18/02/2010
تشهد سجلات الفكر العربي المعاصر علي أن المثقفين العرب لم يتوانوا عن ممارسة النقد الثقافي الشامل لسلبيات المجتمع العربي. فعلوا ذلك كمثقفين أفراد, نشر بعضهم من أصحاب القامات الفكرية العالية كتبا بالغة الأهمية أثرت علي وعي المثقفين في المشرق والمغرب والخليج.
وبعض هؤلاء المثقفين كانوا أصحاب مشاريع فكرية متكاملة, تمثلت في سلسلة من الكتب المترابطة التي انطلقت من صياغة مشكلة بحثية رئيسية, تفرعت عنها مشكلات فرعية متعددة.
ولعل أبرز أصحاب هذه المشروعات الفكرية المتكاملة هم الدكتور محمد عابد الجابري في سلسلة كتبه المهمة عن العقل العربي, والدكتور محمد أركون الذي قدم قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي معتمدا في ذلك علي المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, والدكتور حسن حنفي في كتاب' التراث والتجديد' وما تبعه من كتب متعددة أخري, والدكتور الطيب تزيني في كتاب' من التراث إلي الثورة', وما تبعه من كتب أخري.
وقد اختلفت المناهج التي طبقها أصحاب هذه المشروعات الفكرية الكبري, وإن كانوا جميعا علي دراية وثيقة بالمناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, مثل الدراسات الفينومولوجية والأنثروبولوجية, وتحليل الخطاب, والمدرسة الماركسية الحديثة.
ومن هنا يمكن القول أنه إذا أردنا أن نتتبع الجهد الفكري والنقدي لأجيال المثقفين العرب, فلابد أن نقف عند عدد منهم ركزوا تركيزا خاصا علي الخصائص الحاكمة للمجتمع العربي.
ومن أبرز المحاولات في هذا الاتجاه رؤية محمد أركون للمجتمع العربي باعتباره نصا جامدا لابد من تفكيكه, وهو عند محمد عابد الجابري بمثابة عقل متهافت, وأخيرا هو عند المفكر هشام شرابي بنية اجتماعية قمعية.
ويحدد' أركون' هدفه الأساسي من مشروعه وهو التوصل إلي معرفة أفضل لوظائف العامل العقلاني والعامل الخيالي( الذي يطلق عليه المخيال), ودرجات انبثاقهما وتداخلهما وصراعهما في مختلف مجالات نشاط الفكر التي سادت المناخ الإسلامي.
وفي رأيه أن أحد أسباب الأزمة العميقة في المجتمع العربي هو سيطرة الفهم الأسطوري للدين, والذي كان من شانه أن يخفي الجوانب العقلية فيه. ويري أنه بدون الكشف عن جذور هذا الفهم الأسطوري وتعريفه وإظهار حقيقة المعارك السياسية والاجتماعية التي دارت باسم فهم خاص للنص الإسلامي كغطاء ديني, لا يمكن للمجتمع العربي أن يتقدم.
أما' محمد عابد الجابري' فهو ينظر للمجتمع العربي باعتباره عقلا متهافتا يحتاج إلي تحديث, لأنه عقل ساكن هيمن الجمود علي جنباته, وهو يحتاج إلي نقد جذري يكشف عن الأنظمة المعرفية الأساسية التي يقوم عليها. وهذه الأنظمة ثلاثة, وهي' النظام المعرفي البياني' الذي يؤسس الموروث العربي الإسلامي الخالص( اللغة والدين كنصوص), و'النظام المعرفي العرفاني' الذي يؤسس قطاع اللامعقول في الثقافة العربية الإسلامية( طريق الإلهام والكشف). وأخيرا' النظام المعرفي البرهاني' الذي يؤسس الفلسفة والعلوم العقلية( الأرسطية خاصة), والبرهان في العربية هو الحجة الفاصلة البينة.
والجابري يرد أزمة المجتمع العربي إلي تفكك هذه النظم الثلاثة واختلاط مفاهيمها وتداخلها. وهذا التداخل يسميه التداخل التلفيقي. الذي أدي إلي تهافت التفكير العربي. ونصل أخيرا إلي' هشام شرابي' الذي وجد مفتاح أزمة المجتمع العربي المعاصر في مفهوم المجتمع البطريركي أو الأبوي, والذي أدي إلي تغير اجتماعي مشوه.
والمجتمع العربي الأبوي عنده هو المجتمع العربي التقليدي الذي تأثر بالحداثة الأوروبية, وهو عنده يشمل الأبنيةالاجتماعية الكلية( المجتمع والدولة والاقتصاد) كما يشمل الأبنية الاجتماعية الجزئية( العائلة أو الشخصية الفردية), والمجتمع العربي التقليدي الحديث يعد ـ في نظره ـ ناتجا من نواتج هيمنة أوروبا الحديثة, لأن عملية التحديث وفقا لمعطيات المجتمع الأبوي لا يمكنها إلا أن تكون مبنية علي التبعية, وعلاقات التبعية تؤدي حتما لا إلي الحداثة, بل إلي مجتمع أبوي' ملقح بالحداثة', بحيث إن عملية التحديث تصبح نوعا من الحداثة المعكوسة! وفي رأي' شرابي' أن النظم السياسية العربية القائمة تحتكر الكلام باعتباره شرطا للاستقرار والاستمرار. ومن هنا الدور الذي يقوم به ما يسميه الكلام اللاحواري( المونولوج). وفي جميع أشكال الخطاب البطريركي الحديث يظهر نمط الخطاب اللاحواري في ميل أصحابه إلي استثناء المتكلمين الآخرين أو تجاهلهم!
غير أنه يلفت نظرنا إلي أن النمط اللاحواري موجود في صلب الخطاب ذاته, بمعني أنه ليس ناجما عن القوة أو السلطة وحدها, بل أيضا عن اللغة ذاتها, لأنها تشجع البلاغة علي حساب الحوار.
وخطورة الخطاب اللاحواري حين يسود المجتمع تبدو فيما يتعلق بنظرية المعرفة, وذلك فيما يتعلق بطريقة إثبات الحقيقة أو تقدير صحة الوقائع. وبناء علي ذلك لا يظهر في الكلام أو الكتابة علي النمط اللاحواري أي شك أو تردد. فالحقيقة التي تؤكد في الخطاب اللاحواري هي الحقيقة المطلقة, المرتكزة أولا وأخيرا علي الوحي أو علي الخيال الاجتماعي. وسيادة هذا الخطاب في المجتمع يعني في الواقع نفيا لخطاب الآخر. وذلك لأن الحوار علي العكس يعني أنه ليس هناك خطاب نهائي, علي أساس أن حرية التساؤل وحدها هي التي تؤدي إلي المعرفة الحقة. فالحقيقة ليست من فعل السلطة, بل هي نتيجة بحث ونقد واتفاق في الرأي والنظر.
في ضوء هذه المداخل الثلاثة لتشخيص أزمة المجتمع العربي المعاصر, يمكن القول أنه بالرغم من اختلاف الزوايا التي نظر منها كل مفكر من المفكرين الثلاثة للأزمة, فإنها جميعا يمكن اعتبارها تشخيصا متكاملا.
وعلي ذلك يمكن أن نطرح سؤالا أساسيا: هل يمكن إحياء المجتمع العربي المعاصر عن طريق المواجهة المباشرة مع كل السلبيات التي أبرزها هؤلاء المفكرون؟
فلننظر إلي التشخيص الأول حيث ركز' محمد أركون' علي هيمنة النص الديني علي مختلف جنبات المجتمع العربي, وامتدت سطوته إلي كل الميادين في السياسة والاقتصاد والثقافة. ولنحاول أن ندرس واقع المجتمع العربي المعاصر في العقود الثلاثة الأخيرة, سنجد سيطرة لتفسيرات محافظة ورجعية تخلط التفسير العقلاني بتفسيرات تعكس فكرا أسطوريا وخرافيا لا علاقة له إطلاقا بالتأويل الصحيح للقرآن الكريم أو السنة النبوية.
وقد صدق' محمد أركون' حين أكد أن تفكيك هذه النصوص بتفسيراتها الرجعية نقطة بداية لإحياء المجتمع العربي المعاصر. فقد شهدنا زيادة معدلات الفتاوي الدينية التي تقوم علي تحريم عديد من الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية, وتأسيس قنوات فضائية دينية يقوم خطابها الديني علي أساس تفسيرات أسطورية وخرافية, مما أسهم في صياغة عقل جمعي جماهيري يتسم باللاعقلانية, ويفتقر إلي معرفة مبادئ التفكير العلمي.
ومن ناحية أخري تبدو أهمية الكشف الذي توصل إليه' محمد عابد الجابري' في التمييز بين النظام المعرفي البياني والعرفاني والبرهاني. وذلك لأن الخطاب العربي المعاصر لو درسناه بطريقة نقدية, لاكتشفنا أن البلاغة فيه تجور علي استخدام المنطق وصياغة الحجج العقلانية المقنعة, كما أنه في حالات أخري تختلط فيه أوهام الإلهام والكشف بالصياغات البلاغية الفارغة من المضمون, مع بعض الحجج التي لا تستند إلي أساس منطقي متماسك.
وإذا تأملنا أخيرا في تشخيص' هشام شرابي' للمجتمع الأبوي العربي المعاصر حيث تتحكم السلطة في صياغة الخطاب الصادر عنها, والذي يتسم أساسا بأنه خطاب لا حواري, بمعني أن السلطة تزعم فيه أنها تمتلك الحقيقة المطلقة, وتنزع في نفس الوقت إلي رفض الاستماع إلي خطاب الآخر وإقصائه من الساحة تماما, لأدركنا عمق الأزمة الديمقراطية التي يمر بها المجتمع العربي المعاصر.
كيف يمكن لنا أن نتجاوز سلبيات المجتمع العربي المعاصر؟
هناك أولا حاجة لخطاب ديني جديد كما حاول أن يفعل حسن حنفي في كتبه المتعددة يركز بصورة عقلانية علي المتن الرئيسي, ونقصد المقاصد العليا للدين, ويستدرج إلي مناقشة الهوامش التي تستند إلي تفسيرات غير عقلية للنصوص الدينية, بغرض تقييد الحركة الاجتماعية للمواطنين في الملبس والمأكل والحديث, بل في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ونحن من ناحية أخري في حاجة ملحة إلي تنقية الخطاب العربي المعاصر من البلاغيات الفارغة من المعني, من ناحية, ومن التهويمات الصوفية من ناحية أخري, والتركيز الشديد علي النظام البرهاني الذي يقوم علي نظرية المعرفة المعاصرة التي استطاعت أن تفصل فصلا تاما بين العقل والأسطورة, واعتمدت في ذلك أساسا علي المنهج العلمي من ناحية, وعلي المشاهدات الميدانية التي تسجلها العلوم الاجتماعية المختلفة, والتي تقوم علي الثبات والصدق.
غير أن المطلب الثالث وهو تنقية المجتمع الأبوي العربي من كل مظاهر' الأبوية' سواء في ذلك سلطة الرؤساء السياسيين أو شيوخ القبائل أو أرباب الأسر فتبدو حقا مهمة بالغة الصعوبة!
فالنخب السياسية العربية الحاكمة بغض النظر عن النظم السياسية التي تحكم باسمها ملكية كانت أو جمهورية, مازالت مصرة علي خطابها اللاحواري الذي ينفي الآخر. وهذه الحقيقة تترجم في المجال السياسي باحتكار السلطة والممانعة في مجال مشاركة الجماهير في اتخاذ القرار. كما أن السلطات الاجتماعية التقليدية ـ بالرغم من التغيرات الكبري التي لحقت ببنية المجتمع العالمي- مازالت متشبثة بالحفاظ علي نفوذها التقليدي.
ومع كل هذه الصعوبات في مجال إحياء المجتمع العربي المعاصر هناك مؤشرات علي أن الديمقراطية ستشق طريقها في تربة المجتمع العربي المعاصر, بعد أن أصبحت في عصر العولمة شعارا عالميا, كما أن نجم العقلانية لابد أن يسطع بالرغم من شيوع سحابات الفكر الخرافي, فذلك أصبح الشرط الأساسي لنهضة الأمم ورقي الشعوب.
ولعل أبرز أصحاب هذه المشروعات الفكرية المتكاملة هم الدكتور محمد عابد الجابري في سلسلة كتبه المهمة عن العقل العربي, والدكتور محمد أركون الذي قدم قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي معتمدا في ذلك علي المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, والدكتور حسن حنفي في كتاب' التراث والتجديد' وما تبعه من كتب متعددة أخري, والدكتور الطيب تزيني في كتاب' من التراث إلي الثورة', وما تبعه من كتب أخري.
وقد اختلفت المناهج التي طبقها أصحاب هذه المشروعات الفكرية الكبري, وإن كانوا جميعا علي دراية وثيقة بالمناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية, مثل الدراسات الفينومولوجية والأنثروبولوجية, وتحليل الخطاب, والمدرسة الماركسية الحديثة.
ومن هنا يمكن القول أنه إذا أردنا أن نتتبع الجهد الفكري والنقدي لأجيال المثقفين العرب, فلابد أن نقف عند عدد منهم ركزوا تركيزا خاصا علي الخصائص الحاكمة للمجتمع العربي.
ومن أبرز المحاولات في هذا الاتجاه رؤية محمد أركون للمجتمع العربي باعتباره نصا جامدا لابد من تفكيكه, وهو عند محمد عابد الجابري بمثابة عقل متهافت, وأخيرا هو عند المفكر هشام شرابي بنية اجتماعية قمعية.
ويحدد' أركون' هدفه الأساسي من مشروعه وهو التوصل إلي معرفة أفضل لوظائف العامل العقلاني والعامل الخيالي( الذي يطلق عليه المخيال), ودرجات انبثاقهما وتداخلهما وصراعهما في مختلف مجالات نشاط الفكر التي سادت المناخ الإسلامي.
وفي رأيه أن أحد أسباب الأزمة العميقة في المجتمع العربي هو سيطرة الفهم الأسطوري للدين, والذي كان من شانه أن يخفي الجوانب العقلية فيه. ويري أنه بدون الكشف عن جذور هذا الفهم الأسطوري وتعريفه وإظهار حقيقة المعارك السياسية والاجتماعية التي دارت باسم فهم خاص للنص الإسلامي كغطاء ديني, لا يمكن للمجتمع العربي أن يتقدم.
أما' محمد عابد الجابري' فهو ينظر للمجتمع العربي باعتباره عقلا متهافتا يحتاج إلي تحديث, لأنه عقل ساكن هيمن الجمود علي جنباته, وهو يحتاج إلي نقد جذري يكشف عن الأنظمة المعرفية الأساسية التي يقوم عليها. وهذه الأنظمة ثلاثة, وهي' النظام المعرفي البياني' الذي يؤسس الموروث العربي الإسلامي الخالص( اللغة والدين كنصوص), و'النظام المعرفي العرفاني' الذي يؤسس قطاع اللامعقول في الثقافة العربية الإسلامية( طريق الإلهام والكشف). وأخيرا' النظام المعرفي البرهاني' الذي يؤسس الفلسفة والعلوم العقلية( الأرسطية خاصة), والبرهان في العربية هو الحجة الفاصلة البينة.
والجابري يرد أزمة المجتمع العربي إلي تفكك هذه النظم الثلاثة واختلاط مفاهيمها وتداخلها. وهذا التداخل يسميه التداخل التلفيقي. الذي أدي إلي تهافت التفكير العربي. ونصل أخيرا إلي' هشام شرابي' الذي وجد مفتاح أزمة المجتمع العربي المعاصر في مفهوم المجتمع البطريركي أو الأبوي, والذي أدي إلي تغير اجتماعي مشوه.
والمجتمع العربي الأبوي عنده هو المجتمع العربي التقليدي الذي تأثر بالحداثة الأوروبية, وهو عنده يشمل الأبنيةالاجتماعية الكلية( المجتمع والدولة والاقتصاد) كما يشمل الأبنية الاجتماعية الجزئية( العائلة أو الشخصية الفردية), والمجتمع العربي التقليدي الحديث يعد ـ في نظره ـ ناتجا من نواتج هيمنة أوروبا الحديثة, لأن عملية التحديث وفقا لمعطيات المجتمع الأبوي لا يمكنها إلا أن تكون مبنية علي التبعية, وعلاقات التبعية تؤدي حتما لا إلي الحداثة, بل إلي مجتمع أبوي' ملقح بالحداثة', بحيث إن عملية التحديث تصبح نوعا من الحداثة المعكوسة! وفي رأي' شرابي' أن النظم السياسية العربية القائمة تحتكر الكلام باعتباره شرطا للاستقرار والاستمرار. ومن هنا الدور الذي يقوم به ما يسميه الكلام اللاحواري( المونولوج). وفي جميع أشكال الخطاب البطريركي الحديث يظهر نمط الخطاب اللاحواري في ميل أصحابه إلي استثناء المتكلمين الآخرين أو تجاهلهم!
غير أنه يلفت نظرنا إلي أن النمط اللاحواري موجود في صلب الخطاب ذاته, بمعني أنه ليس ناجما عن القوة أو السلطة وحدها, بل أيضا عن اللغة ذاتها, لأنها تشجع البلاغة علي حساب الحوار.
وخطورة الخطاب اللاحواري حين يسود المجتمع تبدو فيما يتعلق بنظرية المعرفة, وذلك فيما يتعلق بطريقة إثبات الحقيقة أو تقدير صحة الوقائع. وبناء علي ذلك لا يظهر في الكلام أو الكتابة علي النمط اللاحواري أي شك أو تردد. فالحقيقة التي تؤكد في الخطاب اللاحواري هي الحقيقة المطلقة, المرتكزة أولا وأخيرا علي الوحي أو علي الخيال الاجتماعي. وسيادة هذا الخطاب في المجتمع يعني في الواقع نفيا لخطاب الآخر. وذلك لأن الحوار علي العكس يعني أنه ليس هناك خطاب نهائي, علي أساس أن حرية التساؤل وحدها هي التي تؤدي إلي المعرفة الحقة. فالحقيقة ليست من فعل السلطة, بل هي نتيجة بحث ونقد واتفاق في الرأي والنظر.
في ضوء هذه المداخل الثلاثة لتشخيص أزمة المجتمع العربي المعاصر, يمكن القول أنه بالرغم من اختلاف الزوايا التي نظر منها كل مفكر من المفكرين الثلاثة للأزمة, فإنها جميعا يمكن اعتبارها تشخيصا متكاملا.
وعلي ذلك يمكن أن نطرح سؤالا أساسيا: هل يمكن إحياء المجتمع العربي المعاصر عن طريق المواجهة المباشرة مع كل السلبيات التي أبرزها هؤلاء المفكرون؟
فلننظر إلي التشخيص الأول حيث ركز' محمد أركون' علي هيمنة النص الديني علي مختلف جنبات المجتمع العربي, وامتدت سطوته إلي كل الميادين في السياسة والاقتصاد والثقافة. ولنحاول أن ندرس واقع المجتمع العربي المعاصر في العقود الثلاثة الأخيرة, سنجد سيطرة لتفسيرات محافظة ورجعية تخلط التفسير العقلاني بتفسيرات تعكس فكرا أسطوريا وخرافيا لا علاقة له إطلاقا بالتأويل الصحيح للقرآن الكريم أو السنة النبوية.
وقد صدق' محمد أركون' حين أكد أن تفكيك هذه النصوص بتفسيراتها الرجعية نقطة بداية لإحياء المجتمع العربي المعاصر. فقد شهدنا زيادة معدلات الفتاوي الدينية التي تقوم علي تحريم عديد من الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية, وتأسيس قنوات فضائية دينية يقوم خطابها الديني علي أساس تفسيرات أسطورية وخرافية, مما أسهم في صياغة عقل جمعي جماهيري يتسم باللاعقلانية, ويفتقر إلي معرفة مبادئ التفكير العلمي.
ومن ناحية أخري تبدو أهمية الكشف الذي توصل إليه' محمد عابد الجابري' في التمييز بين النظام المعرفي البياني والعرفاني والبرهاني. وذلك لأن الخطاب العربي المعاصر لو درسناه بطريقة نقدية, لاكتشفنا أن البلاغة فيه تجور علي استخدام المنطق وصياغة الحجج العقلانية المقنعة, كما أنه في حالات أخري تختلط فيه أوهام الإلهام والكشف بالصياغات البلاغية الفارغة من المضمون, مع بعض الحجج التي لا تستند إلي أساس منطقي متماسك.
وإذا تأملنا أخيرا في تشخيص' هشام شرابي' للمجتمع الأبوي العربي المعاصر حيث تتحكم السلطة في صياغة الخطاب الصادر عنها, والذي يتسم أساسا بأنه خطاب لا حواري, بمعني أن السلطة تزعم فيه أنها تمتلك الحقيقة المطلقة, وتنزع في نفس الوقت إلي رفض الاستماع إلي خطاب الآخر وإقصائه من الساحة تماما, لأدركنا عمق الأزمة الديمقراطية التي يمر بها المجتمع العربي المعاصر.
كيف يمكن لنا أن نتجاوز سلبيات المجتمع العربي المعاصر؟
هناك أولا حاجة لخطاب ديني جديد كما حاول أن يفعل حسن حنفي في كتبه المتعددة يركز بصورة عقلانية علي المتن الرئيسي, ونقصد المقاصد العليا للدين, ويستدرج إلي مناقشة الهوامش التي تستند إلي تفسيرات غير عقلية للنصوص الدينية, بغرض تقييد الحركة الاجتماعية للمواطنين في الملبس والمأكل والحديث, بل في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ونحن من ناحية أخري في حاجة ملحة إلي تنقية الخطاب العربي المعاصر من البلاغيات الفارغة من المعني, من ناحية, ومن التهويمات الصوفية من ناحية أخري, والتركيز الشديد علي النظام البرهاني الذي يقوم علي نظرية المعرفة المعاصرة التي استطاعت أن تفصل فصلا تاما بين العقل والأسطورة, واعتمدت في ذلك أساسا علي المنهج العلمي من ناحية, وعلي المشاهدات الميدانية التي تسجلها العلوم الاجتماعية المختلفة, والتي تقوم علي الثبات والصدق.
غير أن المطلب الثالث وهو تنقية المجتمع الأبوي العربي من كل مظاهر' الأبوية' سواء في ذلك سلطة الرؤساء السياسيين أو شيوخ القبائل أو أرباب الأسر فتبدو حقا مهمة بالغة الصعوبة!
فالنخب السياسية العربية الحاكمة بغض النظر عن النظم السياسية التي تحكم باسمها ملكية كانت أو جمهورية, مازالت مصرة علي خطابها اللاحواري الذي ينفي الآخر. وهذه الحقيقة تترجم في المجال السياسي باحتكار السلطة والممانعة في مجال مشاركة الجماهير في اتخاذ القرار. كما أن السلطات الاجتماعية التقليدية ـ بالرغم من التغيرات الكبري التي لحقت ببنية المجتمع العالمي- مازالت متشبثة بالحفاظ علي نفوذها التقليدي.
ومع كل هذه الصعوبات في مجال إحياء المجتمع العربي المعاصر هناك مؤشرات علي أن الديمقراطية ستشق طريقها في تربة المجتمع العربي المعاصر, بعد أن أصبحت في عصر العولمة شعارا عالميا, كما أن نجم العقلانية لابد أن يسطع بالرغم من شيوع سحابات الفكر الخرافي, فذلك أصبح الشرط الأساسي لنهضة الأمم ورقي الشعوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق