الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

رحلات زمانية ومكانية - هدي حسين









كنت ذاهبة إلى مكان تجمع المثقفين أحد أيام الثلاثاء بعد يوم شاق داخل جاليري الفن التشكيلي المعاصر الذي كنت أعمل فيه. حاملة على كاهلي ثقل اليوم الطويل، ومشفقة على نفسي من عبء كبت انفعالاتي وأفكاري وهلاوسي أمام هذه الصفوة المفكرة التي لا تؤمن بالميتافيزيقا.. بروح ساخرة لا مبالية اتخذت مسافتي المعتادة بيني وبين اكتئابات أو معاكسات أو صفقات الحاضرين، ودخلت. كانت سيدة سويسرية في الأربعينات من عمرها تجلس إلى أحد أصدقائي. لم يكن يعرف سوى اللغة العربية وهي لم تكن تعرف سوى الفرنسية وانجليزية لا بأس بها.. كانا يبدوان متفاهمين جداً. هو في حالة سكر بين وهي منهارة من الضحك. طلب مني صديقي أن أترجم بينهما. وكنت لا أفهم ما داعي اللغة ماداما متواصلين بدونها.. فبدأت أتحدث إليها. تصادقنا بسرعة. وبدأ هو يشعر بأنه غير متابع لما يدور حوله فتركنا وانضم إلى طاولة أخرى. قالت بيرناديت: طبيعتي ألا أنفتح على الناس بسرعة هكذا، يلزمني على الأقل أسبوعين مع أي شخص آخر حتى أقرر إن كنت أطلعه على ما أطلعك عليه الآن في لقائنا الأول.. أخبريني بتاريخ وساعة ميلادك..ينبغي عندما أعود إلى بيتي أن أفحص خرائطي الفلكية ربما نكون قد تقابلنا في حياة أخرى.. انتظري مني مكالمة تليفونية.


ذهبت بيرناديت بعد هذه الجملة. وبقيت وحدي على الطاولة. أتذكر ما حدث في بداية اليوم، وبينما أنا في الطريق إلى العمل، مستقلة الأتوبيس العام، لمحت "أميرة الجنوب" أو طيفها يمر في الشارع بينما تنظر لي.. كان طيفها يرتدي الثياب ذاتها التي رأيتها في الحلم. وكانت تنظر لي كأنما تريد أن تبلغني شيئاً. كأنما تنتظر مني أن أفعل شيئاً. ذهلتني رؤيتها هكذا في الشارع. لم يكن قد حدث لي من قبل أن خرجت موتيفة من أحد أحلامي لكي تتجول أمام عيني ضمن الخيالات المتجولات في واقعي النهاري.. لم أخبر أحداً بهذا ذلك اليوم. ولا حتى بيرناديت التي بدت لي الشخص المناسب تماماً روحياً وخبراتياً مع أمور الروح لإبلاغه بأمر كهذا.. لا أستطيع القول بأنني لم أصدق عيني. كيف لا أصدقهما! كنت فقط مذهولة ومنتبهة لأقصى درجة... ماذا يحدث لي؟...


اتصلت بي بيرناديت بعد أسبوع من لقائنا الأول. خلال هذا الأسبوع كانت أميرة الجنوب قد ظهرت لي مرة أخرى في الواقع النهاري. في المقهى. كنت في حالة مزاجية سيئة سببها تشتتي الاجتماعي والثقافي المعتاد... ظهرت أميرة الجنوب لي وقد خلعت صندلها ووضعته بجانبها، وجلست على الأرض في ركن المقهى، جوهرة تاجها على الأرض، تضربها بشاكوش في حزن شديد وغضب نابع من شعور بظلم ما. كانت تنظر لي نظرة تأنيب، وكأنما تقول بسببك لن تكون لجوهرتي حواف..


لم أستطع أن أتحمل هذا المنظر، ففرت إلى أول تاكسي متجهة إلى البيت.. في التاكسي، أخرجت ورقة وقلم من حقيبتي. رسمت خريطة مصر. ورسمت على الخريطة خطاً يشبه مسار رحلتها... كانت متجهة إلى ليبيا.
في البيت حاولت سدى استحضار صورة أميرة الجنوب لتخبرني ماذا تريد مني، قطع جرس التليفون تركيزي. كانت بيرناديت. قالت: تعالي حالاً. كنت قد رسمت بورتريه بالقلم الأزرق الجاف لأميرة الجنوب. وضعته في الحقيبة وخرجت إلى بيت بيرناديت. كنت قد نسيت تماماً موضوع خرائطها الفلكية هذا. لكني كنت متأكدة أن أميرة الجنوب كانت أنا في حياة سابقة، أو أختي (معادلي) في حياة حالية في مكان آخر.


بيرناديت جلست على وسادة عالية فوق الأرض، وأجلستني على مقعد عالي الظهر والأرجل. حقيبتي على رجلي والخرائط على قدميها. قالت: "من الطبيعي جدا جدا أن أشعر تجاهك بكل هذه الحميمية في فترة قصيرة. لو تعرفي كم الحيوات السابقة التي تقابلنا فيها ستدهشين.. سأخبرك عن أهم هذه الحيوات فقط فهي كثيرة.. مرة كنا أختين. وكان بيننا عواطف العشاق فعوقبنا في الحياة التالية بيننا بأن نكون أخان، كل منا يحارب من أجل قضية منافية لقضية الآخر، فتحاربنا وقتل أحدنا الآخر. هكذا عوقبنا في الحياة التالية بيننا لأن نكون صديقتين في المدرسة، أنت أحببت شاباً خطفته أنا منك لمجرد الأنانية. فعوقبت هذه المرة بأن تنفى روحي إلى بلد باردة وأولد في سويسرا، بينما تسكن روح هذا الحبيب ابني بحيث لا يمكنني في هذه الحياة فعل الخطيئة ذاتها التي فعلتها سابقاً. أما أنت فلم تدافعي عن حبك. هكذا نحن هنا الآن وبيننا كل هذه العلاقات الحميمة السالفة. وأنا هنا وأنت هنا.


اندهشت لخرائط بيرناديت، ومنها تذكرت خريطة مصر التي كانت الأميرة تمشي عليها. أخرجت الصورة التي رسمتها لها وعرضتها على بيرناديت. أخذت تتأملها بينما أحكي لها عن الحلم والهلاوس البصرية التي انتابتني بعده. قلت لها أيضاً أنني أفكر في الذهاب إلى ليبيا لكي أكمل للأميرة مسيرتها التي انقطعت وسط الطريق. بدا على بيرناديت القلق ومحاولة الظهور بمظهر لامبالي. سألتها ما رأيها في هذا الحلم وهذه الهلاوس.. قالت : قد تكون الحدود التي ينبغي عليك أن تعبريها ليست حدوداً جغرافية. قد تكون حواجز نفسية أو اجتماعية ما..
برغم كلام بيرناديت سافرت إلى الاسكندرية. أخذت نهاري على البحر بالقرب من قلعة قايدباي. جلست على سور الكورنيش وجهي للبحر وظهري للطريق.. تذكرت كلماتها: "ابني الآن في سيسيليا، مع فتاة إيطالية من الجنوب يحبها حب جنون.. لو لم يكن كذلك لقلت إنه سيعود إليك في هذه الحياة. لكنني متأكدة أن تعويضاً عاطفياً ما سيأتيكي من وراء البحر المتوسط." كان ذلك عام 1997.


قرب العصر، أخذت الميكروياص المتجه إلى بن غازي.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق