الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

فن التدريس بالقصة♥

 

 


فن التدريس بالقصة♥

عشرون نصيحة ناجحة للتخلص من قلق♦




عشرون نصيحة ناجحة للتخلص من قلق♦

الأسلوبية مدخل نظري و دراسة تطبيقية. فتح الله أحمد سليمان♦



الأسلوبية مدخل نظري و دراسة تطبيقية. فتح الله أحمد سليمان♦

قاموس-مصطلحات علم-النفس عربي انكليزي فرنسي عطوف محمود-ياسين_♥.pdf

 


 

قاموس-مصطلحات علم-النفس عربي انكليزي فرنسي عطوف محمود-ياسين_♥.pdf

الصحة النفسية والعلاج النفسي للدكتور ♦حامد زهران

 


 

الصحة النفسية والعلاج النفسي للدكتور ♦حامد زهران

 

تشكيل السلوك الاجتماعي ♦♣



تشكيل السلوك الاجتماعي ♦♣

المليونير المتشرد♦فيكاس سواراب♦♣

  



المليونير المتشرد♦فيكاس سواراب♦♣

قوة الذكاء الاجتماعي في تفعيل المسؤولية الاجتماعية ومفهوم الذات الاجتماعي.pdf

  



قوة الذكاء الاجتماعي في تفعيل المسؤولية الاجتماعية ومفهوم الذات الاجتماعي.pdf

معجم ديانات و أساطير العالم ج 3 الدكتور إمام عبد الفتّاح إمام

  



معجم ديانات و أساطير العالم  الدكتور إمام عبد الفتّاح إمام 

ج1

ج2

ج3 

خيري شلبي صحراء المماليك

 


 

خيري شلبي صحراء المماليك

بنغازي – طرابلس للاديبة : هدي حسين









في أول سنوات الجامعة، ذهبت مع صديقة لي إلى أحد قارئي كف تعرفه. قال لي الرجل أن حياتي مرتبطة بشخص أول حرف من اسمه A. قد يكون أول اسمه بحرف الألف، لكن قد يكون ايضا بحرف العين. قال إن الحرف مكتوب في كفي بالحروف اللاتينية. كنت ساعتها مرتبطة بشخص أول حرف من أسمه "م" لذا لم أكن أريد أن أصدق ما قاله قارئ الكف. فقد قال أيضا أنني غنية. وقال أنني سأتزوج وأنجب أطفالاً، بل وتجاسر إلى حد القول بأنني في أواخر حياتي سأعيش مع ابنتي!.. لم تكن فكرة الزواج في بالي. كنت صغيرة وخائفة وأريد أن أتم تعليمي بنجاح. نجاح غير ملفت. لأنني أخاف لفت الانتباه. لكن لم يكن هناك مانع من أن أبدو شقية ومرتبطة بفلان أو فلان، لأن هذا كان يبدو ملائماً لصورة الآخرين عن الكاتبة الشابة المتمردة. في الميكروباص إلى طرابلس، فكرت في أنني فعلا متمردة، لكن ليس بهذه "الصورة". ليس بهذا الأكلاشيه.
فكرت أيضاً في أحمد. أحمد الفرنسي الجنسية ذو الأصل الجزائري الذي تعرفت عليه في كافيتريا السوروبون بينما كنت أنتظر زوجاً من الأصدقاء. كان ذلك في رحلتي إلى باريس عام 1995. كنت أريد أن أجلس على حافة النافذة الطويلة العريضة لكنني لم أستطع لقصر قامتي أن أقفز بالعلو الكافي لكي أصل إلى غرضي. عرض أحمد أن يرفعني. كان طويلا نحيفاًُ بشعر بني ناعم وبشرة قمحية.. وجهه أليف بابتسامة ذئب عجوز.. لم أكن بعد أعرفه. بعدما رفعني، ذهب وأحضر مشروبه وطفاية وجاء ليجلس إلى جواري على حافة النافذة. خلفنا كانت الخضرة جميلة وأمامنا كان باقي طلبة الدراسات العليا يشربون قهوتهم ويتحاورون في قاعة الكافيترية البنية اللون. بادرت:
- اللون البني طارد! أما الأخضر فمريح للقلب.
- صحيح. (قال مبتسما ثم أشعل سيجارة وعرض علي واحدة.)
وقبل أن يعرف اسمي أو أعرف اسمه، أخذت أحدثه - وجعراني الفيروزي معلق بالطوق الفضي في رقبتي – عن ألوان الطيف، والأهرامات الصغيرة الزجاجية التي كان يصنعها الفراعنة للاستشفاء ويضعونها على المنطقة ما بين الحاجبين، تلك المنطقة التي تسمى بالعين الثالثة. أخبرته أن الهرم الأخضر بين أهرام الطيف، كان للشفاء من أمراض القلب. سألني أحمد:
- أمراض القلب العاطفية؟ أم الجسمانية؟
ضحكت وقلت:
- الجسمانية مثل مشاكل شرايين القلب والدورة الدموية.
- انت في كلية علمية؟ (سألني. فضحكت وأجبته)
- لا! أنا أنهيت دراستي الجامعية. أنا خريجة آداب فرنسي جامعة القاهرة.
- أنتِ مصرية! كان يجب أن أخمن ذلك بسبب الجعران في رقبتك. ما اسمك؟
- هدى.
- هدى. اسم جميل!
- غريب تنطقه بسلاسة!
- نعم أنا جزائري واسمي أحمد. أعمل في الليسيه هنا، وأحضرالدكتوراه.


كان حذائي يؤلمني وقررت أن أذهب لأشتري حذاء بعد أن تأخر من أنتظر. عرض أحمد أن يأتي معي وأن يدلني على أماكن المشتروات الرخيصة إن كنت أريد ايضا أن أشتري تذكارات لأسرتي ولأصدقائي في مصر. مشينا نضحك في الشوارع وأنا أحمل حذائي في يدي وأمشي حافية.


في محل أحذية على الشارع دخلت. دخل معي أحمد وبدأت أقلب في المعروضات على طريقة سوق الموسكي والعتبة. أثناء ذلك كان أحمد يكلم البائعة ويقلب أيضا في المعروضات. وبعد 20 دقيقة تقريبا وجدته قريباً مني وأنفاسه في شعري يسألني:
- هل تجربي هذا؟ إنه رقيق مثلك وأنثوي. صناعة إيطالية.
كان في يده فرده حذاء أبيض من الكروشيه بنعل مغلف بالقماش الأبيض، وبشرائط على الجانبين. كان يشبه أحذية الباليه لولا كعبه الأعلى قليلاً.


لم أكن ساعتها قد قابلت بعد "برناديت" صديقتي السويسرية التي أخبرتني ان ابنها في جنوب إيطاليا. ولم أكن بعد قد حلمت بأميرة الجنوب. لكنني كنت قبل أن أسافر بأيام، في بيت واحدة من صديقاتي. وكانت عمتها تقرأ الفنجان. قالت عمتها ضمن ما قالته بينما تقرأ فنجاني أنني سأشتري حذاءً أبيض.. ألح أحمد على سؤالي إن كان ذوقه يعجبني. فأجبته بأنه ينبغي أن أجرب المقاس أولاً. جلس أحمد على الأرض وفي يده الفردة التي جاء بها وقال هيا يا سندريلا جربي فردة الحذاء. ضحكت وبرشاقة أفلام الكرتون وضعت قدمي في الحذاء الذي يا للبراعة كان مقاسي بالضبط!


قالت البائعة: 30 فرانك. دفعها أحمد. لكنها طلبت مني أن أختار حذاءً آخر هدية. كان محل أحذية حريمي فقط لهذا لم أستطع اختيار شيء لأحمد. لذا اخترت حذاءً لأمه.


لا أعرف لماذا تذكرت أحمد الجزائر فور تحرك المايكروباس بعيداً عن أحمد ليبيا. كان في عيني كل منهما شيء مشترك. حنين ما. حنين إلى بلد الأم. نظرت حولي في الطريق، كانت هناك عمارات كثيرة غير مكتملة البناء بحيث يشعر الواحد أنه في بلد كلها تحت الإنشاء. لم يكن الليبيون الذين يركبون معي المايكروباص يشبهون أحمد: لم يكن أي منهم يبتسم. ومن ابتسامة أحمد ليبيا تذكرت ابتسامة أحمد الجزائر. إنهما يشتركان في ابتسامة واحدة أيضاً. ابتسامة تشبه أن تقابل قريباً لك صدفة بينما أنت في المنفى. قريب يذكرك بوطنك.. هكذا ظل أحمد ليبيا يحكي عن الأكندرسة ويريدني أن أحكي له عنها. وبقي أحمد الجزائر يريدني أن أحدثه بالعربية بدلا من الفرنسية. برغم أنني لا أفهم لهجته الجزائرية. كان يقول:
- تصنعي أنك تفهمينني! ثم إنني أنا أفهمك! أريد سماع العربية.
- ما رايك يا أحمد، لا جزائرية ولا مصرية. هل تحب فيروز؟
- فيروز هي القومية العربية، يا مرسال المراسيل ع الضيعة القديمة..
- خد لي بدربك ها المنديل واعطيه ل حبيبي..
- هاي! صوتك ملائكي يا هدى! غني غني!


كان صوته شديد العلو والنشاذ. لكنه كان متحمساً جداً. أنا كنت أحاول ألاّ أفقد التون والإيقاع. كان قد نسي بعض الكلمات وتذكرها عبري بينما نغني. وعندما انتهينا قال:
- هدى. أنا أكبر اخوتي. عندي ثلاث أخوات. وفقت في تكاليف تزويجهن بعد وفاة الأب. الآن أعيش مع أمي. عمري الآن 38 سنة هل تعتقدي أن سن الزواج فاتني؟
- لا بالتأكيد! هناك رجال يتزوجون في سن أكبر من ذلك بكثير..
- إذاً هل توافقين على الزواج مني؟
- لا أعرف.. لم أتوقع هذا الكلام.. دعني أفكر.. الآن سأعود إلى الفندق. سأسافر بعد غد، غداً نتقابل وأخبرك برأيي.
- لماذا الفندق، يمكنك أن تبيتي عندنا أنا وأمي!
- لا أريد أن أذهب إلى الفندق.. كي.. كي أرتب حقيبة سفري..


تركت أحمد عند محطة "سان ميشيل". وتواعدنا أن نتقابل اليوم التالي في محطة سان ميشيل الثانية عشر ظهراً لأخبره بقراري. طبعاً في تلك اللحظة كنت قد قررت ألا آتي إلى المحطة ولا أخرج من الفندق حتى ميعاد السفر خوفاً من أن يلاحقني. لكنني فكرت بينما أنا في حجرتي في الفندق قرب "نانتير" أنني لو هربت منه هكذا أكون خسيسة جداً لأني على الأقل لم أحترم النهار المبهج الذي قضيناه. لم أكن أريد أن أعامل شخصاً صدقني هكذا بخسة الهروب لذا قلت لنفسي إنه من باب الاحترام له قبل، أن يكون لي ،ينبغي أن اقابله وأواجهه بأنني لا يمكنني أبني حياتي على حنينه للغة العربية! وأنني لا أملك مثل هذا الحنين. بل ولا أحب فكره أن يحن المرء أصلا. ثم إنني لي أم وأب في مصر ولن أتركها لآتي وأعيش معه هو وأمه. كما أنني لا أحب أن أعيش خارج القاهرة!


عندما عدت اليوم التالي لأقول له هذا الكلام. سحبني من يدي في المحطة ورفعني لأعلى وقال: عندي مفاجأة!


جلسنا في أحد المقاهي. أخرج مظروفاً من جيبه وقال لي القي نظره على هذه الصور. كانت صوراً لتفاصيل داخلية وخارجية لبيت جميل به حديقة خضراء رائعة. قال أحمد:
- هذا بيتي. في ضواحي باريس. بيتي أنا وليس بيت أمي. أنا بنيت هذا البيت بنفسي. هل يعجبك؟ هل يصلح لنا؟...


في المايكروباص، كنت أفكر. لم أكن ساعة ما عرض علي أحمد هذا البيت قد تعرفت على برناديت التي قالت لي أن الحب سيأتي من الجهة الأخرى من البحر المتوسط. قد أكون أخطأت في رفض أحمد الجزائري. هكذا كنت أفكر في الطريق إلى طرابلس. كلام قارئ الكف، وككلام قارئة الفنجان وكلام برناديت.. كله يؤكد أنني ضيعت فرصتي في الحب. لكن أميرة الجنوب كانت تقول عكس ذلك تماماً. كانت نهاية الحلم تحذرني من الوقوع في الأسر بسبب الحب. أظن أن هذا هو ما كان سيحدث لي لو كنت قبلت الزواج بأحمد ذي العروض الفخمة حول البيت الجميل والجنسية الفرنسية. كانت هذه العروض تصيبني بالاشمئزاز والشعور بالشفقة. لم يكن من الممكن أبداً أن أحب شخصاً واشفق عليه.


وصلنا طرابلس وأنا على يقين أن هذه الرحلة خصتني بها أميرة الجنوب لكي أكمل مهمة بدأتها هي. ظهرت لي وكأنما تريدني أن أنقذها. ثم قادتني إلى رحلة اكتشاف تنقذ فيها نفسي.







رحلات زمانية ومكانية - هدي حسين









كنت ذاهبة إلى مكان تجمع المثقفين أحد أيام الثلاثاء بعد يوم شاق داخل جاليري الفن التشكيلي المعاصر الذي كنت أعمل فيه. حاملة على كاهلي ثقل اليوم الطويل، ومشفقة على نفسي من عبء كبت انفعالاتي وأفكاري وهلاوسي أمام هذه الصفوة المفكرة التي لا تؤمن بالميتافيزيقا.. بروح ساخرة لا مبالية اتخذت مسافتي المعتادة بيني وبين اكتئابات أو معاكسات أو صفقات الحاضرين، ودخلت. كانت سيدة سويسرية في الأربعينات من عمرها تجلس إلى أحد أصدقائي. لم يكن يعرف سوى اللغة العربية وهي لم تكن تعرف سوى الفرنسية وانجليزية لا بأس بها.. كانا يبدوان متفاهمين جداً. هو في حالة سكر بين وهي منهارة من الضحك. طلب مني صديقي أن أترجم بينهما. وكنت لا أفهم ما داعي اللغة ماداما متواصلين بدونها.. فبدأت أتحدث إليها. تصادقنا بسرعة. وبدأ هو يشعر بأنه غير متابع لما يدور حوله فتركنا وانضم إلى طاولة أخرى. قالت بيرناديت: طبيعتي ألا أنفتح على الناس بسرعة هكذا، يلزمني على الأقل أسبوعين مع أي شخص آخر حتى أقرر إن كنت أطلعه على ما أطلعك عليه الآن في لقائنا الأول.. أخبريني بتاريخ وساعة ميلادك..ينبغي عندما أعود إلى بيتي أن أفحص خرائطي الفلكية ربما نكون قد تقابلنا في حياة أخرى.. انتظري مني مكالمة تليفونية.


ذهبت بيرناديت بعد هذه الجملة. وبقيت وحدي على الطاولة. أتذكر ما حدث في بداية اليوم، وبينما أنا في الطريق إلى العمل، مستقلة الأتوبيس العام، لمحت "أميرة الجنوب" أو طيفها يمر في الشارع بينما تنظر لي.. كان طيفها يرتدي الثياب ذاتها التي رأيتها في الحلم. وكانت تنظر لي كأنما تريد أن تبلغني شيئاً. كأنما تنتظر مني أن أفعل شيئاً. ذهلتني رؤيتها هكذا في الشارع. لم يكن قد حدث لي من قبل أن خرجت موتيفة من أحد أحلامي لكي تتجول أمام عيني ضمن الخيالات المتجولات في واقعي النهاري.. لم أخبر أحداً بهذا ذلك اليوم. ولا حتى بيرناديت التي بدت لي الشخص المناسب تماماً روحياً وخبراتياً مع أمور الروح لإبلاغه بأمر كهذا.. لا أستطيع القول بأنني لم أصدق عيني. كيف لا أصدقهما! كنت فقط مذهولة ومنتبهة لأقصى درجة... ماذا يحدث لي؟...


اتصلت بي بيرناديت بعد أسبوع من لقائنا الأول. خلال هذا الأسبوع كانت أميرة الجنوب قد ظهرت لي مرة أخرى في الواقع النهاري. في المقهى. كنت في حالة مزاجية سيئة سببها تشتتي الاجتماعي والثقافي المعتاد... ظهرت أميرة الجنوب لي وقد خلعت صندلها ووضعته بجانبها، وجلست على الأرض في ركن المقهى، جوهرة تاجها على الأرض، تضربها بشاكوش في حزن شديد وغضب نابع من شعور بظلم ما. كانت تنظر لي نظرة تأنيب، وكأنما تقول بسببك لن تكون لجوهرتي حواف..


لم أستطع أن أتحمل هذا المنظر، ففرت إلى أول تاكسي متجهة إلى البيت.. في التاكسي، أخرجت ورقة وقلم من حقيبتي. رسمت خريطة مصر. ورسمت على الخريطة خطاً يشبه مسار رحلتها... كانت متجهة إلى ليبيا.
في البيت حاولت سدى استحضار صورة أميرة الجنوب لتخبرني ماذا تريد مني، قطع جرس التليفون تركيزي. كانت بيرناديت. قالت: تعالي حالاً. كنت قد رسمت بورتريه بالقلم الأزرق الجاف لأميرة الجنوب. وضعته في الحقيبة وخرجت إلى بيت بيرناديت. كنت قد نسيت تماماً موضوع خرائطها الفلكية هذا. لكني كنت متأكدة أن أميرة الجنوب كانت أنا في حياة سابقة، أو أختي (معادلي) في حياة حالية في مكان آخر.


بيرناديت جلست على وسادة عالية فوق الأرض، وأجلستني على مقعد عالي الظهر والأرجل. حقيبتي على رجلي والخرائط على قدميها. قالت: "من الطبيعي جدا جدا أن أشعر تجاهك بكل هذه الحميمية في فترة قصيرة. لو تعرفي كم الحيوات السابقة التي تقابلنا فيها ستدهشين.. سأخبرك عن أهم هذه الحيوات فقط فهي كثيرة.. مرة كنا أختين. وكان بيننا عواطف العشاق فعوقبنا في الحياة التالية بيننا بأن نكون أخان، كل منا يحارب من أجل قضية منافية لقضية الآخر، فتحاربنا وقتل أحدنا الآخر. هكذا عوقبنا في الحياة التالية بيننا لأن نكون صديقتين في المدرسة، أنت أحببت شاباً خطفته أنا منك لمجرد الأنانية. فعوقبت هذه المرة بأن تنفى روحي إلى بلد باردة وأولد في سويسرا، بينما تسكن روح هذا الحبيب ابني بحيث لا يمكنني في هذه الحياة فعل الخطيئة ذاتها التي فعلتها سابقاً. أما أنت فلم تدافعي عن حبك. هكذا نحن هنا الآن وبيننا كل هذه العلاقات الحميمة السالفة. وأنا هنا وأنت هنا.


اندهشت لخرائط بيرناديت، ومنها تذكرت خريطة مصر التي كانت الأميرة تمشي عليها. أخرجت الصورة التي رسمتها لها وعرضتها على بيرناديت. أخذت تتأملها بينما أحكي لها عن الحلم والهلاوس البصرية التي انتابتني بعده. قلت لها أيضاً أنني أفكر في الذهاب إلى ليبيا لكي أكمل للأميرة مسيرتها التي انقطعت وسط الطريق. بدا على بيرناديت القلق ومحاولة الظهور بمظهر لامبالي. سألتها ما رأيها في هذا الحلم وهذه الهلاوس.. قالت : قد تكون الحدود التي ينبغي عليك أن تعبريها ليست حدوداً جغرافية. قد تكون حواجز نفسية أو اجتماعية ما..
برغم كلام بيرناديت سافرت إلى الاسكندرية. أخذت نهاري على البحر بالقرب من قلعة قايدباي. جلست على سور الكورنيش وجهي للبحر وظهري للطريق.. تذكرت كلماتها: "ابني الآن في سيسيليا، مع فتاة إيطالية من الجنوب يحبها حب جنون.. لو لم يكن كذلك لقلت إنه سيعود إليك في هذه الحياة. لكنني متأكدة أن تعويضاً عاطفياً ما سيأتيكي من وراء البحر المتوسط." كان ذلك عام 1997.


قرب العصر، أخذت الميكروياص المتجه إلى بن غازي.




أميرة الجنوب - اميرة الجنوب









ولدت عام 1972. أي أنني لم أشاهد أي حرب مصرية ضد محتل. صحيح كانت هناك حرب 1973. لكنني كنت ساعتها مازلت رضيعة. مع ذلك حلمت بها ذات يوم. أميرة من الجنوب. شابة يافعة في الثامنة عشر من عمرها تقريباً. ترتدي ثوبا من الكتان عاجي اللون، وعلى كتفها عباءة ملكية حمراء من المخمل. شعرها الأسود الطويل مجعد وهفهاف. يزينه وشاح أبيض طري شفاف وقصير كالمنديل من الخلف مرتبط في طرفيه سلسلة معدنية فضية اللون يتوسطها عند الجبهة قرص يشبه قرص الشمس بأشعة فضية مموجة. وفي مركز القرص توجد ياقوتة كبيرة حمراء. كانت هذه الأميرة تمشي على خريطة مجسمة لمصر من الجنوب الشرقي متجهة في الصحراء الشرقية صوب النيل. خلفها كان سرب من أربعين نفرا يتبعونها. كان الجميع يتحركون على الخريطة المجسمة تماماً كما تتحرك الطيور في السماء مواسم الهجرة، متجنبة الرياح المعاكسة والمطبات الهوائية.. في قدميها نعلٌ من الجلد به سيور تربطه بالقدم. عندما وصلت إلى النيل مشت بحذائه فترة ثم عبرته وانحرفت غرباً. كانت رحلة فيها تصميم وإصرار بحيث لم تكن تنظر أبداً خلفها ولم تكن تعرف حتى أن أربعين نفرا خرجوا وراءها تأييداً. أثناء قيامها بهذه الرحلة، كان هناك مستعمرون همج ما آتون من خلف البحر المتوسط، وقد دمروا كل مدينة دخلوها وقتلوا وشردوا وقطعوا نخيلا. أخبارهم المشئومة كانت تتقدمهم. وبينما هي في رحلتها هذه مصممة على رؤية ملكهم، كانت جحافلهم تتقدم في ليبيا. لم تستطع أن تصل إليهم قبل أن يدخلوا مصر. قابلتهم في إحدى الواحات التي تتوسط، وقد تكون أقرب للشمال من الوسط، الصحراء الغربية. ثم حدث قطع. ودخل مشهد جديد حيز الحلم. كانت الأميرة الجنوبية التي تطل أرض عشيرتها على البحر الأحمر من الناحية الشمالية الشرقية، تعتلي عربة خشبية مذهبة يجرها حصانان أسمران. كانت هي التي تسوق العربة. وبينما كانت تلف متفادية تل رملي كبير، ظهر لها رجل من الجهة الأخرى للتل على قدميه بملابس حربية. ظنت أنه هو ملكهم. استوقفته فوقف مبهورا بجمالها. قالت: أيها الملك الآتي إلينا غازياً، ثمار نخل هذه الأرض لزارعيه. فإن كنت غازيا تبغي ملكاً، فالملك لك وحدك شريطة ألا تقطع نخلة، ولا تسفك دماً ولا تلوث ماء النهر. انبهر قائد الجيوش والمخطط الحربي للملك الغازي بهذه العقلية الزاهدة في السلطة، الحامية لعناصر الحياة، فخر على ركبتيه احتراماً وافهمها أنه المخطط الحربي وقائد الجيوش فقط. وإنه أمام ما قالته لا يملك سوى الطاعة باقتناع واحترام. وأنه من هذه اللحظة لن يشارك في الحرب ضد أهل هذه الأرض الذين يفكرون بهذا الشكل. كما أنه سيتوقف عن التخطيط الحربي لصالح ملك ليس سوى متعجرف أرعن أمام هذه الحكمة وهذا الكرم من الأميرة.


عرف بعض الجنود بالأمر فابلغوا ملكهم الذي ما إن أدرك أنه فقد قائد جيوشة، ذا الحنكة والذكاء اللازمين لتخطيط حرباً، خشي أن يشن هذا القائد مع أميرته المحبوبة حرباً مضادة. فأمر بدخول البلاد، وسفك الدماء وقطع النخل ورمي الجثث في النيل. ثم قبض على قائد جيوشه وحبسه في قبو له بوابة حصينة. بمعاونة العشيرة، وبالحيلة، استطاعت الأميرة أن تجد طريقة لفتح باب السجن ليلاً في محاولة لتخليص هذا الرجل النبيل الذي أحبته. ولما رآها قائد الجيوش تدخل عليه السجن فاضت عاطفته وظل يعانقها وينهال عليها بالكلمات العاشقة. بينما هي متوترة تحاول أن تجعله ينتبه إلى أن الوقت ليس في صالحهما، وأنه عليهما أن يخرجا من السجن أولا ويهربا بعيدا عن معقل الجيوش وبعدها يمكنها في أمان أن يتبادلا أمور العاطفة. لكنه كان منجذباً لا يستطيع التفكير بالعقل أمام فرحة رؤيته لها مرة أخرى وفرحة شعوره بالقدرة على الخروج من السجن.


وأثناء ذلك أبلغ الحراس الملك بما يحدث، فجاء إلى السجن. في الحلم، رأيته. ربعة متين البنية بشعر أشعث، واقفاً أمام باب الزنزانة، عاقداً يديه. ينظر إليهما ويبتسم في خبث.


بعدها لم أر شيئاً. فقط إضاءة باهرة كأنه ماس كهربائي. واستيقظت. بالكاد يمكنني التنفس. وكأنما الهواء انكتم في رئتي ولم يعد يريد أن يخرج زفيراً. شهقة. غصة. وعيوني مفتوحة عن آخرها، مشدوهة، مصعوقة. متذكرة كل التفاصيل. تفاصيل الصورة. تفاصيل الأحداث. تفاصيل الحوار والشعور. انتهى الحلم هكذا، بنهاية مفتوحة على لحظة تشويق. عاودت النوم لربما تأتيني بقية القصة. ربما أعرف نهايتها. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. استيقظت في الظهيرة. وشعرت بالسخف والسخرية من النفسي. فماذا أنتظر من أضغاث أحلام؟... قلت لنفسي قد أكون شاهدت فيلماً ذات يوم ما هذه قصته وقد عادت لسبب أو لآخر إلى مقدمة الذاكرة اللاواعية.. شعرت بالخجل من نفسي فقاومت الحلم وتناسيته وواصلت مسار حياتي نافضة عن ذاكرتي هذا الحلم السخيف.




باب الخيال - هدي حسين



لم يعد هناك مجال للحلم. فقد تخطيت السادسة عشر من عمري ومازلت لا أعرف ما هي الإمكانية التي بداخلي والتي بسببها استطعت أن أتخطى السن المصروف لكل البشر.. عندما بلغت السادسة عشر، كنت قد عرفت أن فكرتي الأولى عن العمر المصروف مجانا للبشر، والعمر الذي يحظون به بسبب أفعالهم، فكرة خيالية. وكنت – مع اعتقادي في بداهة هذه الفكرة غير المعمول بها – أسخر من نفسي أنني لفترة طويلة جدا كنت أظنها حقيقية. لكن بسبب اقتناعي التام بأنها فكرة صالحة، لي على الأقل، فقد بقيت بائسة أفكر ما هذا الشيء الذي أستطيع فعله والذي بسببه أبقاني الله حية بعد السن القانوني؟!.. كل ما أتذكره أنني فقدت الأحلام. ظننت ساعتها أنني فقدتها إلى الأبد. وبدلاً منها كانت تأتيني "خيالات". كنت ما أزال محافظة على علاقتي بالجمادات، والحيوانات والطيور. مازلت أحاور الكراسي وأتحسس لحاء الشجر، وأكلم السماء كل فجر، وأعود الملابس عندما تمرض..الخ.. لكن بالإضافة إلى ذلك بدأت تظهر لي أشياء لا يمكن لغيري رؤيتها. فكان هناك أسد يقف محشورة في الممر الواصل بين المطبخ والصالة، وجهه للصالة، والشعر الذي يحيط برأسه على شكل عباد الشمس يقطر عرقا بنفسجيا.. وكانت هناك أفكار مجسمة تسكن الشجرة المطلة على الشرفة. كانت خيالات تتراءى لي. لا تتكلم معي لكنها تتحرك حولي. حتى أنه كانت هناك عائلة بكاملها تسكن حائط الصالون. تسكن في الحائط، وتنتظر مني أن أفتح لها لتدخل. لكن خوفي من هذه الخيالات كان يمنعني. كنت أرى هذه الأشياء وأرتعد وأجري من المكان. وأستعيذ بالله من الجن والعفاريت.. ذات يوم أثناء اليقظة، لم أرى غيري، وأمامي مباشرة الكرة الأرضية تدور حول نفسها. شلني المنظر فلم أستطع الهروب من مكاني. كنت وكأنني مشدودة للأرض التي تدور أمامي. وعندما استعذت باللة من شدة الخوف، رأيت المجرة بكاملها كدوامة تدور في الفضاء. رأيت المجرة ورأيت الفضاء. رأيت مجرات أخرى حولي وأتربة كونية، ومدارات وكواكب ونجوم.. ساعتها توقفت عن الاستعاذة، وتذكرت ميزة أن يظهر لي عفريتاً في الزي المدرسي.

لفترة ظننت أن شقتنا مسكونة بالعفاريت، أو مشحونة بطاقة غريبة نابعة من تاريخ المكان الذي نعيش فيه أو ما شابة. فلم تكن هذه الخيالات تتراءى لي سوى داخل الشقة. مرت سنوات. وأعتدت على هذه الخيالات. صار ظهورها واختفائها وتنوعها لا يخيفني. صار يؤنسني. وكنت صامتة لا أحدث بها أحداً. حفظت سر وجودها. وتشجعت، بالكتابة، ذات مرة لأفتح الباب للأسرة المحبوسة في الجدار. فردا فردا بدأت أستدعيهم، وأكتب عنهم ما كانوا يتمنون أن يحدث لهم لو كانوا بشراً، بينما أعيش معهم حياتهم البائسة كأشباح لا يقدرون على شيء من المادة، يحسدونني على جسمي وعلى أعصابي وقدرتي على حمل الأشياء الثقيلة، بل وحمل القلم نفسه كان بالنسبة لهم أمراً معجزاً. كنت مراسلتهم إلى عالم المجسمات الجماد منها والحي. أديت المهمة، وكانت رواية "درس الأميبا"، هذه هي أحلامهم وآمالهم التي لم يكونوا ليؤذوني لو لم أحققها لهم، لكنهم كانوا سيبقون حبيسي الجدار. أما شخصياتهم الأصلية، طبيعتهم، حالات حركاتهم في المكان وعلاقاتهم ببعضهم وبي، فهذا ظل سراً محفوظا بينناً، ووعدتهم ألا أفشيه أبداً. حققت لهم أمنيتهم فرحلوا. ومن وقت لآخر كانوا يزورونني عندما يطرأون فجأة في الذاكرة. يزورونني بشخصياتهم الحقيقية، لا بالصورة التي أرادوني أن أجعلهم عليها في كتابتي. وحتى الآن يحفظون الجميل.



شرب الدم - هدي حسين









تقول كتب الأحلام التي طالعتها حينذاك، أن شرب دم المشنوق يعني الشعور بالذنب تجاه خطأ فادح، والرغة في الحصول على عقاب وافي للتطهر من هذا الدنث. أما بعض الكتب الأخرى فقالت إن أي حلم به دم مراق فهو حلم فاسد، ولا ينبغي أخذه في الحسبان لأنه مجرد "أضغاث أحلام". لكنني لم أستطع نسيان هذا الحلم برغم مرور أكثر من سبعة عشر سنة عليه. وإنه كلما تذكرته اكتسب حيوية كأنني أراه الآن.


كنت نائمة على سريري. ثم فتحت عيني ببطء في ظلام الليل. كان الهواء محمل بالدخان، بالضباب. لكنه كان مفرغا من كل صوت. وسط هذا الضوء الشاحب، رفعت الغطاء عني وجلست على سريري أنظر إلى الأرض تحتي. لم أكن أبحث عن شبشب. كنت فقط أنظر لأسفل، نظرة من يجل أحداثاً ما بينما لا يستطيع التدخل فيها. وبينما أنا كذلك أتقبل "القدر" بلا استنكار أو غضب، رأيت قطرات حمراء من الدم تسقط على الأرض وتتجمع في نقطة واحدة. تسقط بانتظام كأنتظام دقات المنبه. رفعت عيني لأعلى، فوجدت شاباً ممصوص اللحم مشنوقاً بحبل سميك خشن مثبت بسقف الحجرة، بينما يتدلى الشاب بلا حركة وكأنه تمثال من الجلد والعضم. أصابني الذعر لما فهمت بسرعة أنه المطلوب مني أن أفعله.. نظرت إلى الأرض مرة أخرى كان طبقي المفضل هناك، كعادته أحمر بلاستيكي، وفيه تتجمع القطرات. كان هناك شيء يدفعني من الخلف كأنه مسدس، شيء لا يمكنني أن أتغاضى عن تهديده لي، يطلب مني أن أرفع الطبق إلى فمي.


ببطء نزلت بجزعي بينما أنا جالسة على السرير، والتقطت الطبق بيدي، ورفعته. بقيت أتأمله للحظة. كانت انعكاسات الأضواء فيه تجعل الدم يتحول تدريجيا من أحمر دامي إلى فضي وأزرق وبنفسجي. انصعت للمهة قبل أن يتجلط الدم ويكون ذلك أصعب في شربه. وبينما أنا أرفع الطبق إلى فمي وجدت على صفحته رغيفاً مستديرا، من ثنيات الرغيف، تكون وجه المسيح. ابتسم لي بما يعني كلي واشربي ولا تخافي. غمست لقمة في الدم وبحذر ذقتها بلساني.. كان طعمها ما عرفته لاحقا، نبيذا أحمرا معتقاً. فرحت.


وضعت الطبق مرة أخرى تحت أقدام الشاب المشنوق. وبدأت أدعو المسيح أن يسرب إليه الخبذ والنبيذ حتى تعود له الحياة. وبينما كانت محتويات الطبق تتحول بخاراً مصوباً تجاه أقدام الميت التي بدأت تمتص ما يأتي من زاد، عدت مستلقية في الفراش. أعدت الغطاء فوقي، وأغمضت عيني.


استيقظت من النوم بعدها مباشرة. كان الليل مازال يخيم على الحجرة. نظرت للسقف غير متأكدة أنني لن أجد المشنوق هناك. إلى هذه الدرجة كان الحلم واقعياً.. لكن شيئا لم يكن في السقف سوى اللمبات النيون الطفأة. خرجت إلى المطبخ، كان طبقي البلاستيكي الأحمر المفضل يحتل مكانه الطبيعي في المطبقية. خرجت إلى الشرفة. كان الهواء بارداً والقمر بدراً. بقيت هناك. أتخلص من سخونة جسمي بعد حلم مرعب كهذا. عندما عدت إلى فراشي، خيل لي في تهاويم الضوء الليلي الشاحب، أن تنيناً له جلد بني وسميك يجلس على طرف السرير حيث أضع قدماي. عاملته معاملة عفريت الزي المدرسي: حاولت أن أخلد للنوم في وجوده.
كان هذا الحلم نهاية لمرحلة ما. بعده، بقيت فترة طويلة جدا بلا أحلام.




ذكريات - هدي حسين







الذكريات الحقيقية، هي تلك التي عشناها قبل أن نعي أن الحياة لا معنى لها في هذا العالم. للحياة معنى بالقطع. لكن في عالم آخر..عالم تتحول فيه الأصابع إلى لعب. والخيال إلى حقيقة مرئية ومسموعة.. تكاد تكون ملموسة..عالم بعيد كل البعد عن نشرة الأخبار، وعن لزوم شراء الخضروات كل ظهيرة، عالم بعيد كل البعد عن ضرورة الأكل، والهضم المتعسر غالباً لعدم استساغة ما يتم إدخاله عبر كل قنوات التوصيل للوعي.. تراب الشارع وضجيج الجيران، ونظرات المارة.. أحياناً أظن أنني مجنونة فعلاً.. فقط يكفي أن ينظر لي أحد المارة في الشارع بينما أبحث تائهة عن علبة سجائر سوبر كليوباترا التي باتت شحيحة هذه الأيام وتباع بسعر مرتفع في السوق السوداء... هذه السجائر التي أعتبرها أحدى الخصال التي ورثتها من أبي. هذه الخصلة التي تنكر لها فيما بعد.. بسببي على ما أتذكر. كان أبي يدخن قبل أن أولد. "كباية شاي مع سيجارتين بين العصر والمغرب" كانت أغنيته المفضلة.. وبين العصر والمغرب، كان أبي يصنع لنفسه كوب شاي ويجلس في الشرفة المطلة على شجرة وحيدة وارفة، هي وحدها التي نمت نيابة عن ثلاث شجرات أخرى تم زرعها في الممر المبلط الذي تطل عليه شرفة شقتنا.. أحس بحركة أبي الرهيفة من شرفة الصالون. أقطع المذاكرة بحجة الرغبة في دخول الحمام.. في الطريق إلى الحمام أتأكد أن أمي مازالت تتابع الفيلم الأجنبي في حجرة نومهما، بينما تذاكر أختي في حجرتنا.. أتخيل الهواء في الصالة. أرى الهواء حولي. أحاول أن أتحرك دون أن أخدشه، أفتح فيه مسارات متواضعة تكفي لمروري.. من الصالة، إلى الصالون.. بهدوء، أفتح باب الشرفة الموارب، لأفاجئ أبي. لكنني صغيرة. لا أتعدي السبع سنوات. وهو يملك أربعين سنة أكثر مني. ويعرف أكثر عن الهواء وخدشه. أتسحب إليه، فيفاجئني هو: "بِخ!" فأصرخ..


- "عارف يا هدهد؟ أجمل شيء في الدنيا السماء. أنا أحب أجلس هنا كل يوم. أنظر للسماء. وأفرغ رأسي من العمل وهمومه. كل شيء خلقه ربنا يعرف ماذا يريد. إلاّ الإنسان.. هي دي الأمانة."
- "كيف؟"
- "كل مغرب، ترجع الطيور إلى الشجرة. في الصبح تخرج لتأكل. تعرف لماذا تخرج. تعرف لماذا تعود. تعود لتنام. الطيور تريد أن تجد الطعام وأن تأكل وأن تنام. الشجرة تريد ماء وشمس وطين وهواء.. حتى الكلاب تعرف ماذا تريد.. لكن هل ممكن تقولي لي ماذا يريد الإنسان؟"
- "نحن أيضا نأكل وننام. أنت تذهب للعمل وأنا أذهب إلى المدرسة.. نحن أيضا نحتاج هواء وماء وشمس وأرض.. نحن مثل الشجر مثل الطيور لا أجد فرقاً."
- "هذا لأننا نشبه كل شيء. نشبه النبات ونشبه الطائر ونشبه الحيوان.. لكن هناك شيء إضافي فينا. شيء اسمه الطموح. الهدف. الاختيار. مثلا، لا يمكن أن نسأل الطائر الصغير ماذا يحب أن يكون عندما يكبر. لكن يمكن أن أسألك؟ "
- "عندما أكبر أحب أن أكون الهواء."
- "هاهاها! ماذا؟.. لماذا؟
- "حتى لا يستطيع أحد أن يعيش بدوني.. لكن أيضا حتى لا يراني أحد."


يرشف أبي الشاي ويدخن سيجارته بينما أتطلع أنا للدخان بحذر.. أريد أن أكون هواءً نقياً، الدخان يمكنه أن يُرى.


الآن أدخن سجائر كثيرة. من نفس نوع السجائر التي أقلع عنها أبي. والعالم يسير بدوني بلا أدنى مشكلة.. يا أبي، لماذا كنت تعلمني الحكمة، وأنا ذاهبة إلى عالم محكوم بقوة السلاح؟.

الجنة، والخديعة البيضاء - هدي حسين





في حوش الابتدائي كانت زميلتان لي تلعبان نط الحبل. طلبت مني أختى أن ألعب معهما. كما طلبت منهما أن تشركاني في اللعب ، وإلاّ... أمسكت كل واحدة منهما بطرف الحبل وطلبن مني أن أقفز دون أن ألمسه بينما هما يدورانه لأعلى واسفل. لم أكن أرغب في اللعب. كنت أريد أن أجلس على السلم وأواصل حواري مع السماء والأشجار والغربان المتناثرة هنا وهناك.. نظرت لأعلى كانت شجرة كثيفة أمامي، بينما التلميذتان تحثانني على النط. انفتحت في الشجرة عين ومن داخل بؤبؤ العين ظهر عجوز بلحية بيضاء يشبه "بابا نويل" لكنه لم يكن يرتدي زيه الأحمر. نظر لي وهمس صوته في أذني بأن أصعد. لم أعرف كيف أفعل هذا. الشجرة عالية جدا. لكنني أريد أن أصعد. قفزت لأعلى بكل عزمي.


من عين الشجرة دخلت. وما إن دخلت إلا واختفى الرجل العجوز. لكن أنفاسة وحركة وجوده كانتا هنا، تماما خلف كتفي الأيسر. وكان هناك طريق طويل تحفه الأشجار من الجانبين. طلب مني أن أمشي، فصارت الأشجار تعود للوراء. قطف زيتونة من إحدى الشجيرات. زيتونة سوداء بلمعان فضي، جميلة كخنفساء. أعطاها لي. كان طعمها يشبه طهم الأراسيا. ثم وجدت نفسي مرة أخرى في الحوش المدرسي. لكن البنات لم تلتفتن لي. كأنهن لا ترينني. في ملعب كرة السلة. في الركن البعيد الملاصق لباب خروج الأتوبيسات، وقف بائع بطيخ، بعربته الخشبية المتجولة. كانت عباءته ولحيته يشبهان الرجل العجوز الذي يسكن عين الشجرة. ذهبت إليه. كان بطيخه كله أخضر لامع وجميل، سوى بطيخة واحدة بيضاء لزجة كأنها دهن. نظرت إليه. لكنه لم يجيبني... قررت أن آخذ البطيخة المختلفة. وعندما رفعتها إلى يدي اختفى البائع واخفت عربته. وانفجرت البطيخة البيضاء وخرج من داخلها دود أسود كثيف أخذ يدخل تحت جلدي ويحتل جسمي كله من الداخل. صرخت. كان صوتي مكتوما. وكانت التلميذات مازلن يلعبن نط الحبل، وكنت أنا التي في ملعب كرة السلة، ترى "أنا" التي تنط الحبل.. وكنت أنا التي تحلم مذعورة وأريد أن أخرج من الحلم بسرعة. دخل أحد أتوبيسات المدرسة الحوش الكبير. توجهت إليه بنظري، أنا التي أحلم، فأعطيت بذلك ظهري لأنا التي تنط الحبل ولأنا التي يغزوها الدود الأسود، فلم أعد أراهما. كانت حركة الأتوبيس غير متوازنة. وكأنما سيقع من على جرف ما.. وكنت أقف في الأتوبيس وعمري أكبر بكثير مما كنت عليه وأنا أحلم بهذا الحلم. كنت كبيرة وكأنما في نهايات إعدادي أو بدايات ثانوي.. وكنت أحاول تهدئة الأطفال الصغار والتخفيف من شده رعبهم وصراخهم.


عندما استيقظت صرخت. استيقظت أمي. وجدتني أنظر إلى يساري وأنهار في بكاء شديد. سألتني ما بي مذعورة. قلت لها: "الأراجوز الذي على الحائط يعاكسني!" فتحت أمي النور. نظرت حيث أنظر وقالت لي: "انظري بنفسك. ليس هناك أراجوز. هذه شماعة الحائط وهذا الزي المدرسي معلق عليها.".. عرفت ساعتها أن ما أراه في الظلام يختلف عما أراه في النور. وأنه في النور هناك أشياء كثيرة تتنكر في هيئة أشياء أخرى.. وأنني لن يمكنني أن أقنع أمي بما أرى. عرفت أن الكبار لا يرون ما أراه. وأنه ينبغي أن ابتعد عنهم قدر المستطاع.


أطفأت أمي النور وخرجت. أغلقت الباب خلفها. نظرت إلى يساري. عاد الأراجوز يظهر لي. وحدي معه في الحجرة. نظرت إليه مائلة براسي. مال براسه مثلي. ابتسم لي، وكأنه يتحدى قوتي. وكأنه يقول لي لو استطعت ألا تخافي مني سنتمكن من أن نكون أصدقاء. وهذا هو التحدي، لنرى إن كان يمكنك ألا تخافي مني. جازفت ونمت في حضورة. في الصباح وأنا أرتدي الزي المدرسي، كنت أعرف أنني أرتدي الأراجوز ذاته. الأراجوز الموجود بداخل الزي. وأنه معي في المدرسة. وأنني كلما لمست ثيابي أتحدث إليه.


بعد هذه اللحظة صرت أضع زيي المدرسي دائما على شماعة الحائط. ولو ذهب إلى الغسيل، كنت لا أهتم. الزي مجرد خدعة. يمكنني ببساطة أن أستحضر صورة الأراجوز ونلعب معاً. كان الأراجوز يحكي لي حكايات عن كل الأشياء الجامدة. المقعد، سبت الغسيل، الأحذية، الملابس الأخرى، .. كل شيء جامد. ومع الوقت بدأت هذه الأشياء الجامدة تعتاد عليّ وتحدثني هي الأخرى، في الليل. قبل النوم. وأنا مستلقية كالجماد على سريري العزيز.


تعلمت من الأراجوز ألا أخاف من هذه الأشياء. هي أمور طبيعية جداً أن تحدثني الجمادات.. أن تلعب معي. أن تحكي لي حكاياتها. تدريجياً، صرت أنتمي لعالم آخر لا يخص الكبار. بسرعة استطعت أن أتخلص من أمي أثناء المذاكرة. وبدأت أذاكر وحدي منذ النصف الثاني من سنة أولى ابتدائي. صحيح كانت هناك التزامات على الواحد تجاه هذا المجتمع، منها مثلا، أن يكون لي أصدقاء من البشر من سني، لكن هذه لم تكن مشكلة. إذ أنها لا تعني سوى أن أعتذر عن اللعب معهم في الفسحة متحججة بالذهاب إلى الحمام. وأن أبتسم كثيرا يوم عيد ميلادي الذي سينبغي علي أن استقبلهم فيه، وأن نعمل زيطة. كنت أتركهن يعملن الزيطة وكنت أجلس أنا على سريري لا مبالية. أبتسم واضحك لأن الأشياء الجامدة المتطايرة هنا وهناك بسببهن تستغيث بي، وصار التحدي، هو أن تتصرف هذه الأشياء وحدها لتنقذ نفسها من الفتيان الصغار الشقيات.. هذا ما فعلته ماكينة الخياطة العتيقة ذات الأرجل المعدنية الثقيلة، التي وضعتها أمي في حجرتي. عندما سقطت علي أرجلها أحدى "صديقاتي"، كسرت الماكينة رجلها وهددت بأن تقع عليها وتسحقها. هنا لم تعرف صديقتي ماذا تفعل. فلو كانت رجلها هي التي كسرت – وهذا كان سيعتبر طبيعياً – لكانت صرخت وشتمتني وخرجت لتجد العطف كله من الجميع والاهتمام المركز نحوها. أما أن تكسر رأسها هي رجل الماكينة الصلبة، وتقع تحتها، فهذا الرعب كله. اولا، الرعب من وقوع الماكينة فوق رأسها ، والثاني كيف ستفسر كسرها لرجل الماكينة؟! صرخ الجميع وبدأوا يصحكون: "راسك أنشف من الحديد يا هالة!" وأخذت هالة تعتذر مندهشة. ومن ساعتها لم تلمس أي شيء في حجرتي.


صباح اليوم التالي قلت لأمي، أريد أن اتعلم الخياطة. لم أقل لها إن الماكينة تصرفت بصورة يمكنني معها أن أعتبرها صديقة حميمة، اذ استطاعت أن تعتمد على نفسها في الدفاع عن نفسها ضد هذه الطفلة الشرسة. لم أقل لها أنني رغبة في توصيل هذا الاعتزاز الذي أحس به تجاهها أريد أن أتعلم لغتها كي يمكننا أن نتحاور بلا سوء فهم. ألسنا في المدرسة نكتب بالقلم على قطعة من الورق، تلك اللغات التي يعلمونها لنا لكي نكلم الفرنسيين والعرب والانجليز؟ لماذا إذاً لا يمكنني أن أكتب بالخيط على قطعة من القماش أشياء يمكن أن تفهما الماكينة. مثلاً أن أعمل لها كسوة من القماش الأبيض. أن اسمع صوتها وهي تكر وتتك لي ومعي وبسببي. ولكي أفهم لغة الماكينة كان ينبغي أن أتعرف على مجتمعها. أصدقاءها. حياتها.. فحتى ذلك الحين لم أكن بعد دخلت مجتمع أي من هذه الأشياء المحيطة. فقط كنت أستقبلها في عالمي. عرفت المقص، والكربون، وورق الذبدة، والباترون والمارك والمازورة.. كانت الماكينة كإله ضخم تتجمع عنده وتنتهي خيوط الأحداث التي تحدث حوله. كانت مهيبة. وكنت أصادقها وأشعر بفخر شديد. عندما وصلت إلى المرحلة الثانوية جاءت أمي بماكينة جديدة كهربية. هنا توقفت تماماً عن الحياكة وانتبهت لأشياء أخرى.


أستطيع أن أراني - هدي حسين





أول حلم أتذكر أنني رأيت فيه نفسي، وكان علي لكي أحكيه أن اقول أنا التي في الحلم، مثلما أتحدث عن أختي باعتبارها أنا التي في المرآة، كان حلما قصراً أيضاً. كنت أمشي في صحراء ما. لكن الظل كان في كل مكان. وكنت في الحلم أحدث ظلي الذي على الأرض عن شيء ما. وكنت جادة جداً ومركزة تماماً فيما أتحدث فيه بحيث لم أكن أرى أين أضع خطوتي. وبينما أمشي في خط مستقيم من الشمال إلى الجنوب أمام عيني التي تحلم. وظلي على عكسي متعامد على عيني التي تحلم أي متجه شرقا، كانت هناك حفرة كبيرة وسط الرمال يمكنها أن تبتلع نخلة. وكنت أنا التي في الحلم أمشي نحوها ولا أراها. وبينما أنا كذلك وبينما قدمي بدأت تشرع في لمس الفراغ الذي سأقع فيه، جاء دب صغير وجلس في الحفرة، بحيث أنني استكملت المشي وكأنه لم تكن حفرة هناك. أنا التي في الحلم لم ترى الدب. لكن أنا التي احلم رأيته. كان بلون الظل في نهار الصحراء.


أطفال الحضانة في المدرسة لهم ركن خاص مسور، به ألعاب حركية كثيرة. أرجوحات وغيرها مما لا أعرف اسمه. لم أكن أبدا أحب "الزحليقة" لذلك لم يكن عليّ أن أتكبد عناء الصراع واللكز الذي تقوم به الطفلات لكي تتمكن من اعتلاء الزحليقة والسقوط من فوقها صراخاً. كنت أفضل لعبة أخرى. لعبة السلالم. سلمان قائمان يوصلهما من أعلى سلم أفقي. أصعد السلم حتى أصل إلى السلم الأفقي بأعلى، أدخل من فتحاته وأنا أمسك به، وأؤرجح نفسي مثلما يفعل لاعبي العقلة. لم تكن هذه اللعبة محبوبة من زميلاتي. لذلك لم يكن أيضا عليّ أن أتكبد عناء الشجار لاعتلائها. كنت وحدي ألعب على راحتي بلا قلق. أتذكر أنني ذات يوم سألت أمي: "لماذا لا نعيش على الشجر يا أماه؟" فأجابت: "يا حبيبتي... مثل العصافير؟" فأجبتها باستنكار: "لا. مثل القرود! ونتأرجح بين الأغصان ونأكل موزا كثيراً وفول سوداني!" كانت هذه الحوارات تقلق أمي. كانت تشعر بمسئولة مبالغ فيها. فأنا هادئة جدا مهذبة وأكاد لا أتحرك في البيت، ولا أكسر شيئاً. لكني ألقي فجأة بجمل كهذه: الحياة على الشجر مثل القرود..


إلى جانب لعبة السلم، كنت ألعب أيضا بلا لعب. فلم أشعر أن بقية الألعاب أصدقائي لكي أشاركهم أصابعي. كنت أجلس على الأرض الرملية لحوش الحضانة المستقل، وأغرس يدي في الرمل ثم أجمعه وأنثره. أحفر فيه.. أردمه.. وكنت أعرف أنني لكي أصل إلى مكتب الراهبة العليا سأخرج من باب الحوش إلى حوش ابتدائي، ومن سوره إلى الحوش الكبير، أدخل المبنى الذي فيه بلكونة (الإذاعة المدرسية) وفي الدور الثاني بعد الأرضي، يساراً، الباب الرابع. هناك مكتبها. لكنه كان ممنوع أن تخرج إحدى طفلات الحضانة إلى حوش ابتدائي بدون أن تصاحبها مشرفة، ويكون هناك سبب قوي لخروجها مثل رغبتها في دخول الحمام مثلاً.


كنت أجلس بهدوء على الرمل. ذات مرة أتذكرها جيداً. بينما أعبث بالرمل خرج لي شيء أسود كبير وبدأ يمشي على يدي. كان شكله يدعو للفضول، وكذلك حركته. صرخت إحدى الطفلات فتبعها الفصل جميعاً جاءت المشرفة ونفضت الشيء المتحرك الأسود عن يدي وأخذتني لأغسل يدي، ثم صحبتني إلى الفصل. أخذت تعتذر بشدة. وتقول لي إن الراهبة المسئولة عن سنة أولى وثانية حضانة لو عرفت بوجود هذه الخنفساء في الرمال ستوبخها وربما تقطع عيشها. وأخذت ترجوني ألا أقول شيئاً. حتى لو قالت كل التلميذات أنه كانت هناك خنفساء، وأنا نفيت ستأخذ بكلامي أنا لأنني من كانت الخنفساء على يدي، أي أنا صاحبة الحدث. قالت لي: "أرجوك يا ابنتي اخفي رعبك قدر المستطاع" قلت: مدام، أنا لست خائفة. لكنني أريد أن ألعب مع هذا الشيء الأسود المتحرك. إنه يعجبني. عندما يكون على يدي وأوجه يدي ناحية الشمس، يصبح أسوده فضياً وهذا يعجبني. أين يعيش هذا الشيء وماذا يفعل؟ أريد أن أعرف كل شيء عن هذا الشيء الجميل" قالت: "لكنه أسود! ليس جميلاً! أسود مثل القلب الأسود المليء بالأخطاء.. لا ينبغي أن نصادق هذه الأشياء ولا أن نلعب بها. ينبغي أن نصادق زميلاتنا في الفصل ونلعب معهم. لماذا لا تلعبين مع زميلاتك؟"


في الفصل كنت ألعب المكعبات، والبازل والميكانوا، وأحب الحساب، وأموت غراما في حصة الصلصال والعجينة البيضاء. كنت أحب الحصص جداً. كنا نتعلم أغنيات فرنسية نفتح فمنا ونضمه كثيرا بينما نغنيها. كنت أحب هذا اللعب بعضلات فمي. هذا اللعب الذي يخرج صوتا أيضا منغما من حنجرتي. أحببت الغناء. كان صديقاً جديدا أهداني ألعابا جديدة. فصرنا نلعب معاً بحنجرتي ولساني وشفتي. كذلك كنت أحب الحصتين الأخيرتين. بعد الفسحة الكبيرة، تخرج الطفلات اللاتي ينتظرهن أولياء أمورهن. أما اللاتي سيرحلن بأتوبيس المدرسة فينتظرن حتى نهاية اليوم الدراسي للكبار. حصتان للنوم. تقف مشرفة الفصل عند مكتب المدرسة. أما نحن فينبغي أن نضع أيدينا ورأسنا على أدراجنا ونغمض عيوننا. أحيانا تحكي لنا المشرفة قصة ما. وأحيانا تقول فقط ناموا. كنت أفضل عندما تقول ناموا. هكذا كان يمكنني أن أخترع لنفسي قصصي الخاصة التي تتشكل أثناء ما أحكيها لنفسي بلا صوت. وبينما الزميلات يتأففن من النوم هكذا ويبدأن في الشغب. وفي غالب الأحيان كنت الوحيدة في الفصل التي يمكنها أن تبقى لساعة ونصف "نائمة".


في احد الأيام في نهايات فبراير تم استدعاء ولي أمري. قالت الراهبة المشرفة على الحضانة: "خذي هذا الجواب اليوم وأعطيه لوالدتك". فعلت. عندما قرأت أمي الجواب أصابها الرعب. سألتني: "كيف كان يومك في الحضانة؟" كعادتها. فأجبت: "يوم حلو" كعادتي. فخرجت أمي عن وقارها وبدأت تنهال عليّ بالصراخ: "أنت كاذبة. ماذا تفعلين في الحضانة. أكيد فعلتِ شيئاً خطأً. لماذا إذا يستدعونني بخصوصك هكذا ويريدونني أن آتي بسرعة وللأهمية؟ ماذا فعلت؟" بقيت صامتة. واتهمتني أمي بأنني أكيد فعلت ما يغضب لهذا فأنا لا أجد ما أدافع به عن نفسي.


يوم الأحد ظهراً جرتني من يدي إلى المدرسة. كان هذه هي المرة الثانية التي أرى فيها المدرسة جميلة، هكذا بلا تلاميذ ولا صخب. فقط الراهبات وبعض المشرفات. الممرات الرخامية. الحوش الكبير ذي التمثال الحاني. لكن هذه المرة لم يكن أبي معنا. ولم نأت إلى المدرسة بسيارته. وأمي كانت تقبض على معصمي بعنف، وأنا أتجرجر خلفها بينما تسرع هي خطوتها غير آبهة بي. ذهبنا إلى الفصل. كانت الراهبة المشرفة على الحضانة بانتظارنا. كنت التلميذة الوحيدة وكان يمكنني أن أجلس إلى أي طاولة أريدها. اخترت طاولة صفراء خشبية مغطاة بالفورمايكا. وأخذت أحك جلد ذراعي بالفورمايكا البارد الناعم. كان شعورا لذيذاً.. قالت المشرفة لأمي: "ابنتك ذكية وتتعلم بسرعة. تحب الألعاب اليدوية والرسم بالفلوماستر وستتعلم الكتابة بسهولة، لأن الامساك بالقلم عندها أمر سهل. أيضاً عقلها يقظ جداً فهي تحفظ ألحان الأغاني بلا نشاذ وهذا أمر صعب في سنها. كذلك تحل مسائل الحساب بسرعة مذهلة بالنسبة لسنها. كما أنها يمكنها بسهولة تجريد الشياء. أي عندما نقول عندنا خمسة كتاكيت وكتكوت تقول خمسة وواحد ستة، ولا تقول تقول ستة كتاكيت." نظرت لي أمي بينما أنا منشغلة بلمس الفورمايكا، واكتشاف أنه يسخن عندما أستمر في لمسه. استطردت الراهبة: "المشكلة إنها لا تتشارك مع أحد. والأهم، هي لا تأخذ حقها أبداً. يعني لو أخذ أحدهم منها قلما ولم يعيده لها، لا تسأل. أما هي فلا تطلب شيئا من أحد. ثم كيف لا تكون قد كونت صداقات حتى الآن، ونحن نقترب من نهاية السنة الدراسية؟!.. هذا أمر مخيف. الطفل عليه أن يلعب. ليس أن يذاكر فقط. وقد لاحظنا أنها في الفسحة لا تلعب مع أحد، وتجلس وحدها دائماً. هل هي طفلة وحيدة؟" أجابت أمي: "لا أختها هنا في المدرسة في الصف الثالث الابتدائي" قالت الراهبة: "حسناً انتظريني لحظة" جلست أمي على ركبتيها أمامي، أمسكت بيدي وبدأت تعتذر عما بدر منها اليوم وبالأمس. عادت المشرفة بملف أختى وكانت الدهشة واضحة على وجهها: "اختها مشاغبة. تسرق الساندويتشات من زميلاتها وتضربهم بالكراسي! كيف أنك تسكتين على هذا الأمر؟! صحيح هي متميزة ودائما تطلع الأولى على فصلها، لكن في مادة السلوك تأخذ أقل الدرجات دائماً. هل يمكن أن تكون أختها تعاملها في البيت بنفس هذه الطريقة بحيث تعودت الطفلة أن يسرقها الآخرين دون تزمر منها؟ هل يجعلها هذا تعتقد أن وحدتها وتجنبها للآخرين هو نوع من الدفاع عن النفس عبر تجنب المشاكل التي قد تحدث لها لو اختلطت بالآخرين؟" أجابت أمي مذعورة: "لا! لا! أختها تعاملها أحسن معاملة. بل إننا فكرنا في الإنجاب أصلا مرة أخرى لأن أختها كانت تتمنى أن يكون لها أخت! إنها تحبها جدا جدا وترعاها بلا كلل!" قالت المشرفة في حزم، أريد أن اسمع هذا من الطفلة نفسها، أرجوك اخرجي الآن وسأوافيك بعد لحظات."


خرجت أمي والفزع والأسى لم يبارحا وجهها. قالت المشرفة: "حبيبتي، ما سيقال هنا بيننا سيكون سرا بيننا ولن نخبر به أحدا نحن الاثنين، موافقة؟" قلت: "حاضر". قالت: "ماذا تفعل أختك معك من الصباح إلى الليل؟" قلت: في الصباح أدخل الحمام ثم أوقظها لتدخل. بعدها تساعدني في ارتداء الزي المدرسي وتصفف لي شعري أمام المرآة. شعري خشن ويؤلمني عندما تصففه لي لكن هذا ليس ذنبها. أنا أحب أن أكون وحدي أمام المرآة، لكنها لا تعرف ذلك. لذلك فوجودها معي في المرآة ليس ذنبها أيضاً. في المساء ترتب لي حقيبتي المدرسية حسب جدول الغد." ربتت المشرفة على كتفي وشكرتني. ثم طلبت مني أن ألعب في الحوش حتى تتحدث إلى أمي. دخلت أمي وخرجت أنا. بقيت قرب الباب. قالت المشرفة لأمي: "هناك علاج نافع جداً هنا. ابنتك الكبيرة عندها طاقة هائلة، حاولي أن تجعليها تشعر بالمسئولية تجاه اختها الصغيرة، أثناء وجودهما في المدرسة، وافهميها أن أختها الصغيرة تحتاج لرعايتها، واجعليها تختار بعض الأصدقاء لها، وناقشيها في هذا الأمر، بحيث تكون النتيجة أن الأصدقاء الذين يسكنون بالقرب منها ويركبون معها أتوبيس المدرسة هم الأولى بالصداقة. هكذا يكون لها أصدقاء داخل وخارج المدرسة، وإذا فعلوا لها مكروها تكون الأخت الكبرى هي التي تدافع عنها. هكذا ستتعلم الأخت الكبرى الاهتمام بالآخرين، وتستخدم طاقتها في إرساء العدل، وتحس انها متميزة. ويكون أيضا للصغيرة أصدقاء يخرجونها من وحدتها هذه غير الطبيعية. من الآن حتى الغد سأفحص داخل الملفات من في سن ابنتك الصغيرة ويركب معها الاتوبيس وأخبرك بكل شيء عنها تليفونياً."


أصابني الإحباط تماماً. هل ينبغي أن أصادق أشياء متحركة؟...أشياء للتعامل معها ينبغي أن أتكلم؟ أن أرد على ما يقولون... يا دب أحلامي.. يا حارس صحرائي الرملية ذات الجعارين والخنافسحأحلامي! انقذني من هذا الشرك...

موسى يخطط حرباً - هدي حسين







كانت أحلامي الأولى قصيرة وكأنها مقتطفات من أحداث طويلة. ذات مرة كان موسي يقف عند باب حجرة أسمنتية رمادية بلا طلاء، يخطط حربا. وكان الأعداء بالخارج يتوعدونه هو وقومه. كان موسى يقف ظهرة للفتحة التي سيحل مكانها باب عندما يكتمل طلاء الحجرة. وثلاثة رجال آخرون يقفون أمامه، ظهرهم لما سيكون لاحقاً الشرفة. وكان يحدثهم بهمس وذعر واضحين على ملامحه. لم يكن أحد منهم يراني، وإلا لماذا لم يوجه لي الحديث أحد. لم أكن حتى ذلك الحين شاهدت نفسي داخل حلم ما. لكنني كنت أعرف أنه بما أنني أرى ما يحدث فأنا موجودة، وربما يقتلوني لو شاهدوني. أو يخطفوني فلا أستيقظ في الصباح في بيت أبي. كان يبدو أن هؤلاء الأربعة هم الذين استطاعوا الفرار من حادث مريع ما، وأن بقية جيشهم قد انخرط في المعارك بحيث لا يمكن معرفة ماذا حدث له..


استيقظت مفزوعة. كدت أصرخ. لولا أني سمعت صوت أبي في حجرة الصالة يقرأ القرآن كعادته في هذا الوقت المبكر من السحر. نظرت حولي. كانت الحجرة مازالت تهيم في الإضاءة الأسطورية لهذا الوقت من اليوم، إضافة إلى نور الصالة الذي يصل طيفه من عقب باب الحجرة، وكأن الشمس تشرق أسفل. كان أبي يقول فيما معناه : "يا بن أمي لا تشد لحيتي". نظرت إلى الحجرة مرة أخرى. كانت أبعادها هي ذات أبعاد الحجرة التي كان يقف موسى عند بابها، أي في ذات الاتجاه الذي أضع فيه رأسي. الفارق الوحيد أن الحجرة التي أنا فيها مفروشة وعلى جدرانها طلاء. خرجت إلى الصالة وجلست بالقرب من أبي. صمت أبي عن القراءة عندما لمحني. سألني لماذا أنا لست نائمة فأجبته: هل تعرف واحداً اسمه موسى؟ فضحك أبي وقال: "كنت تتصنتين عليّ؟ موسى هذا أحد أنبياء الله، وأنا كنت أقرأ حكايته في القرآن." قلت له: أريد أن أقرأ القرآن. عانقني أبي وقال حسناً.. اجلسي جواري وأنا أقرأ لك." كنت أعرف أنني ما دمت إلى جواره، فأنا لست على سريري. إذاً لن يعيدني السرير إلى هذا الفزع في عيون موسى وحلفائه الثلاثة. في المساء، عندما ذهبنا لشراء العيش الفينو من أجل إفطار اليوم التالي، قلت لأبي ونحن نعبر كوبري الملك الصالح: "أبي موسى وهارون أخان." قال أبي: "وكيف عرفت ذلك؟" قلت: "من أختى التي في المرآة. فأنا عندما أحرك يدي اليسرى تحرك هي يدها اليمنى. يعني تفعل العكس. ولهذا هي أختى التي تشبهني وتفعل عكسي. والآن انظر لفمي وأنا أنطق اسميهما: مووووساااااا .... هاااااارووووون، في الأول أضم شفتي أولا ثم أفتحهما، وفي الثاني أفعل العكس.. لذلك فهما شبيهان يفعل كل منهما عكس الآخر.." ضحك أبي لكن القلق قد ظهر عليه.. بعد صمت قصير قال لي: "يبدو أنني سأبدأ في قراءة القرآن عصرا أيضاً، حتى تتمكني من متابعتي وأنا أقرأ لتعرفي حقيقة الأمور." قلت غاضبة: " لكنني لم أكذب يا أبي. ما قلته حقيقي أيضاً" قال أبي وهو يربت على كتفي بأطراف أصابعه: "نعم، حقيقي أننا نفتح فمنا ثم نضمه عند ذكر اسم هارون ونضمه ثم نفتحه عند ذكر اسم موسى."


فرحت باكتشافي. وفرحت أكثر لأن أبي يعترف باكتشافي. وأنه يمكنني أن أتحدث معه في هذه الأمور، طبعا بفضل رحلة العيش الفينو الذي نحتاجها كل مساء مادمنا نذهب في الصباح للعمل وللحضانة.
ش




باب العالم ونافذته للاديبة : هدي حسين







سحب رجل أسمر مفتول العضلات الباب الحديدي الأخضر الكبير. كان جلبابه معقوداً بصورة غريبة عليّ بحيث يخرج من فتحة الجيب. وكانت يده الضخمة بلون الشيكولاتة تهز جنزير الباب، فتحدث صليلا يثقب طبلة أذني. لم يزعجني في الصوت سوى ارتفاعه، مثله مثل كل شيء حولي، كان مرتفعا بحيث لا يمكنني أن أطاله. لو كان هذا الصوت أكثر خفوتا لكان أشبه بصوت إلقاء قطعة معدنية في ماء النهر. وكان سيصبح جميلا.


عندما انفتح الباب، بدت حديقة صغيرة وجميلة من الصبارات الضخمة، يمكن للواحد أن يختبئ خلفها. لم أكن خائفة. ولا سعيدة. كنت ألمس كل ما يمر بي. على بعد بضعة سلالم وقفت قاعدة تمثال من الرخام الأبيض، فوقها تمثال يالحجم الطبيعي من المرمر للعذراء والطفل. لم أكن ساعتها أعرف أنه تمثال العذراء والطفل. لكنه كان حانيا جدا ومريحا. لولا أنه أبيض هكذا.... كان لونه يقف بيني وبينه. فأنا بسماري، عندما أكبر لن يمكنني أن أصبح هذا التمثال. كان التمثال عاليا جدا بحيث أنه بدأ يختفي عن عيني كلما صعدنا السلم. استطعت أن ألمس القاعدة الرخامية فقط. كان عليها لوحة معدنية بلون جميل ومريح (عرفت بعدها أسماء المعادن وعرفت أن اللوحة كانت نحاسية) عليها كتابة بارزة كانت تدغدغ باطن كفي وأنا ألمسها بحيث عرفت إنها تحدثني. شعرت بعناقها. ولم أفهم معاني الحروف اللاتينية.


دخلنا حجرة صغيرة قابلتنا فيها امرأة قصيرة الشعر، نحيفة وطويلة وسمراء. انحنت نحوي وربتت على شعري. فتحت باباً أبيض في الجدار المقابل وقالت: "يمكنكم انتظار دوركم هناك." أعطت ورقة لأمي. جلسنا في الحجرة الرخامية المقابلة على مقاعد خشبية ملساء بلون الشيكولاتة أيضاً. سألني أبي: "يعجبك المكان؟" فأجبته: "نعم" بينما أهز قدميّ وأحاول أن تتمكن عيني من رؤية السقف. كان السقف شديد العلو والبياض بحيث يحتاج الكثير من التركيز لكي أراه. وكانت النوافذ طويلة وعريضة. تطل على الشارع خارج المدرسة.


مشينا تتقدمنا راهبة عجوز بزيها الرمادي الفاتح اللون، وبانحاءة ظهرها التي جعلتها قريبة مني أكثر من أي شخص آخر، نجتاز ممر إلى آخر، ونصعد سلما لآخر. حتى وصلنا إلى باب حضرة الناظرة. هنا قالت الراهبة العجوز ذات البسمة والانحناءة: "حظ سعيد". ابتسمت لي وغمزت بعينها ثم رحلت. طرقت أمي الباب والتقطت يدي. دخلنا أولاً ثم دخل أبي. كان في الثالثة والأربعين من عمره.


أمي أعطت الورقة الصغيرة للراهبة الجالسة خلف المكتب الأبيض العريض (حضرة الناظرة) أو كما يسمونها في المدرسة "الراهبة العليا". نظرت الراهبة من تحت نظارتها ذات الإطار البلاستيكي الأسود العريض، إلى الورقة. أخرجت ملفاً من بين الملفات الموجودة على مكتبها وبدأت تطرح بعض الأسئلة على والديّ. كانت أمي تجيبها متحمسة وبينما تفعل ذلك تحاول أن تجلسني على رجليها بينما أنا أتشبث بالوقوف لامسة بيدي مقعد أبي. ومواجهة بنظري وجه الراهبة العليا تارة، والحوش الواسع للمدرسة تارة. ذلك الحوش ذو الشجر الكثيف والعشب وأيضاً تمثال آخر للعذراء والطفل تطابق تماماً تمثال المدخل. في تلك اللحظة ظننته التمثال ذاته وقد جاء إلى حيث يمكنني أن أنظر إليه من النافذة. وكأن هذا التمثال الحاني المفرح لولا لونه الذي يشعرني بالأسى على نفسي، يريد أن يكون بجانبي. لم يكن من الصعب علينا أنا والتمثال أن نتبادل الحديث، فأنا أعرف لغة الصامتين: تعلمتها من جدتي لأمي ذات النصف المشلول، والتي تحدثني بالنظرات. كانت صحبة التمثال مفرحة وجميلة. ولم أدرك معها متى رحل والداي. فقط وجدت هذه السيدة خلف المكتب ذات الزي الغريب تنادي اسمي مرارا وتكرارا حتى أنتبه لها. نظرت إليها أخيراً. أخذت تطلب مني أشياء عجيبة وتافهة مثلا: تضع أمامي كرات من الحلوى الملونة وتسألي ما هذه وما لونها.. أو تقول لي: معنا برتقالة وبرتقالة فما حصيلة عدد ما معنا من البرتقال.. كيف أقول لها إننا ليس معنا برتقال أصلاً وأنها تكذب؟ أنا الضيفة عندها وينبغي أن أكون مهذبة.. تطلب مني أن أجلس حيث كانت أمي تجلس مسبقاً وأن أرسم لها شيئاً.. كيف يمكنني هذا والمقعد موضوع بحيث يلامس جنبه الخشب الأمامي للمكتب. ولو جلست عليه لن أتمكن من الرسم لأن الورقة التي تركتها لي على المكتب يستدعي لكي أرسم عليها أن ألوي جسدي بحيث لا يمكنني أبداً أن أفعل.. من الغير منطقي أن أقبل ما تطلب مني، ومن غير اللائق أن أرفض.. بقيت صامتة. سألتني إن كان عندي أصدقاء؟ هل علاقتي طيبة بأختي؟ هل أنا أحس أنني وحيدة؟ كيف أجيبها على هذه الأسئلة؟ ليس من اللائق التحدث عن أمور البيت للغرباء، أليس كذلك يا أمي؟ لكن أمي ليست هنا. اختفت فجأة هي وأبي وتركاني مع هذه الغريبة التي تعجبني نظرتها من تحت النظارة بصورة ما. وأحس إنها شقية وتريد أن تلعب معي. لكننا لسنا أصدقاء بعد.. بقيت صامتة إلى أن نبقى أصدقاء. ويبدو أنها تفهمت هذا جيدا. بدا لي أنها تعرف هي أيضا كيف تكلم الصامتين. وفرحت بذلك جداً. أخذت أحد الجرائد وبدأت تقرأ غير مهتمة بي. لكنها لم تطلب مني الانصراف.. كنت أريد أن آخذ واحدة من قطع الشيكولاتة التي أمامها. وكنت أيضا أريد أن أنصرف. لكنني لم أكن أريد أن أقطع عليها قراءتها للجريدة. اخذت قطعه الشيكولاتة ووضعتها في فمي بورقتها الخارجية وجريت خارجة، أعبر الممرات والسلالم التي عبرناها مسبقا إلى أن وصلت إلى سيارة أبي. لم يكن والداي هناك. وقفت عند السيارة وأخرجت الشيكولاتة من فمي. فتحت الورقة وأكلت الشيكولاتة بسرعة قبل أن يلحظ سرقتي لها أحد. ظهرت أمي مفزوعة قالت : انت هنا؟!.. فأجبت : "نعم" أخذتني وصعدت إلى المدرسة مرة أخرى. رجت الراهبة العجوز أن تصطحبنا مرة أخرى إلى حضرة الناظرة. طرقت أمي الباب بينما أبي يكتشف ورقة الشيكولاتة في يدي بينما يريد أن يمسكها. قلت: "لم أجد سلة مهملات...". عندما دخلت شرحت أمي للراهبة العليا لاهثة كيف أنها تخيلت أنها فقدتني وأنها وجدتني في النهاية عند سيارة أبي. قال أبي إنه وجد غلاف الشيكولاتة هذا في يدي. نظرت لي الراهبة العليا من تحت نظارتها. ولوحت لي بيدها كي ألف حول المكتب وأذهب إلى مقعدها. ذهبت. قالت: "لماذا لم تطلبي الشيكولاتة مني؟" قلت: "لم أكن أريد أن أقطع عليك قراءتك. ولهذا أيضا خرجت دون إذنك." قالت: "هل دلك أحد على الطريق؟" أجبت: "لا." نظرت إلى الملف الأصفر أمامها وقالت بينما تكتب: " نقاط ضعف: فقدان الرغبة في التعبير عن الذات. التصرف بدون استشارة الكبار. الانطوائية. نقاط قوة: حسن التصرف مع الصراع الداخلي. القدرة الفطرية على التعلم. ميزة خاصة: البراعة في التعامة مع الاتجاهات. أوافق."


عانقتني أمي بشدة بحيث شعرت إنها تريد أن تدق عظامي. وأخذت تلقي علي كل كلمات المديح الممكن كأنها تريد أن تخجلني عن عمد، وتنهال عليّ بالقبلات المبللة المقززة. نظر أبي لي وابتسم. وقفت الراهبة العليا وقال لي: عندما تأتين إلى هنا ستعرفين كيف تجدين الطريق وحدك إلى مكتبي لو قابلت أية مشاكل." مدت كفها لي وقالت: آنسة حسين، يمكننا أن نصبح اصدقاء." صافحتها بابتسامة مرتاحة، بينما لم تكن راحتى كافية لكي أطلب منها كأصدقاء أن تقرضني نظارتها لكي أرى من خلالها كيف تراني.

أحلامي للاديبة هدي حسين




أعرف
أن الوقوف على الحبل
على ارتفاع شاهق
أمر معجز..
أعرف أيضاً
أنه لا يعني الطيران..


أحلامي




عندما كنت صغيرة، حلمت. لم أكن بعد أعرف معنى ذلك. ولا أعرف المرادفة التي تعبر عن هذه الأشياء التي تحدث لي بعد أن أغمض عيني بقليل. لم أستطع أن أسأل أمي: "أماه؟ أنا أحلم. فهل هذا طبيعي أم أنني مريضة؟" لم أستطع، لأن كلمة "حلم" لم تكن بعد دخلت قاموس الكلمات التي أعرفها. لكنها بدأت تحدث لي وأتذكرها. ولا أعرف من اين أتت. الصراحة انني لم اكن أتخيل أن الأحلام تأتي للواحد. كنت أظن أنني عندما أنام يأخذني السرير إلى مكان ما، ثم يعيدني في الميعاد المناسب للاستيقاظ للذهاب إلى الحضانة. لذلك، في الصباح ، كنت آخر من يزيح عن رأسه الغطاء لكي ينزل من السرير: كنت أخاف أن أفتح عيني بينما أنا في أحد الأماكن التي يأخذني السرير لها، فأتوه ولا أعرف طريق العودة إلى البيت وحدي. أفتح عيني بعدما أسمع أصوات كل من في البيت وأميزها جيداً.


وكنت أحب تلك الأماكن وهؤلاء الأشخاص وتلك الأحداث التي يعرفني عليها سريري.. حتى أنني كنت أربت على سطح سريري عندما أستيقظ واشكرها - كنت أظن السرير مؤنثاً – وكنت أظنه أمي. لم أستوعب أبدا في هذا السن أن لكل واحد أم واحدة وأب واحد. كانت أمي أمي، وجدتي لأمي أمي، وسريري أمي، وأسوان أمي، ورأس البر أمي، والشجرة التي ترتكن بجزعها على شرفة حجرة نومي أمي.... وكان أبي أبي. والأقصر أبي، والبحر أبي، وبيانو المدرسة أبي، بل إن القمر الذي أراه يزول في الفجر من شرفة الصالون أبي، كذلك المقعد البني المخملي الوثير الذي أحبه قرب مدخل شرفة الصالون.. كلهم كانوا آبائي.. يبدو لي أيضا أنني لم أكن أستوعب فكرة الأسرة الواحدة. فقد كان لي إخوة أيضاً ألعب معهم، هم الصلصال والتلفزيون والمنبه وعلب دواء جدتي لأمي ومكحلتها النحاسية اللون، الملابس التي أختارها...الخ.. بل وكان لي أطفال أيضاً. أريد إبنا من الشيكولاتة، فآكل الكثير من الشيكولاتة حتى تكبر معدتي وتلدها لي.... وكانت أصابعي لعبي. أصابع يدي وقدمي على حد سواء. أغرسها في أخي الصلصال حتى نلعب بها معاً..أدورها وألففها حول خيوط السكوبيدو صديقي. أجعلها تتحدث إلى أبي البيانو وتحتضن أبي المقعد وتختبر درجة حرارة أمي الشجرة بالضغط على لحائها. وكنت أحيانا أستلقي على ظهري، وارفع رجلي وأجعل من يدي ورجلي اشجاراً تتحدث أغصانها إلى بعضها البعض، عن الغابة التي نمَت على أطرافها، عن الهواء الشديد الذي يعصف بها بحيث يجعل أوراقها (أصابعي العشرين) تعصف على فروعها (ذراعي وساقيّ) التي تتمايل بعنف تكاد معه تنقصف.. هكذا كنت أحاول أن أشكر سريري.. بأن ألعب هذه اللعب فوقه أو تحته، أو مستنده إليه حتى آخذه معي إلى أماكن ما أخترعها له، مثلما يأخذني وأنا نائمة إلى أماكن يعرفها ويطلعني عليها.. لكن أول لعبة جعلته بشاركني فيها، كانت "رأيي". حيث كنت أجلس على السرير أهرش شعري بيديّ الاثنين بينما أخرج لساني وأحاول أن أراه وأن أصدر به أي صوت وهو خارج هكذا عن فمي..


عرفت كلمة رأي قبل أن أعرف كلمة حلم، وكلمة شرود. حدث ذلك في سن الثالثة. كان أبي قد اخترع تقليدا في الأسرة وهو أن يكون هناك ساعتين كل خميس، من الساعة الخامسة حتى السابعة مساءً، يجلس فيها كل أفراد الأسرة الأكبر من ثلاث سنوات. في هذه الجلسة الأسبوعية يقول فيها كل واحد ما يضايقه من الآخر ويناقشه في حضور الآخرين حتى يتوصل المتخاصمان إلى حل يصفوا بعدها الجو بينهما. في هذه الجلسة أيضا يمكن لمن شعر خلال الأسبوع أنه أخطأ في أمر ما، أو هناك أمر يؤرقه طوال السبوع ولا يفهمه أو لا يجد له تفسيرا، أن يعرض على الجميع هذا الأمر ليناقشوه معاً. وفي هذه الجلسة أيضا، نناقش مصروف البيت الأسبوعي، ونختار حسب الظروف المادية وظروف الامتحانات نوع الفسحة الأسبوعية التي سنقوم بها يوم الجمعة.
عندما أتممت الثالثة من عمري. بدأت أداوم على حضور مجلس الأسرة هذا المنعقد أسبوعيا. لم أفهم ما يجري. لكن أبي سألني: "وانتِ ما رايك؟" نظرت إليه ببلاهة واندهاش. لم أفهم معنى الكلمة. كانت أول مرة أسمعها. نظرت لأمي أستفسر. قالت: "يا حبيبتي. هذا أمر طبيعي جدا. تحدثنا هنا عن أشياء ونريد أن نأخذ رأيك". كان ردي بالنفي. قالت أمي: "إذاً أنتِ لا توافقين."
قلت: "طبعاً لا أوافق! رأيي تخصني وسألعب بها وحدي. ولن أسمح لأحد أن يأخذها مني. فقط أرجو منكم إذا كانت فعلا هذه "الرأي" لي، أن تخبروني أين أشتريها وبكم هي حتى أدخر من مصروفي ما يكفي لآخذها معي إلى حجرتي."


كانت أيضا كلمة "مصروف" كلمة جديدة. لكنني عرفتها قبل كلمة رأي، واعتدتها بسرعة. فقد كانت كلمة تتكرر على مسامعي يومياً. قبل الدخول إلى باب الحضانة، يقول أبي :"خذي يا حبيبتي، هذا مصروفك. اشتري به ما تشائين."… كنت أريد أن أشتري رأيي. لكني لم أجده في كانتين الحضانة، ولا عند "عم شعبان" بائع الحلوى المجاور، ذلك الرجل العجوز الطيب الذي لا تفارقه ابتسامته التي تعلن عن فم بلا أسنان تقريباً، والذي كان عنده دائما لبان السجاير، والربسوس والشيكولاتة المسكوكة على هيئة عملات، ولا عند محل "صباح الخير"، محل لعب الأطفال الموجود في ركن الشارع، والذي كنت أظن ان اسم صاحبه "صباح الخير"، هناك كنت أجد الصلصال الذي أحبه، والدفوف البلاستيكية الصغيرة، والبيانو اللعبة الذي يصدر أصواتا تشبه الاكسليفون، والاكسليفون نفسه مثلما أجد خيوط سكوبيدو البلاستيكية الملونة، والخرز وخيط السنارة. لكنني لم أجد رأيي.


لم أستطع الانتظار إلى الاسبوع التالي لكي أطرح محنتي في مجلس الأسرة. بعد أيام قليلة وبينما يأخذني أبي معه مساءً لشراء العيش الفينو والتمشية قليلا بحزاء النيل، قررت أن أخبره بالموضوع. فهو الوحيد في الأسرة الأسمر مثلي تماماً. وكان هذا يعني لي، أنني عندما سأكون في حجمه سأصبح هو. كنت في تلك الفترة لا أميز الناس باعتبارهم أطفال وكبار، ولا بنات وأولاد. كان الناس عندي يتميزون بأحجام الجسم، وألوان الجلد. قلت له كيف أنني بحثت عن رأيي في محل اللعب، وفي محل الحلوى، وعند البقال وفي الصيدلية، ولكني لم أجده عندهم. كل ما وجدت هو أنهم يضحكون. فهل رأيي هذا يدغدغ؟ وأنني عندما أجده سأضحك مثلهم؟ ثم أين أجده؟.. ابتسم أبي. كان هذا أول حوار حميم بيننا. وبعدها توالت الحوارات.. قال أبي: "يا حبيبتي، رأيك لا يمكن أن تشتريه. رأيك تجديه بداخلك. يجلس في رأسك ويخرج من لسانك." أخذت أهرش في رأسي ثم بسرعة أخرج لساني وأحاول أن أنظر له وهو خارج فمي لكي أرى رأيي.. لكن والداي كانا يقولان إنه من العيب أن نهرش هكذا أو نخرج لساننا أمام الناس.. فصرت ألعب برأيي وحدي في حجرتي، وعلى سريري العزيز…

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

حكايات طبيب ♦♣☻




حكايات طبيب ♦♣☻

نجيب الكيلاني 

ظلام دامس، لا نجوم ستيفن كينغ

   




ظلام دامس، لا نجوم ستيفن كينغ

كريستين ستيفن كينغ

 


 

كريستين ستيفن كينغ

♦سارة بكويل ♣ كيف تعايش الحياة♦


 



♦سارة بكويل ♣ كيف تعايش الحياة♦

القياصرة الأميركيون .. سير الرؤساء♦

  


القياصرة الأميركيون .. سير الرؤساء♦

أساليب التعلم ♦و التعلم النشط♥

 


أساليب التعلم ♦و التعلم النشط♥