الجمعة، 28 ديسمبر 2012

أيديولوجيا بلا عنوان للمبدعة : ملحة عبدالله



لماذا يتلاشى الإنسان بدواخلنا وينبري الحوار في ثقافتنا هذه الأيام ليعتلي صهوة الأنا وإقصاء الآخر في دوغماتية فظة وفجة، وخاصة على شاشات القنوات الفضائية؟
حينما تتعالى الأصوات ويسود الضجيج تفقد الأذن قدرتها وتتحول إلى كؤوس فارغة يملؤها الصدأ، فالآنية الفارغة تملأ الدنيا ضجيجا بطبيعة الحال كما قال الفيلسوف اليوناني سقراط. ولأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد جعل للإنسان أذنين اثنتين ولسانا واحدا، فذاك لأمرين هامين يجب التنبيه إليهما. أولهما التأكيد على أهمية الإنصات ورفعة وعلو شأنه في جميع مجريات حياة الفرد منا، وثانيهما هو أن ينصت الفرد ضعف ما يتكلم. هذا وقد صُنف الإنسان العربي بأنه ذو ثقافة قولية، وردَّ ذلك إلى علو الصوت العربي وفصاحته وبلاغته في الشعر والخطابة وسرعة البديهة وحسن الاستماع، هذا في العمق، أما ما يطفو على السطح فسوف نخرج بمفهوم آخر لهذا التصنيف إذا ما اعتبرناه انعكاسا للحظة وللواقع المعاش، وهو كثرة الضجيج وقلة الإنصات. وما اضطرني إلى هذه التخريجة هو ما يسود الساحات العربية بثقافتها وبإعلامها ومثقفيها ومتلقيها من اختلال الميزان بين السكون والحركة، وبين الضجيج والهدوء، وبين الصمت والكلام، حتى أصبحت القنوات العربية تضع أمامنا أنموذجا خارقا لتلك السِّمَة العربية الضاربة في عمق التاريخ والمتمتعة بالهيبة والوقار وحسن الكلام، في نوع مستحدث اتخذ فيما بعد أنموذجا أخشى أن نورثه إن لم نكن قد فعلنا ذلك، ألا وهو (اللغظ والخوض)، أي أن تتحدث مجموعة في اللحظة نفسها وفي الآن نفسه، حتى تحولت الآذان إلى كؤوس فارغة، والآنية الفارغة لا تحدث إلا رنينا لا يجر وراءه سوى الشعور بالصداع وبالغثيان. فكما أننا قد بنينا ثقافتنا على القول (الأدب القولي) ففي زماننا هذا توجب علينا أن نؤسس مجددا لما أطلق عليه أدب الصمت، أو حسن الإنصات. 
للصمت فلسفة قامت عليها بعض الحضارات مثل فلسفة التاو (الصينية) التي أسس لها الحكيم (لاوتسو) في كتابه "تاو تي تشينج"، فيقول: "على الحكيم أولاً تقويم ذاته والتوصل إلى حالة السكينة الداخلية التي تجعله مسيطراً على نفسه". ثم يقول (تشوانج تزو) تلميذ المعلم وشارحه: "عندما يكون الماء ساكناً يغدو كمرآة. إنه يعكس أدق تفاصيل الوجه المنعكس عليه، ويعطي مؤشراً على درجة امتلاء الحوض. من هنا فإن الحكيم يتخذه أنموذجاً…عندما يغدو عقل الحكيم في سكون، فإنه يغدو مرآة للعالم ومرتسماً للخليقة". هكذا كان الحكيم "لاو" يؤسس لهذه السكينة والسيطرة على الذات وعدم إطلاق العنان للسان يجدف بمجدافين سرعان ما ينكسران كلما كان ضجيج المياه هادرا، فتنحسر ثقة الناس به لتدني هيبته، ففي الصمت هيبة وفي السكينة وقار، وفي ضجيج القول وتكسر أركان الحوار والاستئثار به طيلة الوقت إشارة إلى عدم ثقته بالآخرين. فكما قال (لاو): "إذا لم تمنح ثقتك للناس أولاً، فلن تستطيع الحصول على ثقتهم". وكان لأقوال هذا الحكيم والفيلسوف أثرها البالغ في استقرار بلاده، يقول أحد الباحثين: "أفاد الصين من أفكار لاوتسو السياسية، الأمر الذي ساعد على استتباب الأمن والسلام لفترة طويلة، وشهدت البلاد ازدهاراً اقتصادياً قلّ مثيله. وقد صارت تجربته فيما بعد مثلاً احتذت به دول أخرى والتي تعاقبت بعدها، وأفادت على درجات متفاوتة من الفكر التاوي". وكان من أهم ركائز هذا الفكر هو السكون والسكينة وكبح لجام شهوة الكلام وضجيج الافتعال.
إن بعض إعلامنا العربي قد ساهم بدرجة كبيرة في تأسيس هذا المسلك من أخلاق التواصل الإنساني، فقوض مفهوم حسن الكلام ورقي الإنصات، ومضى قدما في تقويض هيبة الحديث ووقار الكلمة وبالتالي من ينتجها. فكيف بنا أن نأخذ فكرا أو رأيا أو علما أو منهجا فكريا بجميع مساراته من إنسان قد فقد هيبته وانحسر وقاره؟! وقد كان لنا خير مثال على ذلك هو أحد البرامج في قناة خليجية استمر إلى ما يقرب من 15 عاما معتمدا على ضجيج الخطاب ومقاطعة الحوار والانفراد بالرأي والعصبية والتعصب، حتى يصل الأمر إلى الركل بالأرجل أو الاشتباك بالأيدي أمام ملايين النظارة في شتى بقاع الأرض، معتمدا على عنصر الإثارة والتشويق لجذب شباك الإعلانات، دونما انتباه لما قد يؤسسة على مدار هذه الأعوام المتصلة في ذهنية نظارته من سلوك مكتسب حتى أصبح سلوكا نراه لبني البشر في الشارع وفي الإعلام، فتتكسر الهيبة على صخور الغث من الكلام، وتضيع الحكمة في المفازة. وفي أدب الجدل والمناظرة يقول البغدادي: إذا وقع له شيء في أول كلام الخصم، فلا يعجل بالحكم عليه، فربما كان في آخر كلامه ما يبين أن الغرض بخلاف الواقع له. ثم قال: وينبغي أن يكون كل واحد من الخصمين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال مناظرته, مستمعاً كلامه إلى أن ينهيه، فإن ذلك طريق معرفته, والوقوف على حقيقته, وربما كان في كلامه ما يدل على فساده, وينبه إلى عواره, فيكون ذلك معونة له على جوابه. 
ويتفق معه الفيلسوف الألماني (أو . ف. بولنزف) في هذا الرأي حين قال: "إن الشرط الأول للحوار هو الإصغاء إلى الآخر، إنه يعني أن أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئا، شيئا مهما بالنسبة لي، شيئا عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة على تغيير رأيي".
وقد فطن الناقد الروسي ميخائيل باختين في كتابه عن دوستويفسكي لمسألة في الحوار على درجة كبيرة من الأهمية، هي استبعاد النسبوية relativism والدغمائية لكل حوار حقيقي، حيث تجعله النسبوية غير مفيد وتجعله الدوغمائية مستحيلا. "فالنسبيوية هي تطرف في النسبة بنفي الشمول كليا، كما يمكن لنفي النسبية أو تجاهلها أن يدعى الشمولية. وكلاهما تطرف، فالشمولية تؤدي حتما إلى الدوغمائية، والنسبوية إلى السلبية والانتهازية وتقهقر الفكر وانعدام الحوار. ولا يمكن النظر السليم إلا في إدراك العام والخاص، والشامل هو أفق التفاهم، والشمولية هي التي يتوقف عليها نجاح العلم وعليها تبنى الأفكار التي تتجاوز إطار المصالح الضيقة، وتتأسس المنظومات الفكرية والمعرفية التي تجعل محورها إنسانية الإنسان". 
فلماذا يتلاشى الإنسان بدواخلنا وينبري الحوار في ثقافتنا في هذه الأيام ليعتلي صهوة الأنا وإقصاء الآخر في دوغماتية فظة وفجة، وخاصة على شاشات القنوات الفضائية التي تشكل سلوك العامة في نهاية المطاف.

الوطــــــــــن
       

الخميس، 13 ديسمبر 2012

المسرح.. سياسة أم ثقافة؟ للدكتورة : ملحة عبدالله




للمسرح صناعة لا تقبل المواربة، وهو لا يسير في خطوط متوازية، لأنه أداة من أدوات الوعي والمعرفة، التي تحمل صدق التعبير والتنوير، ولكنه يحتاج إلى تربة صالحة كي يؤتي ثماره
علينا أن نمعن النظر في ما هو سياسي وما هو ثقافي، وما هي دائرة كل منهما بشكل عام. وهل تنفصل دائرة السياسة عن دائرة الثقافة؟ وما هو موقع المسرح بين هاتين الدائرتين؟
هذه تساؤلات هامة تعمل على إيقاظ الوعي بإدراك مسارات ومدارات هذه الدوائر لدى البعض، والذي قد يخيل إليه أنها لا تلتقي أبداً! بينما هي دوائر تتصل أو تنفصل حسب الوعى الجمعي. فما هي آليات وسلبيات هذا الاتصال أو الانفصال؟ وما هي إيجابياته بشكل عام وفي مختلف الثقافات ومجمع الحضارات عبر الأزمنة حتى يومنا هذا؟
لم تكن السياسة والثقافة دائرتين متماستين بل متقاطعتين، فلا تدور عجلة الأولى إلا بالثانية، والعكس، وذلك في حالة حرية التعبير وصدق الأقلام وموضوعيتها، فلا يستقيم الأمر إن تحركتا في خطوط متوازية، والفصل بينهما يعد أمرا تعسفيا، وهذا أهم ما في الأمر. والمسرح هو العروة الوثيقة بينهما لكي تكتمل سلسلة الفكر والتعبير الصادق البناء، وإلا انفصمت العرى وذهبت كل دائرة إلى مجالها، وهذا ما نراه يجوب أرجاء الفكر العربي في يومنا هذا! ولعل أرستوفان (448-380 قبل الميلاد) كان أول من أرسى قواعد النقد والفكر والسياسة معا في مسرحياته الشهيرة "الضفادع" و"السحب".
يقول حنا عبود في دراسة بعنوان "مسرح الفاجعة": (أثبت أرستوفان في هذه المسرحية أنه ناقد أدبي فذ يلتزم جانب الموضوعية، ويحاول أن يكون نزيهاً كعادة الأرستقراطيين في تصرفاتهم وإدارتهم. وقد سعى إلى فحص كل من التوجهات الفكرية والفنية العامة، فلم يفصل في المفاضلة بين الجانبين. وبالمقابل فإنه لم يسمح لنفسه بتفضيل جانب على آخر، وإنما اكتفى بالرصد الدقيق الموضوعي. كان بعمله هذا قدوة لكل النقاد الجادين حتى هذه الأيام. فحتى اليوم لا يجرؤ أحد أن يفصل الفن عن الفكر والسياسة، أو كما نقول بلغة عصرنا أن يفصل الشكل عن المضمون. وهو الذي علمنا أن المضمون الرائع لا يستدعي بالضرورة شكلاً رائعاً، وكذلك ليس بالضرورة أن يكون الشكل الناجح مفصحاً عن مضمون ناجح. لقد علمنا أنه ليس بمقدور الفنان أن يقدم فنه وفكره بنسب متساوية ومتسقة. والناجح في مضمونه لا يعني أنه ناجح في شكله. وحتى اليوم لا تزال هذه المسائل تشغل النقاد، فيحارون في تحديد روعة العمل وقياس نسبة الفكر من جهة والفنية من جهة أخرى).
فمتى تتلاقى الأطر بشكل متقاطع؟ وكيف يعمل المسرح الذي يتساءل العالم العربي عن أزمته؟ لتدور العجلة المجتمعية بشكل عام! فالوعي الوطني والفكر الراقي الباحث عن تحقق واعٍ ومدرك لجميع المحاور الاجتماعية والاقتصادية والتربوية إلخ.. هو من يحقق هذه المعادلة، والمسرح عنصر هام من عناصر هذه المعادلة، ليس في دول الخليج فحسب، وإنما في جميع أنحاء الوطن العربي والذي يتساءل الإعلام عن كبوته!
يقول يوسف إدريس حين سئل عن أزمة الرواية وبطبيعة الحال شأنها شأن المسرح: "لا أعتقد بوجود أزمة قائمة في الرواية أو القصة بشكل عام، أي أن هناك أزمة قائمة بين الأديب كمعبر عن مجتمعه في ظرفنا الراهن وقدرة المجتمع على استيعاب هذا التعبير.. رفض مجتمعنا أن يواجه نفسه مواجهة صريحة.. الكاتب هو مرآة الحقيقة الصادمة، فأعتقد أن أزمته في أن يقول الحق, ويعتقد أنه يقول الحق، وأن يجر عليه هذا القول تبعات الصراحة في كل زمان ومكان". فيوجز كاتبنا أزمة الإبداع في سطور.
وتقول الكاتبة هالة مصطفى: "يتضح لنا حالة من الترابط الوثيق بين عالم الفكر والثقافة من ناحية وبين البيئة الحاضنة لهما سياسية كانت أو اجتماعية من ناحية أخرى، فكلا المجالين لا يدوران في فراغ، وإنما هناك دائما علاقة تبادلية جدلية تربطهما ببعضهما البعض".
هذا وإذا نظرنا للمسرح كونه ثقافيا أم سياسيا وإلى أيهما ترجح الكفة؟ فإن البعض ينسبه إلى إحدى الكفتين بينما هو كلاهما، وبدونه لا يستقيم الأمر، وهذا ما تعلمناه وثقفته مداركنا من علوم المسرح منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى يومنا هذا، ولذلك فالمسرح في الوطن العربي يحيا أزمة معرفة، أزمة تعبير نتيجة لقولبة الفكر والتفكير وكبح التعبير.
تقول الكاتبة سالفة الذكر عن أزمة التعبير: "في جميع الحالات (يتقولب) الفكر وتتحول الثقافة إلى أيديولوجية وينتفي الاختيار، وتصبح التبعية هي وسيلة التنشئة الرئيسية، أو بالأحرى وسيلة "التلقين" الطبيعية، أما الفرد فيتحول إلى مجرد عنصر تابع داخل جماعة، أي جماعة. فالمجموع بمعناه الفضفاض والهلامي أحيانا يصبح هو الغاية والوسيلة التي تتحكم بها فئة معينة في توجيه السياسة والثقافة والمجتمع".
وللفن المسرحي خمسة محاور لا ينقص أحد منها، ولها مداخلها التي إن نقص محور اختل توازن الفن المسرحي وهي: (الاجتماعي، النفسي، السياسي، الاقتصادي، العقائدي)، ومنها جميعها يتكون المسرح، للمسرح صناعة لا تقبل المواربة، وهو لا يسير في خطوط متوازية، لأنه أداة من أدوات الوعي والمعرفة، التي تحمل صدق التعبير والتنوير، ولكنه يحتاج إلى تربة صالحة كي يؤتي ثماره، فلو أمعنا النظر في حال المسرح في العصور الوسطى - وهي ما يطلق عليها مجازيا العصور المظلمة – فسنجد أنه كان مسرحا باهتا وضعيفا، فلم نر إلا مسرحيات الأسرار والمريمات الثلاث وغير ذلك ممن حاولوا إيقاظ المسرح من سبات دام أكثر من خمسة قرون، وحينما جاء عصر النهضة Renascence بما فيه من نهضة وتقدم وعبقرية أفرزت علماء ومخترعات أفادت البشرية وظهر لنا المسرح العملاق الذي أعاد أمجاد المسرح اليوناني والروماني، بل تفوق عليه، فكان شكسبير وموليير وكورني وغيرهم ممن تقتات الجامعات على أعمالهم حتى يومنا هذا، والحقيقة أن المسرح يعكس واقع عصره وثقافته ووعي مجتمعه وحرية تعبيره, فهو كالنباتات حينما تنمو في مياه راكدة أو ضحلة فلا تنتج إلا طحالب سامة، وحينما تتغذى بالمياه النقية الجارية والمتجددة فلا تنتج إلا ثمارا صالحة تنفع الناس.
عن أزمة التعبير وأزمة استيعاب المجتمع: يقول الكاتب المسرحي سمير عبدالباقي:
(أجبرني أقول أشعار بلا لازمة
.. ولا تشد عزمة
ولا تشفي عليل أزمة.. ولا تفتح عصي الأبواب..
ومنين تجيب أودان لأحزان الكلام الصعب
والصدق عضة كلب- يا كداب)
ومن العجيب في يومنا هذا أننا نجد فصلا غير مبرر بين الثقافة، والسياسة، والمسرح، والدين، والعلم، وإن كان لكل منها علومه، إلا أنه فصل تعسفي يؤدي إلى التحزب والتشتت والتصنيف المحفز على الفرقة.

"الأنارسية.. والنحن" للدكتورة ملحة عبد الله




التنافر في الطباع بين من تربوا وتعلموا بالداخل ومن تلقوا تعليمهم بالخارج يعمل على تحطيم المعنويات العائدة بالهمم وبالعلم وبالخبرة
يعاني شبابنا العائد من البعثات الخارجية، وممن تلقوا تعليمهم بالخارج من مشكلات العمل الفردي وفردية التفكير وعدم الانخراط في العمل الجماعي كما تعلموه في بلاد خارج الحدود، فما هذه المعاناة وما هي أسبابها؟
إن الإنسان العربي فطر على الأعمال الجماعية، فقد نشأ على الزراعة وبعض الصناعة وهي أعمال جماعية، ومن أمثلتها الرعي؛ فإذا سرح الراعي بقطيعه في أعالي الجبال أو غياهب المفازات، فهو يأنس بقطيعه وبكلبه وبرعاة آخرين ينتشرون في أرجاء قريبة، أما عن الزراعة والصناعة فهي بلا شك أعمال جماعية لا تعتمد على الفرد الواحد. ولقد اتسم المجتمع العربي منذ الشهقة الأولى له بأنه مجتمع القطيع، أي أنه يحيا في جماعات في أغلب الأحيان، وذلك يرجع إلى ثيولوجيا "المكان، فللطبيعة أثرها الواضح في تكوين الشخصية العربية، حيث المساحات الشاسعة والسماء الصافية وامتداد الأفق على مرمى البصر. فخلق ذلك نوعا من الوحشة التي لا تأنس إلا بالآخر الذي تبحث عنه دائما. ومن هنا اتسم المجتمع بالبحث الدائم عن الأنس. فلم تكن الفردية من سمات مجتمعاتنا. وكذلك تختلف الشخصية الغربية من حيث السمات والخصائص تبعا لطبيعة المكان كما أسلفنا، حيث الضباب والغابات وطبيعة الجبال تحف دائما بالفرد مما تشعره دائما بالدفء المعنوي، فدائرية البصر لا توحي دائما بالمجهول.
ومن هنا لم تكن الفردية أو الدائرية - والتي قد تقع بين النرجسية والأنانية - من سمات الشخصية العربية. فمن أين أتت لنا هذه السمة وهي أن الفرد يحيا في العمل خاصة متخذا كتم أسراره وتفاعله وتفعيله أمرا محتما، ويحيط نفسه بدائرية لا فكاك منها، وإن تفوق أحد من زملائه شعر في قرارة نفسه بالضيق ليس لأنه تفوق وإنما لأنه يرى نفسه أحسن منه أو أحق.
النرجسية Narcissus تعني حب النفس وهذه الكلمة نسبة إلى أسطورة يونانية، ورد فيها أن نارسيس كان آية في الجمال وقد عشق نفسه عندما رأى وجهه في الماء.
الصفة الأساسية في الشخصية النرجسية هي الأنانية، فالنرجسي عاشق لنفسه ويرى أنه الأفضل والأجمل والأذكى ويرى الناس أقل منه، ولذلك فهو يستبيح لنفسه استغلال الناس وتسخيرهم.
أما الأنانية "فهي الفردية الشرسة وحُب التمّلك والغيرة الجنونية التي تدفعُ الإنسان إلى إرادة السيطرة على أملاك الغير بدون حق، فيدرج من الأنانية أشياء كثيرة، منها حُب الاتكالية والاعتماد على الغير وإراحة النفس والصعود على أكتاف وظهور الآخرين بضمير ميت وبدون مبالاة، والأنانية أيضا هي رغبة ذاتية للاستحواذ على حاجات الغير وتريدها فقط لنفسها وتحرّمها على غيرها، فمثلا تجد بعض الدول همها الاستيلاء على خيرات الدول الفقيرة بدون حق ولا نعرف على أي أساس تريد أن تحلل لنفسها كل شيء وتمنعه على غيرها فهذه أنانية مؤكدة، ويندرج من الأنانية أيضا الغرور والتكبر، فالشخص الأناني يرى كل من حوله خدما وعبيدا عنده، وحبه لذاته لا يفوقه حب أي شيء".
فإذا بالفرد منا لا هو هذا ولا ذاك، وإنما يأخذ من الأولى سمات ومن الثانية سمات ويكون الناتج أسميه (الأنارسية) وهو نتاج امتزاج سمات من هذه ومن تلك.
فلنذهب معا إلى الأسباب التي تركت وراءها هذه السمة وما تركت:
أولا المنزل: فالوالدان هما أول من يؤسس للفردية، حينما نغرس في أبنائنا حب التفرد، فنقول لماذا هذا أحسن منك؟ ولماذا تفوق ذاك عنك؟ ويجب أن تكون أحسن من هذا وذاك! فينشأ ذا طبيعة دائرية لا يلوي على شيء سوى نفسه.
ثانيا المدرسة أو الجامعة: حينما نعلي من قدر هذا الطالب ونحط من قدر ذاك إما لمكانة والديه أو لتفوقه الفردي.
ثالثا التعليم: وهو اعتماد التعليم على العمل الفردي وليس الجماعي وهذا أهم ما في الأمر، فالتعليم الحديث في البلاد المتقدمة يعتمد على ما يسمى بالـ(وورك شوب) وهو أن تكلف المجموعة (جروب) بالمهمة التعليمية وتعطى الدرجات للمجموعة ككل، وبالتالي ينشأ لدى الفرد حب التعاون والإنتاج المشترك، ومن هنا يكون النجاح الجماعي في العمل وليس لنجاح فرد عن آخر. فالمهمات لا تنجح بأفراد وإنما بالجهد الجماعي الذي لا يحبذه أبناء بلادنا في هذا الزمان الذي أصبح مفتوحا على العالم، فلا مكان للفردية والاستفراد لأنها لا تنتج إلا فردا، والفرد بمفرده لن ينهض بالمجتمع ولا حتى بالأداء الوظيفي، ويصبح الكل يذهب إلى العمل في تثاقل لا يحركه سوى الدائرية والانغلاق ولتذهب بلادنا مع الريح.
إن هذا التنافر في الطباع بين من تربوا وتعلموا بالداخل ومن تلقوا تعليمهم بالخارج يعمل على تحطيم المعنويات العائدة بالهمم وبالعلم وبالخبرة، فهؤلاء تعلموا على العمل والإبداع والإنتاج الجماعي كما تطبعوه من طريقة تعليمهم، وهؤلاء ينفردون ويستديرون بفردية يغلفها حب الذات التي تنتج الحقد والكراهية في نهاية الأمر والضحية هو العمل والنتائج المحامية في الإنتاج، فيفقد الكل من جماعة ومجموع وأفراد قيمة اللذة (لذة العمل)، أي متعة الأداء وهي سر تفوق العمل في البلاد المتقدمة. فماذا نحن فاعلون اتجاه جمع غفير سيعود من البعثات الخارجية، تدربوا وتعلموا متعة الأداء الجماعي (وورك شوب)، وعن تعارض الرغبات بين ممتهني العمل الفردي والباحثين عن التفرد الذي لا يبني دولة في العصر الحديث ولا حتى يبني فردا وبين عاشقي العمل الجماعي؟ لأنه أي (العمل الفردي) يسرب إلى الذوات حب الذات والأنانية والحقد والحسد فيصبح العمل جحيما كما تصبح العلاقات الاجتماعية مفككة غير متصلة ولا متواصلة، فالابتسامة والبشاشة هي أولى لبنات العمل الجماعي التي تؤسس للحب والتفاهم ثم العمل المشترك ثم مجتمع آهل بالمحبة، وهذا ما نراه في الدول والمجتمع العالمي الحديث وما لا نراه في بيئتنا ومجتمعنا الذي تأسس على ذلك قبل أي مجتمع آخر، فلماذا كانت الابتسامة صدقة؟ لأنها أولى درجات تبيين الرؤية في الحميمية المجتمعية والتي تمد جسور العمل الذي هو عبادة.
ملحة عبدالله  

من أين يستمد هؤلاء قواهم؟ الدكتورة ملحة عبد الله




إلى أي حد اهتم وطننا العربي بثقافته وإعلامه "قواه الناعمة" في مقابلة إعلام وثقافة عالمية مفتوحة تتسرب إلى وجداننا وتعمل فينا عمل السحر؟
لقد أثبتت النظريات العلمية أن قوة التأثير الثقافي والإعلامي أسرع وأشد وقعا من قوة السلاح، وذلك لقوة ما أسماه علماء النفس مجازا لها بالـ"بعد السحري". وذلك استنادا إلى ما قاله "هربرت ريد" في مسألة المزج بين الانفعال والتعاطف كما أوردته في كتابي (البعد الخامس في التلقي): "إن كلمة التعاطف تعني الإحساس، فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا فإننا نزج بأنفسنا داخل إطار هذا العمل، وستحدد مشاعرنا تبعا لما ستجده هناك وتبعا للمكان الذي نحتله، وليس من الطبيعي أننا نستطيع أن نزج إحساسنا في أي شيء نلاحظه، ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوى تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف". إن تضاؤل التمييز بين التعاطف والانفعال كان التأثير بما يسمى الـ "حقن تحت الجلد" وهنا تكمن الخطورة.
ولهذا تنبه الإعلام والثقافة الغربية إلى خطورة هذه الآلة فأطلقوا عليها مجددا مصطلح "القوى الناعمة" لما لها من دور في زعزعة الثقة. وزعزعة الثقة أدهى آلات الحروب وأشدها ضراوة، زعزعة الثقة هذه هي عماد القوة الناعمة وعصب رسالتها فيما تؤثره في الحروب الباردة وغير الباردة، التي كانت رسالة النص المسرحي الذي كتبته كاتبة هذه السطور بعنوان: "حينما تموت الثعالب".. حين يلعب الثعلب على زعزعة الثقة بذوات أعدائه فينتحل الموت أحيانا كأسلوب من أساليب المكر والدهاء، حتى وصل الأمر أن شنق البطل نفسه لأنهم زعزعوا ثقته بنفسه وأكدوا له مكرا أنه سبب دمار هذا العالم، فيموتون انتحالا فلا يجد بدا من شنق نفسه انتقاما للعالم الذي توهم للحظة أنه من دمره. هذه هي زعزعة الثقة بالذات، كأسلوب من أساليب تدمير الدول والانتصار على العدو. يقول جوزيف. إس. ناي Joseph S. Nye في دراسة له عن القوى الناعمة: "في غضون الحرب الباردة، نجحت استراتيجية الاحتواء التي انتهجها الغرب في الجمع بين القوة العاتية المتمثلة في الردع العسكري، وبين القوة الناعمة التي تمثلت في اجتذاب الناس خلف الستار الحديدي. وخلف جدران الاحتواء العسكري نجح الغرب في تدمير الثقة السوفيتية في الذات باستخدام الإذاعات المختلفة، ومن خلال التبادل الطلابي والثقافي، والنجاح الذي حققه الاقتصاد الرأسمالي. وكما شهد لاحقاً أحد العملاء السابقين بهيئة الاستخبارات السوفيتية KGB: "كانت عمليات التبادل الثقافي بمثابة حصان طروادة بالنسبة للاتحاد السوفيتي. فقد لعبت دوراً هائلاً في تآكل النظام السوفيتي". هذا هو دور التسرب الانفعالي والاعتماد على الوجدانيات في السيطرة على الشعوب، ولعل أقصر الطرق هو استخدام العقيدة- أي عقيدة- في تحقيق ما يسمى بالتسرب الانفعالي، وأهم ما في الأمر ما يسمى "ثقافة الصورة" يقول جي إف دونسيل خبير علم النفس الفلسفي: "لا يكون إدراكها في صورة وجدانية ذاتية مفهومة فهما مبهما، بل في صورة كتل وألوان، فيصاحبها بعض الانفعالات كالخوف والفرح والحزن والغضب، وهي انفعالات ستصاحبها استجابات فسيولوجية. نحن نعرف أن التكيفات الفسيولوجية تقع تحت السيطرة المباشرة للجهاز العصبي اللاإرادي، والسيطرة غير المباشرة للمخ".
ومن هنا اعتمد الغرب اعتمادا كبيرا على هذه القوى الناعمة والمتمثلة في الثقافة والإعلام، بل وتحددت لها ميزانيات باهظة لفهمهم خطورة هذا الجهاز وفعاليته في التسرب إلى وجدانات الشعوب وزعزعة الثقة في نفوس الأعداء، وبطبيعة الحال بطرق غير مباشرة منها استخدام الكتلة واللون والإضاءة والخط ثم الكلمة، يقول جوزيف في دراسته منتقدا ميزانيات الولايات المتحدة الأميركية بهذا الصدد: "مع نهاية الحرب الباردة أصبح الأميركيون أكثر اهتماماً بالتوفير في الميزانية بدلاً من الاستثمار في القوة الناعمة. ففي عام 2003 ذكرت مجموعة استشارية مكونة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في تقرير لها أن الولايات المتحدة تنفق على الدبلوماسية العامة في الدول الإسلامية ما لا يزيد على 150 مليون دولار، وهو مبلغ وصفه التقرير بأنه غير لائق إلى حد فاضح.. في الواقع، لقد بلغ إجمالي إنفاق وزارة الخارجية على برامج الدبلوماسية العامة وكل إذاعات أميركا الدولية ما يزيد بقليل على بليون دولار، وهو تقريباً نفس المبلغ الذي تنفقه بريطانيا أو فرنسا، وهما دولتان تمثلان خُمس حجم أميركا ولا تزيد ميزانيتا الدفاع لديهما على 25% من ميزانية الدفاع الأميركية. وبطبيعة الحال، ليس لعاقل أن يقترح على أميركا أن تنفق على إطلاق الأفكار قدر ما تنفقه على إطلاق القنابل، ولكن من العجيب أن تنفق الولايات المتحدة على القوة العاتية 400 ضعف ما تنفقه على القوة الناعمة. أي أن الولايات المتحدة أنفقت 1% فقط من ميزانيتها العسكرية على القوة الناعمة".
فإلى أي حد اهتم وطننا العربي بثقافته وبإعلامه (قواه الناعمة) في مقابلة إعلام وثقافة عالمية مفتوحة تتسرب إلى وجداننا وتعمل فينا عمل السحر الذي أسماه الدكتور والمفكر المغربي عبدالرحمن زيدان في أحد مناقشاتي معه بالـ"السحر الحلال"؟ ويتساءل جوزيف بقوله: "إذا كان لأميركا أن تنتصر في تلك الحرب "ضد الإرهاب"، فيتعين على قادتها أن يعملوا على تحسين أدائهم في الجمع بين القوة العاتية والقوة الناعمة فيما يمكن أن نسميه بـِ"القوة الذكية". إذاً، فالقوة الذكية مفادها الجمع بين القوتين بحسب تعبير مخترع هذا المصطلح حيث يقول: "القوة، إذا عرّفناها باعتبارها القدرة على التأثير على الآخرين، فهي تأتي في مظاهر متعددة، والقوة الناعمة ليست ضعفاً، بل على العكس من ذلك، فإن الفشل في استخدام القوة الناعمة بشكل فعّال هو السبب وراء ضعف أميركا في كفاحها ضد الإرهاب. القوة الناعمة هي القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. وهذه القوة تعتمد على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة. وإذا تمكنت من إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد، فلن تضطر إلى إنفاق الكثير بتطبيق مبدأ العصا والجزرة لتحريك الآخرين في الاتجاه الذي يحقق مصالحك".
ومن هنا فللقوى الناعمة دور كبير في استدرار القوة إن أراد القائمون عليها ذلك. ومن هنا تتم رسائل في إعلام مفتوح بدراسة ووعي وتقنية تبدأ بالخط والكتلة والتشكيل في الفراغ انتهاء بالضوء واللون مع خبرة بسيكلوجية الشعوب المستهدفة، كل هذه الأشياء تعمل فسيولوجيا ثم سسيولوجيا إذا ما أراد أي طرف زعزعة الثقة في أي طرف آخر، وبزعزعة الثقة تتهاوى القلاع، فكما يقول الكاتب المسرحي الدكتور فوزي فهمي في مسرحيته (لعبة السلطان): "لا تسقط القلعة المحاصرة لكثرة المحاصرين لها، ولكن تسقط حين يتساءل حماتها عن جدوى حمايتها".

الجمعة، 13 يوليو 2012

فوبيا الكاميرا والمرايا المتوازية بقلم : ملحة عبدالله



لفوبيا الكاميرا مكان واضح على المستويين المؤسسي والمجتمعي، ولكنهما نقيضان مستويان على سطح المرآة العاكسة، فالأولى مبرراتها هزيلة وزائفة، والثانية مبررة ومقبولة لأنها تصبح شديدة الخطورة على المجتمعات التقاليدية التي وجب احترامها لقد تداول النقاد مصطلح المرايا في تيار نقدي حديث، في محاولة سبر أغوار الواقع من خلال الأعمال النقدية، وسُطرت كتب عديدة بين المرايا المحدبة والمرايا المقعرة، فقد حظيت صورة المرآة بذاك الاهتمام الشديد في الدراسات الأدبية في المجال النقدي في النصف الثاني من القرن المنصرم، ومنها مفهوم المرايا المسطحة أو المستوية، ولهذا فقد فرض الموضوع نفسه، الكاميرا والمرايا المتوازية، وما تحدثه من عوامل نفسية في جوانب مجتمعاتنا.. "فهناك أربعة أشكال وأوضاع معروفة للمرايا، المرآة العادية حينما تكون منفردة، تعكس كل ما يوجد أمامها في صدق وأمانة دون تزييف أو تشويه أو مبالغة وسميت بالمرايا المستوية. أما المرآتان المتوازيتان فتقدمان صورا لا نهائية لكل ما يقع بينهما في متاهة خداعة ووهمية. والمرآة المقعرة، تقوم بتصغير الأشياء بشكل مخل يشوه حقيقتها لكن المرايا المحدبة تقوم بتكبير كل ما يوجد أمامها وتزييفه حسب زاوية انعكاسه فوق سطح المرآة".  فإذا ارتأينا أن المرايا المقعرة والمرايا المحدبة والمتوازية والمستوية هي أدوات نقدية لعوالم المجتمع، فإن الكاميرا ـ الإعلام المرئي ـ في يومنا هذا هي أداة من أدوات المرايا المستوية كما يجب أن تكون، إلا أنها تتحول في عالم تسوده فوبيا الصورة إلى مرايا متوازية كما صنفها النقاد الحداثيون. بما تحمله من خواص المتاهة الخداعة والوهمية في ظل هذه الفوبيا. وللصورة المسطحة مفعولها السحري في التسلل إلى الوجدان الجمعي وهنا تكمن الخطورة.  فللكاميرا سحرها ولها عنفوانها في الكشف عن أغوار النفس الداخلية قبل الخارجية وبالتالي المجتمع، ولعل الاهتمام بالتفاصيل الخارجية عامل حرفي فُتحت له أبوب الجامعات والأكاديميات العربية والعالمية للتعامل مع التأثير والتأثر بزواياها وحركاتها وأنواع إضاءتها في أطياف المجتمع، لأن تلك خاصية من خواصها الانعكاسية ولها مدلولاتها العتيدة في التأثير على من يتلقاها. ولهذا كان السؤال الملح وهو: إلى أي مدى يتعامل مع الكاميرا المسؤولون من كوادر وشخصيات عامة وأعلام دول بعد أن تسلل نوع منها إلى أبعد مما يجب؟ ولقد دأب العامة على استقبال الكاميرا بنوع من التحفز وأحيانا نوع ثقيل من التزيي ولبس القناع خوفا وتأمينا من تسلل خواصها لكشف أغوار النفس وما يدور في بواطن الوعي، وفي ردهات المؤسسات الأهلية منها والرسمية. تلك مشكلة كبيرة في ارتداء القناع، ولهذا فقد ظهر فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" لأحمد زكى عام 1999 لكي يكشف قناع مجتمع بأكمله بما له وما عليه. لأن في موروثنا النفسي أن يضحك المرء أمام الكاميرا فور التقاط الصورة، لكي يخفِ ما يظهره عما يبطنه وهنا تكمن الخطورة في إعلامنا الحالي. ولعل الكاميرا اليوم من أهم عوامل الخوف الذي قد يصل إلى حد الفوبيا لدى كثير من الشخصيات العامة، فلم يعد الأمر كما تعلمه ودرسه الدارسون والمتخصصون في فنون الزوايا واللقطات بحسب ما يقتضيه الخبر الصحفي إذا ما اعتبرنا أن الصورة في حد ذاتها خبر صحفي حسب مقتضيات الخبرة الصحفية في فنون الخبر وأدواته، ومن جهة أخرى أصبح الأمر أشد ضراوة وأكثر جرأة إلى أن يصل إلى التعدي على الحقوق الشخصية والحياة الخاصة. حتى أصبح في حياة المجمتع العربي برمته شبح هذه الفوبيا، فأصبحت تلعب هذه الفوبيا على مستويين: المستوى الأول: على الصعيد المؤسسي.. المستوى الثاني: على الصعيد المجتمعي. فإذا ما تطرقنا للمستوى المؤسسي في الوطن العربي فسنجد أن هناك العديد من الشخصيات العامة ترفض فجائية الكاميرا خوفا من المرور بين الحقيقة والقناع، وتجنبا لأهم خاصية من خواص المرايا المستوية التي تكشف الحقيقة كما هي دون زيف أو مواربة، حينها نقع جميعا كمجتمع في منطقة المرايا المتوازية بما تحمله من خاصية المتاهة الخداعة والوهمية، بالرغم من أن ثقافتنا العربية والإسلامية تأسست على مراقبة الذات في السر والعلن لمن تحمل عبء المسؤولية، فحين يصبح الإنسان في مصاف الشخصيات العامة فلا بد أن يكون ظاهره باطنه وباطنه ظاهره ويعلم أن لكل فرد في مجتمعه نصيبا في أدائه وتصرفاته وأخلاقياته وعاداته وتقاليده، ومن هنا يتحتم عليه أن يجعل من ظاهره مرآة لباطنه لأن الكاميرا أصبحت في مفهوم المرايا المسطحة الكاشفة لبواطن الأمور ولم يعد لنا سبيل لتقبل فكرة ومقولة "اضحك الصورة تطلع حلوة". فلمذا إذا تلك الفوبيا التي نلحظها على كل من تبوأ مركزا مرموقاً؟ ولماذا يتحتم علينا أن "نضحك للصور لكي تطلع حلوة"؟ فالكاميرا يجب أن تتحرك بدون استئذان في كل ركن من أركان مؤسساتنا العربية والمحلية بدون خوف، لأنها منا وإلينا ومن خاف منها أو ترقبها أو استعد لها كان من المقنعين الذين يرفضهم المجتمع بأسره، لأنهم من فئة أو من جماعة "اضحك الصورة تطلع حلوة" بينما قد يكون في داخله بكاء ونحيب وتشنج لا يعلمه سواه. أما على المستوى المجتمعى فالعكس هو الصحيح، من زاوية الحرية الشخصية واحترام خصوصية الفرد وخاصة في مجتمعاتنا العربية ذات الحدود والخطوط الحمراء، التي أصبح للفوبيا الكاميراتية فيها قسط كبير حرصا على شديد الخصوصية والحرية الشخصية في هذه المجتمعات، ولذلك نرى لهذه الفوبيا مكانا واضحا على كلا المستويين المؤسسي والمجتمعي، ولكنهما نقيضان مستويان على سطح المرآة العاكسة، فالأولى مبرراتها هزيلة وزائفة وغير مقبولة إلى أبعد مدى، والثانية مبررة ومقبولة لأنها تصبح شديدة الخطورة على هذه المجتمعات التقاليدية التي يجب أن نحترمها ونقدرها، إلا أن كليهما يستويان بمرارة شديدة على سطح مستو من الفوبيا العاكسة لدواخل النفس وللمجتمع بجميع مستوياته. 


جريدة الوطن

الأخلاق فطرة أم اكتساب؟ بقلم : ملحة عبدالله





هل سأل أحد منا نفسه قبل أي تصرف أو سلوك يسلكه: هل هذا من الأخلاق في شيء؟ ليس من أجل مصلحة أو نفع مادي أو معنوي ذاتي، وإنما من أجل أن تظل راية مجتمع بأسره خفاقة؟
سؤال طالما حير كثيرا من الباحثين ونظر له جل الفلاسفة، ودعت له جميع الأديان السماوية، اعتمادا على علاقة الفرد بذاته وبالآخر ثم المجتمع، فالإنسان في عصره الأول كان لا يخاطب الآخر إلا بالإشارة ثم اخترع لغة كي يأنس بالآخرين فاتسم عصره بالخطاب اللغوي الكلامي ومن هنا تطورت اللغة بين الكلام والإشارة. 
والأخلاق أو السلوك البشري هو مجموعة تصرفات وممارسات تتسم بالشمولية ابتداء من الحركات والسكنات إلى أن تشمل جميع أشكال التواصل البشري والإنساني والحضاري التاريخي في إطار القيمة.
ومن هنا كان هذا السؤال حول: هل الأخلاق والسلوك البشري فطرة فطر عليها الإنسان أم أنه يكتسبها من محيطه البيئي والاجتماعي؟
فإذا ما رجعنا إلى التحليل العلمي، سنجد أن هناك تفاوتا كبيراً بين الاكتساب والفطرة، وقد أكد كثير من العلماء والفلاسفة أن الإنسان كله خير أي أنه فطر على الخير، أما النوازع الأخرى فترجع إلى نوازع القيمة وهي مكتسبة من محيطه وبيئته، ولذك ظهرت مجموعة أفلام طرزان التى ضجت بها السينما الأميركية تؤكد ذلك في أنه ولد في وسط بيئي "غابة" فاتسم بسلوك ولغة وتصرفات تلك الغابة، وهي رؤية لا تزال محل الجدل. وإذا ما سلمنا أن الإنسان قد فطر على الخير كله وأن ما عداه مكتسب فقد يرجع ذلك كله إلى نوازع النفس البشرية التي وضعها الله سبحانه وتعالى فينا ومنها تعدد الأنفس من نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء والنفس الراضية إلخ..
وقد أرجع علماء النفس ذلك إلى مبدأ اللذة معيار الصواب والخطأ أو الخير والشر، وأول من أسس لهذا الأبيقوريون وكان سلوكهم كله تابعا لهذين السببين فاتسم سلوكهم بالهمجية والسوء، لأنهم كانوا يسعون إلى اللذة دون غيرها أعاذنا الله من ذلك، ثم امتدت إلى مناهج عديدة ومنها المدرسة الرواقية ثم الفترة الحديثة لكي تنفذ إلى مذاهب جيفي بنتام وجون ستيوارت مل وسيد جويك حول الانسياق وراء اللذة.
هذا وقد نظر للأخلاق العديد، ومنهم بوزانكيث في نظريته الأخلاقية المثالية التي ردها من وجهة نظره إلى:
1- مرحلة الغريزة: حيث يكون الفعل صائباً متى كان متوافقاً مع الحاجات والميول الفطرية والغرائزية التي عرض لها ماكدونالد.
2- مرحلة العادة: حيث يكون السلوك صائبا متى كان متوافقاً مع عادات وتقاليد الجماعة التي ينتمي إليها والمجتمع الذي يعيش فيه.
3- مرحلة الضمير: ويكون السلوك صائباً متى كان مثار استحسان وقبول الضمير، ويكون غير ذلك إذا استهجنة الضمير وثار ضده..
ولا أريد أن أستطرد في كلام علمي قد يثقل على القارئ، ولكني أردت أن أنوه إلى خطورة هذه الآراء على مجتمعاتنا التي حباها الله دستورا جامعا مانعا للأخلاق وهو "القرآن الكريم وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم" كما قالت عائشة رضي الله عنها عن أخلاق رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام: "كان خلقه القرآن"، ولقد شرعت في تأليف كتاب عما أسماه العالم بعلم "الإتكيت" - أي علم الأخلاق - مرتكزة على الكتاب والسنة، لكي يعرف العالم أخلاق الإسلام، لأنني بحثت في هذا العلم الذي يدرسه العالم في كلياته وجامعاته فوجدته برمته في كتاب الله سنة رسوله الكريم، بل يفوق علوم هؤلاء بجميع معاييرها وقوانينها في شتى السلوك البشري، وإذا كانت الأخلاق مكتسبة فهي تتطور حسب تطور الزمان والمكان، فإذا ما دأب العلماء على البحث في هذا المجال فإنهم يلجؤون إلى التطور التاريخي أو المتعاقب الزماني لما له من تأثير وتأثر على ميزته في كيفية التأثير والتأثر في النظريات الأخلاقية في بعضها البعض، ولهذا فإذا ما رجعنا إلى الزمان والمكان فسنجد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأشمل وأدق وأكثر حرصا على الأخلاق المثالية الفاضلة، وكلما امتد الزمان والمكان كانت الأعداد تنازلية في هذا الحرص، مما يهدد أمتنا وديننا الحنيف، يقول الدكتور خالد حامد الخازمي في كتابه مساوئ الأخلاق: "حينما سادت الأخلاق وعلا شأن الفضيلة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تألق أؤلئك الصحب الكرام في أخلاقهم إلى درجة أن المذنب لا يراه أحد إلا الله تعالى، فيأتي مستشعرا بعظم ذنبه فيقول: يارسول الله زنيت.. وتقول أخرى: زنيت.. فطهرني، ويقول آخر: يا رسول الله سرقت.. وبهذا الالتزام الديني سادوا العالم، وفتحو بلادا مغلقة، كانوا بها جاهلين، وحطموا قياصرة كانوا منها وجلين خائفين، فأصبحت راياتهم خفاقة عالية". 
فهل نعاند تطور الزمان وانفتاح المكان بالرجوع إلى الأخلاق الحقة وأصولها لكي ترف الرايات خفاقة كما كانت؟ هل سأل أحد منا نفسه قبل أي تصرف أو سلوك يسلكه: هل هذا من الأخلاق في شيء؟ ليس من أجل مصلحة أو نفع مادي أو معنوي ذاتي، وإنما من أجل أن تظل راية مجتمع بأسره خفاقة، هل يقف الفرد منا يتأمل ما آلت إليه المجتعمات العربية من كذب ورياء ومصالح فردية على حساب نهضة الأمة؟ أشك في ذلك. 
فالإنسان الفرد هو اللبنة الأولى في بناء المجتمع، ومن هنا الأمة ثم مصلحته هو وذريته في آخر المطاف، فتدور الدائرة إليه هو، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ويحصد ما زرعته يداه دون غيره في مناخ عربي وعالمي تسوده النوازع والأهواء، ومفاسد وصراعات ومظالم تدفع إليها الضغائن والأحقاد أو المطامع والأهواء أو الرغبة في التسلط والاستعلاء، فليس لنا من درع في هذا الزمان سوى الأخلاق.. يقول الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ما فوق البنيوية.pdf

 



الخميس، 7 يونيو 2012

ادعوا لأبي بقلم : محمد خطاب








لما رحلت و تركتني وحيدا أصارع أنواء الحياة
كنت سندي و وتد طالما شدت إليه الروح
عبد الحميد عبد الرحمن خطاب
استمتع دوما بنطقها و قلبي يعتصره الألم
اشعر باختناق لبعد
و اشتياق للقاء
يوم الرحيل كنت مثل عريس يستعد لزفافه للسماء
تحلق ذقنك و مستعجلا تجرح خديك و الدماء تتدفق
بناتي تصرخ بابا جدوا أتعور
هرعت إليك
وجدك مستمرا في الحلاقة مستمتعا وكأنك علي موعد هام
أعطيت الأطفال فلوس يشتروا الحلوي
و حملت عبد الله اصغر أبناء أختي تلعب به وتداعبه
كانت عيناك تلمعان بشكل مدهش
برز اخضرارهما و كأنهما تعكسان قطعة من الجنة
حين أخذت بناتي وذهبت لمنزلي
كان جزءا من قلبي معلقا بك
ساكنا في فضاءك
خرجت مع زوج أختي إلي المكان المفضل لك في البساتين
جلست مع الأشخاص المضلين لديك
كنت تودع كل شيء بابتسامة
الكل يتحدث عن تلك الليلة باستغراب
مبتسم ، سعيد ، ودود
عدت قبل آذان الفجر
جلست مع أخي علي كنبتك المفضلة
تحدث وتضحك
و توصيه
وفجأة يميل رأسك وتسلم الروح
دون الم  دون منازعة

حين اتصلت أمي الثالثة فجرا
قالت بصوت مستنجد : الحق يا محمد أبوك تعبان و دوه المستشفي ؟
أدركت أن الأمر أكثر من ذلك
قطعت الطريق و أنا ادعوا الله أن يكون الأمر هينا
فتشت العناية المركزة و لم أجدك
صرخت : فيه حد هنا؟ .. فين أبويا ؟
رد النوبتجي : ابوك خدوه بالاسعاف للبيت
اتصلت بأخي : انتوا بتهزروا ابوك مش في المستشفي 
قال أخي : البقاء لله
صرخت فيه و عنفته
كيف يحكم بموت جزءا من روحي
من عالمي
في المنزل وجدت أبي علي السرير نائم كطفل صغير
حالما لم اصدق انه ميت قبلت رأسه و جبينه
كان بادرا ولكن لا شيء يشي بموته
كلمته لم يتحرك
حاورته لم يرد
أدركت أنه مات
ياااااااااااه
يا أبي
خرجت روحك الطاهرة تخرج وتركتنا في ظلام دامس
جلست جنبك وحضرت غسلك
لست كباقي البشر
أنت عريس السماء
وجهك ابيض كالقمر المنير
حتى نعشك كان بنا يطير
كانت الناس تردد الله اكبر
عم عبد الحميد سريع
وكأنك في اشتياق لمغادرة الكون
و ملاقاة ربك
أبي ابحث عنك في كل لحظة عشناها سويا
ابتسامتك ، انفعالك ، تجهمك ، صبرك ، صمتك
كبرياءك ، ترفعك ، عزة نفسك
حنانك ، عطفك
حبك لنا

السبت، 7 أبريل 2012

الذاكرة التاريخية والتخطيط المستقبلي‏!‏ بقلم: السيد يسين



العالم كله ـ كما ذكرنا من قبل ـ يعيش حقبة التخطيط المستقبلي للمجتمعات المختلفة‏,‏ والتي تنتمي إلي ثقافات متعددة‏.‏ وهذا التخطيط المستقبلي لابد له ـ وقد يكون فيما نقول متناقضا مع نقدنا السابق لغرق المجتمع العربي في الماضي ـ لابد له أن أريد له أن يكون تخطيطا مستقبليا رشيدا أن يوثق الذاكرة التاريخية للمجتمع‏,‏
وأن يحلل وقائعها تحليلا موضوعيا ونقديا في آن واحد.
ونقصد بتوثيق الذاكرة التاريخية الرصد الدقيق للوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حدثت في المجتمع في مراحل تاريخية سابقة.
والمراحل التاريخية وتقسيمها وتصنيفها تثير مشكلة منهجية في علم التاريخ وهي مايطلق عليها مشكلة التحقيب
PERIODIZATION ونعني بذلك تقسيم تاريخ أي مجتمع إلي حقب تاريخية متمايزة, وتحديد بداية ونهاية كل حقبة. وهذه بالذات من المشكلات التي يختلف بشأنها المؤرخون في كل مجتمع. وذلك لأن تحديد الحقبة يعتمد علي مفهوم آخر هو القطيعة التاريخيةHISTORICALBREAK بمعني نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة.
وحتي لايكون حديثنا علي سبيل التجريد فلنضرب مثالا من التاريخ المصري المعاصر, هناك اتفاق بين المؤرخين علي أن ثورة يوليو1952 بدأت في هذا التاريخ, ولكن متي انتهت؟ أولا هناك خلاف هل كانت انقلابا أم كانت ثورة؟
خصوم الثورة يختزلونها في كونها كانت مجرد انقلاب عسكري قام به الضباط الأحرار الذين حكموا المجتمع المصري باستخدام القوة وممارسة القمع علي الجماهير. بعبارة أخري هؤلاء الضباط الأحرارـ في نظر هذا الفريق من المؤرخين ـ أقاموا حكما استبداديا ألغي الأحزاب السياسية, وأقاموا بدلا منها حزبا واحدا اعتمدوا عليه في الحكم.
غير أن هناك فريقا آخر من المؤرخين يقبل ابتداء بأن ماحدث كان فعلا انقلابا عسكريا, غير أنه سرعان ماتحول إلي ثورة, لأن الضباط الأحرار طبقوا في الواقع برنامج الحركة الوطنية المصرية الذي صاغته القوي السياسية المختلفة من اليمين إلي اليسار, وكان الهدف منه في الواقع ليس مجرد الإصلاح, وإنما تأسيس انقلاب اجتماعي يقوم أساسا علي الإصلاح الزراعي ورفع شأن الفلاحين والعمال, وإقامة صناعة حديثة في مصر, والتغيير النوعي في أدوات وعلاقات الإنتاج.
وهكذا يمكن القول ـ في رأي هذا الفريق من المؤرخين وأنا أؤيدهم ـ أن23 يوليو1952 كانت بالفعل انقلابا ولكنه سرعان ماتحول إلي ثورة حاولت تحقيق العدل الاجتماعي الذي سعت الجماهير المصرية إلي تحقيقه منذ عام1945 علي الأقل وهو تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية إلي عام1952
غير أن الجماهير والأحزاب السياسية فشلت في حل المشكلة الوطنية التي تتمثل في إجلاء الاحتلال الإنجليزي عن مصر, وحل المشكلة الاجتماعية, والتي هي عبارة عن الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء.
وإذا تركنا هذا الخلاف المبدئي جانبا تظل أمامنا الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في البداية, وهو متي انتهت ثورة يوليو1952.
في قول أنها انتهت بوفاة زعيمها جمال عبد الناصر عام1970 غير أنني أري أنها انتهت في الواقع في5 يونيو1967, وهو تاريخ الهزيمة التي لحقت بمصر في الحرب ضد الدولة الإسرائيلية.
ومبرري في هذا الرأي أن الثورة حين قامت أعلنت عدة مبادئ منها تكوين جيش قوي قادر علي الدفاع عن البلاد, وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. غير أن التجربة أثبتت ـ من واقع تخبط قرارات القيادة السياسية قبل وأثناء الحرب ـ بالإضافة إلي الضعف الشديد في المستوي المهني للقيادات العسكرية ـ أن الثورة لم تف بوعودها للشعب, ومن هنا منطق أن نقول إنها انتهت بالفعل عام1967 ونعني ذلك بالمعني التاريخي للكلمة.
توثيق الذاكرة التاريخية إذن وتحليلها موضوعيا ونقديا مهمة أساسية ينبغي أن تسبق أي تخطيط مستقبلي. وذلك لأنه من الضروري لأي مجتمع أن يستخلص العبرة من تاريخه الماضي, حتي يتلافي السلبيات التي عوقت مسيرة تقدمه, غير أننا في مجال التحليل الموضوعي والدراسة النقدية للوقائع نصطدم بمشكلة تأويل التاريخ. بعبارة أخري الوقائع التاريخية أمامنا وقد وثقناها بالفعل من مختلف المظان والمصادر, ولكن كيف يمكن لنا أن نؤول هذه الوقائع!
هنا تظهر لنا مشكلة التفسير في العلوم الاجتماعية, فلا يكفي حتي في البحوث الميدانية الاعتماد علي المؤشرات الكمية ونشر الجداول الإحصائية, وإنما لابد من تفسيرها والتفسير ـ بحسب أدق التعريفات في فلسفة العلوم ـ هو وضع الظاهرة المفسرة في سياق قانون عام غير أن هذه الإجابة لاتحل المشكلة, لأنه سيثور سؤال عن طبيعة هذا القانون العام.
ويمكن القول إن فلاسفة التاريخ المشاهير مثل توينبي في كتابه المعروف دراسة للتاريخ, ويثيرم سوروكين في موسوعته النادرة الديناميات الاجتماعية والثقافية حاولوا صياغة قوانين عامة عن التطور الاجتماعي والتغير الثقافي بعبارة أخري قدموا نظريات عن نشأة وانهيار المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن ثم يمكن ـ في مجال تأويل التاريخ ـ الاستناد إلي هذه النظريات.
وفي ضوء ذلك يمكن القول إننا لو كنا بصدد تخطيط مستقبلي لدولة مثل مصر فلابد أولا من تحليل الحقبة التاريخية التي بدأت بإصدار دستور عام1923, حتي نهاية الحقبة بقيام انقلاب أو ثورة1923.
ونفس التطبيق ينبغي أن يتم بالنسبة لبلد كالكويت علي سبيل المثال ـ لابد من دراسة التجربة الديمقراطية في الثلاثينيات, إن أريد رسم تخطيط مستقبلي للدولة الكويتية.
توثيق الذاكرة التاريخية وتحليلها موضوعيا ونقديا إذن هو الخطوة الأولي اللازمة قبل الشروع في التخطيط المستقبلي لمجتمع ما.
غير أن الخطوة الحاسمة الثانية هي ضرورة القراءة المستوعبة والنقدية للتغيرات الأساسية التي لحقت ببنية المجتمع العالمي, وذلك لأن أي تخطيط مستقبلي لايقوم علي أساس فهم التحولات الكبري التي حدثت في العقود الأخيرة يعد لا معني له في الواقع, لأن المستقبل لابد أن يبني علي ماحدث في الحاضر, غير أن رسم خريطة معرفية للتغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالمي ليست هينة ولاميسورة. لأنه يقتضي الرصد الدقيق لهذه التغيرات من ناحية, وفهم المنطق الكامن وراء كل تحول من ناحية أخري, في ضوء منهج تكاملي يغطي ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.
ورسم هذه الخريطة يقتضي أولا: تحديد القطيعة التاريخية التي حدثت بين نهاية نموذج المجتمع الصناعي وصعود نموذج مجتمع المعلومات العالمي, والذي يتمثل أساسا في بداية عصر البث التليفزيوني الفضائي من ناحية, وبروز شبكة الإنترنت من ناحية أخري, والتي تمثل فضاء عاما جديدا تتم فيه تفاعلات عديدة ومتنوعة لم تشهد الانسانية له مثلا من قبل.
غير أنه بالإضافة إلي ذلك لابد من التركيز علي الظاهرة الكبري التي تملأ الدنيا وتشغل الناس وهي العولمة.
والعولمة ـ كما صغنا من قبل تعريفا إجرائيا لها ـ هي سرعة تدفق المعلومات والأفكار ورءوس الأموال والسلع والخدمات والبشر من مكان إلي مكان آخر في العالم بغير حدود ولاقيود.
وهذا التعريف الإجرائي يمنحنا في الواقع فرصة لتحديد العمليات الأساسية التي تنطوي عليها العولمة. غير أنه لايغني في فهم تناقضات العولمة ذاتها باعتبارها عملية تاريخية.
فهناك أولا أنصار العولمة الذين يعتبرونها حلا شاملا لمشكلات الاقتصاد والتطور الاجتماعي, وهناك فريق آخر يعتبرها أكبر عقبة في سبيل تنمية المجتمعات عموما, ومجتمعات العالم الثالث خصوصا.
ومن ثم لابد لصانع القرار ـ أيا كان ـ الذي سيتصدي للتخطيط المستقبلي لمجتمع ما أن يكون قادرا علي فهم وتحليل تناقضات العولمة. وقبل ذلك تكون له القدرة علي اتخاذ موقف رشيد, لايتمثل في رفض العولمة بطريقة مطلقة لأن هذا في حد ذاته مستحيل عملا, أو في قبولها بشكل كامل, فذلك يمكن أن يؤدي إلي الإضرار بالمصالح القومية.
ومن هنا تدعو الحاجة إلي صياغة حل يقوم علي التأليف الخلاق بين جوانب العولمة المتعددة بحيث يقلل ذلك من الخسائر ويعظم من المكاسب.
غير أن القدرة علي صياغة هذا الحل التأليفي الخلاق لايمكن أن تتبلور إلا إذا صدر صانع القرار عن رؤية استراتيجية متكاملة لصورة المجتمع المرغوب, ونحن ـ في مجال الدراسات المستقبلية ـ نفرق بين المجتمع المرغوب, والمجتمع الممكن.
بعبارة أخري قد نرغب في صياغة مستقبل مجتمع ما بصورة معينة, غير أن ذلك قد لايكون ممكنا لعدم توافر الشروط الذاتية والموضوعية للتغيير.
والشروط الذاتية تتعلق أساسا بالنخب السياسية التي ستقوم بالتغيير من ناحية وبالجماهير من ناحية أخري.
والسؤال هنا: هل هذه النخب السياسية التي ستقوم بعملية التغيير جاهزة لهذه المهمة من الناحية المعرفية أولا:ونقصد معرفة ما جري من تحولات في العالم, ومن الناحية السياسية ونعني توافر إرادة التغيير من ناحية والقدرة علي القيام به من ناحية أخري, وأهمية استعداد الجماهير للتغير بما في ذلك التخلي عن عديد من القيم السلبية المعوقة, وتبلور الإرادة الجماعية للاحتشاد وراء مشروع قومي قابل للتنفيذ وليس مجرد يوتوبيا نظرية.
غير أن العوامل الموضوعية لاتقل أهمية عن الشروط الموضوعية, ونعني بذلك حالة أدوات الإنتاج السائدة في المجتمع وامكانية تحديثها وتطويرها وشكل علاقات الإنتاج, والحاجة إلي إعادة صياغتها بما يتفق مع الرؤية الإنتاجية المطلوبة.
بعبارة موجزة.. نحن في مجال التخطيط المستقبلي لأي مجتمع نحتاج إلي التأويل الصحيح للماضي والفهم العميق للحاضر, والرؤية الاستراتيجية للمستقبل.

تحديات النهضة الثقافية العربية بقلم: السيد يسين

                                                                    18/02/2010

تشهد سجلات الفكر العربي المعاصر علي أن المثقفين العرب لم يتوانوا عن ممارسة النقد الثقافي الشامل لسلبيات المجتمع العربي‏.‏ فعلوا ذلك كمثقفين أفراد‏,‏ نشر بعضهم من أصحاب القامات الفكرية العالية كتبا بالغة الأهمية أثرت علي وعي المثقفين في المشرق والمغرب والخليج‏.‏
وبعض هؤلاء المثقفين كانوا أصحاب مشاريع فكرية متكاملة, تمثلت في سلسلة من الكتب المترابطة التي انطلقت من صياغة مشكلة بحثية رئيسية, تفرعت عنها مشكلات فرعية متعددة.
ولعل أبرز أصحاب هذه المشروعات الفكرية المتكاملة هم الدكتور محمد عابد الجابري في سلسلة كتبه المهمة عن العقل العربي, والدكتور محمد أركون الذي قدم قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي معتمدا في ذلك علي المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, والدكتور حسن حنفي في كتاب' التراث والتجديد' وما تبعه من كتب متعددة أخري, والدكتور الطيب تزيني في كتاب' من التراث إلي الثورة', وما تبعه من كتب أخري.
وقد اختلفت المناهج التي طبقها أصحاب هذه المشروعات الفكرية الكبري, وإن كانوا جميعا علي دراية وثيقة بالمناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, مثل الدراسات الفينومولوجية والأنثروبولوجية, وتحليل الخطاب, والمدرسة الماركسية الحديثة.
ومن هنا يمكن القول أنه إذا أردنا أن نتتبع الجهد الفكري والنقدي لأجيال المثقفين العرب, فلابد أن نقف عند عدد منهم ركزوا تركيزا خاصا علي الخصائص الحاكمة للمجتمع العربي.
ومن أبرز المحاولات في هذا الاتجاه رؤية محمد أركون للمجتمع العربي باعتباره نصا جامدا لابد من تفكيكه, وهو عند محمد عابد الجابري بمثابة عقل متهافت, وأخيرا هو عند المفكر هشام شرابي بنية اجتماعية قمعية.
ويحدد' أركون' هدفه الأساسي من مشروعه وهو التوصل إلي معرفة أفضل لوظائف العامل العقلاني والعامل الخيالي( الذي يطلق عليه المخيال), ودرجات انبثاقهما وتداخلهما وصراعهما في مختلف مجالات نشاط الفكر التي سادت المناخ الإسلامي.
وفي رأيه أن أحد أسباب الأزمة العميقة في المجتمع العربي هو سيطرة الفهم الأسطوري للدين, والذي كان من شانه أن يخفي الجوانب العقلية فيه. ويري أنه بدون الكشف عن جذور هذا الفهم الأسطوري وتعريفه وإظهار حقيقة المعارك السياسية والاجتماعية التي دارت باسم فهم خاص للنص الإسلامي كغطاء ديني, لا يمكن للمجتمع العربي أن يتقدم.
أما' محمد عابد الجابري' فهو ينظر للمجتمع العربي باعتباره عقلا متهافتا يحتاج إلي تحديث, لأنه عقل ساكن هيمن الجمود علي جنباته, وهو يحتاج إلي نقد جذري يكشف عن الأنظمة المعرفية الأساسية التي يقوم عليها. وهذه الأنظمة ثلاثة, وهي' النظام المعرفي البياني' الذي يؤسس الموروث العربي الإسلامي الخالص( اللغة والدين كنصوص), و'النظام المعرفي العرفاني' الذي يؤسس قطاع اللامعقول في الثقافة العربية الإسلامية( طريق الإلهام والكشف). وأخيرا' النظام المعرفي البرهاني' الذي يؤسس الفلسفة والعلوم العقلية( الأرسطية خاصة), والبرهان في العربية هو الحجة الفاصلة البينة.
والجابري يرد أزمة المجتمع العربي إلي تفكك هذه النظم الثلاثة واختلاط مفاهيمها وتداخلها. وهذا التداخل يسميه التداخل التلفيقي. الذي أدي إلي تهافت التفكير العربي. ونصل أخيرا إلي' هشام شرابي' الذي وجد مفتاح أزمة المجتمع العربي المعاصر في مفهوم المجتمع البطريركي أو الأبوي, والذي أدي إلي تغير اجتماعي مشوه.
والمجتمع العربي الأبوي عنده هو المجتمع العربي التقليدي الذي تأثر بالحداثة الأوروبية, وهو عنده يشمل الأبنيةالاجتماعية الكلية( المجتمع والدولة والاقتصاد) كما يشمل الأبنية الاجتماعية الجزئية( العائلة أو الشخصية الفردية), والمجتمع العربي التقليدي الحديث يعد ـ في نظره ـ ناتجا من نواتج هيمنة أوروبا الحديثة, لأن عملية التحديث وفقا لمعطيات المجتمع الأبوي لا يمكنها إلا أن تكون مبنية علي التبعية, وعلاقات التبعية تؤدي حتما لا إلي الحداثة, بل إلي مجتمع أبوي' ملقح بالحداثة', بحيث إن عملية التحديث تصبح نوعا من الحداثة المعكوسة! وفي رأي' شرابي' أن النظم السياسية العربية القائمة تحتكر الكلام باعتباره شرطا للاستقرار والاستمرار. ومن هنا الدور الذي يقوم به ما يسميه الكلام اللاحواري( المونولوج). وفي جميع أشكال الخطاب البطريركي الحديث يظهر نمط الخطاب اللاحواري في ميل أصحابه إلي استثناء المتكلمين الآخرين أو تجاهلهم!
غير أنه يلفت نظرنا إلي أن النمط اللاحواري موجود في صلب الخطاب ذاته, بمعني أنه ليس ناجما عن القوة أو السلطة وحدها, بل أيضا عن اللغة ذاتها, لأنها تشجع البلاغة علي حساب الحوار.
وخطورة الخطاب اللاحواري حين يسود المجتمع تبدو فيما يتعلق بنظرية المعرفة, وذلك فيما يتعلق بطريقة إثبات الحقيقة أو تقدير صحة الوقائع. وبناء علي ذلك لا يظهر في الكلام أو الكتابة علي النمط اللاحواري أي شك أو تردد. فالحقيقة التي تؤكد في الخطاب اللاحواري هي الحقيقة المطلقة, المرتكزة أولا وأخيرا علي الوحي أو علي الخيال الاجتماعي. وسيادة هذا الخطاب في المجتمع يعني في الواقع نفيا لخطاب الآخر. وذلك لأن الحوار علي العكس يعني أنه ليس هناك خطاب نهائي, علي أساس أن حرية التساؤل وحدها هي التي تؤدي إلي المعرفة الحقة. فالحقيقة ليست من فعل السلطة, بل هي نتيجة بحث ونقد واتفاق في الرأي والنظر.
في ضوء هذه المداخل الثلاثة لتشخيص أزمة المجتمع العربي المعاصر, يمكن القول أنه بالرغم من اختلاف الزوايا التي نظر منها كل مفكر من المفكرين الثلاثة للأزمة, فإنها جميعا يمكن اعتبارها تشخيصا متكاملا.
وعلي ذلك يمكن أن نطرح سؤالا أساسيا: هل يمكن إحياء المجتمع العربي المعاصر عن طريق المواجهة المباشرة مع كل السلبيات التي أبرزها هؤلاء المفكرون؟
فلننظر إلي التشخيص الأول حيث ركز' محمد أركون' علي هيمنة النص الديني علي مختلف جنبات المجتمع العربي, وامتدت سطوته إلي كل الميادين في السياسة والاقتصاد والثقافة. ولنحاول أن ندرس واقع المجتمع العربي المعاصر في العقود الثلاثة الأخيرة, سنجد سيطرة لتفسيرات محافظة ورجعية تخلط التفسير العقلاني بتفسيرات تعكس فكرا أسطوريا وخرافيا لا علاقة له إطلاقا بالتأويل الصحيح للقرآن الكريم أو السنة النبوية.
وقد صدق' محمد أركون' حين أكد أن تفكيك هذه النصوص بتفسيراتها الرجعية نقطة بداية لإحياء المجتمع العربي المعاصر. فقد شهدنا زيادة معدلات الفتاوي الدينية التي تقوم علي تحريم عديد من الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية, وتأسيس قنوات فضائية دينية يقوم خطابها الديني علي أساس تفسيرات أسطورية وخرافية, مما أسهم في صياغة عقل جمعي جماهيري يتسم باللاعقلانية, ويفتقر إلي معرفة مبادئ التفكير العلمي.
ومن ناحية أخري تبدو أهمية الكشف الذي توصل إليه' محمد عابد الجابري' في التمييز بين النظام المعرفي البياني والعرفاني والبرهاني. وذلك لأن الخطاب العربي المعاصر لو درسناه بطريقة نقدية, لاكتشفنا أن البلاغة فيه تجور علي استخدام المنطق وصياغة الحجج العقلانية المقنعة, كما أنه في حالات أخري تختلط فيه أوهام الإلهام والكشف بالصياغات البلاغية الفارغة من المضمون, مع بعض الحجج التي لا تستند إلي أساس منطقي متماسك.
وإذا تأملنا أخيرا في تشخيص' هشام شرابي' للمجتمع الأبوي العربي المعاصر حيث تتحكم السلطة في صياغة الخطاب الصادر عنها, والذي يتسم أساسا بأنه خطاب لا حواري, بمعني أن السلطة تزعم فيه أنها تمتلك الحقيقة المطلقة, وتنزع في نفس الوقت إلي رفض الاستماع إلي خطاب الآخر وإقصائه من الساحة تماما, لأدركنا عمق الأزمة الديمقراطية التي يمر بها المجتمع العربي المعاصر.
كيف يمكن لنا أن نتجاوز سلبيات المجتمع العربي المعاصر؟
هناك أولا حاجة لخطاب ديني جديد كما حاول أن يفعل حسن حنفي في كتبه المتعددة يركز بصورة عقلانية علي المتن الرئيسي, ونقصد المقاصد العليا للدين, ويستدرج إلي مناقشة الهوامش التي تستند إلي تفسيرات غير عقلية للنصوص الدينية, بغرض تقييد الحركة الاجتماعية للمواطنين في الملبس والمأكل والحديث, بل في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ونحن من ناحية أخري في حاجة ملحة إلي تنقية الخطاب العربي المعاصر من البلاغيات الفارغة من المعني, من ناحية, ومن التهويمات الصوفية من ناحية أخري, والتركيز الشديد علي النظام البرهاني الذي يقوم علي نظرية المعرفة المعاصرة التي استطاعت أن تفصل فصلا تاما بين العقل والأسطورة, واعتمدت في ذلك أساسا علي المنهج العلمي من ناحية, وعلي المشاهدات الميدانية التي تسجلها العلوم الاجتماعية المختلفة, والتي تقوم علي الثبات والصدق.
غير أن المطلب الثالث وهو تنقية المجتمع الأبوي العربي من كل مظاهر' الأبوية' سواء في ذلك سلطة الرؤساء السياسيين أو شيوخ القبائل أو أرباب الأسر فتبدو حقا مهمة بالغة الصعوبة!
فالنخب السياسية العربية الحاكمة بغض النظر عن النظم السياسية التي تحكم باسمها ملكية كانت أو جمهورية, مازالت مصرة علي خطابها اللاحواري الذي ينفي الآخر. وهذه الحقيقة تترجم في المجال السياسي باحتكار السلطة والممانعة في مجال مشاركة الجماهير في اتخاذ القرار. كما أن السلطات الاجتماعية التقليدية ـ بالرغم من التغيرات الكبري التي لحقت ببنية المجتمع العالمي- مازالت متشبثة بالحفاظ علي نفوذها التقليدي.
ومع كل هذه الصعوبات في مجال إحياء المجتمع العربي المعاصر هناك مؤشرات علي أن الديمقراطية ستشق طريقها في تربة المجتمع العربي المعاصر, بعد أن أصبحت في عصر العولمة شعارا عالميا, كما أن نجم العقلانية لابد أن يسطع بالرغم من شيوع سحابات الفكر الخرافي, فذلك أصبح الشرط الأساسي لنهضة الأمم ورقي الشعوب.
 

المثقفون العرب في عصر العولمة‏!‏ بقلم: السيد يسين



هناك أدوار متعددة لعبها المثقفون العرب منذ بداية النهضة العربية الحديثة حتي الآن‏.‏ وأبرز هذه الأدوار تشخيص تخلف المجتمع العربي من الجوانب السياسية والاقتصادية والسياسية‏,‏ واستنهاض همم الشعوب العربية عن طريق تطوير التعليم‏,‏ وإنشاء الصحف‏,‏ ورفع معدلات الوعي الجماهيري بأهمية السير في طريق النهضة الشاملة‏.‏
وفي دور آخر ومهم من أدوارهم ارتحل عدد من أبرز المثقفين العرب إلي أوروبا وعادوا وألفوا كتبا هامة عن مشاهداتهم الميدانية, وعن تحليلهم لقيم الحضارة الغربية ومحاولاتهم لزرع بعضها في البيئة العربية.
ولم يتخل المثقفون العرب في البلاد العربية المستعمرة عن خوض النضال الوطني, وتعبئة الجماهير وحشدها ضد الاستعمار والاحتلال.
وحين حانت لحظة الاستقلال الوطني في الخمسينيات, اندفع المثقفون العرب للمشاركة في حكم بلادهم سواء عن طريق الاصلاح أو بانتهاج أسلوب الانقلاب أو الثورة, وشارك كثير من مثقفي العرب ممن لم يدخلوا في إطارات السلطة الحاكمة في الجهد العلمي والفكري, لرسم ملامح التنمية المستدامة والنهضة الشاملة للمجتمع العربي.
غير أن المثقفين العرب واجهوا في مسيرتهم الطويلة تحديات متعددة حاولوا مجابهتها بطرق شتي وباجتهادات متنوعة.
ولعل التحدي الأول تمثل في النزوع إلي اعتبار التخلف بكل أبعاده مرده إلي الاستعمار الأجنبي, مما أدي إلي تجاهل الأسباب الكامنة في صميم المجتمع العربي, والتي أدت إلي بلورة ظاهرة التخلف.
ولعل أهم هذه الأسباب هو استمرار ميراث الاستبداد الذي عرفته الدولة الإسلامية عبر قرون متعددة في الدول التي نالت استقلالها والتي تحول بعضها ـ بالرغم من الماضي شبه الليبرالي الذي عرفته ـ إلي دول شمولية أو سلطوية.
كذلك لايمكن تجاهل ارتفاع معدلات الأمية, مما أدي إلي انخفاض الوعي الاجتماعي لدي الجماهير العريضة, بالإضافة إلي تخلف نظم التعليم, واعتمادها علي التلقين أساسا وليس علي تربية العقل النقدي.
وإذا أضفنا إلي ذلك تخلف البني الاقتصادية, لأدركنا أن إلقاء مسئولية التخلف علي عاتق الاستعمار الأجنبي, فيه محاولة للهروب من تحديد الأسباب الداخلية للتخلف.
ولايمكن من ناحية أخري القول أن الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية الصعبة التي أحاطت بالمثقفين العرب حدت من قدرتهم علي العطاء, وذلك لأن التحديات يمكن أن تخلق استجابات إبداعية.
ومطالعة السجل التاريخي للأدوار المهمة التي لعبها المثقفون في المجتمعات الأوروبية منذ بداية النهضة وبزوغ عصر التنوير, وكذلك في المجتمعات الآسيوية كاليابان والصين, تشهد علي أن الصعوبات والعقبات قد تكون في ذاتها حافزا لإبداع المثقفين في مجال مواجهة مشكلات مجتمعهم, والمثقفون في مسعاهم الاجتماعي لايحتاجون فقط إلي معرفة دقيقة بتاريخ بلادهم وتاريخ العالم, ولابسمات الشخصية القومية السائدة, ولا بالسمات الأساسية للأنساق السياسية والاجتماعية لمجتمعهم, ولكنهم ـ بالإضافة إلي ذلك ـ هم في حاجة إلي تبني نسق متكامل من القيم, أبرزها الانتماء إلي الوطن, وتبني فكرة القومية العربية, وقبل ذلك كله قيمة الالتزام. فالمثقف الملتزم هو الذي يمكن أن يناضل بشكل منهجي ضد كل علامات التخلف, وهو الذي يجيد التعبير عن المصالح الاساسية للجماهير وأهم هذه المهام قاطبة هو القدرة علي قراءة التحولات الأساسية في بنية النظام العالمي. وأبرز هذه التحولات قاطبة هي الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي الذي كان يقوم علي مؤسسة السوق, إلي نموذج حضاري جديد هو مجتمع المعلومات العالمي, الذي يدور حول فضاء عام جديد تماما في تاريخ الإنسانية, هو مايطلق عليه الفضاء المعلوماتيCyberSpace.
بعبارة موجزة نحن نعيش في عصر العولمة بكل تجلياتها. والعولمة عملية تاريخية هي نتاج تراكمات شتي في المجتمع العالمي, أبرزها علي الإطلاق الثورة العلمية والتكنولوجية, التي جعلت العلم مصدرا أساسيا من مصادر الإنتاج, والثورة الاتصالية الكبري, والتي تتمثل في البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت.
ويمكن لنا ـ بالرغم من الاختلافات الجسيمة حول تعريف العولمة وببيان ماهيتها الحقيقية ـ تعريفها إجرائيا بأنها سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر من مكان إلي مكان آخر في العالم بغير حدود ولاقيود.
وهكذا إذن أصبحنا في عصر العولمة نعيش في الزمن الواقعيRealTime, بمعني أصبح سكان الكوكب جميعا قادرين علي متابعة الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية لحظة وقوعها, مما خلق نوعا من أنواع الوعي الكوني, والذي هو ضرب جديد من ضروب الوعي, سيؤدي ـ علي المدي الطويل ـ إلي تخليق ثقافة كونية.
وإذا كان المثقفون العرب قد دخلوا في معارك إيديولوجية شتي دارت حول العولمة, حيث رفضها البعض منهم رفضا مطلقا باعتبارها صورة من صور الاستعمار الجديد, وقبلها آخرون باعتبارها مفتاح التقدم الاقتصادي, فإن المهمة الملقاة علي عاتقهم اليوم بعد أن هدأت عواصف الجدل النظري, هو كيف يمكن لهم أن يوجهوا مجتمعاتهم للتفاعل الخلاق مع العولمة, بهدف تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب وفق رؤية استراتيجية بصيرة.
ومما لاشك فيه أن العالم اليوم في عصر العولمة وبحكم تدفق المعلومات والأفكار والصور, قضي علي انعزال بعض المجتمعات وبعدها عن التفاعل العالمي الخلاق. ومن هنا بات يقع علي عاتق المثقفين العرب بعد أن انتهت المعركة الإيديولوجية الكبري بين صراع الحضارات وحوار الثقافات, تهيئة المجتمعات العربية للتفاعل مع الآخر من منظور الندية المعرفية وبدون تهويل أو تهوين.
لقد شهدت الممارسات الفكرية في العقود الماضية لعدد من المفكرين العرب النظر إلي الآخر الغربي, وكأنه يمثل قمة التقدم والرقي, ولذلك دعوا إلي احتذاء النموذج الحضاري الغربي بالكامل سياسة واقتصادا وثقافة. وهم في هذا الاتجاه تجاهلوا الدراسة النقدية لمنطلقات وممارسات الحضارة الغربية, والتي تحفل بعديد من السلبيات, بالإضافة إلي إيجابياتها المشهودة.
وهناك فريق آخر من المثقفين العرب هونوا بشدة من مكانة الحضارة الغربية بل إن بعضهم من ذوي الاتجاه الإسلامي المتشدد نعتوها بأنها حضارة ملحدة وكافرة وينبغي الحذر من تطبيقها, وفي قول آخر ينبغي شن الحرب عليها بلا هوادة!
كلا الموقفين يجافي النظرة الموضوعية للحضارة الغربية من ناحية, ويتجاهل النقد الذاتي للحضارة العربية الإسلامية من ناحية أخري.
كيف نقيم التوازن بين النقد الذاتي المطلوب وبين نقد الآخر؟ هذه هي المهمة الأساسية للمثقفين العرب في عصر العولمة, حيث تقاربت المسافات وانضبط الزمن!
غير أن القيام بهذه المهمة ليس سهلا علي الإطلاق, لأن لدينا المشكلة المزمنة في المجتمع العربي المعاصر وهي علاقة المثقفين العرب بالسلطة.
وهذه العلاقة بالغة التعقيد من ناحية, وتختلف اختلافات متعددة من بلد عربي إلي بلد آخر.
ولاشك أن قمع المثقفين النقديين ممارسة معروفة في كل البلاد العربية تقريبا. غير أننا ونحن في عصر العولمة حدثت تحولات أساسية في مجال العلاقة بين السلطة والمثقفين.
وذلك لأن تجليات العولمة السياسية يمكن تحديدها في شعارات ثلاثة هي الديمقراطية واحترام التعددية واحترام حقوق الإنسان.
وهكذا أصبحت الديمقراطية مطلبا عالميا, وأصبحت عديد من النظم العربية تحت ضغوط السياسيين والمثقفين العرب في الداخل, والضغوط الخارجية مطالبة بالتحول من الشمولية والسلطوية إلي الليبرالية.
وهذه هي العملية التي أصبح يشار إليها اليوم باسم الإصلاح السياسي.
وهذا الإصلاح في الواقع ـ إن شئنا أن نكون واقعيين ـ ليست مهمة النظم السياسية الحاكمة فحسب, بل هي مهمة المجتمع العربي بكل,مؤسساته. وفي مقدمة ذلك الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وروابط المثقفين واتحادات الكتاب. بل إن الجماهير العريضة نفسها مدعوة لكي تغير من قيمها وسلوكها لتكون أكثر أيجابية, وأكثر قدرة علي المشاركة في صنع القرار.
ولاشك أن شبكة الإنترنت ساعدت علي خلق فضاء عام جديد ظهر فيه فاعلون سياسيون لاسابقة لهم هم المدونون, الذين ينشرون علي الشبكة مدوناتهم الزاخرة بالنقد السياسي العنيف أحيانا والموجه ضد النظم السياسية الحاكمة وبعيدا عن رقابتها, لأنها في الواقع تسبح حرة طليقة في الفضاء المعلوماتي!
آن للمثقفين العرب أن يجددوا أساليبهم في مجال النضال الديمقراطي والتنمية الثقافية.

هل هناك أزمة ثقافية عربية؟ بقلم: السيد يسين



مما لاشك فيه ان غياب العقل النقدي العربي‏,‏ الذي اهتممنا بموضوع تكوينه وأسسه‏,‏ يعد احد مظاهر الازمة الثقافية العربية‏,‏ لأن غياب هذا العقل أدي إلي سلبيات متعددة سواء في الممارسة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية‏.‏
وقد يكون من العلامات الايجابية ان النخبة الفكرية والسياسية ادركت خطورة هذه الازمة, وضرورة مواجهتها بسياسات ثقافية متكاملة.
وأريد بهذا الصدد ان اقدم إطارا نظريا لدراسة الظواهر الثقافية بشكل عام, من شأنه ان يبرز الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر عليها بالايجاب أو بالسلب.
والواقع ان هناك منهجيات متعددة يزخر بها الآن ميدان التحليل الثقافي, ولكننا آثرنا ان نتبني منهجية خاصة بالازمة الثقافية لانها هي التي تصلح لتطبيقها علي الوضع الراهن للثقافة العربية, وهذه المنهجية سبق ان اقترحها وطبقها عالم الاجتماع الالماني هانز بيتر درايتزل في دراسة له بعنوان في معني الثقافة نشرت عام1977 في كتاب جماعي حرره نورمان بيرنبوم بعنوان اجتياز الازمة.
في الإطار النظري المقترح مبدأ نظري مهم, ينطلق منه اي باحث نقدي في علم الاجتماع, وهو ضرورة تحليل العلاقات بين الثقافة وبناء القوة في المجتمع,POWERSTRUCTURE ومن ناحية اخري يحدد الإطار الوظائف المحددة للثقافة في أي مجتمع, والتي تهدف اساسا للحفاظ علي أنماط الانتاج السائدة وعلي عملية اعادة الانتاج, وفي هذا الصدد هناك وظائف يمكن التمييز بينها: الوظيفة الأولي: تتمثل في ان ثقافة مجتمع ما تمد اعضاءه بتبريرات لشرعية نمط الانتاج السائدة ونمط التوزيع. الوظيفة الثانية للثقافة: انها تمد الفرد ـ من خلال إجراءات وطقوس التنشئة الاجتماعية المقبولة ـ ببنية دافعية تربط بين هويته والنمط السائد للانتاج.
الوظيفة الثالثة للثقافة: انها تمد اعضاء المجتمع بتفسيرات رمزية للحدود الطبيعية للحياة الانسانية.
والفكرة الرئيسية التي ننطلق منها في بحثنا هي ان المجتمع العربي قد وصل إلي نقطة, ثبت منها ان النسق الثقافي عاجز عن القيام بهذه الوظائف, ومن هنا تأكيدنا اننا نواجه في الوقت الراهن أزمة ثقافية عربية.
تحليل الأزمة اذن هو المدخل الذي يقترحه درايتزل للتحليل الثقافي, ولذلك نراه يتعمق في مختلف جوانب الازمة, فيتحدث عن ثلاث ازمات: أزمة الشرعية وازمة الهوية, وأزمة العقلانية العملية, غير ان بعض علماء التحليل الثقافي يرون ان التركيز علي مدخل الازمة فقط, فيه قصور نظري واضح, لانه لايستوفي شروط النظرية النقدية.
فالنظرية النقدية ـ عند بريان فاي في كتابه المهم العلم الاجتماعي النقدي تهدف إلي تفسير النظام الاجتماعي بطريقة تصبح هي ذاتها الفاعل الذي يؤدي إلي تغييره, وبالتالي اي نظرية نقدية ـ لكي تستحق هذا الوصف ـ لابد ان تتضمن سلسلة مترابطة من النظريات الرئيسية والفرعية, والتي لاتقنع بوصف الازمة أو تحليلها, وانما ترتقي لمستوي رسم سبل تغيير النظام الاجتماعي من خلال تعليم الجماهير, وتحديد سبل ومسارات الافعال القادرة علي الخروج من الازمة, والانتقال بالمجتمع إلي حالة مغايرة, فالهدف الاسمي من النظرية النقدية هو التحررEMANCIPATION وهذا التحرر لن يتم سوي عبر سلسلة طويلة, أولي حلقاتها هي التنوير من خلال القضاء علي الوعي الزائف وثاني حلقاتها هي تدعيم قوي الجماهير, وفي ضوء هذه المسلمات جميعا يضع بريان فاي التخطيط التالي للنموذج الكامل للنظرية النقدية, والذي يتضمن اربع نظريات رئيسية:
1 ـ نظرية عن الوعي الزائف: تذهب هذه النظرية إلي ان طرق فهم الذات بواسطة مجموعة من الناس هي زائفة بمعني عدم قدرتها علي ان تضع في الاعتبار خبرات الحياة لاعضاء الجماعة أو لكونها غير متسقة لانها متناقضة داخليا أو للسببين معا, وهذا التحليل يشار إليه احيانا بالنقد الايديولوجي.
تشرح النظرية كيف اكتسب اعضاء الجماعة هذه الافهام السائدة, وكيفية استمرارها.
معارضة هذه الافهام بفهم مغاير للذات, واثبات ان هذا الفهم أرقي من الفهم السائد.
2 ـ نظرية عن الازمة تحديد ماهية الازمة الاجتماعية, وتثبت كيف ان مجتمعا ما واقع في مثل هذه الازمة.
وهذا قد يقتضي دراسة ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وانه لايمكن القضاء عليها, اذا ما استمر تنظيم المجتمع علي ماهو عليه, وكذلك افهام الناس السائدة, وتقدم عرضا تاريخيا لنمو هذه الازمة في ضوء سيادة الوعي الزائف, وبالنظر إلي الاسس البنيوية للمجتمع.
3 ـ نظرية عن التعليم: تقدم عرضا للشروط الضرورية والكافية لتحقيق التنوير الذي تهدف إليه النظرية, وتبرز كيف انه بالنظر إلي الموقف الاجتماعي الراهن, فان هذه الشروط تعد مستوفاة.
4 ـ نظرية عن فعل التغيير, تعزل هذه الجوانب من المجتمع, التي ينبغي تغييرها, اذا ما أريد حل الازمة الاجتماعية, والقضاء علي ضروب عدم الرضاء لأعضاء الجماعة, وتقدم خطة للفعل, يحدد فيها من هم الفاعلون الذين سيتحملون مسئولية التغيير الاجتماعي المأمول, وعلي الأقل فكرة عامة عن الطريقة التي سيعملون بها.
وفي تقديرنا ان النموذج النظري الذي يقدمه بريان فاي يتسم بالشمول والترابط العضوي بين مختلف نظرياته, واهم من ذلك انه يؤكد المسئولية السياسية للعالم الاجتماعي, والذي ينبغي ان يكون ناقدا اجتماعيا حتي يستحق هذا الوصف, وهو بهذه الصفة لايقنع بوصف الظواهر الاجتماعية وتفسيرها, وانما يركز في نفس الوقت علي دور المثقف باعتباره مثقفا عضويا اذا استخدمنا مصطلح جرامشي المعروف في تنوير الجماهير من خلال خطابه الذي لابد له ان يكون قادرا علي الوصول إليها, ليس ذلك فقط, بل عليه ان يقترح سبل العمل للتغيير.
وبناء علي ذلك حين ندعو لنظام ثقافي عربي جديد, فهذه الدعوة في حد ذاتها, لاقيمة لها, ان لم تحدد من هم الفاعلون الاجتماعيون الذين سيتولون مهمة صياغة هذا النظام الجديد, وأبعد من ذلك اهمية اقتراح وتحديد استراتيجيات العمل للتغيير الاجتماعي, لصالح الجماهير العريضة. ولو تأملنا النظريات المتعددة التي حددها بريان فاي لمواجهة الازمة الثقافية للمجتمع, لوجدنا انه تقف في صدارتها نظرية عن الوعي الزائف.
وترد أهمية هذا الموضوع إلي انه من المسلمات ان اجهزة الدولة الايديولوجية, ونعني مؤسسات التعليم والاعلام تؤدي دورا مهما في نشر الوعي الزائف لدي الجماهير بشرعية النظام السياسي القائم ايا كانت طبيعته, والزعم بأنه يعمل لصالح الجماهير العريضة.
والمهمة التي ينبغي ان يتصدي لها المثقفون النقديون في المجتمع هو تبديد هذا الوعي الزائف, وتنوير الناس وامدادهم بالوعي الحقيقي الذي يشرح لهم بناء القوة في المجتمع, وكيفية العمل لتغييره باتباع الوسائل السلمية, وعبر نضال لابد ان يطول بحكم تشبث مراكز القوي بأوضاعها. غير ان ذلك يقتضي في المقام الأول إبراز ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وردها إلي اسبابها الموضوعية, وسواء تعلق ذلك باحتكار عملية صنع القرار السياسي بواسطة قلة من النخبة السياسية الحاكمة, أو نتيجة لتطبيق استراتيجيات اقتصادية تهدف في المقام الأول إلي اثراء الطبقات العليا في المجتمع علي حساب جماهير الطبقة الوسطي وجماهير الطبقات الدنيا, مما يؤدي عادة إلي فجوة طبقية واسعة, لها آثار سلبية سواء علي اتجاهات الناس أو علي سلوكهم الاجتماعي.
غير انه اهم من ذلك كله التقدم خطوات اخري تهدف إلي اثبات ان الأوضاع الراهنة لايمكن لها ان تستمر, ان هناك ضرورة لتغييرها, وان هذا التغيير في حد ذاته مسألة ضرورية إن أريد للمجتمع ان يتحرر من قيوده, ويسير في مضمار التقدم.
غير ان تحقيق هذه الاهداف لايمكن ـ في ضوء النظرية التي نعرض لها ـ ان يتم بغير اقناع الناس ان هناك شروطا ضرورية وكافية لتحقيق التنوير الذي تسعي النظرية إلي تحقيقه, وان هذه الشروط مكتملة وجاهزة للتطبيق, ونصل اخيرا إلي فعل التغيير ذاته, ويقتضي ذلك تقديم خطة مفصلة للتغيير تحدد الجوانب الاجتماعية التي ينبغي تغييرها, وأهم من ذلك الاشارة إلي الفاعلين الذين سيتحملون مسئولية التغيير.
ولو نظرنا إلي المشهد الاجتماعي العربي الراهن لاكتشفنا ان هناك حيوية سياسية في كل البلاد العربية بدون استثناء, وأن اصوات المعارضة للأوضاع الراهنة بدأت ترتفع وتعبر عن نفسها بطرق شتي, سواء في إطار الاحزاب السياسية في البلاد التي تسمح بها, أو عن طريق منظمات المجتمع المدني التي نشطت في العقود الأخيرة بصورة ملفتة للنظر في المشرق والمغرب, والخليج, أو من خلال شبكة الانترنت, حيث برزت المدونات العربية التي يمارس فيها مدونون عرب يعدون بالآلاف النقد السياسي العنيف لممارسات النظم السياسية العربية الشمولية والسلطوية, وكذلك النقد الاجتماعي الجذري للممارسات الاجتماعية المحافظة والرجعية.
أمر محمود ان تدرك النخب السياسية العربية الحاكمة أهمية بحث موضوع الثقافة في قمة عربية تعقد في إطار جامعة الدول العربية, ولكن السؤال الأهم هل اعضاء هذه النخب جاهزون للتخلي عن بعض امتيازاتهم الطبقية ونفوذهم السياسي التقليدي, لفتح الطريق امام الجماهير العريضة للمشاركة السياسة في عملية صنع القرار من ناحية, وفي توزيع اكثر عدلا للدخل القومي من ناحية أخري؟
أسئلة استراتيجية لن نجد اجابة عنها إلا اذا عقدت القمة العربية الثقافية المقترحة وتابعنا مناقشاتها وقراراتها النهائية!