في أول سنوات الجامعة، ذهبت مع صديقة لي إلى أحد قارئي كف تعرفه. قال لي الرجل أن حياتي مرتبطة بشخص أول حرف من اسمه A. قد يكون أول اسمه بحرف الألف، لكن قد يكون ايضا بحرف العين. قال إن الحرف مكتوب في كفي بالحروف اللاتينية. كنت ساعتها مرتبطة بشخص أول حرف من أسمه "م" لذا لم أكن أريد أن أصدق ما قاله قارئ الكف. فقد قال أيضا أنني غنية. وقال أنني سأتزوج وأنجب أطفالاً، بل وتجاسر إلى حد القول بأنني في أواخر حياتي سأعيش مع ابنتي!.. لم تكن فكرة الزواج في بالي. كنت صغيرة وخائفة وأريد أن أتم تعليمي بنجاح. نجاح غير ملفت. لأنني أخاف لفت الانتباه. لكن لم يكن هناك مانع من أن أبدو شقية ومرتبطة بفلان أو فلان، لأن هذا كان يبدو ملائماً لصورة الآخرين عن الكاتبة الشابة المتمردة. في الميكروباص إلى طرابلس، فكرت في أنني فعلا متمردة، لكن ليس بهذه "الصورة". ليس بهذا الأكلاشيه.
فكرت أيضاً في أحمد. أحمد الفرنسي الجنسية ذو الأصل الجزائري الذي تعرفت عليه في كافيتريا السوروبون بينما كنت أنتظر زوجاً من الأصدقاء. كان ذلك في رحلتي إلى باريس عام 1995. كنت أريد أن أجلس على حافة النافذة الطويلة العريضة لكنني لم أستطع لقصر قامتي أن أقفز بالعلو الكافي لكي أصل إلى غرضي. عرض أحمد أن يرفعني. كان طويلا نحيفاًُ بشعر بني ناعم وبشرة قمحية.. وجهه أليف بابتسامة ذئب عجوز.. لم أكن بعد أعرفه. بعدما رفعني، ذهب وأحضر مشروبه وطفاية وجاء ليجلس إلى جواري على حافة النافذة. خلفنا كانت الخضرة جميلة وأمامنا كان باقي طلبة الدراسات العليا يشربون قهوتهم ويتحاورون في قاعة الكافيترية البنية اللون. بادرت:
- اللون البني طارد! أما الأخضر فمريح للقلب.
- صحيح. (قال مبتسما ثم أشعل سيجارة وعرض علي واحدة.)
وقبل أن يعرف اسمي أو أعرف اسمه، أخذت أحدثه - وجعراني الفيروزي معلق بالطوق الفضي في رقبتي – عن ألوان الطيف، والأهرامات الصغيرة الزجاجية التي كان يصنعها الفراعنة للاستشفاء ويضعونها على المنطقة ما بين الحاجبين، تلك المنطقة التي تسمى بالعين الثالثة. أخبرته أن الهرم الأخضر بين أهرام الطيف، كان للشفاء من أمراض القلب. سألني أحمد:
- أمراض القلب العاطفية؟ أم الجسمانية؟
ضحكت وقلت:
- الجسمانية مثل مشاكل شرايين القلب والدورة الدموية.
- انت في كلية علمية؟ (سألني. فضحكت وأجبته)
- لا! أنا أنهيت دراستي الجامعية. أنا خريجة آداب فرنسي جامعة القاهرة.
- أنتِ مصرية! كان يجب أن أخمن ذلك بسبب الجعران في رقبتك. ما اسمك؟
- هدى.
- هدى. اسم جميل!
- غريب تنطقه بسلاسة!
- نعم أنا جزائري واسمي أحمد. أعمل في الليسيه هنا، وأحضرالدكتوراه.
كان حذائي يؤلمني وقررت أن أذهب لأشتري حذاء بعد أن تأخر من أنتظر. عرض أحمد أن يأتي معي وأن يدلني على أماكن المشتروات الرخيصة إن كنت أريد ايضا أن أشتري تذكارات لأسرتي ولأصدقائي في مصر. مشينا نضحك في الشوارع وأنا أحمل حذائي في يدي وأمشي حافية.
في محل أحذية على الشارع دخلت. دخل معي أحمد وبدأت أقلب في المعروضات على طريقة سوق الموسكي والعتبة. أثناء ذلك كان أحمد يكلم البائعة ويقلب أيضا في المعروضات. وبعد 20 دقيقة تقريبا وجدته قريباً مني وأنفاسه في شعري يسألني:
- هل تجربي هذا؟ إنه رقيق مثلك وأنثوي. صناعة إيطالية.
كان في يده فرده حذاء أبيض من الكروشيه بنعل مغلف بالقماش الأبيض، وبشرائط على الجانبين. كان يشبه أحذية الباليه لولا كعبه الأعلى قليلاً.
لم أكن ساعتها قد قابلت بعد "برناديت" صديقتي السويسرية التي أخبرتني ان ابنها في جنوب إيطاليا. ولم أكن بعد قد حلمت بأميرة الجنوب. لكنني كنت قبل أن أسافر بأيام، في بيت واحدة من صديقاتي. وكانت عمتها تقرأ الفنجان. قالت عمتها ضمن ما قالته بينما تقرأ فنجاني أنني سأشتري حذاءً أبيض.. ألح أحمد على سؤالي إن كان ذوقه يعجبني. فأجبته بأنه ينبغي أن أجرب المقاس أولاً. جلس أحمد على الأرض وفي يده الفردة التي جاء بها وقال هيا يا سندريلا جربي فردة الحذاء. ضحكت وبرشاقة أفلام الكرتون وضعت قدمي في الحذاء الذي يا للبراعة كان مقاسي بالضبط!
قالت البائعة: 30 فرانك. دفعها أحمد. لكنها طلبت مني أن أختار حذاءً آخر هدية. كان محل أحذية حريمي فقط لهذا لم أستطع اختيار شيء لأحمد. لذا اخترت حذاءً لأمه.
لا أعرف لماذا تذكرت أحمد الجزائر فور تحرك المايكروباس بعيداً عن أحمد ليبيا. كان في عيني كل منهما شيء مشترك. حنين ما. حنين إلى بلد الأم. نظرت حولي في الطريق، كانت هناك عمارات كثيرة غير مكتملة البناء بحيث يشعر الواحد أنه في بلد كلها تحت الإنشاء. لم يكن الليبيون الذين يركبون معي المايكروباص يشبهون أحمد: لم يكن أي منهم يبتسم. ومن ابتسامة أحمد ليبيا تذكرت ابتسامة أحمد الجزائر. إنهما يشتركان في ابتسامة واحدة أيضاً. ابتسامة تشبه أن تقابل قريباً لك صدفة بينما أنت في المنفى. قريب يذكرك بوطنك.. هكذا ظل أحمد ليبيا يحكي عن الأكندرسة ويريدني أن أحكي له عنها. وبقي أحمد الجزائر يريدني أن أحدثه بالعربية بدلا من الفرنسية. برغم أنني لا أفهم لهجته الجزائرية. كان يقول:
- تصنعي أنك تفهمينني! ثم إنني أنا أفهمك! أريد سماع العربية.
- ما رايك يا أحمد، لا جزائرية ولا مصرية. هل تحب فيروز؟
- فيروز هي القومية العربية، يا مرسال المراسيل ع الضيعة القديمة..
- خد لي بدربك ها المنديل واعطيه ل حبيبي..
- هاي! صوتك ملائكي يا هدى! غني غني!
كان صوته شديد العلو والنشاذ. لكنه كان متحمساً جداً. أنا كنت أحاول ألاّ أفقد التون والإيقاع. كان قد نسي بعض الكلمات وتذكرها عبري بينما نغني. وعندما انتهينا قال:
- هدى. أنا أكبر اخوتي. عندي ثلاث أخوات. وفقت في تكاليف تزويجهن بعد وفاة الأب. الآن أعيش مع أمي. عمري الآن 38 سنة هل تعتقدي أن سن الزواج فاتني؟
- لا بالتأكيد! هناك رجال يتزوجون في سن أكبر من ذلك بكثير..
- إذاً هل توافقين على الزواج مني؟
- لا أعرف.. لم أتوقع هذا الكلام.. دعني أفكر.. الآن سأعود إلى الفندق. سأسافر بعد غد، غداً نتقابل وأخبرك برأيي.
- لماذا الفندق، يمكنك أن تبيتي عندنا أنا وأمي!
- لا أريد أن أذهب إلى الفندق.. كي.. كي أرتب حقيبة سفري..
تركت أحمد عند محطة "سان ميشيل". وتواعدنا أن نتقابل اليوم التالي في محطة سان ميشيل الثانية عشر ظهراً لأخبره بقراري. طبعاً في تلك اللحظة كنت قد قررت ألا آتي إلى المحطة ولا أخرج من الفندق حتى ميعاد السفر خوفاً من أن يلاحقني. لكنني فكرت بينما أنا في حجرتي في الفندق قرب "نانتير" أنني لو هربت منه هكذا أكون خسيسة جداً لأني على الأقل لم أحترم النهار المبهج الذي قضيناه. لم أكن أريد أن أعامل شخصاً صدقني هكذا بخسة الهروب لذا قلت لنفسي إنه من باب الاحترام له قبل، أن يكون لي ،ينبغي أن اقابله وأواجهه بأنني لا يمكنني أبني حياتي على حنينه للغة العربية! وأنني لا أملك مثل هذا الحنين. بل ولا أحب فكره أن يحن المرء أصلا. ثم إنني لي أم وأب في مصر ولن أتركها لآتي وأعيش معه هو وأمه. كما أنني لا أحب أن أعيش خارج القاهرة!
عندما عدت اليوم التالي لأقول له هذا الكلام. سحبني من يدي في المحطة ورفعني لأعلى وقال: عندي مفاجأة!
جلسنا في أحد المقاهي. أخرج مظروفاً من جيبه وقال لي القي نظره على هذه الصور. كانت صوراً لتفاصيل داخلية وخارجية لبيت جميل به حديقة خضراء رائعة. قال أحمد:
- هذا بيتي. في ضواحي باريس. بيتي أنا وليس بيت أمي. أنا بنيت هذا البيت بنفسي. هل يعجبك؟ هل يصلح لنا؟...
في المايكروباص، كنت أفكر. لم أكن ساعة ما عرض علي أحمد هذا البيت قد تعرفت على برناديت التي قالت لي أن الحب سيأتي من الجهة الأخرى من البحر المتوسط. قد أكون أخطأت في رفض أحمد الجزائري. هكذا كنت أفكر في الطريق إلى طرابلس. كلام قارئ الكف، وككلام قارئة الفنجان وكلام برناديت.. كله يؤكد أنني ضيعت فرصتي في الحب. لكن أميرة الجنوب كانت تقول عكس ذلك تماماً. كانت نهاية الحلم تحذرني من الوقوع في الأسر بسبب الحب. أظن أن هذا هو ما كان سيحدث لي لو كنت قبلت الزواج بأحمد ذي العروض الفخمة حول البيت الجميل والجنسية الفرنسية. كانت هذه العروض تصيبني بالاشمئزاز والشعور بالشفقة. لم يكن من الممكن أبداً أن أحب شخصاً واشفق عليه.
وصلنا طرابلس وأنا على يقين أن هذه الرحلة خصتني بها أميرة الجنوب لكي أكمل مهمة بدأتها هي. ظهرت لي وكأنما تريدني أن أنقذها. ثم قادتني إلى رحلة اكتشاف تنقذ فيها نفسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق