يمر العقل السلفي ـ إن صح التعبير ـ بأزمة لا شك فيها, أبرز مؤشراتها التشدد الديني وفق تأويلات دينية غير صحيحة, والتركيز علي التحريم بلا أساس في مجال السلوك الاجتماعي, وضد القيم الليبرالية المنفتحة.
وهذه الأزمة فرع من الأزمة العامة التي يمر بها العقل الديني التقليدي, سواء تمثل في أفكار الإخوان المسلمين التي تعد بشكل عام معتدلة ووسطية, أو في أفكار الجماعات الإسلامية الجهادية التي سبق لها أن اعتبرت العنف والإرهاب وسيلة لها لقلب النظم السياسية العربية العلمانية الراهنة قبل أن تمارس نقدها الذاتي.
وقد سبق لنا أن عرضنا بالتفصيل لأزمة المشروع الإسلامي المعاصر بكل جوانبها( راجع كتابنا الكونية والأصولية وما بعد الحداثة. القاهرة,1996, الجزء الأول نقد العقل التقليدي, الجزء الثاني, أزمة المشروع الإسلامي المعاصر). ونقصد بهذا المشروع الحركة الإسلامية التي ظهرت في ربوع الوطن العربي منذ أكثر من ثمانين عاما, وربما كانت جماعة الإخوان المسلمين التي أنشأها الشيخ حسن البنا رحمه الله هي رائدة هذه الحركة, بحكم انتشارها في عديد من البلاد العربية. والأزمة التي نتحدث عنها لا تتعلق فقط بالسلوك العملي لأنصار هذا المشروع الذي جعلهم يصطدمون بالسلطة في عديد من البلاد العربية, بل هي أزمة تتعلق بالمنطلقات النظرية لهذا المشروع, وبرؤيته للعالم وبنظره إلي نفسه وباتجاهه إزاء الغير, وأبرز هذه المنطلقات هو السعي إلي إنشاء دولة دينية تطبق شريعة الله, تحقيقا لشعارهم الشهير الإسلام دين ودولة, لكي تحل محل الدولة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة.
غير أنه لابد من أن نشير إلي أنه حدثت تحولات بالغة الأهمية في خطاب تيار الإسلام السياسي الذي كان لا يقبل الحزبية ولا الأحزاب ولا الديمقراطية, علي أساس أنها بدعة دخيلة, لأن الشوري وليس غيرها هي النظام الأمثل.
وقد عبر عن هذا التحول مذكرة هامة أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين في مارس1994 بعنوان موجز عن الشوري في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم, وهذه المذكرة الهامة عكست رغبة شديدة في الاقتراب من قيم التعددية السياسية, والتركيز علي أن الأمة ـ وفق الصياغة الليبرالية الشهيرة ـ هي مصدر السلطات.
كان هذا عام1994, وتشاء تطورات الأحداث التاريخية الكبري في مصر وخصوصا قيام ثورة25 يناير, أن تؤدي إلي أن تتصدر جماعة الإخوان المسلمين مجلس الشعب, بعد أن حصلت علي عدد كبير من المقاعد ويليها حزب النور السلفي.
وهكذا وضعت جماعة الإخوان المسلمين في محك الاختبار التاريخي لكي نعرف صدق المنطلقات النظرية الجديدة التي أصبحوا يعلنون عنها.
وقد يكون في خطاب الدكتور المرسي رئيس حزب الحرية والعدالة, وكذلك في خطاب الدكتور الكتاتني رئيس مجلس الشعب, ترجمة واضحة لهذه المنطلقات من حيث الحرص علي قيم الديمقراطية, وأبرزها احترام التعددية, وانتهاج أسلوب التوافق السياسي مع جميع التيارات السياسية.
وقد لفت نظري في المقال الهام الذي نشره الأهرام بتاريخ13 فبراير2002 للدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين بعنوان مصر بين الأمس واليوم فقرة بالغة الأهمية جاء فيها بالنص إننا نسعي لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة علي أسس المواطنة ومبادئها وسيادة القانون والحرية والمساواة والتعددية بكل أشكالها وأنواعها, والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية, وشيوع قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع أبناء الأمة بلا تمييز علي أساس العرق أو اللون أو الدين, وصياغة دستور جديد للبلاد يلبي متطلباتنا نحو نهضة حقيقية لعشرات بل لمئات السنين, بصورة توافقية بين جميع أبناء البلاد, فالدساتير توضع بالتوافق لا بالأغلبية.
وليس عندي شك في أن هذه الأفكار جميعا تعبر عن تحول عميق ومحمود في الخطاب الإخواني الذي كان يرفض من قبل الديمقراطية ويفضل عنها الشوري, كما أنه كان يرفض التعددية الحزبية, ويتشبث بإقامة الدولة الدينية علي أساس أن الإسلام دين ودلة.
وهكذا يمكن القول إن الخطاب الإخواني خرج من أزمته التقليدية التي صاحبته عشرات السنين, خصوصا في ظل الحلم باسترداد الفردوس المفقود وأعني نظام الخلافة, كما سبق للشيخ يوسف القرضاوي أن عبر عن ذلك عام1994, حين قرر أن اختيار خليفة واحد يحكم الأمة الإسلامية من مشارق الأرض إلي مغاربها هو ما ينبغي أن يسعي المسلمون إلي تحقيقه, وهذا ما جعلني أدخل معه في حوار علي صفحات جريدة الأهرام, علي أساس أن حلم الخلافة يتجاهل حقائق النظام العالمي, والواقع المحلي في عديد من البلاد الإسلامية.
وأيا ما كان الأمر, فإن جماعة الإخوان المسلمين بتوجهاتها الجديدة تعد قد خطت خطوات واسعة في مجال تحديث خطابها التقليدي, لكي يصبح أكثر توافقا مع الاعتبارات الديمقراطية.
ولكن تبقي لنا مشكلة التيار السلفي والذي رغم تمدده وانتشاره في السنوات الأخيرة, إلا أنه لم يتعرض من قبل للاختبار السياسي في إطار ديمقراطي.
وها هو حزب النور المعبر عنه والذي حصل علي المكانة الثانية في الانتخابات يظهر للعلن, ويكشف عن نسق فكري ديني مغلق, يعتمد أساسا علي القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للآيات القرآنية.
ومما لا شك فيه أن الرأي العام في مصر قد انزعج انزعاجا شديدا من تصريحات متعددة أدلي بها بعض قادة التيار السلفي, سواء فيما يتعلق برغبتهم في إقامة جهاز يتولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قياسا علي التجربة السعودية, أو فيما يتعلق بعقلية التحريم التي يتبناها.
وتبدو أزمة العقل السلفي في أنه يعتمد علي الماضي باعتباره المرجعية العليا له, وهذا الماضي يتمثل في إعادة إنتاج تفسيرات تقليدية ومتشددة للنصوص الدينية, ويسعي لتطبيقها في المجتمع اليوم, بالرغم من اختلاف الظروف بين ماضي المجتمعات الإسلامية وحاضرها.
وقد غاب عن دعاة الخطاب السلفي أنهم لن يستطيعوا ـ حتي ولو أرادوا ـ أن يفرضوا معاييرهم الأخلاقية المتشددة علي الشعب المصري, من خلال تحريم عديد من أساليب الحياة في مصر.
وعليهم ـ بعد أن خرجوا من كهوفهم الماضوية العميقة ـ وتعرضوا للشمس, وأصبحوا يمارسون السياسة في البرلمان, أن يدركوا أننا نعيش عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان, وأن المجتمع المصري يمتلك تراثا ليبراليا راسخا, ولن يسمح لأي فصيل ديني سلفي أن يفرض قيمه علي جموع الشعب.
وقد سبق لنا أن عرضنا بالتفصيل لأزمة المشروع الإسلامي المعاصر بكل جوانبها( راجع كتابنا الكونية والأصولية وما بعد الحداثة. القاهرة,1996, الجزء الأول نقد العقل التقليدي, الجزء الثاني, أزمة المشروع الإسلامي المعاصر). ونقصد بهذا المشروع الحركة الإسلامية التي ظهرت في ربوع الوطن العربي منذ أكثر من ثمانين عاما, وربما كانت جماعة الإخوان المسلمين التي أنشأها الشيخ حسن البنا رحمه الله هي رائدة هذه الحركة, بحكم انتشارها في عديد من البلاد العربية. والأزمة التي نتحدث عنها لا تتعلق فقط بالسلوك العملي لأنصار هذا المشروع الذي جعلهم يصطدمون بالسلطة في عديد من البلاد العربية, بل هي أزمة تتعلق بالمنطلقات النظرية لهذا المشروع, وبرؤيته للعالم وبنظره إلي نفسه وباتجاهه إزاء الغير, وأبرز هذه المنطلقات هو السعي إلي إنشاء دولة دينية تطبق شريعة الله, تحقيقا لشعارهم الشهير الإسلام دين ودولة, لكي تحل محل الدولة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة.
غير أنه لابد من أن نشير إلي أنه حدثت تحولات بالغة الأهمية في خطاب تيار الإسلام السياسي الذي كان لا يقبل الحزبية ولا الأحزاب ولا الديمقراطية, علي أساس أنها بدعة دخيلة, لأن الشوري وليس غيرها هي النظام الأمثل.
وقد عبر عن هذا التحول مذكرة هامة أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين في مارس1994 بعنوان موجز عن الشوري في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم, وهذه المذكرة الهامة عكست رغبة شديدة في الاقتراب من قيم التعددية السياسية, والتركيز علي أن الأمة ـ وفق الصياغة الليبرالية الشهيرة ـ هي مصدر السلطات.
كان هذا عام1994, وتشاء تطورات الأحداث التاريخية الكبري في مصر وخصوصا قيام ثورة25 يناير, أن تؤدي إلي أن تتصدر جماعة الإخوان المسلمين مجلس الشعب, بعد أن حصلت علي عدد كبير من المقاعد ويليها حزب النور السلفي.
وهكذا وضعت جماعة الإخوان المسلمين في محك الاختبار التاريخي لكي نعرف صدق المنطلقات النظرية الجديدة التي أصبحوا يعلنون عنها.
وقد يكون في خطاب الدكتور المرسي رئيس حزب الحرية والعدالة, وكذلك في خطاب الدكتور الكتاتني رئيس مجلس الشعب, ترجمة واضحة لهذه المنطلقات من حيث الحرص علي قيم الديمقراطية, وأبرزها احترام التعددية, وانتهاج أسلوب التوافق السياسي مع جميع التيارات السياسية.
وقد لفت نظري في المقال الهام الذي نشره الأهرام بتاريخ13 فبراير2002 للدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين بعنوان مصر بين الأمس واليوم فقرة بالغة الأهمية جاء فيها بالنص إننا نسعي لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة علي أسس المواطنة ومبادئها وسيادة القانون والحرية والمساواة والتعددية بكل أشكالها وأنواعها, والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية, وشيوع قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع أبناء الأمة بلا تمييز علي أساس العرق أو اللون أو الدين, وصياغة دستور جديد للبلاد يلبي متطلباتنا نحو نهضة حقيقية لعشرات بل لمئات السنين, بصورة توافقية بين جميع أبناء البلاد, فالدساتير توضع بالتوافق لا بالأغلبية.
وليس عندي شك في أن هذه الأفكار جميعا تعبر عن تحول عميق ومحمود في الخطاب الإخواني الذي كان يرفض من قبل الديمقراطية ويفضل عنها الشوري, كما أنه كان يرفض التعددية الحزبية, ويتشبث بإقامة الدولة الدينية علي أساس أن الإسلام دين ودلة.
وهكذا يمكن القول إن الخطاب الإخواني خرج من أزمته التقليدية التي صاحبته عشرات السنين, خصوصا في ظل الحلم باسترداد الفردوس المفقود وأعني نظام الخلافة, كما سبق للشيخ يوسف القرضاوي أن عبر عن ذلك عام1994, حين قرر أن اختيار خليفة واحد يحكم الأمة الإسلامية من مشارق الأرض إلي مغاربها هو ما ينبغي أن يسعي المسلمون إلي تحقيقه, وهذا ما جعلني أدخل معه في حوار علي صفحات جريدة الأهرام, علي أساس أن حلم الخلافة يتجاهل حقائق النظام العالمي, والواقع المحلي في عديد من البلاد الإسلامية.
وأيا ما كان الأمر, فإن جماعة الإخوان المسلمين بتوجهاتها الجديدة تعد قد خطت خطوات واسعة في مجال تحديث خطابها التقليدي, لكي يصبح أكثر توافقا مع الاعتبارات الديمقراطية.
ولكن تبقي لنا مشكلة التيار السلفي والذي رغم تمدده وانتشاره في السنوات الأخيرة, إلا أنه لم يتعرض من قبل للاختبار السياسي في إطار ديمقراطي.
وها هو حزب النور المعبر عنه والذي حصل علي المكانة الثانية في الانتخابات يظهر للعلن, ويكشف عن نسق فكري ديني مغلق, يعتمد أساسا علي القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للآيات القرآنية.
ومما لا شك فيه أن الرأي العام في مصر قد انزعج انزعاجا شديدا من تصريحات متعددة أدلي بها بعض قادة التيار السلفي, سواء فيما يتعلق برغبتهم في إقامة جهاز يتولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قياسا علي التجربة السعودية, أو فيما يتعلق بعقلية التحريم التي يتبناها.
وتبدو أزمة العقل السلفي في أنه يعتمد علي الماضي باعتباره المرجعية العليا له, وهذا الماضي يتمثل في إعادة إنتاج تفسيرات تقليدية ومتشددة للنصوص الدينية, ويسعي لتطبيقها في المجتمع اليوم, بالرغم من اختلاف الظروف بين ماضي المجتمعات الإسلامية وحاضرها.
وقد غاب عن دعاة الخطاب السلفي أنهم لن يستطيعوا ـ حتي ولو أرادوا ـ أن يفرضوا معاييرهم الأخلاقية المتشددة علي الشعب المصري, من خلال تحريم عديد من أساليب الحياة في مصر.
وعليهم ـ بعد أن خرجوا من كهوفهم الماضوية العميقة ـ وتعرضوا للشمس, وأصبحوا يمارسون السياسة في البرلمان, أن يدركوا أننا نعيش عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان, وأن المجتمع المصري يمتلك تراثا ليبراليا راسخا, ولن يسمح لأي فصيل ديني سلفي أن يفرض قيمه علي جموع الشعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق