الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

أستطيع أن أراني - هدي حسين





أول حلم أتذكر أنني رأيت فيه نفسي، وكان علي لكي أحكيه أن اقول أنا التي في الحلم، مثلما أتحدث عن أختي باعتبارها أنا التي في المرآة، كان حلما قصراً أيضاً. كنت أمشي في صحراء ما. لكن الظل كان في كل مكان. وكنت في الحلم أحدث ظلي الذي على الأرض عن شيء ما. وكنت جادة جداً ومركزة تماماً فيما أتحدث فيه بحيث لم أكن أرى أين أضع خطوتي. وبينما أمشي في خط مستقيم من الشمال إلى الجنوب أمام عيني التي تحلم. وظلي على عكسي متعامد على عيني التي تحلم أي متجه شرقا، كانت هناك حفرة كبيرة وسط الرمال يمكنها أن تبتلع نخلة. وكنت أنا التي في الحلم أمشي نحوها ولا أراها. وبينما أنا كذلك وبينما قدمي بدأت تشرع في لمس الفراغ الذي سأقع فيه، جاء دب صغير وجلس في الحفرة، بحيث أنني استكملت المشي وكأنه لم تكن حفرة هناك. أنا التي في الحلم لم ترى الدب. لكن أنا التي احلم رأيته. كان بلون الظل في نهار الصحراء.


أطفال الحضانة في المدرسة لهم ركن خاص مسور، به ألعاب حركية كثيرة. أرجوحات وغيرها مما لا أعرف اسمه. لم أكن أبدا أحب "الزحليقة" لذلك لم يكن عليّ أن أتكبد عناء الصراع واللكز الذي تقوم به الطفلات لكي تتمكن من اعتلاء الزحليقة والسقوط من فوقها صراخاً. كنت أفضل لعبة أخرى. لعبة السلالم. سلمان قائمان يوصلهما من أعلى سلم أفقي. أصعد السلم حتى أصل إلى السلم الأفقي بأعلى، أدخل من فتحاته وأنا أمسك به، وأؤرجح نفسي مثلما يفعل لاعبي العقلة. لم تكن هذه اللعبة محبوبة من زميلاتي. لذلك لم يكن أيضا عليّ أن أتكبد عناء الشجار لاعتلائها. كنت وحدي ألعب على راحتي بلا قلق. أتذكر أنني ذات يوم سألت أمي: "لماذا لا نعيش على الشجر يا أماه؟" فأجابت: "يا حبيبتي... مثل العصافير؟" فأجبتها باستنكار: "لا. مثل القرود! ونتأرجح بين الأغصان ونأكل موزا كثيراً وفول سوداني!" كانت هذه الحوارات تقلق أمي. كانت تشعر بمسئولة مبالغ فيها. فأنا هادئة جدا مهذبة وأكاد لا أتحرك في البيت، ولا أكسر شيئاً. لكني ألقي فجأة بجمل كهذه: الحياة على الشجر مثل القرود..


إلى جانب لعبة السلم، كنت ألعب أيضا بلا لعب. فلم أشعر أن بقية الألعاب أصدقائي لكي أشاركهم أصابعي. كنت أجلس على الأرض الرملية لحوش الحضانة المستقل، وأغرس يدي في الرمل ثم أجمعه وأنثره. أحفر فيه.. أردمه.. وكنت أعرف أنني لكي أصل إلى مكتب الراهبة العليا سأخرج من باب الحوش إلى حوش ابتدائي، ومن سوره إلى الحوش الكبير، أدخل المبنى الذي فيه بلكونة (الإذاعة المدرسية) وفي الدور الثاني بعد الأرضي، يساراً، الباب الرابع. هناك مكتبها. لكنه كان ممنوع أن تخرج إحدى طفلات الحضانة إلى حوش ابتدائي بدون أن تصاحبها مشرفة، ويكون هناك سبب قوي لخروجها مثل رغبتها في دخول الحمام مثلاً.


كنت أجلس بهدوء على الرمل. ذات مرة أتذكرها جيداً. بينما أعبث بالرمل خرج لي شيء أسود كبير وبدأ يمشي على يدي. كان شكله يدعو للفضول، وكذلك حركته. صرخت إحدى الطفلات فتبعها الفصل جميعاً جاءت المشرفة ونفضت الشيء المتحرك الأسود عن يدي وأخذتني لأغسل يدي، ثم صحبتني إلى الفصل. أخذت تعتذر بشدة. وتقول لي إن الراهبة المسئولة عن سنة أولى وثانية حضانة لو عرفت بوجود هذه الخنفساء في الرمال ستوبخها وربما تقطع عيشها. وأخذت ترجوني ألا أقول شيئاً. حتى لو قالت كل التلميذات أنه كانت هناك خنفساء، وأنا نفيت ستأخذ بكلامي أنا لأنني من كانت الخنفساء على يدي، أي أنا صاحبة الحدث. قالت لي: "أرجوك يا ابنتي اخفي رعبك قدر المستطاع" قلت: مدام، أنا لست خائفة. لكنني أريد أن ألعب مع هذا الشيء الأسود المتحرك. إنه يعجبني. عندما يكون على يدي وأوجه يدي ناحية الشمس، يصبح أسوده فضياً وهذا يعجبني. أين يعيش هذا الشيء وماذا يفعل؟ أريد أن أعرف كل شيء عن هذا الشيء الجميل" قالت: "لكنه أسود! ليس جميلاً! أسود مثل القلب الأسود المليء بالأخطاء.. لا ينبغي أن نصادق هذه الأشياء ولا أن نلعب بها. ينبغي أن نصادق زميلاتنا في الفصل ونلعب معهم. لماذا لا تلعبين مع زميلاتك؟"


في الفصل كنت ألعب المكعبات، والبازل والميكانوا، وأحب الحساب، وأموت غراما في حصة الصلصال والعجينة البيضاء. كنت أحب الحصص جداً. كنا نتعلم أغنيات فرنسية نفتح فمنا ونضمه كثيرا بينما نغنيها. كنت أحب هذا اللعب بعضلات فمي. هذا اللعب الذي يخرج صوتا أيضا منغما من حنجرتي. أحببت الغناء. كان صديقاً جديدا أهداني ألعابا جديدة. فصرنا نلعب معاً بحنجرتي ولساني وشفتي. كذلك كنت أحب الحصتين الأخيرتين. بعد الفسحة الكبيرة، تخرج الطفلات اللاتي ينتظرهن أولياء أمورهن. أما اللاتي سيرحلن بأتوبيس المدرسة فينتظرن حتى نهاية اليوم الدراسي للكبار. حصتان للنوم. تقف مشرفة الفصل عند مكتب المدرسة. أما نحن فينبغي أن نضع أيدينا ورأسنا على أدراجنا ونغمض عيوننا. أحيانا تحكي لنا المشرفة قصة ما. وأحيانا تقول فقط ناموا. كنت أفضل عندما تقول ناموا. هكذا كان يمكنني أن أخترع لنفسي قصصي الخاصة التي تتشكل أثناء ما أحكيها لنفسي بلا صوت. وبينما الزميلات يتأففن من النوم هكذا ويبدأن في الشغب. وفي غالب الأحيان كنت الوحيدة في الفصل التي يمكنها أن تبقى لساعة ونصف "نائمة".


في احد الأيام في نهايات فبراير تم استدعاء ولي أمري. قالت الراهبة المشرفة على الحضانة: "خذي هذا الجواب اليوم وأعطيه لوالدتك". فعلت. عندما قرأت أمي الجواب أصابها الرعب. سألتني: "كيف كان يومك في الحضانة؟" كعادتها. فأجبت: "يوم حلو" كعادتي. فخرجت أمي عن وقارها وبدأت تنهال عليّ بالصراخ: "أنت كاذبة. ماذا تفعلين في الحضانة. أكيد فعلتِ شيئاً خطأً. لماذا إذا يستدعونني بخصوصك هكذا ويريدونني أن آتي بسرعة وللأهمية؟ ماذا فعلت؟" بقيت صامتة. واتهمتني أمي بأنني أكيد فعلت ما يغضب لهذا فأنا لا أجد ما أدافع به عن نفسي.


يوم الأحد ظهراً جرتني من يدي إلى المدرسة. كان هذه هي المرة الثانية التي أرى فيها المدرسة جميلة، هكذا بلا تلاميذ ولا صخب. فقط الراهبات وبعض المشرفات. الممرات الرخامية. الحوش الكبير ذي التمثال الحاني. لكن هذه المرة لم يكن أبي معنا. ولم نأت إلى المدرسة بسيارته. وأمي كانت تقبض على معصمي بعنف، وأنا أتجرجر خلفها بينما تسرع هي خطوتها غير آبهة بي. ذهبنا إلى الفصل. كانت الراهبة المشرفة على الحضانة بانتظارنا. كنت التلميذة الوحيدة وكان يمكنني أن أجلس إلى أي طاولة أريدها. اخترت طاولة صفراء خشبية مغطاة بالفورمايكا. وأخذت أحك جلد ذراعي بالفورمايكا البارد الناعم. كان شعورا لذيذاً.. قالت المشرفة لأمي: "ابنتك ذكية وتتعلم بسرعة. تحب الألعاب اليدوية والرسم بالفلوماستر وستتعلم الكتابة بسهولة، لأن الامساك بالقلم عندها أمر سهل. أيضاً عقلها يقظ جداً فهي تحفظ ألحان الأغاني بلا نشاذ وهذا أمر صعب في سنها. كذلك تحل مسائل الحساب بسرعة مذهلة بالنسبة لسنها. كما أنها يمكنها بسهولة تجريد الشياء. أي عندما نقول عندنا خمسة كتاكيت وكتكوت تقول خمسة وواحد ستة، ولا تقول تقول ستة كتاكيت." نظرت لي أمي بينما أنا منشغلة بلمس الفورمايكا، واكتشاف أنه يسخن عندما أستمر في لمسه. استطردت الراهبة: "المشكلة إنها لا تتشارك مع أحد. والأهم، هي لا تأخذ حقها أبداً. يعني لو أخذ أحدهم منها قلما ولم يعيده لها، لا تسأل. أما هي فلا تطلب شيئا من أحد. ثم كيف لا تكون قد كونت صداقات حتى الآن، ونحن نقترب من نهاية السنة الدراسية؟!.. هذا أمر مخيف. الطفل عليه أن يلعب. ليس أن يذاكر فقط. وقد لاحظنا أنها في الفسحة لا تلعب مع أحد، وتجلس وحدها دائماً. هل هي طفلة وحيدة؟" أجابت أمي: "لا أختها هنا في المدرسة في الصف الثالث الابتدائي" قالت الراهبة: "حسناً انتظريني لحظة" جلست أمي على ركبتيها أمامي، أمسكت بيدي وبدأت تعتذر عما بدر منها اليوم وبالأمس. عادت المشرفة بملف أختى وكانت الدهشة واضحة على وجهها: "اختها مشاغبة. تسرق الساندويتشات من زميلاتها وتضربهم بالكراسي! كيف أنك تسكتين على هذا الأمر؟! صحيح هي متميزة ودائما تطلع الأولى على فصلها، لكن في مادة السلوك تأخذ أقل الدرجات دائماً. هل يمكن أن تكون أختها تعاملها في البيت بنفس هذه الطريقة بحيث تعودت الطفلة أن يسرقها الآخرين دون تزمر منها؟ هل يجعلها هذا تعتقد أن وحدتها وتجنبها للآخرين هو نوع من الدفاع عن النفس عبر تجنب المشاكل التي قد تحدث لها لو اختلطت بالآخرين؟" أجابت أمي مذعورة: "لا! لا! أختها تعاملها أحسن معاملة. بل إننا فكرنا في الإنجاب أصلا مرة أخرى لأن أختها كانت تتمنى أن يكون لها أخت! إنها تحبها جدا جدا وترعاها بلا كلل!" قالت المشرفة في حزم، أريد أن اسمع هذا من الطفلة نفسها، أرجوك اخرجي الآن وسأوافيك بعد لحظات."


خرجت أمي والفزع والأسى لم يبارحا وجهها. قالت المشرفة: "حبيبتي، ما سيقال هنا بيننا سيكون سرا بيننا ولن نخبر به أحدا نحن الاثنين، موافقة؟" قلت: "حاضر". قالت: "ماذا تفعل أختك معك من الصباح إلى الليل؟" قلت: في الصباح أدخل الحمام ثم أوقظها لتدخل. بعدها تساعدني في ارتداء الزي المدرسي وتصفف لي شعري أمام المرآة. شعري خشن ويؤلمني عندما تصففه لي لكن هذا ليس ذنبها. أنا أحب أن أكون وحدي أمام المرآة، لكنها لا تعرف ذلك. لذلك فوجودها معي في المرآة ليس ذنبها أيضاً. في المساء ترتب لي حقيبتي المدرسية حسب جدول الغد." ربتت المشرفة على كتفي وشكرتني. ثم طلبت مني أن ألعب في الحوش حتى تتحدث إلى أمي. دخلت أمي وخرجت أنا. بقيت قرب الباب. قالت المشرفة لأمي: "هناك علاج نافع جداً هنا. ابنتك الكبيرة عندها طاقة هائلة، حاولي أن تجعليها تشعر بالمسئولية تجاه اختها الصغيرة، أثناء وجودهما في المدرسة، وافهميها أن أختها الصغيرة تحتاج لرعايتها، واجعليها تختار بعض الأصدقاء لها، وناقشيها في هذا الأمر، بحيث تكون النتيجة أن الأصدقاء الذين يسكنون بالقرب منها ويركبون معها أتوبيس المدرسة هم الأولى بالصداقة. هكذا يكون لها أصدقاء داخل وخارج المدرسة، وإذا فعلوا لها مكروها تكون الأخت الكبرى هي التي تدافع عنها. هكذا ستتعلم الأخت الكبرى الاهتمام بالآخرين، وتستخدم طاقتها في إرساء العدل، وتحس انها متميزة. ويكون أيضا للصغيرة أصدقاء يخرجونها من وحدتها هذه غير الطبيعية. من الآن حتى الغد سأفحص داخل الملفات من في سن ابنتك الصغيرة ويركب معها الاتوبيس وأخبرك بكل شيء عنها تليفونياً."


أصابني الإحباط تماماً. هل ينبغي أن أصادق أشياء متحركة؟...أشياء للتعامل معها ينبغي أن أتكلم؟ أن أرد على ما يقولون... يا دب أحلامي.. يا حارس صحرائي الرملية ذات الجعارين والخنافسحأحلامي! انقذني من هذا الشرك...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق