الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

الجنة، والخديعة البيضاء - هدي حسين





في حوش الابتدائي كانت زميلتان لي تلعبان نط الحبل. طلبت مني أختى أن ألعب معهما. كما طلبت منهما أن تشركاني في اللعب ، وإلاّ... أمسكت كل واحدة منهما بطرف الحبل وطلبن مني أن أقفز دون أن ألمسه بينما هما يدورانه لأعلى واسفل. لم أكن أرغب في اللعب. كنت أريد أن أجلس على السلم وأواصل حواري مع السماء والأشجار والغربان المتناثرة هنا وهناك.. نظرت لأعلى كانت شجرة كثيفة أمامي، بينما التلميذتان تحثانني على النط. انفتحت في الشجرة عين ومن داخل بؤبؤ العين ظهر عجوز بلحية بيضاء يشبه "بابا نويل" لكنه لم يكن يرتدي زيه الأحمر. نظر لي وهمس صوته في أذني بأن أصعد. لم أعرف كيف أفعل هذا. الشجرة عالية جدا. لكنني أريد أن أصعد. قفزت لأعلى بكل عزمي.


من عين الشجرة دخلت. وما إن دخلت إلا واختفى الرجل العجوز. لكن أنفاسة وحركة وجوده كانتا هنا، تماما خلف كتفي الأيسر. وكان هناك طريق طويل تحفه الأشجار من الجانبين. طلب مني أن أمشي، فصارت الأشجار تعود للوراء. قطف زيتونة من إحدى الشجيرات. زيتونة سوداء بلمعان فضي، جميلة كخنفساء. أعطاها لي. كان طعمها يشبه طهم الأراسيا. ثم وجدت نفسي مرة أخرى في الحوش المدرسي. لكن البنات لم تلتفتن لي. كأنهن لا ترينني. في ملعب كرة السلة. في الركن البعيد الملاصق لباب خروج الأتوبيسات، وقف بائع بطيخ، بعربته الخشبية المتجولة. كانت عباءته ولحيته يشبهان الرجل العجوز الذي يسكن عين الشجرة. ذهبت إليه. كان بطيخه كله أخضر لامع وجميل، سوى بطيخة واحدة بيضاء لزجة كأنها دهن. نظرت إليه. لكنه لم يجيبني... قررت أن آخذ البطيخة المختلفة. وعندما رفعتها إلى يدي اختفى البائع واخفت عربته. وانفجرت البطيخة البيضاء وخرج من داخلها دود أسود كثيف أخذ يدخل تحت جلدي ويحتل جسمي كله من الداخل. صرخت. كان صوتي مكتوما. وكانت التلميذات مازلن يلعبن نط الحبل، وكنت أنا التي في ملعب كرة السلة، ترى "أنا" التي تنط الحبل.. وكنت أنا التي تحلم مذعورة وأريد أن أخرج من الحلم بسرعة. دخل أحد أتوبيسات المدرسة الحوش الكبير. توجهت إليه بنظري، أنا التي أحلم، فأعطيت بذلك ظهري لأنا التي تنط الحبل ولأنا التي يغزوها الدود الأسود، فلم أعد أراهما. كانت حركة الأتوبيس غير متوازنة. وكأنما سيقع من على جرف ما.. وكنت أقف في الأتوبيس وعمري أكبر بكثير مما كنت عليه وأنا أحلم بهذا الحلم. كنت كبيرة وكأنما في نهايات إعدادي أو بدايات ثانوي.. وكنت أحاول تهدئة الأطفال الصغار والتخفيف من شده رعبهم وصراخهم.


عندما استيقظت صرخت. استيقظت أمي. وجدتني أنظر إلى يساري وأنهار في بكاء شديد. سألتني ما بي مذعورة. قلت لها: "الأراجوز الذي على الحائط يعاكسني!" فتحت أمي النور. نظرت حيث أنظر وقالت لي: "انظري بنفسك. ليس هناك أراجوز. هذه شماعة الحائط وهذا الزي المدرسي معلق عليها.".. عرفت ساعتها أن ما أراه في الظلام يختلف عما أراه في النور. وأنه في النور هناك أشياء كثيرة تتنكر في هيئة أشياء أخرى.. وأنني لن يمكنني أن أقنع أمي بما أرى. عرفت أن الكبار لا يرون ما أراه. وأنه ينبغي أن ابتعد عنهم قدر المستطاع.


أطفأت أمي النور وخرجت. أغلقت الباب خلفها. نظرت إلى يساري. عاد الأراجوز يظهر لي. وحدي معه في الحجرة. نظرت إليه مائلة براسي. مال براسه مثلي. ابتسم لي، وكأنه يتحدى قوتي. وكأنه يقول لي لو استطعت ألا تخافي مني سنتمكن من أن نكون أصدقاء. وهذا هو التحدي، لنرى إن كان يمكنك ألا تخافي مني. جازفت ونمت في حضورة. في الصباح وأنا أرتدي الزي المدرسي، كنت أعرف أنني أرتدي الأراجوز ذاته. الأراجوز الموجود بداخل الزي. وأنه معي في المدرسة. وأنني كلما لمست ثيابي أتحدث إليه.


بعد هذه اللحظة صرت أضع زيي المدرسي دائما على شماعة الحائط. ولو ذهب إلى الغسيل، كنت لا أهتم. الزي مجرد خدعة. يمكنني ببساطة أن أستحضر صورة الأراجوز ونلعب معاً. كان الأراجوز يحكي لي حكايات عن كل الأشياء الجامدة. المقعد، سبت الغسيل، الأحذية، الملابس الأخرى، .. كل شيء جامد. ومع الوقت بدأت هذه الأشياء الجامدة تعتاد عليّ وتحدثني هي الأخرى، في الليل. قبل النوم. وأنا مستلقية كالجماد على سريري العزيز.


تعلمت من الأراجوز ألا أخاف من هذه الأشياء. هي أمور طبيعية جداً أن تحدثني الجمادات.. أن تلعب معي. أن تحكي لي حكاياتها. تدريجياً، صرت أنتمي لعالم آخر لا يخص الكبار. بسرعة استطعت أن أتخلص من أمي أثناء المذاكرة. وبدأت أذاكر وحدي منذ النصف الثاني من سنة أولى ابتدائي. صحيح كانت هناك التزامات على الواحد تجاه هذا المجتمع، منها مثلا، أن يكون لي أصدقاء من البشر من سني، لكن هذه لم تكن مشكلة. إذ أنها لا تعني سوى أن أعتذر عن اللعب معهم في الفسحة متحججة بالذهاب إلى الحمام. وأن أبتسم كثيرا يوم عيد ميلادي الذي سينبغي علي أن استقبلهم فيه، وأن نعمل زيطة. كنت أتركهن يعملن الزيطة وكنت أجلس أنا على سريري لا مبالية. أبتسم واضحك لأن الأشياء الجامدة المتطايرة هنا وهناك بسببهن تستغيث بي، وصار التحدي، هو أن تتصرف هذه الأشياء وحدها لتنقذ نفسها من الفتيان الصغار الشقيات.. هذا ما فعلته ماكينة الخياطة العتيقة ذات الأرجل المعدنية الثقيلة، التي وضعتها أمي في حجرتي. عندما سقطت علي أرجلها أحدى "صديقاتي"، كسرت الماكينة رجلها وهددت بأن تقع عليها وتسحقها. هنا لم تعرف صديقتي ماذا تفعل. فلو كانت رجلها هي التي كسرت – وهذا كان سيعتبر طبيعياً – لكانت صرخت وشتمتني وخرجت لتجد العطف كله من الجميع والاهتمام المركز نحوها. أما أن تكسر رأسها هي رجل الماكينة الصلبة، وتقع تحتها، فهذا الرعب كله. اولا، الرعب من وقوع الماكينة فوق رأسها ، والثاني كيف ستفسر كسرها لرجل الماكينة؟! صرخ الجميع وبدأوا يصحكون: "راسك أنشف من الحديد يا هالة!" وأخذت هالة تعتذر مندهشة. ومن ساعتها لم تلمس أي شيء في حجرتي.


صباح اليوم التالي قلت لأمي، أريد أن اتعلم الخياطة. لم أقل لها إن الماكينة تصرفت بصورة يمكنني معها أن أعتبرها صديقة حميمة، اذ استطاعت أن تعتمد على نفسها في الدفاع عن نفسها ضد هذه الطفلة الشرسة. لم أقل لها أنني رغبة في توصيل هذا الاعتزاز الذي أحس به تجاهها أريد أن أتعلم لغتها كي يمكننا أن نتحاور بلا سوء فهم. ألسنا في المدرسة نكتب بالقلم على قطعة من الورق، تلك اللغات التي يعلمونها لنا لكي نكلم الفرنسيين والعرب والانجليز؟ لماذا إذاً لا يمكنني أن أكتب بالخيط على قطعة من القماش أشياء يمكن أن تفهما الماكينة. مثلاً أن أعمل لها كسوة من القماش الأبيض. أن اسمع صوتها وهي تكر وتتك لي ومعي وبسببي. ولكي أفهم لغة الماكينة كان ينبغي أن أتعرف على مجتمعها. أصدقاءها. حياتها.. فحتى ذلك الحين لم أكن بعد دخلت مجتمع أي من هذه الأشياء المحيطة. فقط كنت أستقبلها في عالمي. عرفت المقص، والكربون، وورق الذبدة، والباترون والمارك والمازورة.. كانت الماكينة كإله ضخم تتجمع عنده وتنتهي خيوط الأحداث التي تحدث حوله. كانت مهيبة. وكنت أصادقها وأشعر بفخر شديد. عندما وصلت إلى المرحلة الثانوية جاءت أمي بماكينة جديدة كهربية. هنا توقفت تماماً عن الحياكة وانتبهت لأشياء أخرى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق