هل سأل أحد منا نفسه قبل أي تصرف أو سلوك يسلكه: هل هذا من الأخلاق في شيء؟ ليس من أجل مصلحة أو نفع مادي أو معنوي ذاتي، وإنما من أجل أن تظل راية مجتمع بأسره خفاقة؟
سؤال طالما حير كثيرا من الباحثين ونظر له جل الفلاسفة، ودعت له جميع الأديان السماوية، اعتمادا على علاقة الفرد بذاته وبالآخر ثم المجتمع، فالإنسان في عصره الأول كان لا يخاطب الآخر إلا بالإشارة ثم اخترع لغة كي يأنس بالآخرين فاتسم عصره بالخطاب اللغوي الكلامي ومن هنا تطورت اللغة بين الكلام والإشارة.
والأخلاق أو السلوك البشري هو مجموعة تصرفات وممارسات تتسم بالشمولية ابتداء من الحركات والسكنات إلى أن تشمل جميع أشكال التواصل البشري والإنساني والحضاري التاريخي في إطار القيمة.
ومن هنا كان هذا السؤال حول: هل الأخلاق والسلوك البشري فطرة فطر عليها الإنسان أم أنه يكتسبها من محيطه البيئي والاجتماعي؟
فإذا ما رجعنا إلى التحليل العلمي، سنجد أن هناك تفاوتا كبيراً بين الاكتساب والفطرة، وقد أكد كثير من العلماء والفلاسفة أن الإنسان كله خير أي أنه فطر على الخير، أما النوازع الأخرى فترجع إلى نوازع القيمة وهي مكتسبة من محيطه وبيئته، ولذك ظهرت مجموعة أفلام طرزان التى ضجت بها السينما الأميركية تؤكد ذلك في أنه ولد في وسط بيئي "غابة" فاتسم بسلوك ولغة وتصرفات تلك الغابة، وهي رؤية لا تزال محل الجدل. وإذا ما سلمنا أن الإنسان قد فطر على الخير كله وأن ما عداه مكتسب فقد يرجع ذلك كله إلى نوازع النفس البشرية التي وضعها الله سبحانه وتعالى فينا ومنها تعدد الأنفس من نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء والنفس الراضية إلخ..
وقد أرجع علماء النفس ذلك إلى مبدأ اللذة معيار الصواب والخطأ أو الخير والشر، وأول من أسس لهذا الأبيقوريون وكان سلوكهم كله تابعا لهذين السببين فاتسم سلوكهم بالهمجية والسوء، لأنهم كانوا يسعون إلى اللذة دون غيرها أعاذنا الله من ذلك، ثم امتدت إلى مناهج عديدة ومنها المدرسة الرواقية ثم الفترة الحديثة لكي تنفذ إلى مذاهب جيفي بنتام وجون ستيوارت مل وسيد جويك حول الانسياق وراء اللذة.
هذا وقد نظر للأخلاق العديد، ومنهم بوزانكيث في نظريته الأخلاقية المثالية التي ردها من وجهة نظره إلى:
1- مرحلة الغريزة: حيث يكون الفعل صائباً متى كان متوافقاً مع الحاجات والميول الفطرية والغرائزية التي عرض لها ماكدونالد.
2- مرحلة العادة: حيث يكون السلوك صائبا متى كان متوافقاً مع عادات وتقاليد الجماعة التي ينتمي إليها والمجتمع الذي يعيش فيه.
3- مرحلة الضمير: ويكون السلوك صائباً متى كان مثار استحسان وقبول الضمير، ويكون غير ذلك إذا استهجنة الضمير وثار ضده..
ولا أريد أن أستطرد في كلام علمي قد يثقل على القارئ، ولكني أردت أن أنوه إلى خطورة هذه الآراء على مجتمعاتنا التي حباها الله دستورا جامعا مانعا للأخلاق وهو "القرآن الكريم وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم" كما قالت عائشة رضي الله عنها عن أخلاق رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام: "كان خلقه القرآن"، ولقد شرعت في تأليف كتاب عما أسماه العالم بعلم "الإتكيت" - أي علم الأخلاق - مرتكزة على الكتاب والسنة، لكي يعرف العالم أخلاق الإسلام، لأنني بحثت في هذا العلم الذي يدرسه العالم في كلياته وجامعاته فوجدته برمته في كتاب الله سنة رسوله الكريم، بل يفوق علوم هؤلاء بجميع معاييرها وقوانينها في شتى السلوك البشري، وإذا كانت الأخلاق مكتسبة فهي تتطور حسب تطور الزمان والمكان، فإذا ما دأب العلماء على البحث في هذا المجال فإنهم يلجؤون إلى التطور التاريخي أو المتعاقب الزماني لما له من تأثير وتأثر على ميزته في كيفية التأثير والتأثر في النظريات الأخلاقية في بعضها البعض، ولهذا فإذا ما رجعنا إلى الزمان والمكان فسنجد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأشمل وأدق وأكثر حرصا على الأخلاق المثالية الفاضلة، وكلما امتد الزمان والمكان كانت الأعداد تنازلية في هذا الحرص، مما يهدد أمتنا وديننا الحنيف، يقول الدكتور خالد حامد الخازمي في كتابه مساوئ الأخلاق: "حينما سادت الأخلاق وعلا شأن الفضيلة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تألق أؤلئك الصحب الكرام في أخلاقهم إلى درجة أن المذنب لا يراه أحد إلا الله تعالى، فيأتي مستشعرا بعظم ذنبه فيقول: يارسول الله زنيت.. وتقول أخرى: زنيت.. فطهرني، ويقول آخر: يا رسول الله سرقت.. وبهذا الالتزام الديني سادوا العالم، وفتحو بلادا مغلقة، كانوا بها جاهلين، وحطموا قياصرة كانوا منها وجلين خائفين، فأصبحت راياتهم خفاقة عالية".
فهل نعاند تطور الزمان وانفتاح المكان بالرجوع إلى الأخلاق الحقة وأصولها لكي ترف الرايات خفاقة كما كانت؟ هل سأل أحد منا نفسه قبل أي تصرف أو سلوك يسلكه: هل هذا من الأخلاق في شيء؟ ليس من أجل مصلحة أو نفع مادي أو معنوي ذاتي، وإنما من أجل أن تظل راية مجتمع بأسره خفاقة، هل يقف الفرد منا يتأمل ما آلت إليه المجتعمات العربية من كذب ورياء ومصالح فردية على حساب نهضة الأمة؟ أشك في ذلك.
فالإنسان الفرد هو اللبنة الأولى في بناء المجتمع، ومن هنا الأمة ثم مصلحته هو وذريته في آخر المطاف، فتدور الدائرة إليه هو، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ويحصد ما زرعته يداه دون غيره في مناخ عربي وعالمي تسوده النوازع والأهواء، ومفاسد وصراعات ومظالم تدفع إليها الضغائن والأحقاد أو المطامع والأهواء أو الرغبة في التسلط والاستعلاء، فليس لنا من درع في هذا الزمان سوى الأخلاق.. يقول الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق