التنافر في الطباع بين من تربوا وتعلموا بالداخل ومن تلقوا تعليمهم بالخارج يعمل على تحطيم المعنويات العائدة بالهمم وبالعلم وبالخبرة
يعاني شبابنا العائد من البعثات الخارجية، وممن تلقوا تعليمهم بالخارج من مشكلات العمل الفردي وفردية التفكير وعدم الانخراط في العمل الجماعي كما تعلموه في بلاد خارج الحدود، فما هذه المعاناة وما هي أسبابها؟
إن الإنسان العربي فطر على الأعمال الجماعية، فقد نشأ على الزراعة وبعض الصناعة وهي أعمال جماعية، ومن أمثلتها الرعي؛ فإذا سرح الراعي بقطيعه في أعالي الجبال أو غياهب المفازات، فهو يأنس بقطيعه وبكلبه وبرعاة آخرين ينتشرون في أرجاء قريبة، أما عن الزراعة والصناعة فهي بلا شك أعمال جماعية لا تعتمد على الفرد الواحد. ولقد اتسم المجتمع العربي منذ الشهقة الأولى له بأنه مجتمع القطيع، أي أنه يحيا في جماعات في أغلب الأحيان، وذلك يرجع إلى ثيولوجيا "المكان، فللطبيعة أثرها الواضح في تكوين الشخصية العربية، حيث المساحات الشاسعة والسماء الصافية وامتداد الأفق على مرمى البصر. فخلق ذلك نوعا من الوحشة التي لا تأنس إلا بالآخر الذي تبحث عنه دائما. ومن هنا اتسم المجتمع بالبحث الدائم عن الأنس. فلم تكن الفردية من سمات مجتمعاتنا. وكذلك تختلف الشخصية الغربية من حيث السمات والخصائص تبعا لطبيعة المكان كما أسلفنا، حيث الضباب والغابات وطبيعة الجبال تحف دائما بالفرد مما تشعره دائما بالدفء المعنوي، فدائرية البصر لا توحي دائما بالمجهول.
ومن هنا لم تكن الفردية أو الدائرية - والتي قد تقع بين النرجسية والأنانية - من سمات الشخصية العربية. فمن أين أتت لنا هذه السمة وهي أن الفرد يحيا في العمل خاصة متخذا كتم أسراره وتفاعله وتفعيله أمرا محتما، ويحيط نفسه بدائرية لا فكاك منها، وإن تفوق أحد من زملائه شعر في قرارة نفسه بالضيق ليس لأنه تفوق وإنما لأنه يرى نفسه أحسن منه أو أحق.
النرجسية Narcissus تعني حب النفس وهذه الكلمة نسبة إلى أسطورة يونانية، ورد فيها أن نارسيس كان آية في الجمال وقد عشق نفسه عندما رأى وجهه في الماء.
الصفة الأساسية في الشخصية النرجسية هي الأنانية، فالنرجسي عاشق لنفسه ويرى أنه الأفضل والأجمل والأذكى ويرى الناس أقل منه، ولذلك فهو يستبيح لنفسه استغلال الناس وتسخيرهم.
أما الأنانية "فهي الفردية الشرسة وحُب التمّلك والغيرة الجنونية التي تدفعُ الإنسان إلى إرادة السيطرة على أملاك الغير بدون حق، فيدرج من الأنانية أشياء كثيرة، منها حُب الاتكالية والاعتماد على الغير وإراحة النفس والصعود على أكتاف وظهور الآخرين بضمير ميت وبدون مبالاة، والأنانية أيضا هي رغبة ذاتية للاستحواذ على حاجات الغير وتريدها فقط لنفسها وتحرّمها على غيرها، فمثلا تجد بعض الدول همها الاستيلاء على خيرات الدول الفقيرة بدون حق ولا نعرف على أي أساس تريد أن تحلل لنفسها كل شيء وتمنعه على غيرها فهذه أنانية مؤكدة، ويندرج من الأنانية أيضا الغرور والتكبر، فالشخص الأناني يرى كل من حوله خدما وعبيدا عنده، وحبه لذاته لا يفوقه حب أي شيء".
فإذا بالفرد منا لا هو هذا ولا ذاك، وإنما يأخذ من الأولى سمات ومن الثانية سمات ويكون الناتج أسميه (الأنارسية) وهو نتاج امتزاج سمات من هذه ومن تلك.
فلنذهب معا إلى الأسباب التي تركت وراءها هذه السمة وما تركت:
أولا المنزل: فالوالدان هما أول من يؤسس للفردية، حينما نغرس في أبنائنا حب التفرد، فنقول لماذا هذا أحسن منك؟ ولماذا تفوق ذاك عنك؟ ويجب أن تكون أحسن من هذا وذاك! فينشأ ذا طبيعة دائرية لا يلوي على شيء سوى نفسه.
ثانيا المدرسة أو الجامعة: حينما نعلي من قدر هذا الطالب ونحط من قدر ذاك إما لمكانة والديه أو لتفوقه الفردي.
ثالثا التعليم: وهو اعتماد التعليم على العمل الفردي وليس الجماعي وهذا أهم ما في الأمر، فالتعليم الحديث في البلاد المتقدمة يعتمد على ما يسمى بالـ(وورك شوب) وهو أن تكلف المجموعة (جروب) بالمهمة التعليمية وتعطى الدرجات للمجموعة ككل، وبالتالي ينشأ لدى الفرد حب التعاون والإنتاج المشترك، ومن هنا يكون النجاح الجماعي في العمل وليس لنجاح فرد عن آخر. فالمهمات لا تنجح بأفراد وإنما بالجهد الجماعي الذي لا يحبذه أبناء بلادنا في هذا الزمان الذي أصبح مفتوحا على العالم، فلا مكان للفردية والاستفراد لأنها لا تنتج إلا فردا، والفرد بمفرده لن ينهض بالمجتمع ولا حتى بالأداء الوظيفي، ويصبح الكل يذهب إلى العمل في تثاقل لا يحركه سوى الدائرية والانغلاق ولتذهب بلادنا مع الريح.
إن هذا التنافر في الطباع بين من تربوا وتعلموا بالداخل ومن تلقوا تعليمهم بالخارج يعمل على تحطيم المعنويات العائدة بالهمم وبالعلم وبالخبرة، فهؤلاء تعلموا على العمل والإبداع والإنتاج الجماعي كما تطبعوه من طريقة تعليمهم، وهؤلاء ينفردون ويستديرون بفردية يغلفها حب الذات التي تنتج الحقد والكراهية في نهاية الأمر والضحية هو العمل والنتائج المحامية في الإنتاج، فيفقد الكل من جماعة ومجموع وأفراد قيمة اللذة (لذة العمل)، أي متعة الأداء وهي سر تفوق العمل في البلاد المتقدمة. فماذا نحن فاعلون اتجاه جمع غفير سيعود من البعثات الخارجية، تدربوا وتعلموا متعة الأداء الجماعي (وورك شوب)، وعن تعارض الرغبات بين ممتهني العمل الفردي والباحثين عن التفرد الذي لا يبني دولة في العصر الحديث ولا حتى يبني فردا وبين عاشقي العمل الجماعي؟ لأنه أي (العمل الفردي) يسرب إلى الذوات حب الذات والأنانية والحقد والحسد فيصبح العمل جحيما كما تصبح العلاقات الاجتماعية مفككة غير متصلة ولا متواصلة، فالابتسامة والبشاشة هي أولى لبنات العمل الجماعي التي تؤسس للحب والتفاهم ثم العمل المشترك ثم مجتمع آهل بالمحبة، وهذا ما نراه في الدول والمجتمع العالمي الحديث وما لا نراه في بيئتنا ومجتمعنا الذي تأسس على ذلك قبل أي مجتمع آخر، فلماذا كانت الابتسامة صدقة؟ لأنها أولى درجات تبيين الرؤية في الحميمية المجتمعية والتي تمد جسور العمل الذي هو عبادة.
ملحة عبدالله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق