرة علي انتاج الفكر الابتكاري, والابداع في كافة المجالات.
وإذا كانت نظم التعليم القديم قد فات أوانها بعد أن دخلنا في مجال التعليم الحديث الذي يستفيد من انجازات ثورة المعلومات, فلا شك أن عملية التكوين الثقافي سيلحقها التغيير أيضا.
والتكوين الثقافي كان يتم في كل المجتمعات المعاصرة عن طريق القراءة المستوعبة في المقام الأول, التي تتجاوز بكثير المقررات الدراسية, سواء في المرحلة الثانوية أو المرحلة الجامعية.
ولو حللت خبرتي الشخصية في هذا المجال باعتباري مثقفا مصريا عربيا تشكل عقله في أواخر الأربعينيات وعقد الخمسينيات, لقلت إن التكوين الذاتي الذي يعتمد علي القراءة في مجالات متعددة, كان هو الأساس الذي اعتمدنا عليه في تنمية شخصياتنا الثقافية.
ولو حللنا تجارب هذا الجيل الذي أنتمي إليه والأجيال التالية, لوجدنا شبها شديدا في الخبرات المشتركة. وأغلبنا ـ كمثقفين ـ قرأنا في مكتبات عامة كانت منتشرة في بلد كمصر في جميع أحياء المدن وفي مراكز العواصم في الريف.
وكانت مكتبات معدة اعدادا جيدا في الواقع, لأنها كانت تضم أهم ابداعات الفكر المصري والفكر العربي الحديث.
وباعتباري نشأت وتعلمت في مدينة الاسكندرية, سواء في المدارس الثانوية أو في كلية الحقوق بالجامعة, فقد تكونت ثقافيا من خلال اطلاعات منظمة في مكتبة البلدية بحي محرم بك بالاسكندرية.
قرأت كل مؤلفات طه حسين وعباس العقاد وأحمد أمين وسلامة موسي, وطالعت كتابات جبران وخليل جبران ومحمد كرد علي, وغيرهم من الكتاب العرب, بالإضافة إلي اطلاعات شتي علي روائع الأدب الانجليزي في الشعر والرواية, بالإضافة إلي المقالات الفلسفية والكتب الفكرية.
ربما كان هذا العصر يشجع الشباب علي القراءة الموسوعية, بالإضافة إلي الجرائد والمجلات الثقافية الشهيرة كالرسالة والثقافة, التي كانت أدوات تواصل عربية رفيعة المستوي, حيث كانت تقرأ في كل أنحاء العالم العربي.
تغير العصر, بعد بروز ثورة المعلومات, ولم يعد التكوين الثقافي لجيل الشباب العرب يعتمد كما فعلت أجيالنا علي القراءة المستوعبة, وانما أصبحت شبكة الانترنت بفيض المعلومات التي تتدفق منها هي المصدر الأساسي, بالإضافة إلي كل أنواع المعارف المعروفة علي هذه الشبكة العجيبة!
وهل حقا ستحل الصحافة الالكترونية محل الصحافة المقروءة التقليدية؟ وهل سيختفي الكتاب التقليدي ويحل محله الكتاب الإلكتروني.
كلها اسئلة بالغة الأهمية يثيرها عصر المعلومات بكل ما أفرزه من أدوات اتصال مستحدثة, لم يسبق للعقل الانساني مجرد تصورها!
ومن ملاحظاتي الميدانية باعتباري باحثا أكاديميا أشارك بإلقاء المحاضرات في الجامعات أحيانا وأسهم في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه أحيانا أخري, وأتفاعل تفاعلا عميقا مع أجيال الشباب, أستطيع أن أقرر أنه انتهي عصر التكوين الثقافي التقليدي للأسف, والذي كان يقوم أساسا علي القراءة المستوعبة في مجالات متعددة, بحيث يمكن للمثقف الشاب أن يتحلي بثقافة موسوعية تسمح له بالتفكير النقدي الخلاق.
لم تعد أجيال الشباب تقرأ كما كان جيلنا يقرأ, ولكنهم ـ علي سبيل القطع ـ أبرع منا جميعا في التعامل مع الانترنت, ويجيدون استخراج المعلومات منها. ولكن المشكلة الحقيقية هي أن المعلومات لاتكون بذاتها معرفة! لأن تشكل المعرفة يقتضي خبرة نظرية راسخة وعقلا نقديا لايمكن تكوينه, إلا عبر القراءة المتعمقة المتأملة بالطريقة التقليدية, التي يعزف عنها الشباب!
جيل الشباب لاصبر له علي القراءة التقليدية, وهم ـ كما ذكر طه حسين ذات مرة ربما في استبصار عميق بالمستقبل ـ يخطفون المعرفة خطفا! وكان يقصد بذلك هؤلاء الذين يقرأون بدون أن يتمثلوا مايقرأونه أو يستوعبوه بالقدر الكافي!
تري ماذا كان يمكن أن يقول طه حسين لو تفاعل مع أجيال شباب الانترنت وأدرك أنهم لم يقرأوا التراث الفكري المصري أو العربي الحديث, ولايعرفون شيئا كثيرا عن تراثهم العربي القديم؟
ولايعني ذلك أن أجيال الشباب التي لاتعني بالقراءة التقليدية يفتقرون إلي أي مزايا ايجابية تميزهم حتي عن أجيالنا, علي العكس هم يفوقون الاجيال العربية الراهنة, لأنهم ابتدعوا صيغة المدونات الأدبية والسياسية كأسلوب جديد للتفاعل السياسي والاجتماعي, متجاوزين بذلك القيود التي تضعها الحكومات العربية علي حرية التفكير وحرية التعبير.
وأصبحت المدونات السياسية الآن من أدوات التحول الديمقراطي في العالم العربي.
واستحدثت اجيال الشباب الفيس بوك وغيرها من أدوات الاتصال الاجتماعية والجماهيرية.
ومعني ذلك أن أجيال الشباب الراهنة إذا كانت قد قصرت في عملية التكوين الذاتي التقليدية التي كانت تعتمد علي القراءة المنهجية والموسوعية, فإنهم يحاولون بطريقتهم أن يثقفوا انفسهم في عصر المعلومات عن طريق التفاعل مع شبكة الانترنت.
ولكن تبدو المشكلة الحقيقية هي أن المعلومات ـ كما ذكرنا من قبل ـ لاتمثل معرفة في حد ذاتها, لأن المعرفة هي نتاج المنهج التحليلي والعقل التقليدي.

الإدراكات العربية لعصر المعلومات بقلم: السيد يسين


                                                              07/01/2010
لانبالغ لو قلنا ان موضوع العولمة والمعرفة سيكون موضوع اهتمام العلماء والمفكرين في العقود المقبلة‏,‏ ويرد ذلك لسبب بسيط مؤداه ان العولمة بحكم تعريفها‏,‏ الذي يتمثل في سرعة تدفق المعلومات والافكار ورءوس الاموال والسلع والخدمات من بلد إلي آخر بغير حدود ولاقيود‏,‏ قد فتحت الفضاء المعلوماتي علي مصراعيه امام تدفق المعلومات وتراكم المعرفة‏.‏
وتدفق المعلومات السياسية والاقتصادية والثقافية عبر شبكة الانترنت, هو أول ملمح من ملامح مجتمع المعلومات العالمي, غير ان المشكلة تتمثل في ان المعلومات بذاتها بحكم تناثرها ومشكلات ثباتها وصدقها وموضوعيتها, لاتمثل معرفة, لأن المعرفة هي جماع التفكير التحليلي والنقدي القادر علي صياغة البني المعرفية المترابطة, وتشبيك المعلومات للوصول إلي استبصارات حقيقية بمشكلات الواقع في الوقت الحاضر, وإلي استشرافات دقيقة بآفاق المستقبل.
وإذا كان تحول المعلومات إلي معرفة هو التحدي الأكبر امام مستخدمي ثورة الاتصالات وشبكة الانترنت, فإن الخطوة التالية في التطور تتمثل في الانتقال من نموذج مجتمع المعلومات إلي نموذج مجتمع المعرفة.
ومجتمع المعرفة ـ بحسب التعريف ـ لايمكن ان يقوم بغير ترسيخ قواعد اقتصاد المعرفة, الذي تتمثل نظريته الاساسية في تحويل المعرفة بكل انواعها إلي سلع يمكن تداولها, وهذا المجتمع الجديد لايمكن له ان ينهض بغير تشجيع الابداع بكل صوره, وتدعيم البحث العلمي الاصيل والمترابط, وفق استراتيجية بحثية تفيد من شبكة الانترنت في مجال التواصل بين العلماء, وتداول نتائج الابحاث العلمية المحققة في اسرع وقت, مما يسمح بتسريع وتيرة التراكم المعرفي العالمي.
لقد تحدثنا من قبل عن السياق التاريخي الذي تعيش الانسانية في رحابه وعنينا به سيادة عصر العولمة, إلا اننا ربطناه ربطا وثيقا بالسباق الحضاري, حيث تحاول الأمم المختلفة الاندفاع في مضمار التقدم, لاكتساب المعرفة التي علي اساسها يمكن تطوير المجتمعات وجعلها أكثر قدرة علي اشباع حاجات الانسان المادية والروحية.
وقد اثرنا سؤالا جوهريا صاغه الدكتور نبيل علي في كتابه الذي صدر حديثا وعنوانه العقل العربي ومجتمع المعرفة وهو هل العرب قادرون علي خوض السباق الحضاري؟ وكانت اجابته قاطعة, وهي اننا كعرب قادرون علي ذلك لو حشدنا الطاقات الخلاقة التي تزخر بها مجتمعاتنا العربية, وفق استراتيجية متكاملة تقوم علي اساس الفهم العميق لتحولات المجتمع العالمي, وأكثر من ذلك معرفة منطق كل تحول من هذه التحولات واتجاهاته المستقبلية.
وفي هذا السياق يمكن القول ان الجماعة العلمية العربية شرعت في تأصيل المعرفة الخاصة بمجتمع المعلومات, وتقدم الخبراء والمفكرين في كل تخصصات العلم الاجتماعي لكي يعبروا عن ادراكاتهم العلمية لمختلف جوانب عصر العولمة, وابرزها التفاعلات العميقة والمتنوعة التي تدور في الفضاء المعلوماتي لشبكة الانترنت, ومن ابرز الدراسات العربية في هذا المجال كتب ومقالات نبيل علي المتنوعة والتي تتسم بشمول النظرة وبموسوعية الثقافة التي سمحت له بتقديم رؤي متكاملة لمجتمع المعلومات, تربط بين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.
كما ان مركز دراسات الوحدة العربية نشر عدة كتب مهمة في هذا المجال ابرزها رسالة الدكتوراه للباحث الليبي الدكتور علي محمد رحومة وعنوانها الانترنت والمنظومة التكنواجتماعية وهي دراسة سوسيولوجية متعمقة راجع الكتاب الصادر عام2005 في سلسلة اطروحات الدكتوراه التي ينشرها هذا المركز العريق.
وهنا ايضا كتاب العرب وثورة المعلومات الذي حرر فصوله عدد من ألمع الباحثين العرب الصادر عام2005 عن المركز, وكذلك مجموعة دراسات مهداة إلي ذكري الدكتور اسامة امين الخولي نشرت عام2002 وشارك فيها مجموعة من ابرز الباحثين وحررها نادر فرجاني هذه مجرد امثلة بارزة علي الدراسات العربية التي عنيت بتناول مختلف جوانب ثورة المعلومات.
والسؤال الذي ينبغي اثارته الآن, هل استوعب الباحثون والمفكرون العرب الادراكات الغربية المختلفة تجاه ثورة المعلومات, وهل ابدعوا في هذا المجال نظرياتهم الخاصة أم قنعوا بإعادة انتاج ما قرأوه في التراث الفكري الغربي؟ يمكن القول ـ بقدر ما من التعميم ـ ان المفكرين العرب استوعبوا إلي حد كبير اسهام المفكر الغربي بمختلف توجهاته في مجال ثورة المعلومات, وان كان في بعض الاحيان يتمثل ذلك في إعادة انتاجه, بدلا من تحليله بصورة نقدية تمهيدا لصياغة عربية اصيلة ان صح التعبير.
وقد يكون من بين أمثلة الاستيعاب النقدي البصير للفكر الغربي في موضوع ثورة المعلومات, مقالة مهمة للمفكر المصري العربي الراحل د. اسامة الخولي, القي محتواها كمحاضرة في منتدي البحرين الفكري في5 حزيران يونيو2000 ونشرت من بعد في كتاب العرب وثورة المعلومات الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام2005.
وترد أهمية هذه المقالة التي نشرت بعنوان تكنولوجيا المعلومات بين التهوين والتهويل إلي انه حاول فيها مؤلفها ان يصنف مختلف الادراكات الغربية لثورة المعلومات في ثلاثة نماذج اساسية.
النموذج الأول يعبر عنه مشروع الالفيةmillenniumprogeet الذي نشر ملفا خاصا عام1999 عن الفضاء السيبيري المعلوماتي والذي يؤكد فيه ان هذا الفضاء اصبح وسطا جديدا مهما للحضارة الانسانية, وهو يتطور لكي يصبح العقل العالمي والجهاز العصبي للبشرية.
ويعتبر تقرير هذا المشروع ان شبكة الانترنت تعدنا باتاحة فرص متساوية للغني والفقر, وهي واحدة من اقوي آليات التغيير في العالم, كما ان اساليب الاتصال التفاعلي تحفز التعاون, بعكس سبل التواصل القديمة الوحيدة الاتجاه, من المرسل علي المتلقي, والتي تنحو نحو تكريس الصراع والمواجهة, ان الانترنت توزع الآن ثروة المعلومات بطريقة أكثر ديمقراطية من النظم السابقة.
والدكتور الخولي يقدم لنا هذا النموذج باعتباره يعبر عن اتجاه التهويل في تقييم الدور الذي ستلعبه شبكة الانترنت في الحياة الانسانية.
وبالتالي فيمكن القول إنه اتجاه يقدم رؤية تفاؤلية عن دور الإنترنت.
اما النموذج الثاني الذي يصدر عن رؤية تشاؤمية فيعبر عنه فرانسيس فوكوياما المفكر الأمريكي صاحب كتاب نهاية التاريخ الذي راج في كل انحاء العالم, وهو رؤية مضادة تماما للنموذج الأول فهو في كتابه الاضطراب العظيم يرصد الانهيار العظيم في الدول المتقدمة وخصوصا في مجال انهيار العلاقات والروابط الاجتماعية نتيجة ثورة المعلومات, وهو يري انه لابد من صياغة جديدة للنظام الاجتماعي, لان الطبقة البشرية لن تقبل ان تعيش في ظل قيم وممارسات عصر ما بعد الصناعة, وذلك لان حرية الاختيار التي اتي بها انفجار المعلومات قد عرضت الهياكل السياسية والاجتماعية لضغوط لاعهد له بها, وهكذا ازدادت معدلات الجريمة, وتراجعت معدلات الزواج والانجاب, وانهارت العلاقات الاسرية واصبحت مدن كثيرة تعيش في ترف مادي غير آمنة.
بعبارة اخري نشأت هوة تزداد عمقا بين الافراد بعضهم ببعض وبينهم وبين الحكومات ويرجع ذلك إلي ثورة المعلومات.
ونصل للنموذج الثالث والاخير والذي يطرح بدقة مجموعة تساؤلات مهمة تعكس غياب اليقين بالفوائد المطلقة لثورة المعلومات التي اتجه لها النموذج الأول, وعدم الثقة في الرؤية التشاؤمية التي يعكسها النموذج الثاني.
ومن بين هذه التساؤلات المهمة: هل ستدعم شبكة الانترنت الاستقلال الذاتي للفرد ازاء المجتمع ام ستحد من خصوصيته؟
وهل ستقوي استقلاله الاقتصادي ام ستزيد من سلطة الشركات الكبري عليه؟
وهل سيقدر لشبكات الانترنت التي اصبحت الآن ميدانا للمضاربات والمخاطر البقاء أم انها معرضة لأن تختفي من الوجود؟
وهل من الانسب ألا نصدر الآن احكاما قاطعة ـ كما يقول د. الخولي ـ وان ننتظر حتي يكتمل التحام تكنولوجيات الانترنت والتليفزيون والمذياع والهاتف وتحقيق معايير السوق للبقاء؟
لو تأملنا محاولة الدكتور اسامة الخولي لتصنيف الادراكات الاساسية في الفكر الغربي لثورة المعلومات, والتي تتراوح بين التفاؤل والتشاؤم والمساءلة, لادركنا انها تتماثل تماما مع الادراكات العالمية ازاء ظاهرة العولمة ذاتها والتي هي اشمل بالقطع من شبكة الانترنت.
وقد سبق لنا ـ في دراساتنا المتعددة عن العولمة ـ ان رصدنا نفس الاتجاهات الثلاث المتشائمة, والتي لاتري في العولمة سوي المرحلة الأعلي في تاريخ الامبريالية الغربية, والمتفائلة التي تزعم ان العولمة تمثل المفتاح السحري للتقدم الانساني المطرد, والمتسائلة التي لاتندفع نحو الاجابات, وانما تطرح الأسئلة المهمة أولا عن طبيعة الظاهرة واتجاهاتها المستقبلية.
والواقع ان الادراكات العربية للعولمة لاتختلف اطلاقا عن الادراكات الغربية.
وايا ما كان الأمر فيمكن القول ان عصر إعادة انتاج الفكر الغربي في الموضوع قد انتهي, واننا ـ بناء علي نماذج محددة ـ بدأنا الدخول في عصر الابداع العربي في مجال دراسة وتحليل مختلف جوانب ثورة المعلومات.