سحب رجل أسمر مفتول العضلات الباب الحديدي الأخضر الكبير. كان جلبابه معقوداً بصورة غريبة عليّ بحيث يخرج من فتحة الجيب. وكانت يده الضخمة بلون الشيكولاتة تهز جنزير الباب، فتحدث صليلا يثقب طبلة أذني. لم يزعجني في الصوت سوى ارتفاعه، مثله مثل كل شيء حولي، كان مرتفعا بحيث لا يمكنني أن أطاله. لو كان هذا الصوت أكثر خفوتا لكان أشبه بصوت إلقاء قطعة معدنية في ماء النهر. وكان سيصبح جميلا.
عندما انفتح الباب، بدت حديقة صغيرة وجميلة من الصبارات الضخمة، يمكن للواحد أن يختبئ خلفها. لم أكن خائفة. ولا سعيدة. كنت ألمس كل ما يمر بي. على بعد بضعة سلالم وقفت قاعدة تمثال من الرخام الأبيض، فوقها تمثال يالحجم الطبيعي من المرمر للعذراء والطفل. لم أكن ساعتها أعرف أنه تمثال العذراء والطفل. لكنه كان حانيا جدا ومريحا. لولا أنه أبيض هكذا.... كان لونه يقف بيني وبينه. فأنا بسماري، عندما أكبر لن يمكنني أن أصبح هذا التمثال. كان التمثال عاليا جدا بحيث أنه بدأ يختفي عن عيني كلما صعدنا السلم. استطعت أن ألمس القاعدة الرخامية فقط. كان عليها لوحة معدنية بلون جميل ومريح (عرفت بعدها أسماء المعادن وعرفت أن اللوحة كانت نحاسية) عليها كتابة بارزة كانت تدغدغ باطن كفي وأنا ألمسها بحيث عرفت إنها تحدثني. شعرت بعناقها. ولم أفهم معاني الحروف اللاتينية.
دخلنا حجرة صغيرة قابلتنا فيها امرأة قصيرة الشعر، نحيفة وطويلة وسمراء. انحنت نحوي وربتت على شعري. فتحت باباً أبيض في الجدار المقابل وقالت: "يمكنكم انتظار دوركم هناك." أعطت ورقة لأمي. جلسنا في الحجرة الرخامية المقابلة على مقاعد خشبية ملساء بلون الشيكولاتة أيضاً. سألني أبي: "يعجبك المكان؟" فأجبته: "نعم" بينما أهز قدميّ وأحاول أن تتمكن عيني من رؤية السقف. كان السقف شديد العلو والبياض بحيث يحتاج الكثير من التركيز لكي أراه. وكانت النوافذ طويلة وعريضة. تطل على الشارع خارج المدرسة.
مشينا تتقدمنا راهبة عجوز بزيها الرمادي الفاتح اللون، وبانحاءة ظهرها التي جعلتها قريبة مني أكثر من أي شخص آخر، نجتاز ممر إلى آخر، ونصعد سلما لآخر. حتى وصلنا إلى باب حضرة الناظرة. هنا قالت الراهبة العجوز ذات البسمة والانحناءة: "حظ سعيد". ابتسمت لي وغمزت بعينها ثم رحلت. طرقت أمي الباب والتقطت يدي. دخلنا أولاً ثم دخل أبي. كان في الثالثة والأربعين من عمره.
أمي أعطت الورقة الصغيرة للراهبة الجالسة خلف المكتب الأبيض العريض (حضرة الناظرة) أو كما يسمونها في المدرسة "الراهبة العليا". نظرت الراهبة من تحت نظارتها ذات الإطار البلاستيكي الأسود العريض، إلى الورقة. أخرجت ملفاً من بين الملفات الموجودة على مكتبها وبدأت تطرح بعض الأسئلة على والديّ. كانت أمي تجيبها متحمسة وبينما تفعل ذلك تحاول أن تجلسني على رجليها بينما أنا أتشبث بالوقوف لامسة بيدي مقعد أبي. ومواجهة بنظري وجه الراهبة العليا تارة، والحوش الواسع للمدرسة تارة. ذلك الحوش ذو الشجر الكثيف والعشب وأيضاً تمثال آخر للعذراء والطفل تطابق تماماً تمثال المدخل. في تلك اللحظة ظننته التمثال ذاته وقد جاء إلى حيث يمكنني أن أنظر إليه من النافذة. وكأن هذا التمثال الحاني المفرح لولا لونه الذي يشعرني بالأسى على نفسي، يريد أن يكون بجانبي. لم يكن من الصعب علينا أنا والتمثال أن نتبادل الحديث، فأنا أعرف لغة الصامتين: تعلمتها من جدتي لأمي ذات النصف المشلول، والتي تحدثني بالنظرات. كانت صحبة التمثال مفرحة وجميلة. ولم أدرك معها متى رحل والداي. فقط وجدت هذه السيدة خلف المكتب ذات الزي الغريب تنادي اسمي مرارا وتكرارا حتى أنتبه لها. نظرت إليها أخيراً. أخذت تطلب مني أشياء عجيبة وتافهة مثلا: تضع أمامي كرات من الحلوى الملونة وتسألي ما هذه وما لونها.. أو تقول لي: معنا برتقالة وبرتقالة فما حصيلة عدد ما معنا من البرتقال.. كيف أقول لها إننا ليس معنا برتقال أصلاً وأنها تكذب؟ أنا الضيفة عندها وينبغي أن أكون مهذبة.. تطلب مني أن أجلس حيث كانت أمي تجلس مسبقاً وأن أرسم لها شيئاً.. كيف يمكنني هذا والمقعد موضوع بحيث يلامس جنبه الخشب الأمامي للمكتب. ولو جلست عليه لن أتمكن من الرسم لأن الورقة التي تركتها لي على المكتب يستدعي لكي أرسم عليها أن ألوي جسدي بحيث لا يمكنني أبداً أن أفعل.. من الغير منطقي أن أقبل ما تطلب مني، ومن غير اللائق أن أرفض.. بقيت صامتة. سألتني إن كان عندي أصدقاء؟ هل علاقتي طيبة بأختي؟ هل أنا أحس أنني وحيدة؟ كيف أجيبها على هذه الأسئلة؟ ليس من اللائق التحدث عن أمور البيت للغرباء، أليس كذلك يا أمي؟ لكن أمي ليست هنا. اختفت فجأة هي وأبي وتركاني مع هذه الغريبة التي تعجبني نظرتها من تحت النظارة بصورة ما. وأحس إنها شقية وتريد أن تلعب معي. لكننا لسنا أصدقاء بعد.. بقيت صامتة إلى أن نبقى أصدقاء. ويبدو أنها تفهمت هذا جيدا. بدا لي أنها تعرف هي أيضا كيف تكلم الصامتين. وفرحت بذلك جداً. أخذت أحد الجرائد وبدأت تقرأ غير مهتمة بي. لكنها لم تطلب مني الانصراف.. كنت أريد أن آخذ واحدة من قطع الشيكولاتة التي أمامها. وكنت أيضا أريد أن أنصرف. لكنني لم أكن أريد أن أقطع عليها قراءتها للجريدة. اخذت قطعه الشيكولاتة ووضعتها في فمي بورقتها الخارجية وجريت خارجة، أعبر الممرات والسلالم التي عبرناها مسبقا إلى أن وصلت إلى سيارة أبي. لم يكن والداي هناك. وقفت عند السيارة وأخرجت الشيكولاتة من فمي. فتحت الورقة وأكلت الشيكولاتة بسرعة قبل أن يلحظ سرقتي لها أحد. ظهرت أمي مفزوعة قالت : انت هنا؟!.. فأجبت : "نعم" أخذتني وصعدت إلى المدرسة مرة أخرى. رجت الراهبة العجوز أن تصطحبنا مرة أخرى إلى حضرة الناظرة. طرقت أمي الباب بينما أبي يكتشف ورقة الشيكولاتة في يدي بينما يريد أن يمسكها. قلت: "لم أجد سلة مهملات...". عندما دخلت شرحت أمي للراهبة العليا لاهثة كيف أنها تخيلت أنها فقدتني وأنها وجدتني في النهاية عند سيارة أبي. قال أبي إنه وجد غلاف الشيكولاتة هذا في يدي. نظرت لي الراهبة العليا من تحت نظارتها. ولوحت لي بيدها كي ألف حول المكتب وأذهب إلى مقعدها. ذهبت. قالت: "لماذا لم تطلبي الشيكولاتة مني؟" قلت: "لم أكن أريد أن أقطع عليك قراءتك. ولهذا أيضا خرجت دون إذنك." قالت: "هل دلك أحد على الطريق؟" أجبت: "لا." نظرت إلى الملف الأصفر أمامها وقالت بينما تكتب: " نقاط ضعف: فقدان الرغبة في التعبير عن الذات. التصرف بدون استشارة الكبار. الانطوائية. نقاط قوة: حسن التصرف مع الصراع الداخلي. القدرة الفطرية على التعلم. ميزة خاصة: البراعة في التعامة مع الاتجاهات. أوافق."
عانقتني أمي بشدة بحيث شعرت إنها تريد أن تدق عظامي. وأخذت تلقي علي كل كلمات المديح الممكن كأنها تريد أن تخجلني عن عمد، وتنهال عليّ بالقبلات المبللة المقززة. نظر أبي لي وابتسم. وقفت الراهبة العليا وقال لي: عندما تأتين إلى هنا ستعرفين كيف تجدين الطريق وحدك إلى مكتبي لو قابلت أية مشاكل." مدت كفها لي وقالت: آنسة حسين، يمكننا أن نصبح اصدقاء." صافحتها بابتسامة مرتاحة، بينما لم تكن راحتى كافية لكي أطلب منها كأصدقاء أن تقرضني نظارتها لكي أرى من خلالها كيف تراني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق