الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

أحلامي للاديبة هدي حسين




أعرف
أن الوقوف على الحبل
على ارتفاع شاهق
أمر معجز..
أعرف أيضاً
أنه لا يعني الطيران..


أحلامي




عندما كنت صغيرة، حلمت. لم أكن بعد أعرف معنى ذلك. ولا أعرف المرادفة التي تعبر عن هذه الأشياء التي تحدث لي بعد أن أغمض عيني بقليل. لم أستطع أن أسأل أمي: "أماه؟ أنا أحلم. فهل هذا طبيعي أم أنني مريضة؟" لم أستطع، لأن كلمة "حلم" لم تكن بعد دخلت قاموس الكلمات التي أعرفها. لكنها بدأت تحدث لي وأتذكرها. ولا أعرف من اين أتت. الصراحة انني لم اكن أتخيل أن الأحلام تأتي للواحد. كنت أظن أنني عندما أنام يأخذني السرير إلى مكان ما، ثم يعيدني في الميعاد المناسب للاستيقاظ للذهاب إلى الحضانة. لذلك، في الصباح ، كنت آخر من يزيح عن رأسه الغطاء لكي ينزل من السرير: كنت أخاف أن أفتح عيني بينما أنا في أحد الأماكن التي يأخذني السرير لها، فأتوه ولا أعرف طريق العودة إلى البيت وحدي. أفتح عيني بعدما أسمع أصوات كل من في البيت وأميزها جيداً.


وكنت أحب تلك الأماكن وهؤلاء الأشخاص وتلك الأحداث التي يعرفني عليها سريري.. حتى أنني كنت أربت على سطح سريري عندما أستيقظ واشكرها - كنت أظن السرير مؤنثاً – وكنت أظنه أمي. لم أستوعب أبدا في هذا السن أن لكل واحد أم واحدة وأب واحد. كانت أمي أمي، وجدتي لأمي أمي، وسريري أمي، وأسوان أمي، ورأس البر أمي، والشجرة التي ترتكن بجزعها على شرفة حجرة نومي أمي.... وكان أبي أبي. والأقصر أبي، والبحر أبي، وبيانو المدرسة أبي، بل إن القمر الذي أراه يزول في الفجر من شرفة الصالون أبي، كذلك المقعد البني المخملي الوثير الذي أحبه قرب مدخل شرفة الصالون.. كلهم كانوا آبائي.. يبدو لي أيضا أنني لم أكن أستوعب فكرة الأسرة الواحدة. فقد كان لي إخوة أيضاً ألعب معهم، هم الصلصال والتلفزيون والمنبه وعلب دواء جدتي لأمي ومكحلتها النحاسية اللون، الملابس التي أختارها...الخ.. بل وكان لي أطفال أيضاً. أريد إبنا من الشيكولاتة، فآكل الكثير من الشيكولاتة حتى تكبر معدتي وتلدها لي.... وكانت أصابعي لعبي. أصابع يدي وقدمي على حد سواء. أغرسها في أخي الصلصال حتى نلعب بها معاً..أدورها وألففها حول خيوط السكوبيدو صديقي. أجعلها تتحدث إلى أبي البيانو وتحتضن أبي المقعد وتختبر درجة حرارة أمي الشجرة بالضغط على لحائها. وكنت أحيانا أستلقي على ظهري، وارفع رجلي وأجعل من يدي ورجلي اشجاراً تتحدث أغصانها إلى بعضها البعض، عن الغابة التي نمَت على أطرافها، عن الهواء الشديد الذي يعصف بها بحيث يجعل أوراقها (أصابعي العشرين) تعصف على فروعها (ذراعي وساقيّ) التي تتمايل بعنف تكاد معه تنقصف.. هكذا كنت أحاول أن أشكر سريري.. بأن ألعب هذه اللعب فوقه أو تحته، أو مستنده إليه حتى آخذه معي إلى أماكن ما أخترعها له، مثلما يأخذني وأنا نائمة إلى أماكن يعرفها ويطلعني عليها.. لكن أول لعبة جعلته بشاركني فيها، كانت "رأيي". حيث كنت أجلس على السرير أهرش شعري بيديّ الاثنين بينما أخرج لساني وأحاول أن أراه وأن أصدر به أي صوت وهو خارج هكذا عن فمي..


عرفت كلمة رأي قبل أن أعرف كلمة حلم، وكلمة شرود. حدث ذلك في سن الثالثة. كان أبي قد اخترع تقليدا في الأسرة وهو أن يكون هناك ساعتين كل خميس، من الساعة الخامسة حتى السابعة مساءً، يجلس فيها كل أفراد الأسرة الأكبر من ثلاث سنوات. في هذه الجلسة الأسبوعية يقول فيها كل واحد ما يضايقه من الآخر ويناقشه في حضور الآخرين حتى يتوصل المتخاصمان إلى حل يصفوا بعدها الجو بينهما. في هذه الجلسة أيضا يمكن لمن شعر خلال الأسبوع أنه أخطأ في أمر ما، أو هناك أمر يؤرقه طوال السبوع ولا يفهمه أو لا يجد له تفسيرا، أن يعرض على الجميع هذا الأمر ليناقشوه معاً. وفي هذه الجلسة أيضا، نناقش مصروف البيت الأسبوعي، ونختار حسب الظروف المادية وظروف الامتحانات نوع الفسحة الأسبوعية التي سنقوم بها يوم الجمعة.
عندما أتممت الثالثة من عمري. بدأت أداوم على حضور مجلس الأسرة هذا المنعقد أسبوعيا. لم أفهم ما يجري. لكن أبي سألني: "وانتِ ما رايك؟" نظرت إليه ببلاهة واندهاش. لم أفهم معنى الكلمة. كانت أول مرة أسمعها. نظرت لأمي أستفسر. قالت: "يا حبيبتي. هذا أمر طبيعي جدا. تحدثنا هنا عن أشياء ونريد أن نأخذ رأيك". كان ردي بالنفي. قالت أمي: "إذاً أنتِ لا توافقين."
قلت: "طبعاً لا أوافق! رأيي تخصني وسألعب بها وحدي. ولن أسمح لأحد أن يأخذها مني. فقط أرجو منكم إذا كانت فعلا هذه "الرأي" لي، أن تخبروني أين أشتريها وبكم هي حتى أدخر من مصروفي ما يكفي لآخذها معي إلى حجرتي."


كانت أيضا كلمة "مصروف" كلمة جديدة. لكنني عرفتها قبل كلمة رأي، واعتدتها بسرعة. فقد كانت كلمة تتكرر على مسامعي يومياً. قبل الدخول إلى باب الحضانة، يقول أبي :"خذي يا حبيبتي، هذا مصروفك. اشتري به ما تشائين."… كنت أريد أن أشتري رأيي. لكني لم أجده في كانتين الحضانة، ولا عند "عم شعبان" بائع الحلوى المجاور، ذلك الرجل العجوز الطيب الذي لا تفارقه ابتسامته التي تعلن عن فم بلا أسنان تقريباً، والذي كان عنده دائما لبان السجاير، والربسوس والشيكولاتة المسكوكة على هيئة عملات، ولا عند محل "صباح الخير"، محل لعب الأطفال الموجود في ركن الشارع، والذي كنت أظن ان اسم صاحبه "صباح الخير"، هناك كنت أجد الصلصال الذي أحبه، والدفوف البلاستيكية الصغيرة، والبيانو اللعبة الذي يصدر أصواتا تشبه الاكسليفون، والاكسليفون نفسه مثلما أجد خيوط سكوبيدو البلاستيكية الملونة، والخرز وخيط السنارة. لكنني لم أجد رأيي.


لم أستطع الانتظار إلى الاسبوع التالي لكي أطرح محنتي في مجلس الأسرة. بعد أيام قليلة وبينما يأخذني أبي معه مساءً لشراء العيش الفينو والتمشية قليلا بحزاء النيل، قررت أن أخبره بالموضوع. فهو الوحيد في الأسرة الأسمر مثلي تماماً. وكان هذا يعني لي، أنني عندما سأكون في حجمه سأصبح هو. كنت في تلك الفترة لا أميز الناس باعتبارهم أطفال وكبار، ولا بنات وأولاد. كان الناس عندي يتميزون بأحجام الجسم، وألوان الجلد. قلت له كيف أنني بحثت عن رأيي في محل اللعب، وفي محل الحلوى، وعند البقال وفي الصيدلية، ولكني لم أجده عندهم. كل ما وجدت هو أنهم يضحكون. فهل رأيي هذا يدغدغ؟ وأنني عندما أجده سأضحك مثلهم؟ ثم أين أجده؟.. ابتسم أبي. كان هذا أول حوار حميم بيننا. وبعدها توالت الحوارات.. قال أبي: "يا حبيبتي، رأيك لا يمكن أن تشتريه. رأيك تجديه بداخلك. يجلس في رأسك ويخرج من لسانك." أخذت أهرش في رأسي ثم بسرعة أخرج لساني وأحاول أن أنظر له وهو خارج فمي لكي أرى رأيي.. لكن والداي كانا يقولان إنه من العيب أن نهرش هكذا أو نخرج لساننا أمام الناس.. فصرت ألعب برأيي وحدي في حجرتي، وعلى سريري العزيز…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق