الذكريات الحقيقية، هي تلك التي عشناها قبل أن نعي أن الحياة لا معنى لها في هذا العالم. للحياة معنى بالقطع. لكن في عالم آخر..عالم تتحول فيه الأصابع إلى لعب. والخيال إلى حقيقة مرئية ومسموعة.. تكاد تكون ملموسة..عالم بعيد كل البعد عن نشرة الأخبار، وعن لزوم شراء الخضروات كل ظهيرة، عالم بعيد كل البعد عن ضرورة الأكل، والهضم المتعسر غالباً لعدم استساغة ما يتم إدخاله عبر كل قنوات التوصيل للوعي.. تراب الشارع وضجيج الجيران، ونظرات المارة.. أحياناً أظن أنني مجنونة فعلاً.. فقط يكفي أن ينظر لي أحد المارة في الشارع بينما أبحث تائهة عن علبة سجائر سوبر كليوباترا التي باتت شحيحة هذه الأيام وتباع بسعر مرتفع في السوق السوداء... هذه السجائر التي أعتبرها أحدى الخصال التي ورثتها من أبي. هذه الخصلة التي تنكر لها فيما بعد.. بسببي على ما أتذكر. كان أبي يدخن قبل أن أولد. "كباية شاي مع سيجارتين بين العصر والمغرب" كانت أغنيته المفضلة.. وبين العصر والمغرب، كان أبي يصنع لنفسه كوب شاي ويجلس في الشرفة المطلة على شجرة وحيدة وارفة، هي وحدها التي نمت نيابة عن ثلاث شجرات أخرى تم زرعها في الممر المبلط الذي تطل عليه شرفة شقتنا.. أحس بحركة أبي الرهيفة من شرفة الصالون. أقطع المذاكرة بحجة الرغبة في دخول الحمام.. في الطريق إلى الحمام أتأكد أن أمي مازالت تتابع الفيلم الأجنبي في حجرة نومهما، بينما تذاكر أختي في حجرتنا.. أتخيل الهواء في الصالة. أرى الهواء حولي. أحاول أن أتحرك دون أن أخدشه، أفتح فيه مسارات متواضعة تكفي لمروري.. من الصالة، إلى الصالون.. بهدوء، أفتح باب الشرفة الموارب، لأفاجئ أبي. لكنني صغيرة. لا أتعدي السبع سنوات. وهو يملك أربعين سنة أكثر مني. ويعرف أكثر عن الهواء وخدشه. أتسحب إليه، فيفاجئني هو: "بِخ!" فأصرخ..
- "عارف يا هدهد؟ أجمل شيء في الدنيا السماء. أنا أحب أجلس هنا كل يوم. أنظر للسماء. وأفرغ رأسي من العمل وهمومه. كل شيء خلقه ربنا يعرف ماذا يريد. إلاّ الإنسان.. هي دي الأمانة."
- "كيف؟"
- "كل مغرب، ترجع الطيور إلى الشجرة. في الصبح تخرج لتأكل. تعرف لماذا تخرج. تعرف لماذا تعود. تعود لتنام. الطيور تريد أن تجد الطعام وأن تأكل وأن تنام. الشجرة تريد ماء وشمس وطين وهواء.. حتى الكلاب تعرف ماذا تريد.. لكن هل ممكن تقولي لي ماذا يريد الإنسان؟"
- "نحن أيضا نأكل وننام. أنت تذهب للعمل وأنا أذهب إلى المدرسة.. نحن أيضا نحتاج هواء وماء وشمس وأرض.. نحن مثل الشجر مثل الطيور لا أجد فرقاً."
- "هذا لأننا نشبه كل شيء. نشبه النبات ونشبه الطائر ونشبه الحيوان.. لكن هناك شيء إضافي فينا. شيء اسمه الطموح. الهدف. الاختيار. مثلا، لا يمكن أن نسأل الطائر الصغير ماذا يحب أن يكون عندما يكبر. لكن يمكن أن أسألك؟ "
- "عندما أكبر أحب أن أكون الهواء."
- "هاهاها! ماذا؟.. لماذا؟
- "حتى لا يستطيع أحد أن يعيش بدوني.. لكن أيضا حتى لا يراني أحد."
يرشف أبي الشاي ويدخن سيجارته بينما أتطلع أنا للدخان بحذر.. أريد أن أكون هواءً نقياً، الدخان يمكنه أن يُرى.
الآن أدخن سجائر كثيرة. من نفس نوع السجائر التي أقلع عنها أبي. والعالم يسير بدوني بلا أدنى مشكلة.. يا أبي، لماذا كنت تعلمني الحكمة، وأنا ذاهبة إلى عالم محكوم بقوة السلاح؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق