الجمعة، 28 ديسمبر 2012

أيديولوجيا بلا عنوان للمبدعة : ملحة عبدالله



لماذا يتلاشى الإنسان بدواخلنا وينبري الحوار في ثقافتنا هذه الأيام ليعتلي صهوة الأنا وإقصاء الآخر في دوغماتية فظة وفجة، وخاصة على شاشات القنوات الفضائية؟
حينما تتعالى الأصوات ويسود الضجيج تفقد الأذن قدرتها وتتحول إلى كؤوس فارغة يملؤها الصدأ، فالآنية الفارغة تملأ الدنيا ضجيجا بطبيعة الحال كما قال الفيلسوف اليوناني سقراط. ولأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد جعل للإنسان أذنين اثنتين ولسانا واحدا، فذاك لأمرين هامين يجب التنبيه إليهما. أولهما التأكيد على أهمية الإنصات ورفعة وعلو شأنه في جميع مجريات حياة الفرد منا، وثانيهما هو أن ينصت الفرد ضعف ما يتكلم. هذا وقد صُنف الإنسان العربي بأنه ذو ثقافة قولية، وردَّ ذلك إلى علو الصوت العربي وفصاحته وبلاغته في الشعر والخطابة وسرعة البديهة وحسن الاستماع، هذا في العمق، أما ما يطفو على السطح فسوف نخرج بمفهوم آخر لهذا التصنيف إذا ما اعتبرناه انعكاسا للحظة وللواقع المعاش، وهو كثرة الضجيج وقلة الإنصات. وما اضطرني إلى هذه التخريجة هو ما يسود الساحات العربية بثقافتها وبإعلامها ومثقفيها ومتلقيها من اختلال الميزان بين السكون والحركة، وبين الضجيج والهدوء، وبين الصمت والكلام، حتى أصبحت القنوات العربية تضع أمامنا أنموذجا خارقا لتلك السِّمَة العربية الضاربة في عمق التاريخ والمتمتعة بالهيبة والوقار وحسن الكلام، في نوع مستحدث اتخذ فيما بعد أنموذجا أخشى أن نورثه إن لم نكن قد فعلنا ذلك، ألا وهو (اللغظ والخوض)، أي أن تتحدث مجموعة في اللحظة نفسها وفي الآن نفسه، حتى تحولت الآذان إلى كؤوس فارغة، والآنية الفارغة لا تحدث إلا رنينا لا يجر وراءه سوى الشعور بالصداع وبالغثيان. فكما أننا قد بنينا ثقافتنا على القول (الأدب القولي) ففي زماننا هذا توجب علينا أن نؤسس مجددا لما أطلق عليه أدب الصمت، أو حسن الإنصات. 
للصمت فلسفة قامت عليها بعض الحضارات مثل فلسفة التاو (الصينية) التي أسس لها الحكيم (لاوتسو) في كتابه "تاو تي تشينج"، فيقول: "على الحكيم أولاً تقويم ذاته والتوصل إلى حالة السكينة الداخلية التي تجعله مسيطراً على نفسه". ثم يقول (تشوانج تزو) تلميذ المعلم وشارحه: "عندما يكون الماء ساكناً يغدو كمرآة. إنه يعكس أدق تفاصيل الوجه المنعكس عليه، ويعطي مؤشراً على درجة امتلاء الحوض. من هنا فإن الحكيم يتخذه أنموذجاً…عندما يغدو عقل الحكيم في سكون، فإنه يغدو مرآة للعالم ومرتسماً للخليقة". هكذا كان الحكيم "لاو" يؤسس لهذه السكينة والسيطرة على الذات وعدم إطلاق العنان للسان يجدف بمجدافين سرعان ما ينكسران كلما كان ضجيج المياه هادرا، فتنحسر ثقة الناس به لتدني هيبته، ففي الصمت هيبة وفي السكينة وقار، وفي ضجيج القول وتكسر أركان الحوار والاستئثار به طيلة الوقت إشارة إلى عدم ثقته بالآخرين. فكما قال (لاو): "إذا لم تمنح ثقتك للناس أولاً، فلن تستطيع الحصول على ثقتهم". وكان لأقوال هذا الحكيم والفيلسوف أثرها البالغ في استقرار بلاده، يقول أحد الباحثين: "أفاد الصين من أفكار لاوتسو السياسية، الأمر الذي ساعد على استتباب الأمن والسلام لفترة طويلة، وشهدت البلاد ازدهاراً اقتصادياً قلّ مثيله. وقد صارت تجربته فيما بعد مثلاً احتذت به دول أخرى والتي تعاقبت بعدها، وأفادت على درجات متفاوتة من الفكر التاوي". وكان من أهم ركائز هذا الفكر هو السكون والسكينة وكبح لجام شهوة الكلام وضجيج الافتعال.
إن بعض إعلامنا العربي قد ساهم بدرجة كبيرة في تأسيس هذا المسلك من أخلاق التواصل الإنساني، فقوض مفهوم حسن الكلام ورقي الإنصات، ومضى قدما في تقويض هيبة الحديث ووقار الكلمة وبالتالي من ينتجها. فكيف بنا أن نأخذ فكرا أو رأيا أو علما أو منهجا فكريا بجميع مساراته من إنسان قد فقد هيبته وانحسر وقاره؟! وقد كان لنا خير مثال على ذلك هو أحد البرامج في قناة خليجية استمر إلى ما يقرب من 15 عاما معتمدا على ضجيج الخطاب ومقاطعة الحوار والانفراد بالرأي والعصبية والتعصب، حتى يصل الأمر إلى الركل بالأرجل أو الاشتباك بالأيدي أمام ملايين النظارة في شتى بقاع الأرض، معتمدا على عنصر الإثارة والتشويق لجذب شباك الإعلانات، دونما انتباه لما قد يؤسسة على مدار هذه الأعوام المتصلة في ذهنية نظارته من سلوك مكتسب حتى أصبح سلوكا نراه لبني البشر في الشارع وفي الإعلام، فتتكسر الهيبة على صخور الغث من الكلام، وتضيع الحكمة في المفازة. وفي أدب الجدل والمناظرة يقول البغدادي: إذا وقع له شيء في أول كلام الخصم، فلا يعجل بالحكم عليه، فربما كان في آخر كلامه ما يبين أن الغرض بخلاف الواقع له. ثم قال: وينبغي أن يكون كل واحد من الخصمين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال مناظرته, مستمعاً كلامه إلى أن ينهيه، فإن ذلك طريق معرفته, والوقوف على حقيقته, وربما كان في كلامه ما يدل على فساده, وينبه إلى عواره, فيكون ذلك معونة له على جوابه. 
ويتفق معه الفيلسوف الألماني (أو . ف. بولنزف) في هذا الرأي حين قال: "إن الشرط الأول للحوار هو الإصغاء إلى الآخر، إنه يعني أن أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئا، شيئا مهما بالنسبة لي، شيئا عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة على تغيير رأيي".
وقد فطن الناقد الروسي ميخائيل باختين في كتابه عن دوستويفسكي لمسألة في الحوار على درجة كبيرة من الأهمية، هي استبعاد النسبوية relativism والدغمائية لكل حوار حقيقي، حيث تجعله النسبوية غير مفيد وتجعله الدوغمائية مستحيلا. "فالنسبيوية هي تطرف في النسبة بنفي الشمول كليا، كما يمكن لنفي النسبية أو تجاهلها أن يدعى الشمولية. وكلاهما تطرف، فالشمولية تؤدي حتما إلى الدوغمائية، والنسبوية إلى السلبية والانتهازية وتقهقر الفكر وانعدام الحوار. ولا يمكن النظر السليم إلا في إدراك العام والخاص، والشامل هو أفق التفاهم، والشمولية هي التي يتوقف عليها نجاح العلم وعليها تبنى الأفكار التي تتجاوز إطار المصالح الضيقة، وتتأسس المنظومات الفكرية والمعرفية التي تجعل محورها إنسانية الإنسان". 
فلماذا يتلاشى الإنسان بدواخلنا وينبري الحوار في ثقافتنا في هذه الأيام ليعتلي صهوة الأنا وإقصاء الآخر في دوغماتية فظة وفجة، وخاصة على شاشات القنوات الفضائية التي تشكل سلوك العامة في نهاية المطاف.

الوطــــــــــن
       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق