الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

باب الخيال - هدي حسين



لم يعد هناك مجال للحلم. فقد تخطيت السادسة عشر من عمري ومازلت لا أعرف ما هي الإمكانية التي بداخلي والتي بسببها استطعت أن أتخطى السن المصروف لكل البشر.. عندما بلغت السادسة عشر، كنت قد عرفت أن فكرتي الأولى عن العمر المصروف مجانا للبشر، والعمر الذي يحظون به بسبب أفعالهم، فكرة خيالية. وكنت – مع اعتقادي في بداهة هذه الفكرة غير المعمول بها – أسخر من نفسي أنني لفترة طويلة جدا كنت أظنها حقيقية. لكن بسبب اقتناعي التام بأنها فكرة صالحة، لي على الأقل، فقد بقيت بائسة أفكر ما هذا الشيء الذي أستطيع فعله والذي بسببه أبقاني الله حية بعد السن القانوني؟!.. كل ما أتذكره أنني فقدت الأحلام. ظننت ساعتها أنني فقدتها إلى الأبد. وبدلاً منها كانت تأتيني "خيالات". كنت ما أزال محافظة على علاقتي بالجمادات، والحيوانات والطيور. مازلت أحاور الكراسي وأتحسس لحاء الشجر، وأكلم السماء كل فجر، وأعود الملابس عندما تمرض..الخ.. لكن بالإضافة إلى ذلك بدأت تظهر لي أشياء لا يمكن لغيري رؤيتها. فكان هناك أسد يقف محشورة في الممر الواصل بين المطبخ والصالة، وجهه للصالة، والشعر الذي يحيط برأسه على شكل عباد الشمس يقطر عرقا بنفسجيا.. وكانت هناك أفكار مجسمة تسكن الشجرة المطلة على الشرفة. كانت خيالات تتراءى لي. لا تتكلم معي لكنها تتحرك حولي. حتى أنه كانت هناك عائلة بكاملها تسكن حائط الصالون. تسكن في الحائط، وتنتظر مني أن أفتح لها لتدخل. لكن خوفي من هذه الخيالات كان يمنعني. كنت أرى هذه الأشياء وأرتعد وأجري من المكان. وأستعيذ بالله من الجن والعفاريت.. ذات يوم أثناء اليقظة، لم أرى غيري، وأمامي مباشرة الكرة الأرضية تدور حول نفسها. شلني المنظر فلم أستطع الهروب من مكاني. كنت وكأنني مشدودة للأرض التي تدور أمامي. وعندما استعذت باللة من شدة الخوف، رأيت المجرة بكاملها كدوامة تدور في الفضاء. رأيت المجرة ورأيت الفضاء. رأيت مجرات أخرى حولي وأتربة كونية، ومدارات وكواكب ونجوم.. ساعتها توقفت عن الاستعاذة، وتذكرت ميزة أن يظهر لي عفريتاً في الزي المدرسي.

لفترة ظننت أن شقتنا مسكونة بالعفاريت، أو مشحونة بطاقة غريبة نابعة من تاريخ المكان الذي نعيش فيه أو ما شابة. فلم تكن هذه الخيالات تتراءى لي سوى داخل الشقة. مرت سنوات. وأعتدت على هذه الخيالات. صار ظهورها واختفائها وتنوعها لا يخيفني. صار يؤنسني. وكنت صامتة لا أحدث بها أحداً. حفظت سر وجودها. وتشجعت، بالكتابة، ذات مرة لأفتح الباب للأسرة المحبوسة في الجدار. فردا فردا بدأت أستدعيهم، وأكتب عنهم ما كانوا يتمنون أن يحدث لهم لو كانوا بشراً، بينما أعيش معهم حياتهم البائسة كأشباح لا يقدرون على شيء من المادة، يحسدونني على جسمي وعلى أعصابي وقدرتي على حمل الأشياء الثقيلة، بل وحمل القلم نفسه كان بالنسبة لهم أمراً معجزاً. كنت مراسلتهم إلى عالم المجسمات الجماد منها والحي. أديت المهمة، وكانت رواية "درس الأميبا"، هذه هي أحلامهم وآمالهم التي لم يكونوا ليؤذوني لو لم أحققها لهم، لكنهم كانوا سيبقون حبيسي الجدار. أما شخصياتهم الأصلية، طبيعتهم، حالات حركاتهم في المكان وعلاقاتهم ببعضهم وبي، فهذا ظل سراً محفوظا بينناً، ووعدتهم ألا أفشيه أبداً. حققت لهم أمنيتهم فرحلوا. ومن وقت لآخر كانوا يزورونني عندما يطرأون فجأة في الذاكرة. يزورونني بشخصياتهم الحقيقية، لا بالصورة التي أرادوني أن أجعلهم عليها في كتابتي. وحتى الآن يحفظون الجميل.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق