للمسرح صناعة لا تقبل المواربة، وهو لا يسير في خطوط متوازية، لأنه أداة من أدوات الوعي والمعرفة، التي تحمل صدق التعبير والتنوير، ولكنه يحتاج إلى تربة صالحة كي يؤتي ثماره
علينا أن نمعن النظر في ما هو سياسي وما هو ثقافي، وما هي دائرة كل منهما بشكل عام. وهل تنفصل دائرة السياسة عن دائرة الثقافة؟ وما هو موقع المسرح بين هاتين الدائرتين؟
هذه تساؤلات هامة تعمل على إيقاظ الوعي بإدراك مسارات ومدارات هذه الدوائر لدى البعض، والذي قد يخيل إليه أنها لا تلتقي أبداً! بينما هي دوائر تتصل أو تنفصل حسب الوعى الجمعي. فما هي آليات وسلبيات هذا الاتصال أو الانفصال؟ وما هي إيجابياته بشكل عام وفي مختلف الثقافات ومجمع الحضارات عبر الأزمنة حتى يومنا هذا؟
لم تكن السياسة والثقافة دائرتين متماستين بل متقاطعتين، فلا تدور عجلة الأولى إلا بالثانية، والعكس، وذلك في حالة حرية التعبير وصدق الأقلام وموضوعيتها، فلا يستقيم الأمر إن تحركتا في خطوط متوازية، والفصل بينهما يعد أمرا تعسفيا، وهذا أهم ما في الأمر. والمسرح هو العروة الوثيقة بينهما لكي تكتمل سلسلة الفكر والتعبير الصادق البناء، وإلا انفصمت العرى وذهبت كل دائرة إلى مجالها، وهذا ما نراه يجوب أرجاء الفكر العربي في يومنا هذا! ولعل أرستوفان (448-380 قبل الميلاد) كان أول من أرسى قواعد النقد والفكر والسياسة معا في مسرحياته الشهيرة "الضفادع" و"السحب".
يقول حنا عبود في دراسة بعنوان "مسرح الفاجعة": (أثبت أرستوفان في هذه المسرحية أنه ناقد أدبي فذ يلتزم جانب الموضوعية، ويحاول أن يكون نزيهاً كعادة الأرستقراطيين في تصرفاتهم وإدارتهم. وقد سعى إلى فحص كل من التوجهات الفكرية والفنية العامة، فلم يفصل في المفاضلة بين الجانبين. وبالمقابل فإنه لم يسمح لنفسه بتفضيل جانب على آخر، وإنما اكتفى بالرصد الدقيق الموضوعي. كان بعمله هذا قدوة لكل النقاد الجادين حتى هذه الأيام. فحتى اليوم لا يجرؤ أحد أن يفصل الفن عن الفكر والسياسة، أو كما نقول بلغة عصرنا أن يفصل الشكل عن المضمون. وهو الذي علمنا أن المضمون الرائع لا يستدعي بالضرورة شكلاً رائعاً، وكذلك ليس بالضرورة أن يكون الشكل الناجح مفصحاً عن مضمون ناجح. لقد علمنا أنه ليس بمقدور الفنان أن يقدم فنه وفكره بنسب متساوية ومتسقة. والناجح في مضمونه لا يعني أنه ناجح في شكله. وحتى اليوم لا تزال هذه المسائل تشغل النقاد، فيحارون في تحديد روعة العمل وقياس نسبة الفكر من جهة والفنية من جهة أخرى).
فمتى تتلاقى الأطر بشكل متقاطع؟ وكيف يعمل المسرح الذي يتساءل العالم العربي عن أزمته؟ لتدور العجلة المجتمعية بشكل عام! فالوعي الوطني والفكر الراقي الباحث عن تحقق واعٍ ومدرك لجميع المحاور الاجتماعية والاقتصادية والتربوية إلخ.. هو من يحقق هذه المعادلة، والمسرح عنصر هام من عناصر هذه المعادلة، ليس في دول الخليج فحسب، وإنما في جميع أنحاء الوطن العربي والذي يتساءل الإعلام عن كبوته!
يقول يوسف إدريس حين سئل عن أزمة الرواية وبطبيعة الحال شأنها شأن المسرح: "لا أعتقد بوجود أزمة قائمة في الرواية أو القصة بشكل عام، أي أن هناك أزمة قائمة بين الأديب كمعبر عن مجتمعه في ظرفنا الراهن وقدرة المجتمع على استيعاب هذا التعبير.. رفض مجتمعنا أن يواجه نفسه مواجهة صريحة.. الكاتب هو مرآة الحقيقة الصادمة، فأعتقد أن أزمته في أن يقول الحق, ويعتقد أنه يقول الحق، وأن يجر عليه هذا القول تبعات الصراحة في كل زمان ومكان". فيوجز كاتبنا أزمة الإبداع في سطور.
وتقول الكاتبة هالة مصطفى: "يتضح لنا حالة من الترابط الوثيق بين عالم الفكر والثقافة من ناحية وبين البيئة الحاضنة لهما سياسية كانت أو اجتماعية من ناحية أخرى، فكلا المجالين لا يدوران في فراغ، وإنما هناك دائما علاقة تبادلية جدلية تربطهما ببعضهما البعض".
هذا وإذا نظرنا للمسرح كونه ثقافيا أم سياسيا وإلى أيهما ترجح الكفة؟ فإن البعض ينسبه إلى إحدى الكفتين بينما هو كلاهما، وبدونه لا يستقيم الأمر، وهذا ما تعلمناه وثقفته مداركنا من علوم المسرح منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى يومنا هذا، ولذلك فالمسرح في الوطن العربي يحيا أزمة معرفة، أزمة تعبير نتيجة لقولبة الفكر والتفكير وكبح التعبير.
تقول الكاتبة سالفة الذكر عن أزمة التعبير: "في جميع الحالات (يتقولب) الفكر وتتحول الثقافة إلى أيديولوجية وينتفي الاختيار، وتصبح التبعية هي وسيلة التنشئة الرئيسية، أو بالأحرى وسيلة "التلقين" الطبيعية، أما الفرد فيتحول إلى مجرد عنصر تابع داخل جماعة، أي جماعة. فالمجموع بمعناه الفضفاض والهلامي أحيانا يصبح هو الغاية والوسيلة التي تتحكم بها فئة معينة في توجيه السياسة والثقافة والمجتمع".
وللفن المسرحي خمسة محاور لا ينقص أحد منها، ولها مداخلها التي إن نقص محور اختل توازن الفن المسرحي وهي: (الاجتماعي، النفسي، السياسي، الاقتصادي، العقائدي)، ومنها جميعها يتكون المسرح، للمسرح صناعة لا تقبل المواربة، وهو لا يسير في خطوط متوازية، لأنه أداة من أدوات الوعي والمعرفة، التي تحمل صدق التعبير والتنوير، ولكنه يحتاج إلى تربة صالحة كي يؤتي ثماره، فلو أمعنا النظر في حال المسرح في العصور الوسطى - وهي ما يطلق عليها مجازيا العصور المظلمة – فسنجد أنه كان مسرحا باهتا وضعيفا، فلم نر إلا مسرحيات الأسرار والمريمات الثلاث وغير ذلك ممن حاولوا إيقاظ المسرح من سبات دام أكثر من خمسة قرون، وحينما جاء عصر النهضة Renascence بما فيه من نهضة وتقدم وعبقرية أفرزت علماء ومخترعات أفادت البشرية وظهر لنا المسرح العملاق الذي أعاد أمجاد المسرح اليوناني والروماني، بل تفوق عليه، فكان شكسبير وموليير وكورني وغيرهم ممن تقتات الجامعات على أعمالهم حتى يومنا هذا، والحقيقة أن المسرح يعكس واقع عصره وثقافته ووعي مجتمعه وحرية تعبيره, فهو كالنباتات حينما تنمو في مياه راكدة أو ضحلة فلا تنتج إلا طحالب سامة، وحينما تتغذى بالمياه النقية الجارية والمتجددة فلا تنتج إلا ثمارا صالحة تنفع الناس.
عن أزمة التعبير وأزمة استيعاب المجتمع: يقول الكاتب المسرحي سمير عبدالباقي:
(أجبرني أقول أشعار بلا لازمة
.. ولا تشد عزمة
ولا تشفي عليل أزمة.. ولا تفتح عصي الأبواب..
ومنين تجيب أودان لأحزان الكلام الصعب
والصدق عضة كلب- يا كداب)
ومن العجيب في يومنا هذا أننا نجد فصلا غير مبرر بين الثقافة، والسياسة، والمسرح، والدين، والعلم، وإن كان لكل منها علومه، إلا أنه فصل تعسفي يؤدي إلى التحزب والتشتت والتصنيف المحفز على الفرقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق