السبت، 7 أبريل 2012

الذاكرة التاريخية والتخطيط المستقبلي‏!‏ بقلم: السيد يسين



العالم كله ـ كما ذكرنا من قبل ـ يعيش حقبة التخطيط المستقبلي للمجتمعات المختلفة‏,‏ والتي تنتمي إلي ثقافات متعددة‏.‏ وهذا التخطيط المستقبلي لابد له ـ وقد يكون فيما نقول متناقضا مع نقدنا السابق لغرق المجتمع العربي في الماضي ـ لابد له أن أريد له أن يكون تخطيطا مستقبليا رشيدا أن يوثق الذاكرة التاريخية للمجتمع‏,‏
وأن يحلل وقائعها تحليلا موضوعيا ونقديا في آن واحد.
ونقصد بتوثيق الذاكرة التاريخية الرصد الدقيق للوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حدثت في المجتمع في مراحل تاريخية سابقة.
والمراحل التاريخية وتقسيمها وتصنيفها تثير مشكلة منهجية في علم التاريخ وهي مايطلق عليها مشكلة التحقيب
PERIODIZATION ونعني بذلك تقسيم تاريخ أي مجتمع إلي حقب تاريخية متمايزة, وتحديد بداية ونهاية كل حقبة. وهذه بالذات من المشكلات التي يختلف بشأنها المؤرخون في كل مجتمع. وذلك لأن تحديد الحقبة يعتمد علي مفهوم آخر هو القطيعة التاريخيةHISTORICALBREAK بمعني نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة.
وحتي لايكون حديثنا علي سبيل التجريد فلنضرب مثالا من التاريخ المصري المعاصر, هناك اتفاق بين المؤرخين علي أن ثورة يوليو1952 بدأت في هذا التاريخ, ولكن متي انتهت؟ أولا هناك خلاف هل كانت انقلابا أم كانت ثورة؟
خصوم الثورة يختزلونها في كونها كانت مجرد انقلاب عسكري قام به الضباط الأحرار الذين حكموا المجتمع المصري باستخدام القوة وممارسة القمع علي الجماهير. بعبارة أخري هؤلاء الضباط الأحرارـ في نظر هذا الفريق من المؤرخين ـ أقاموا حكما استبداديا ألغي الأحزاب السياسية, وأقاموا بدلا منها حزبا واحدا اعتمدوا عليه في الحكم.
غير أن هناك فريقا آخر من المؤرخين يقبل ابتداء بأن ماحدث كان فعلا انقلابا عسكريا, غير أنه سرعان ماتحول إلي ثورة, لأن الضباط الأحرار طبقوا في الواقع برنامج الحركة الوطنية المصرية الذي صاغته القوي السياسية المختلفة من اليمين إلي اليسار, وكان الهدف منه في الواقع ليس مجرد الإصلاح, وإنما تأسيس انقلاب اجتماعي يقوم أساسا علي الإصلاح الزراعي ورفع شأن الفلاحين والعمال, وإقامة صناعة حديثة في مصر, والتغيير النوعي في أدوات وعلاقات الإنتاج.
وهكذا يمكن القول ـ في رأي هذا الفريق من المؤرخين وأنا أؤيدهم ـ أن23 يوليو1952 كانت بالفعل انقلابا ولكنه سرعان ماتحول إلي ثورة حاولت تحقيق العدل الاجتماعي الذي سعت الجماهير المصرية إلي تحقيقه منذ عام1945 علي الأقل وهو تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية إلي عام1952
غير أن الجماهير والأحزاب السياسية فشلت في حل المشكلة الوطنية التي تتمثل في إجلاء الاحتلال الإنجليزي عن مصر, وحل المشكلة الاجتماعية, والتي هي عبارة عن الفجوة العميقة بين الأغنياء والفقراء.
وإذا تركنا هذا الخلاف المبدئي جانبا تظل أمامنا الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في البداية, وهو متي انتهت ثورة يوليو1952.
في قول أنها انتهت بوفاة زعيمها جمال عبد الناصر عام1970 غير أنني أري أنها انتهت في الواقع في5 يونيو1967, وهو تاريخ الهزيمة التي لحقت بمصر في الحرب ضد الدولة الإسرائيلية.
ومبرري في هذا الرأي أن الثورة حين قامت أعلنت عدة مبادئ منها تكوين جيش قوي قادر علي الدفاع عن البلاد, وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. غير أن التجربة أثبتت ـ من واقع تخبط قرارات القيادة السياسية قبل وأثناء الحرب ـ بالإضافة إلي الضعف الشديد في المستوي المهني للقيادات العسكرية ـ أن الثورة لم تف بوعودها للشعب, ومن هنا منطق أن نقول إنها انتهت بالفعل عام1967 ونعني ذلك بالمعني التاريخي للكلمة.
توثيق الذاكرة التاريخية إذن وتحليلها موضوعيا ونقديا مهمة أساسية ينبغي أن تسبق أي تخطيط مستقبلي. وذلك لأنه من الضروري لأي مجتمع أن يستخلص العبرة من تاريخه الماضي, حتي يتلافي السلبيات التي عوقت مسيرة تقدمه, غير أننا في مجال التحليل الموضوعي والدراسة النقدية للوقائع نصطدم بمشكلة تأويل التاريخ. بعبارة أخري الوقائع التاريخية أمامنا وقد وثقناها بالفعل من مختلف المظان والمصادر, ولكن كيف يمكن لنا أن نؤول هذه الوقائع!
هنا تظهر لنا مشكلة التفسير في العلوم الاجتماعية, فلا يكفي حتي في البحوث الميدانية الاعتماد علي المؤشرات الكمية ونشر الجداول الإحصائية, وإنما لابد من تفسيرها والتفسير ـ بحسب أدق التعريفات في فلسفة العلوم ـ هو وضع الظاهرة المفسرة في سياق قانون عام غير أن هذه الإجابة لاتحل المشكلة, لأنه سيثور سؤال عن طبيعة هذا القانون العام.
ويمكن القول إن فلاسفة التاريخ المشاهير مثل توينبي في كتابه المعروف دراسة للتاريخ, ويثيرم سوروكين في موسوعته النادرة الديناميات الاجتماعية والثقافية حاولوا صياغة قوانين عامة عن التطور الاجتماعي والتغير الثقافي بعبارة أخري قدموا نظريات عن نشأة وانهيار المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن ثم يمكن ـ في مجال تأويل التاريخ ـ الاستناد إلي هذه النظريات.
وفي ضوء ذلك يمكن القول إننا لو كنا بصدد تخطيط مستقبلي لدولة مثل مصر فلابد أولا من تحليل الحقبة التاريخية التي بدأت بإصدار دستور عام1923, حتي نهاية الحقبة بقيام انقلاب أو ثورة1923.
ونفس التطبيق ينبغي أن يتم بالنسبة لبلد كالكويت علي سبيل المثال ـ لابد من دراسة التجربة الديمقراطية في الثلاثينيات, إن أريد رسم تخطيط مستقبلي للدولة الكويتية.
توثيق الذاكرة التاريخية وتحليلها موضوعيا ونقديا إذن هو الخطوة الأولي اللازمة قبل الشروع في التخطيط المستقبلي لمجتمع ما.
غير أن الخطوة الحاسمة الثانية هي ضرورة القراءة المستوعبة والنقدية للتغيرات الأساسية التي لحقت ببنية المجتمع العالمي, وذلك لأن أي تخطيط مستقبلي لايقوم علي أساس فهم التحولات الكبري التي حدثت في العقود الأخيرة يعد لا معني له في الواقع, لأن المستقبل لابد أن يبني علي ماحدث في الحاضر, غير أن رسم خريطة معرفية للتغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالمي ليست هينة ولاميسورة. لأنه يقتضي الرصد الدقيق لهذه التغيرات من ناحية, وفهم المنطق الكامن وراء كل تحول من ناحية أخري, في ضوء منهج تكاملي يغطي ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.
ورسم هذه الخريطة يقتضي أولا: تحديد القطيعة التاريخية التي حدثت بين نهاية نموذج المجتمع الصناعي وصعود نموذج مجتمع المعلومات العالمي, والذي يتمثل أساسا في بداية عصر البث التليفزيوني الفضائي من ناحية, وبروز شبكة الإنترنت من ناحية أخري, والتي تمثل فضاء عاما جديدا تتم فيه تفاعلات عديدة ومتنوعة لم تشهد الانسانية له مثلا من قبل.
غير أنه بالإضافة إلي ذلك لابد من التركيز علي الظاهرة الكبري التي تملأ الدنيا وتشغل الناس وهي العولمة.
والعولمة ـ كما صغنا من قبل تعريفا إجرائيا لها ـ هي سرعة تدفق المعلومات والأفكار ورءوس الأموال والسلع والخدمات والبشر من مكان إلي مكان آخر في العالم بغير حدود ولاقيود.
وهذا التعريف الإجرائي يمنحنا في الواقع فرصة لتحديد العمليات الأساسية التي تنطوي عليها العولمة. غير أنه لايغني في فهم تناقضات العولمة ذاتها باعتبارها عملية تاريخية.
فهناك أولا أنصار العولمة الذين يعتبرونها حلا شاملا لمشكلات الاقتصاد والتطور الاجتماعي, وهناك فريق آخر يعتبرها أكبر عقبة في سبيل تنمية المجتمعات عموما, ومجتمعات العالم الثالث خصوصا.
ومن ثم لابد لصانع القرار ـ أيا كان ـ الذي سيتصدي للتخطيط المستقبلي لمجتمع ما أن يكون قادرا علي فهم وتحليل تناقضات العولمة. وقبل ذلك تكون له القدرة علي اتخاذ موقف رشيد, لايتمثل في رفض العولمة بطريقة مطلقة لأن هذا في حد ذاته مستحيل عملا, أو في قبولها بشكل كامل, فذلك يمكن أن يؤدي إلي الإضرار بالمصالح القومية.
ومن هنا تدعو الحاجة إلي صياغة حل يقوم علي التأليف الخلاق بين جوانب العولمة المتعددة بحيث يقلل ذلك من الخسائر ويعظم من المكاسب.
غير أن القدرة علي صياغة هذا الحل التأليفي الخلاق لايمكن أن تتبلور إلا إذا صدر صانع القرار عن رؤية استراتيجية متكاملة لصورة المجتمع المرغوب, ونحن ـ في مجال الدراسات المستقبلية ـ نفرق بين المجتمع المرغوب, والمجتمع الممكن.
بعبارة أخري قد نرغب في صياغة مستقبل مجتمع ما بصورة معينة, غير أن ذلك قد لايكون ممكنا لعدم توافر الشروط الذاتية والموضوعية للتغيير.
والشروط الذاتية تتعلق أساسا بالنخب السياسية التي ستقوم بالتغيير من ناحية وبالجماهير من ناحية أخري.
والسؤال هنا: هل هذه النخب السياسية التي ستقوم بعملية التغيير جاهزة لهذه المهمة من الناحية المعرفية أولا:ونقصد معرفة ما جري من تحولات في العالم, ومن الناحية السياسية ونعني توافر إرادة التغيير من ناحية والقدرة علي القيام به من ناحية أخري, وأهمية استعداد الجماهير للتغير بما في ذلك التخلي عن عديد من القيم السلبية المعوقة, وتبلور الإرادة الجماعية للاحتشاد وراء مشروع قومي قابل للتنفيذ وليس مجرد يوتوبيا نظرية.
غير أن العوامل الموضوعية لاتقل أهمية عن الشروط الموضوعية, ونعني بذلك حالة أدوات الإنتاج السائدة في المجتمع وامكانية تحديثها وتطويرها وشكل علاقات الإنتاج, والحاجة إلي إعادة صياغتها بما يتفق مع الرؤية الإنتاجية المطلوبة.
بعبارة موجزة.. نحن في مجال التخطيط المستقبلي لأي مجتمع نحتاج إلي التأويل الصحيح للماضي والفهم العميق للحاضر, والرؤية الاستراتيجية للمستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق