الجمعة، 28 ديسمبر 2012

أيديولوجيا بلا عنوان للمبدعة : ملحة عبدالله



لماذا يتلاشى الإنسان بدواخلنا وينبري الحوار في ثقافتنا هذه الأيام ليعتلي صهوة الأنا وإقصاء الآخر في دوغماتية فظة وفجة، وخاصة على شاشات القنوات الفضائية؟
حينما تتعالى الأصوات ويسود الضجيج تفقد الأذن قدرتها وتتحول إلى كؤوس فارغة يملؤها الصدأ، فالآنية الفارغة تملأ الدنيا ضجيجا بطبيعة الحال كما قال الفيلسوف اليوناني سقراط. ولأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد جعل للإنسان أذنين اثنتين ولسانا واحدا، فذاك لأمرين هامين يجب التنبيه إليهما. أولهما التأكيد على أهمية الإنصات ورفعة وعلو شأنه في جميع مجريات حياة الفرد منا، وثانيهما هو أن ينصت الفرد ضعف ما يتكلم. هذا وقد صُنف الإنسان العربي بأنه ذو ثقافة قولية، وردَّ ذلك إلى علو الصوت العربي وفصاحته وبلاغته في الشعر والخطابة وسرعة البديهة وحسن الاستماع، هذا في العمق، أما ما يطفو على السطح فسوف نخرج بمفهوم آخر لهذا التصنيف إذا ما اعتبرناه انعكاسا للحظة وللواقع المعاش، وهو كثرة الضجيج وقلة الإنصات. وما اضطرني إلى هذه التخريجة هو ما يسود الساحات العربية بثقافتها وبإعلامها ومثقفيها ومتلقيها من اختلال الميزان بين السكون والحركة، وبين الضجيج والهدوء، وبين الصمت والكلام، حتى أصبحت القنوات العربية تضع أمامنا أنموذجا خارقا لتلك السِّمَة العربية الضاربة في عمق التاريخ والمتمتعة بالهيبة والوقار وحسن الكلام، في نوع مستحدث اتخذ فيما بعد أنموذجا أخشى أن نورثه إن لم نكن قد فعلنا ذلك، ألا وهو (اللغظ والخوض)، أي أن تتحدث مجموعة في اللحظة نفسها وفي الآن نفسه، حتى تحولت الآذان إلى كؤوس فارغة، والآنية الفارغة لا تحدث إلا رنينا لا يجر وراءه سوى الشعور بالصداع وبالغثيان. فكما أننا قد بنينا ثقافتنا على القول (الأدب القولي) ففي زماننا هذا توجب علينا أن نؤسس مجددا لما أطلق عليه أدب الصمت، أو حسن الإنصات. 
للصمت فلسفة قامت عليها بعض الحضارات مثل فلسفة التاو (الصينية) التي أسس لها الحكيم (لاوتسو) في كتابه "تاو تي تشينج"، فيقول: "على الحكيم أولاً تقويم ذاته والتوصل إلى حالة السكينة الداخلية التي تجعله مسيطراً على نفسه". ثم يقول (تشوانج تزو) تلميذ المعلم وشارحه: "عندما يكون الماء ساكناً يغدو كمرآة. إنه يعكس أدق تفاصيل الوجه المنعكس عليه، ويعطي مؤشراً على درجة امتلاء الحوض. من هنا فإن الحكيم يتخذه أنموذجاً…عندما يغدو عقل الحكيم في سكون، فإنه يغدو مرآة للعالم ومرتسماً للخليقة". هكذا كان الحكيم "لاو" يؤسس لهذه السكينة والسيطرة على الذات وعدم إطلاق العنان للسان يجدف بمجدافين سرعان ما ينكسران كلما كان ضجيج المياه هادرا، فتنحسر ثقة الناس به لتدني هيبته، ففي الصمت هيبة وفي السكينة وقار، وفي ضجيج القول وتكسر أركان الحوار والاستئثار به طيلة الوقت إشارة إلى عدم ثقته بالآخرين. فكما قال (لاو): "إذا لم تمنح ثقتك للناس أولاً، فلن تستطيع الحصول على ثقتهم". وكان لأقوال هذا الحكيم والفيلسوف أثرها البالغ في استقرار بلاده، يقول أحد الباحثين: "أفاد الصين من أفكار لاوتسو السياسية، الأمر الذي ساعد على استتباب الأمن والسلام لفترة طويلة، وشهدت البلاد ازدهاراً اقتصادياً قلّ مثيله. وقد صارت تجربته فيما بعد مثلاً احتذت به دول أخرى والتي تعاقبت بعدها، وأفادت على درجات متفاوتة من الفكر التاوي". وكان من أهم ركائز هذا الفكر هو السكون والسكينة وكبح لجام شهوة الكلام وضجيج الافتعال.
إن بعض إعلامنا العربي قد ساهم بدرجة كبيرة في تأسيس هذا المسلك من أخلاق التواصل الإنساني، فقوض مفهوم حسن الكلام ورقي الإنصات، ومضى قدما في تقويض هيبة الحديث ووقار الكلمة وبالتالي من ينتجها. فكيف بنا أن نأخذ فكرا أو رأيا أو علما أو منهجا فكريا بجميع مساراته من إنسان قد فقد هيبته وانحسر وقاره؟! وقد كان لنا خير مثال على ذلك هو أحد البرامج في قناة خليجية استمر إلى ما يقرب من 15 عاما معتمدا على ضجيج الخطاب ومقاطعة الحوار والانفراد بالرأي والعصبية والتعصب، حتى يصل الأمر إلى الركل بالأرجل أو الاشتباك بالأيدي أمام ملايين النظارة في شتى بقاع الأرض، معتمدا على عنصر الإثارة والتشويق لجذب شباك الإعلانات، دونما انتباه لما قد يؤسسة على مدار هذه الأعوام المتصلة في ذهنية نظارته من سلوك مكتسب حتى أصبح سلوكا نراه لبني البشر في الشارع وفي الإعلام، فتتكسر الهيبة على صخور الغث من الكلام، وتضيع الحكمة في المفازة. وفي أدب الجدل والمناظرة يقول البغدادي: إذا وقع له شيء في أول كلام الخصم، فلا يعجل بالحكم عليه، فربما كان في آخر كلامه ما يبين أن الغرض بخلاف الواقع له. ثم قال: وينبغي أن يكون كل واحد من الخصمين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال مناظرته, مستمعاً كلامه إلى أن ينهيه، فإن ذلك طريق معرفته, والوقوف على حقيقته, وربما كان في كلامه ما يدل على فساده, وينبه إلى عواره, فيكون ذلك معونة له على جوابه. 
ويتفق معه الفيلسوف الألماني (أو . ف. بولنزف) في هذا الرأي حين قال: "إن الشرط الأول للحوار هو الإصغاء إلى الآخر، إنه يعني أن أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئا، شيئا مهما بالنسبة لي، شيئا عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة على تغيير رأيي".
وقد فطن الناقد الروسي ميخائيل باختين في كتابه عن دوستويفسكي لمسألة في الحوار على درجة كبيرة من الأهمية، هي استبعاد النسبوية relativism والدغمائية لكل حوار حقيقي، حيث تجعله النسبوية غير مفيد وتجعله الدوغمائية مستحيلا. "فالنسبيوية هي تطرف في النسبة بنفي الشمول كليا، كما يمكن لنفي النسبية أو تجاهلها أن يدعى الشمولية. وكلاهما تطرف، فالشمولية تؤدي حتما إلى الدوغمائية، والنسبوية إلى السلبية والانتهازية وتقهقر الفكر وانعدام الحوار. ولا يمكن النظر السليم إلا في إدراك العام والخاص، والشامل هو أفق التفاهم، والشمولية هي التي يتوقف عليها نجاح العلم وعليها تبنى الأفكار التي تتجاوز إطار المصالح الضيقة، وتتأسس المنظومات الفكرية والمعرفية التي تجعل محورها إنسانية الإنسان". 
فلماذا يتلاشى الإنسان بدواخلنا وينبري الحوار في ثقافتنا في هذه الأيام ليعتلي صهوة الأنا وإقصاء الآخر في دوغماتية فظة وفجة، وخاصة على شاشات القنوات الفضائية التي تشكل سلوك العامة في نهاية المطاف.

الوطــــــــــن
       

الخميس، 13 ديسمبر 2012

المسرح.. سياسة أم ثقافة؟ للدكتورة : ملحة عبدالله




للمسرح صناعة لا تقبل المواربة، وهو لا يسير في خطوط متوازية، لأنه أداة من أدوات الوعي والمعرفة، التي تحمل صدق التعبير والتنوير، ولكنه يحتاج إلى تربة صالحة كي يؤتي ثماره
علينا أن نمعن النظر في ما هو سياسي وما هو ثقافي، وما هي دائرة كل منهما بشكل عام. وهل تنفصل دائرة السياسة عن دائرة الثقافة؟ وما هو موقع المسرح بين هاتين الدائرتين؟
هذه تساؤلات هامة تعمل على إيقاظ الوعي بإدراك مسارات ومدارات هذه الدوائر لدى البعض، والذي قد يخيل إليه أنها لا تلتقي أبداً! بينما هي دوائر تتصل أو تنفصل حسب الوعى الجمعي. فما هي آليات وسلبيات هذا الاتصال أو الانفصال؟ وما هي إيجابياته بشكل عام وفي مختلف الثقافات ومجمع الحضارات عبر الأزمنة حتى يومنا هذا؟
لم تكن السياسة والثقافة دائرتين متماستين بل متقاطعتين، فلا تدور عجلة الأولى إلا بالثانية، والعكس، وذلك في حالة حرية التعبير وصدق الأقلام وموضوعيتها، فلا يستقيم الأمر إن تحركتا في خطوط متوازية، والفصل بينهما يعد أمرا تعسفيا، وهذا أهم ما في الأمر. والمسرح هو العروة الوثيقة بينهما لكي تكتمل سلسلة الفكر والتعبير الصادق البناء، وإلا انفصمت العرى وذهبت كل دائرة إلى مجالها، وهذا ما نراه يجوب أرجاء الفكر العربي في يومنا هذا! ولعل أرستوفان (448-380 قبل الميلاد) كان أول من أرسى قواعد النقد والفكر والسياسة معا في مسرحياته الشهيرة "الضفادع" و"السحب".
يقول حنا عبود في دراسة بعنوان "مسرح الفاجعة": (أثبت أرستوفان في هذه المسرحية أنه ناقد أدبي فذ يلتزم جانب الموضوعية، ويحاول أن يكون نزيهاً كعادة الأرستقراطيين في تصرفاتهم وإدارتهم. وقد سعى إلى فحص كل من التوجهات الفكرية والفنية العامة، فلم يفصل في المفاضلة بين الجانبين. وبالمقابل فإنه لم يسمح لنفسه بتفضيل جانب على آخر، وإنما اكتفى بالرصد الدقيق الموضوعي. كان بعمله هذا قدوة لكل النقاد الجادين حتى هذه الأيام. فحتى اليوم لا يجرؤ أحد أن يفصل الفن عن الفكر والسياسة، أو كما نقول بلغة عصرنا أن يفصل الشكل عن المضمون. وهو الذي علمنا أن المضمون الرائع لا يستدعي بالضرورة شكلاً رائعاً، وكذلك ليس بالضرورة أن يكون الشكل الناجح مفصحاً عن مضمون ناجح. لقد علمنا أنه ليس بمقدور الفنان أن يقدم فنه وفكره بنسب متساوية ومتسقة. والناجح في مضمونه لا يعني أنه ناجح في شكله. وحتى اليوم لا تزال هذه المسائل تشغل النقاد، فيحارون في تحديد روعة العمل وقياس نسبة الفكر من جهة والفنية من جهة أخرى).
فمتى تتلاقى الأطر بشكل متقاطع؟ وكيف يعمل المسرح الذي يتساءل العالم العربي عن أزمته؟ لتدور العجلة المجتمعية بشكل عام! فالوعي الوطني والفكر الراقي الباحث عن تحقق واعٍ ومدرك لجميع المحاور الاجتماعية والاقتصادية والتربوية إلخ.. هو من يحقق هذه المعادلة، والمسرح عنصر هام من عناصر هذه المعادلة، ليس في دول الخليج فحسب، وإنما في جميع أنحاء الوطن العربي والذي يتساءل الإعلام عن كبوته!
يقول يوسف إدريس حين سئل عن أزمة الرواية وبطبيعة الحال شأنها شأن المسرح: "لا أعتقد بوجود أزمة قائمة في الرواية أو القصة بشكل عام، أي أن هناك أزمة قائمة بين الأديب كمعبر عن مجتمعه في ظرفنا الراهن وقدرة المجتمع على استيعاب هذا التعبير.. رفض مجتمعنا أن يواجه نفسه مواجهة صريحة.. الكاتب هو مرآة الحقيقة الصادمة، فأعتقد أن أزمته في أن يقول الحق, ويعتقد أنه يقول الحق، وأن يجر عليه هذا القول تبعات الصراحة في كل زمان ومكان". فيوجز كاتبنا أزمة الإبداع في سطور.
وتقول الكاتبة هالة مصطفى: "يتضح لنا حالة من الترابط الوثيق بين عالم الفكر والثقافة من ناحية وبين البيئة الحاضنة لهما سياسية كانت أو اجتماعية من ناحية أخرى، فكلا المجالين لا يدوران في فراغ، وإنما هناك دائما علاقة تبادلية جدلية تربطهما ببعضهما البعض".
هذا وإذا نظرنا للمسرح كونه ثقافيا أم سياسيا وإلى أيهما ترجح الكفة؟ فإن البعض ينسبه إلى إحدى الكفتين بينما هو كلاهما، وبدونه لا يستقيم الأمر، وهذا ما تعلمناه وثقفته مداركنا من علوم المسرح منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى يومنا هذا، ولذلك فالمسرح في الوطن العربي يحيا أزمة معرفة، أزمة تعبير نتيجة لقولبة الفكر والتفكير وكبح التعبير.
تقول الكاتبة سالفة الذكر عن أزمة التعبير: "في جميع الحالات (يتقولب) الفكر وتتحول الثقافة إلى أيديولوجية وينتفي الاختيار، وتصبح التبعية هي وسيلة التنشئة الرئيسية، أو بالأحرى وسيلة "التلقين" الطبيعية، أما الفرد فيتحول إلى مجرد عنصر تابع داخل جماعة، أي جماعة. فالمجموع بمعناه الفضفاض والهلامي أحيانا يصبح هو الغاية والوسيلة التي تتحكم بها فئة معينة في توجيه السياسة والثقافة والمجتمع".
وللفن المسرحي خمسة محاور لا ينقص أحد منها، ولها مداخلها التي إن نقص محور اختل توازن الفن المسرحي وهي: (الاجتماعي، النفسي، السياسي، الاقتصادي، العقائدي)، ومنها جميعها يتكون المسرح، للمسرح صناعة لا تقبل المواربة، وهو لا يسير في خطوط متوازية، لأنه أداة من أدوات الوعي والمعرفة، التي تحمل صدق التعبير والتنوير، ولكنه يحتاج إلى تربة صالحة كي يؤتي ثماره، فلو أمعنا النظر في حال المسرح في العصور الوسطى - وهي ما يطلق عليها مجازيا العصور المظلمة – فسنجد أنه كان مسرحا باهتا وضعيفا، فلم نر إلا مسرحيات الأسرار والمريمات الثلاث وغير ذلك ممن حاولوا إيقاظ المسرح من سبات دام أكثر من خمسة قرون، وحينما جاء عصر النهضة Renascence بما فيه من نهضة وتقدم وعبقرية أفرزت علماء ومخترعات أفادت البشرية وظهر لنا المسرح العملاق الذي أعاد أمجاد المسرح اليوناني والروماني، بل تفوق عليه، فكان شكسبير وموليير وكورني وغيرهم ممن تقتات الجامعات على أعمالهم حتى يومنا هذا، والحقيقة أن المسرح يعكس واقع عصره وثقافته ووعي مجتمعه وحرية تعبيره, فهو كالنباتات حينما تنمو في مياه راكدة أو ضحلة فلا تنتج إلا طحالب سامة، وحينما تتغذى بالمياه النقية الجارية والمتجددة فلا تنتج إلا ثمارا صالحة تنفع الناس.
عن أزمة التعبير وأزمة استيعاب المجتمع: يقول الكاتب المسرحي سمير عبدالباقي:
(أجبرني أقول أشعار بلا لازمة
.. ولا تشد عزمة
ولا تشفي عليل أزمة.. ولا تفتح عصي الأبواب..
ومنين تجيب أودان لأحزان الكلام الصعب
والصدق عضة كلب- يا كداب)
ومن العجيب في يومنا هذا أننا نجد فصلا غير مبرر بين الثقافة، والسياسة، والمسرح، والدين، والعلم، وإن كان لكل منها علومه، إلا أنه فصل تعسفي يؤدي إلى التحزب والتشتت والتصنيف المحفز على الفرقة.

"الأنارسية.. والنحن" للدكتورة ملحة عبد الله




التنافر في الطباع بين من تربوا وتعلموا بالداخل ومن تلقوا تعليمهم بالخارج يعمل على تحطيم المعنويات العائدة بالهمم وبالعلم وبالخبرة
يعاني شبابنا العائد من البعثات الخارجية، وممن تلقوا تعليمهم بالخارج من مشكلات العمل الفردي وفردية التفكير وعدم الانخراط في العمل الجماعي كما تعلموه في بلاد خارج الحدود، فما هذه المعاناة وما هي أسبابها؟
إن الإنسان العربي فطر على الأعمال الجماعية، فقد نشأ على الزراعة وبعض الصناعة وهي أعمال جماعية، ومن أمثلتها الرعي؛ فإذا سرح الراعي بقطيعه في أعالي الجبال أو غياهب المفازات، فهو يأنس بقطيعه وبكلبه وبرعاة آخرين ينتشرون في أرجاء قريبة، أما عن الزراعة والصناعة فهي بلا شك أعمال جماعية لا تعتمد على الفرد الواحد. ولقد اتسم المجتمع العربي منذ الشهقة الأولى له بأنه مجتمع القطيع، أي أنه يحيا في جماعات في أغلب الأحيان، وذلك يرجع إلى ثيولوجيا "المكان، فللطبيعة أثرها الواضح في تكوين الشخصية العربية، حيث المساحات الشاسعة والسماء الصافية وامتداد الأفق على مرمى البصر. فخلق ذلك نوعا من الوحشة التي لا تأنس إلا بالآخر الذي تبحث عنه دائما. ومن هنا اتسم المجتمع بالبحث الدائم عن الأنس. فلم تكن الفردية من سمات مجتمعاتنا. وكذلك تختلف الشخصية الغربية من حيث السمات والخصائص تبعا لطبيعة المكان كما أسلفنا، حيث الضباب والغابات وطبيعة الجبال تحف دائما بالفرد مما تشعره دائما بالدفء المعنوي، فدائرية البصر لا توحي دائما بالمجهول.
ومن هنا لم تكن الفردية أو الدائرية - والتي قد تقع بين النرجسية والأنانية - من سمات الشخصية العربية. فمن أين أتت لنا هذه السمة وهي أن الفرد يحيا في العمل خاصة متخذا كتم أسراره وتفاعله وتفعيله أمرا محتما، ويحيط نفسه بدائرية لا فكاك منها، وإن تفوق أحد من زملائه شعر في قرارة نفسه بالضيق ليس لأنه تفوق وإنما لأنه يرى نفسه أحسن منه أو أحق.
النرجسية Narcissus تعني حب النفس وهذه الكلمة نسبة إلى أسطورة يونانية، ورد فيها أن نارسيس كان آية في الجمال وقد عشق نفسه عندما رأى وجهه في الماء.
الصفة الأساسية في الشخصية النرجسية هي الأنانية، فالنرجسي عاشق لنفسه ويرى أنه الأفضل والأجمل والأذكى ويرى الناس أقل منه، ولذلك فهو يستبيح لنفسه استغلال الناس وتسخيرهم.
أما الأنانية "فهي الفردية الشرسة وحُب التمّلك والغيرة الجنونية التي تدفعُ الإنسان إلى إرادة السيطرة على أملاك الغير بدون حق، فيدرج من الأنانية أشياء كثيرة، منها حُب الاتكالية والاعتماد على الغير وإراحة النفس والصعود على أكتاف وظهور الآخرين بضمير ميت وبدون مبالاة، والأنانية أيضا هي رغبة ذاتية للاستحواذ على حاجات الغير وتريدها فقط لنفسها وتحرّمها على غيرها، فمثلا تجد بعض الدول همها الاستيلاء على خيرات الدول الفقيرة بدون حق ولا نعرف على أي أساس تريد أن تحلل لنفسها كل شيء وتمنعه على غيرها فهذه أنانية مؤكدة، ويندرج من الأنانية أيضا الغرور والتكبر، فالشخص الأناني يرى كل من حوله خدما وعبيدا عنده، وحبه لذاته لا يفوقه حب أي شيء".
فإذا بالفرد منا لا هو هذا ولا ذاك، وإنما يأخذ من الأولى سمات ومن الثانية سمات ويكون الناتج أسميه (الأنارسية) وهو نتاج امتزاج سمات من هذه ومن تلك.
فلنذهب معا إلى الأسباب التي تركت وراءها هذه السمة وما تركت:
أولا المنزل: فالوالدان هما أول من يؤسس للفردية، حينما نغرس في أبنائنا حب التفرد، فنقول لماذا هذا أحسن منك؟ ولماذا تفوق ذاك عنك؟ ويجب أن تكون أحسن من هذا وذاك! فينشأ ذا طبيعة دائرية لا يلوي على شيء سوى نفسه.
ثانيا المدرسة أو الجامعة: حينما نعلي من قدر هذا الطالب ونحط من قدر ذاك إما لمكانة والديه أو لتفوقه الفردي.
ثالثا التعليم: وهو اعتماد التعليم على العمل الفردي وليس الجماعي وهذا أهم ما في الأمر، فالتعليم الحديث في البلاد المتقدمة يعتمد على ما يسمى بالـ(وورك شوب) وهو أن تكلف المجموعة (جروب) بالمهمة التعليمية وتعطى الدرجات للمجموعة ككل، وبالتالي ينشأ لدى الفرد حب التعاون والإنتاج المشترك، ومن هنا يكون النجاح الجماعي في العمل وليس لنجاح فرد عن آخر. فالمهمات لا تنجح بأفراد وإنما بالجهد الجماعي الذي لا يحبذه أبناء بلادنا في هذا الزمان الذي أصبح مفتوحا على العالم، فلا مكان للفردية والاستفراد لأنها لا تنتج إلا فردا، والفرد بمفرده لن ينهض بالمجتمع ولا حتى بالأداء الوظيفي، ويصبح الكل يذهب إلى العمل في تثاقل لا يحركه سوى الدائرية والانغلاق ولتذهب بلادنا مع الريح.
إن هذا التنافر في الطباع بين من تربوا وتعلموا بالداخل ومن تلقوا تعليمهم بالخارج يعمل على تحطيم المعنويات العائدة بالهمم وبالعلم وبالخبرة، فهؤلاء تعلموا على العمل والإبداع والإنتاج الجماعي كما تطبعوه من طريقة تعليمهم، وهؤلاء ينفردون ويستديرون بفردية يغلفها حب الذات التي تنتج الحقد والكراهية في نهاية الأمر والضحية هو العمل والنتائج المحامية في الإنتاج، فيفقد الكل من جماعة ومجموع وأفراد قيمة اللذة (لذة العمل)، أي متعة الأداء وهي سر تفوق العمل في البلاد المتقدمة. فماذا نحن فاعلون اتجاه جمع غفير سيعود من البعثات الخارجية، تدربوا وتعلموا متعة الأداء الجماعي (وورك شوب)، وعن تعارض الرغبات بين ممتهني العمل الفردي والباحثين عن التفرد الذي لا يبني دولة في العصر الحديث ولا حتى يبني فردا وبين عاشقي العمل الجماعي؟ لأنه أي (العمل الفردي) يسرب إلى الذوات حب الذات والأنانية والحقد والحسد فيصبح العمل جحيما كما تصبح العلاقات الاجتماعية مفككة غير متصلة ولا متواصلة، فالابتسامة والبشاشة هي أولى لبنات العمل الجماعي التي تؤسس للحب والتفاهم ثم العمل المشترك ثم مجتمع آهل بالمحبة، وهذا ما نراه في الدول والمجتمع العالمي الحديث وما لا نراه في بيئتنا ومجتمعنا الذي تأسس على ذلك قبل أي مجتمع آخر، فلماذا كانت الابتسامة صدقة؟ لأنها أولى درجات تبيين الرؤية في الحميمية المجتمعية والتي تمد جسور العمل الذي هو عبادة.
ملحة عبدالله  

من أين يستمد هؤلاء قواهم؟ الدكتورة ملحة عبد الله




إلى أي حد اهتم وطننا العربي بثقافته وإعلامه "قواه الناعمة" في مقابلة إعلام وثقافة عالمية مفتوحة تتسرب إلى وجداننا وتعمل فينا عمل السحر؟
لقد أثبتت النظريات العلمية أن قوة التأثير الثقافي والإعلامي أسرع وأشد وقعا من قوة السلاح، وذلك لقوة ما أسماه علماء النفس مجازا لها بالـ"بعد السحري". وذلك استنادا إلى ما قاله "هربرت ريد" في مسألة المزج بين الانفعال والتعاطف كما أوردته في كتابي (البعد الخامس في التلقي): "إن كلمة التعاطف تعني الإحساس، فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا فإننا نزج بأنفسنا داخل إطار هذا العمل، وستحدد مشاعرنا تبعا لما ستجده هناك وتبعا للمكان الذي نحتله، وليس من الطبيعي أننا نستطيع أن نزج إحساسنا في أي شيء نلاحظه، ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوى تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف". إن تضاؤل التمييز بين التعاطف والانفعال كان التأثير بما يسمى الـ "حقن تحت الجلد" وهنا تكمن الخطورة.
ولهذا تنبه الإعلام والثقافة الغربية إلى خطورة هذه الآلة فأطلقوا عليها مجددا مصطلح "القوى الناعمة" لما لها من دور في زعزعة الثقة. وزعزعة الثقة أدهى آلات الحروب وأشدها ضراوة، زعزعة الثقة هذه هي عماد القوة الناعمة وعصب رسالتها فيما تؤثره في الحروب الباردة وغير الباردة، التي كانت رسالة النص المسرحي الذي كتبته كاتبة هذه السطور بعنوان: "حينما تموت الثعالب".. حين يلعب الثعلب على زعزعة الثقة بذوات أعدائه فينتحل الموت أحيانا كأسلوب من أساليب المكر والدهاء، حتى وصل الأمر أن شنق البطل نفسه لأنهم زعزعوا ثقته بنفسه وأكدوا له مكرا أنه سبب دمار هذا العالم، فيموتون انتحالا فلا يجد بدا من شنق نفسه انتقاما للعالم الذي توهم للحظة أنه من دمره. هذه هي زعزعة الثقة بالذات، كأسلوب من أساليب تدمير الدول والانتصار على العدو. يقول جوزيف. إس. ناي Joseph S. Nye في دراسة له عن القوى الناعمة: "في غضون الحرب الباردة، نجحت استراتيجية الاحتواء التي انتهجها الغرب في الجمع بين القوة العاتية المتمثلة في الردع العسكري، وبين القوة الناعمة التي تمثلت في اجتذاب الناس خلف الستار الحديدي. وخلف جدران الاحتواء العسكري نجح الغرب في تدمير الثقة السوفيتية في الذات باستخدام الإذاعات المختلفة، ومن خلال التبادل الطلابي والثقافي، والنجاح الذي حققه الاقتصاد الرأسمالي. وكما شهد لاحقاً أحد العملاء السابقين بهيئة الاستخبارات السوفيتية KGB: "كانت عمليات التبادل الثقافي بمثابة حصان طروادة بالنسبة للاتحاد السوفيتي. فقد لعبت دوراً هائلاً في تآكل النظام السوفيتي". هذا هو دور التسرب الانفعالي والاعتماد على الوجدانيات في السيطرة على الشعوب، ولعل أقصر الطرق هو استخدام العقيدة- أي عقيدة- في تحقيق ما يسمى بالتسرب الانفعالي، وأهم ما في الأمر ما يسمى "ثقافة الصورة" يقول جي إف دونسيل خبير علم النفس الفلسفي: "لا يكون إدراكها في صورة وجدانية ذاتية مفهومة فهما مبهما، بل في صورة كتل وألوان، فيصاحبها بعض الانفعالات كالخوف والفرح والحزن والغضب، وهي انفعالات ستصاحبها استجابات فسيولوجية. نحن نعرف أن التكيفات الفسيولوجية تقع تحت السيطرة المباشرة للجهاز العصبي اللاإرادي، والسيطرة غير المباشرة للمخ".
ومن هنا اعتمد الغرب اعتمادا كبيرا على هذه القوى الناعمة والمتمثلة في الثقافة والإعلام، بل وتحددت لها ميزانيات باهظة لفهمهم خطورة هذا الجهاز وفعاليته في التسرب إلى وجدانات الشعوب وزعزعة الثقة في نفوس الأعداء، وبطبيعة الحال بطرق غير مباشرة منها استخدام الكتلة واللون والإضاءة والخط ثم الكلمة، يقول جوزيف في دراسته منتقدا ميزانيات الولايات المتحدة الأميركية بهذا الصدد: "مع نهاية الحرب الباردة أصبح الأميركيون أكثر اهتماماً بالتوفير في الميزانية بدلاً من الاستثمار في القوة الناعمة. ففي عام 2003 ذكرت مجموعة استشارية مكونة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في تقرير لها أن الولايات المتحدة تنفق على الدبلوماسية العامة في الدول الإسلامية ما لا يزيد على 150 مليون دولار، وهو مبلغ وصفه التقرير بأنه غير لائق إلى حد فاضح.. في الواقع، لقد بلغ إجمالي إنفاق وزارة الخارجية على برامج الدبلوماسية العامة وكل إذاعات أميركا الدولية ما يزيد بقليل على بليون دولار، وهو تقريباً نفس المبلغ الذي تنفقه بريطانيا أو فرنسا، وهما دولتان تمثلان خُمس حجم أميركا ولا تزيد ميزانيتا الدفاع لديهما على 25% من ميزانية الدفاع الأميركية. وبطبيعة الحال، ليس لعاقل أن يقترح على أميركا أن تنفق على إطلاق الأفكار قدر ما تنفقه على إطلاق القنابل، ولكن من العجيب أن تنفق الولايات المتحدة على القوة العاتية 400 ضعف ما تنفقه على القوة الناعمة. أي أن الولايات المتحدة أنفقت 1% فقط من ميزانيتها العسكرية على القوة الناعمة".
فإلى أي حد اهتم وطننا العربي بثقافته وبإعلامه (قواه الناعمة) في مقابلة إعلام وثقافة عالمية مفتوحة تتسرب إلى وجداننا وتعمل فينا عمل السحر الذي أسماه الدكتور والمفكر المغربي عبدالرحمن زيدان في أحد مناقشاتي معه بالـ"السحر الحلال"؟ ويتساءل جوزيف بقوله: "إذا كان لأميركا أن تنتصر في تلك الحرب "ضد الإرهاب"، فيتعين على قادتها أن يعملوا على تحسين أدائهم في الجمع بين القوة العاتية والقوة الناعمة فيما يمكن أن نسميه بـِ"القوة الذكية". إذاً، فالقوة الذكية مفادها الجمع بين القوتين بحسب تعبير مخترع هذا المصطلح حيث يقول: "القوة، إذا عرّفناها باعتبارها القدرة على التأثير على الآخرين، فهي تأتي في مظاهر متعددة، والقوة الناعمة ليست ضعفاً، بل على العكس من ذلك، فإن الفشل في استخدام القوة الناعمة بشكل فعّال هو السبب وراء ضعف أميركا في كفاحها ضد الإرهاب. القوة الناعمة هي القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. وهذه القوة تعتمد على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة. وإذا تمكنت من إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد، فلن تضطر إلى إنفاق الكثير بتطبيق مبدأ العصا والجزرة لتحريك الآخرين في الاتجاه الذي يحقق مصالحك".
ومن هنا فللقوى الناعمة دور كبير في استدرار القوة إن أراد القائمون عليها ذلك. ومن هنا تتم رسائل في إعلام مفتوح بدراسة ووعي وتقنية تبدأ بالخط والكتلة والتشكيل في الفراغ انتهاء بالضوء واللون مع خبرة بسيكلوجية الشعوب المستهدفة، كل هذه الأشياء تعمل فسيولوجيا ثم سسيولوجيا إذا ما أراد أي طرف زعزعة الثقة في أي طرف آخر، وبزعزعة الثقة تتهاوى القلاع، فكما يقول الكاتب المسرحي الدكتور فوزي فهمي في مسرحيته (لعبة السلطان): "لا تسقط القلعة المحاصرة لكثرة المحاصرين لها، ولكن تسقط حين يتساءل حماتها عن جدوى حمايتها".