مما لاشك فيه ان غياب العقل النقدي العربي, الذي اهتممنا بموضوع تكوينه وأسسه, يعد احد مظاهر الازمة الثقافية العربية, لأن غياب هذا العقل أدي إلي سلبيات متعددة سواء في الممارسة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
وقد يكون من العلامات الايجابية ان النخبة الفكرية والسياسية ادركت خطورة هذه الازمة, وضرورة مواجهتها بسياسات ثقافية متكاملة.
وأريد بهذا الصدد ان اقدم إطارا نظريا لدراسة الظواهر الثقافية بشكل عام, من شأنه ان يبرز الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر عليها بالايجاب أو بالسلب.
والواقع ان هناك منهجيات متعددة يزخر بها الآن ميدان التحليل الثقافي, ولكننا آثرنا ان نتبني منهجية خاصة بالازمة الثقافية لانها هي التي تصلح لتطبيقها علي الوضع الراهن للثقافة العربية, وهذه المنهجية سبق ان اقترحها وطبقها عالم الاجتماع الالماني هانز بيتر درايتزل في دراسة له بعنوان في معني الثقافة نشرت عام1977 في كتاب جماعي حرره نورمان بيرنبوم بعنوان اجتياز الازمة.
في الإطار النظري المقترح مبدأ نظري مهم, ينطلق منه اي باحث نقدي في علم الاجتماع, وهو ضرورة تحليل العلاقات بين الثقافة وبناء القوة في المجتمع,POWERSTRUCTURE ومن ناحية اخري يحدد الإطار الوظائف المحددة للثقافة في أي مجتمع, والتي تهدف اساسا للحفاظ علي أنماط الانتاج السائدة وعلي عملية اعادة الانتاج, وفي هذا الصدد هناك وظائف يمكن التمييز بينها: الوظيفة الأولي: تتمثل في ان ثقافة مجتمع ما تمد اعضاءه بتبريرات لشرعية نمط الانتاج السائدة ونمط التوزيع. الوظيفة الثانية للثقافة: انها تمد الفرد ـ من خلال إجراءات وطقوس التنشئة الاجتماعية المقبولة ـ ببنية دافعية تربط بين هويته والنمط السائد للانتاج.
الوظيفة الثالثة للثقافة: انها تمد اعضاء المجتمع بتفسيرات رمزية للحدود الطبيعية للحياة الانسانية.
والفكرة الرئيسية التي ننطلق منها في بحثنا هي ان المجتمع العربي قد وصل إلي نقطة, ثبت منها ان النسق الثقافي عاجز عن القيام بهذه الوظائف, ومن هنا تأكيدنا اننا نواجه في الوقت الراهن أزمة ثقافية عربية.
تحليل الأزمة اذن هو المدخل الذي يقترحه درايتزل للتحليل الثقافي, ولذلك نراه يتعمق في مختلف جوانب الازمة, فيتحدث عن ثلاث ازمات: أزمة الشرعية وازمة الهوية, وأزمة العقلانية العملية, غير ان بعض علماء التحليل الثقافي يرون ان التركيز علي مدخل الازمة فقط, فيه قصور نظري واضح, لانه لايستوفي شروط النظرية النقدية.
فالنظرية النقدية ـ عند بريان فاي في كتابه المهم العلم الاجتماعي النقدي تهدف إلي تفسير النظام الاجتماعي بطريقة تصبح هي ذاتها الفاعل الذي يؤدي إلي تغييره, وبالتالي اي نظرية نقدية ـ لكي تستحق هذا الوصف ـ لابد ان تتضمن سلسلة مترابطة من النظريات الرئيسية والفرعية, والتي لاتقنع بوصف الازمة أو تحليلها, وانما ترتقي لمستوي رسم سبل تغيير النظام الاجتماعي من خلال تعليم الجماهير, وتحديد سبل ومسارات الافعال القادرة علي الخروج من الازمة, والانتقال بالمجتمع إلي حالة مغايرة, فالهدف الاسمي من النظرية النقدية هو التحررEMANCIPATION وهذا التحرر لن يتم سوي عبر سلسلة طويلة, أولي حلقاتها هي التنوير من خلال القضاء علي الوعي الزائف وثاني حلقاتها هي تدعيم قوي الجماهير, وفي ضوء هذه المسلمات جميعا يضع بريان فاي التخطيط التالي للنموذج الكامل للنظرية النقدية, والذي يتضمن اربع نظريات رئيسية:
1 ـ نظرية عن الوعي الزائف: تذهب هذه النظرية إلي ان طرق فهم الذات بواسطة مجموعة من الناس هي زائفة بمعني عدم قدرتها علي ان تضع في الاعتبار خبرات الحياة لاعضاء الجماعة أو لكونها غير متسقة لانها متناقضة داخليا أو للسببين معا, وهذا التحليل يشار إليه احيانا بالنقد الايديولوجي.
تشرح النظرية كيف اكتسب اعضاء الجماعة هذه الافهام السائدة, وكيفية استمرارها.
معارضة هذه الافهام بفهم مغاير للذات, واثبات ان هذا الفهم أرقي من الفهم السائد.
2 ـ نظرية عن الازمة تحديد ماهية الازمة الاجتماعية, وتثبت كيف ان مجتمعا ما واقع في مثل هذه الازمة.
وهذا قد يقتضي دراسة ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وانه لايمكن القضاء عليها, اذا ما استمر تنظيم المجتمع علي ماهو عليه, وكذلك افهام الناس السائدة, وتقدم عرضا تاريخيا لنمو هذه الازمة في ضوء سيادة الوعي الزائف, وبالنظر إلي الاسس البنيوية للمجتمع.
3 ـ نظرية عن التعليم: تقدم عرضا للشروط الضرورية والكافية لتحقيق التنوير الذي تهدف إليه النظرية, وتبرز كيف انه بالنظر إلي الموقف الاجتماعي الراهن, فان هذه الشروط تعد مستوفاة.
4 ـ نظرية عن فعل التغيير, تعزل هذه الجوانب من المجتمع, التي ينبغي تغييرها, اذا ما أريد حل الازمة الاجتماعية, والقضاء علي ضروب عدم الرضاء لأعضاء الجماعة, وتقدم خطة للفعل, يحدد فيها من هم الفاعلون الذين سيتحملون مسئولية التغيير الاجتماعي المأمول, وعلي الأقل فكرة عامة عن الطريقة التي سيعملون بها.
وفي تقديرنا ان النموذج النظري الذي يقدمه بريان فاي يتسم بالشمول والترابط العضوي بين مختلف نظرياته, واهم من ذلك انه يؤكد المسئولية السياسية للعالم الاجتماعي, والذي ينبغي ان يكون ناقدا اجتماعيا حتي يستحق هذا الوصف, وهو بهذه الصفة لايقنع بوصف الظواهر الاجتماعية وتفسيرها, وانما يركز في نفس الوقت علي دور المثقف باعتباره مثقفا عضويا اذا استخدمنا مصطلح جرامشي المعروف في تنوير الجماهير من خلال خطابه الذي لابد له ان يكون قادرا علي الوصول إليها, ليس ذلك فقط, بل عليه ان يقترح سبل العمل للتغيير.
وبناء علي ذلك حين ندعو لنظام ثقافي عربي جديد, فهذه الدعوة في حد ذاتها, لاقيمة لها, ان لم تحدد من هم الفاعلون الاجتماعيون الذين سيتولون مهمة صياغة هذا النظام الجديد, وأبعد من ذلك اهمية اقتراح وتحديد استراتيجيات العمل للتغيير الاجتماعي, لصالح الجماهير العريضة. ولو تأملنا النظريات المتعددة التي حددها بريان فاي لمواجهة الازمة الثقافية للمجتمع, لوجدنا انه تقف في صدارتها نظرية عن الوعي الزائف.
وترد أهمية هذا الموضوع إلي انه من المسلمات ان اجهزة الدولة الايديولوجية, ونعني مؤسسات التعليم والاعلام تؤدي دورا مهما في نشر الوعي الزائف لدي الجماهير بشرعية النظام السياسي القائم ايا كانت طبيعته, والزعم بأنه يعمل لصالح الجماهير العريضة.
والمهمة التي ينبغي ان يتصدي لها المثقفون النقديون في المجتمع هو تبديد هذا الوعي الزائف, وتنوير الناس وامدادهم بالوعي الحقيقي الذي يشرح لهم بناء القوة في المجتمع, وكيفية العمل لتغييره باتباع الوسائل السلمية, وعبر نضال لابد ان يطول بحكم تشبث مراكز القوي بأوضاعها. غير ان ذلك يقتضي في المقام الأول إبراز ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وردها إلي اسبابها الموضوعية, وسواء تعلق ذلك باحتكار عملية صنع القرار السياسي بواسطة قلة من النخبة السياسية الحاكمة, أو نتيجة لتطبيق استراتيجيات اقتصادية تهدف في المقام الأول إلي اثراء الطبقات العليا في المجتمع علي حساب جماهير الطبقة الوسطي وجماهير الطبقات الدنيا, مما يؤدي عادة إلي فجوة طبقية واسعة, لها آثار سلبية سواء علي اتجاهات الناس أو علي سلوكهم الاجتماعي.
غير انه اهم من ذلك كله التقدم خطوات اخري تهدف إلي اثبات ان الأوضاع الراهنة لايمكن لها ان تستمر, ان هناك ضرورة لتغييرها, وان هذا التغيير في حد ذاته مسألة ضرورية إن أريد للمجتمع ان يتحرر من قيوده, ويسير في مضمار التقدم.
غير ان تحقيق هذه الاهداف لايمكن ـ في ضوء النظرية التي نعرض لها ـ ان يتم بغير اقناع الناس ان هناك شروطا ضرورية وكافية لتحقيق التنوير الذي تسعي النظرية إلي تحقيقه, وان هذه الشروط مكتملة وجاهزة للتطبيق, ونصل اخيرا إلي فعل التغيير ذاته, ويقتضي ذلك تقديم خطة مفصلة للتغيير تحدد الجوانب الاجتماعية التي ينبغي تغييرها, وأهم من ذلك الاشارة إلي الفاعلين الذين سيتحملون مسئولية التغيير.
ولو نظرنا إلي المشهد الاجتماعي العربي الراهن لاكتشفنا ان هناك حيوية سياسية في كل البلاد العربية بدون استثناء, وأن اصوات المعارضة للأوضاع الراهنة بدأت ترتفع وتعبر عن نفسها بطرق شتي, سواء في إطار الاحزاب السياسية في البلاد التي تسمح بها, أو عن طريق منظمات المجتمع المدني التي نشطت في العقود الأخيرة بصورة ملفتة للنظر في المشرق والمغرب, والخليج, أو من خلال شبكة الانترنت, حيث برزت المدونات العربية التي يمارس فيها مدونون عرب يعدون بالآلاف النقد السياسي العنيف لممارسات النظم السياسية العربية الشمولية والسلطوية, وكذلك النقد الاجتماعي الجذري للممارسات الاجتماعية المحافظة والرجعية.
أمر محمود ان تدرك النخب السياسية العربية الحاكمة أهمية بحث موضوع الثقافة في قمة عربية تعقد في إطار جامعة الدول العربية, ولكن السؤال الأهم هل اعضاء هذه النخب جاهزون للتخلي عن بعض امتيازاتهم الطبقية ونفوذهم السياسي التقليدي, لفتح الطريق امام الجماهير العريضة للمشاركة السياسة في عملية صنع القرار من ناحية, وفي توزيع اكثر عدلا للدخل القومي من ناحية أخري؟
أسئلة استراتيجية لن نجد اجابة عنها إلا اذا عقدت القمة العربية الثقافية المقترحة وتابعنا مناقشاتها وقراراتها النهائية!
وأريد بهذا الصدد ان اقدم إطارا نظريا لدراسة الظواهر الثقافية بشكل عام, من شأنه ان يبرز الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر عليها بالايجاب أو بالسلب.
والواقع ان هناك منهجيات متعددة يزخر بها الآن ميدان التحليل الثقافي, ولكننا آثرنا ان نتبني منهجية خاصة بالازمة الثقافية لانها هي التي تصلح لتطبيقها علي الوضع الراهن للثقافة العربية, وهذه المنهجية سبق ان اقترحها وطبقها عالم الاجتماع الالماني هانز بيتر درايتزل في دراسة له بعنوان في معني الثقافة نشرت عام1977 في كتاب جماعي حرره نورمان بيرنبوم بعنوان اجتياز الازمة.
في الإطار النظري المقترح مبدأ نظري مهم, ينطلق منه اي باحث نقدي في علم الاجتماع, وهو ضرورة تحليل العلاقات بين الثقافة وبناء القوة في المجتمع,POWERSTRUCTURE ومن ناحية اخري يحدد الإطار الوظائف المحددة للثقافة في أي مجتمع, والتي تهدف اساسا للحفاظ علي أنماط الانتاج السائدة وعلي عملية اعادة الانتاج, وفي هذا الصدد هناك وظائف يمكن التمييز بينها: الوظيفة الأولي: تتمثل في ان ثقافة مجتمع ما تمد اعضاءه بتبريرات لشرعية نمط الانتاج السائدة ونمط التوزيع. الوظيفة الثانية للثقافة: انها تمد الفرد ـ من خلال إجراءات وطقوس التنشئة الاجتماعية المقبولة ـ ببنية دافعية تربط بين هويته والنمط السائد للانتاج.
الوظيفة الثالثة للثقافة: انها تمد اعضاء المجتمع بتفسيرات رمزية للحدود الطبيعية للحياة الانسانية.
والفكرة الرئيسية التي ننطلق منها في بحثنا هي ان المجتمع العربي قد وصل إلي نقطة, ثبت منها ان النسق الثقافي عاجز عن القيام بهذه الوظائف, ومن هنا تأكيدنا اننا نواجه في الوقت الراهن أزمة ثقافية عربية.
تحليل الأزمة اذن هو المدخل الذي يقترحه درايتزل للتحليل الثقافي, ولذلك نراه يتعمق في مختلف جوانب الازمة, فيتحدث عن ثلاث ازمات: أزمة الشرعية وازمة الهوية, وأزمة العقلانية العملية, غير ان بعض علماء التحليل الثقافي يرون ان التركيز علي مدخل الازمة فقط, فيه قصور نظري واضح, لانه لايستوفي شروط النظرية النقدية.
فالنظرية النقدية ـ عند بريان فاي في كتابه المهم العلم الاجتماعي النقدي تهدف إلي تفسير النظام الاجتماعي بطريقة تصبح هي ذاتها الفاعل الذي يؤدي إلي تغييره, وبالتالي اي نظرية نقدية ـ لكي تستحق هذا الوصف ـ لابد ان تتضمن سلسلة مترابطة من النظريات الرئيسية والفرعية, والتي لاتقنع بوصف الازمة أو تحليلها, وانما ترتقي لمستوي رسم سبل تغيير النظام الاجتماعي من خلال تعليم الجماهير, وتحديد سبل ومسارات الافعال القادرة علي الخروج من الازمة, والانتقال بالمجتمع إلي حالة مغايرة, فالهدف الاسمي من النظرية النقدية هو التحررEMANCIPATION وهذا التحرر لن يتم سوي عبر سلسلة طويلة, أولي حلقاتها هي التنوير من خلال القضاء علي الوعي الزائف وثاني حلقاتها هي تدعيم قوي الجماهير, وفي ضوء هذه المسلمات جميعا يضع بريان فاي التخطيط التالي للنموذج الكامل للنظرية النقدية, والذي يتضمن اربع نظريات رئيسية:
1 ـ نظرية عن الوعي الزائف: تذهب هذه النظرية إلي ان طرق فهم الذات بواسطة مجموعة من الناس هي زائفة بمعني عدم قدرتها علي ان تضع في الاعتبار خبرات الحياة لاعضاء الجماعة أو لكونها غير متسقة لانها متناقضة داخليا أو للسببين معا, وهذا التحليل يشار إليه احيانا بالنقد الايديولوجي.
تشرح النظرية كيف اكتسب اعضاء الجماعة هذه الافهام السائدة, وكيفية استمرارها.
معارضة هذه الافهام بفهم مغاير للذات, واثبات ان هذا الفهم أرقي من الفهم السائد.
2 ـ نظرية عن الازمة تحديد ماهية الازمة الاجتماعية, وتثبت كيف ان مجتمعا ما واقع في مثل هذه الازمة.
وهذا قد يقتضي دراسة ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وانه لايمكن القضاء عليها, اذا ما استمر تنظيم المجتمع علي ماهو عليه, وكذلك افهام الناس السائدة, وتقدم عرضا تاريخيا لنمو هذه الازمة في ضوء سيادة الوعي الزائف, وبالنظر إلي الاسس البنيوية للمجتمع.
3 ـ نظرية عن التعليم: تقدم عرضا للشروط الضرورية والكافية لتحقيق التنوير الذي تهدف إليه النظرية, وتبرز كيف انه بالنظر إلي الموقف الاجتماعي الراهن, فان هذه الشروط تعد مستوفاة.
4 ـ نظرية عن فعل التغيير, تعزل هذه الجوانب من المجتمع, التي ينبغي تغييرها, اذا ما أريد حل الازمة الاجتماعية, والقضاء علي ضروب عدم الرضاء لأعضاء الجماعة, وتقدم خطة للفعل, يحدد فيها من هم الفاعلون الذين سيتحملون مسئولية التغيير الاجتماعي المأمول, وعلي الأقل فكرة عامة عن الطريقة التي سيعملون بها.
وفي تقديرنا ان النموذج النظري الذي يقدمه بريان فاي يتسم بالشمول والترابط العضوي بين مختلف نظرياته, واهم من ذلك انه يؤكد المسئولية السياسية للعالم الاجتماعي, والذي ينبغي ان يكون ناقدا اجتماعيا حتي يستحق هذا الوصف, وهو بهذه الصفة لايقنع بوصف الظواهر الاجتماعية وتفسيرها, وانما يركز في نفس الوقت علي دور المثقف باعتباره مثقفا عضويا اذا استخدمنا مصطلح جرامشي المعروف في تنوير الجماهير من خلال خطابه الذي لابد له ان يكون قادرا علي الوصول إليها, ليس ذلك فقط, بل عليه ان يقترح سبل العمل للتغيير.
وبناء علي ذلك حين ندعو لنظام ثقافي عربي جديد, فهذه الدعوة في حد ذاتها, لاقيمة لها, ان لم تحدد من هم الفاعلون الاجتماعيون الذين سيتولون مهمة صياغة هذا النظام الجديد, وأبعد من ذلك اهمية اقتراح وتحديد استراتيجيات العمل للتغيير الاجتماعي, لصالح الجماهير العريضة. ولو تأملنا النظريات المتعددة التي حددها بريان فاي لمواجهة الازمة الثقافية للمجتمع, لوجدنا انه تقف في صدارتها نظرية عن الوعي الزائف.
وترد أهمية هذا الموضوع إلي انه من المسلمات ان اجهزة الدولة الايديولوجية, ونعني مؤسسات التعليم والاعلام تؤدي دورا مهما في نشر الوعي الزائف لدي الجماهير بشرعية النظام السياسي القائم ايا كانت طبيعته, والزعم بأنه يعمل لصالح الجماهير العريضة.
والمهمة التي ينبغي ان يتصدي لها المثقفون النقديون في المجتمع هو تبديد هذا الوعي الزائف, وتنوير الناس وامدادهم بالوعي الحقيقي الذي يشرح لهم بناء القوة في المجتمع, وكيفية العمل لتغييره باتباع الوسائل السلمية, وعبر نضال لابد ان يطول بحكم تشبث مراكز القوي بأوضاعها. غير ان ذلك يقتضي في المقام الأول إبراز ضروب عدم الرضاء الاجتماعي, وردها إلي اسبابها الموضوعية, وسواء تعلق ذلك باحتكار عملية صنع القرار السياسي بواسطة قلة من النخبة السياسية الحاكمة, أو نتيجة لتطبيق استراتيجيات اقتصادية تهدف في المقام الأول إلي اثراء الطبقات العليا في المجتمع علي حساب جماهير الطبقة الوسطي وجماهير الطبقات الدنيا, مما يؤدي عادة إلي فجوة طبقية واسعة, لها آثار سلبية سواء علي اتجاهات الناس أو علي سلوكهم الاجتماعي.
غير انه اهم من ذلك كله التقدم خطوات اخري تهدف إلي اثبات ان الأوضاع الراهنة لايمكن لها ان تستمر, ان هناك ضرورة لتغييرها, وان هذا التغيير في حد ذاته مسألة ضرورية إن أريد للمجتمع ان يتحرر من قيوده, ويسير في مضمار التقدم.
غير ان تحقيق هذه الاهداف لايمكن ـ في ضوء النظرية التي نعرض لها ـ ان يتم بغير اقناع الناس ان هناك شروطا ضرورية وكافية لتحقيق التنوير الذي تسعي النظرية إلي تحقيقه, وان هذه الشروط مكتملة وجاهزة للتطبيق, ونصل اخيرا إلي فعل التغيير ذاته, ويقتضي ذلك تقديم خطة مفصلة للتغيير تحدد الجوانب الاجتماعية التي ينبغي تغييرها, وأهم من ذلك الاشارة إلي الفاعلين الذين سيتحملون مسئولية التغيير.
ولو نظرنا إلي المشهد الاجتماعي العربي الراهن لاكتشفنا ان هناك حيوية سياسية في كل البلاد العربية بدون استثناء, وأن اصوات المعارضة للأوضاع الراهنة بدأت ترتفع وتعبر عن نفسها بطرق شتي, سواء في إطار الاحزاب السياسية في البلاد التي تسمح بها, أو عن طريق منظمات المجتمع المدني التي نشطت في العقود الأخيرة بصورة ملفتة للنظر في المشرق والمغرب, والخليج, أو من خلال شبكة الانترنت, حيث برزت المدونات العربية التي يمارس فيها مدونون عرب يعدون بالآلاف النقد السياسي العنيف لممارسات النظم السياسية العربية الشمولية والسلطوية, وكذلك النقد الاجتماعي الجذري للممارسات الاجتماعية المحافظة والرجعية.
أمر محمود ان تدرك النخب السياسية العربية الحاكمة أهمية بحث موضوع الثقافة في قمة عربية تعقد في إطار جامعة الدول العربية, ولكن السؤال الأهم هل اعضاء هذه النخب جاهزون للتخلي عن بعض امتيازاتهم الطبقية ونفوذهم السياسي التقليدي, لفتح الطريق امام الجماهير العريضة للمشاركة السياسة في عملية صنع القرار من ناحية, وفي توزيع اكثر عدلا للدخل القومي من ناحية أخري؟
أسئلة استراتيجية لن نجد اجابة عنها إلا اذا عقدت القمة العربية الثقافية المقترحة وتابعنا مناقشاتها وقراراتها النهائية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق