اللوحة الأولى
المنظر :
( وادي بين الجبال العالية ؛ حيث توجد بئر صخرية يقف بجوارها عامل البئر وهو يلقى بالدلو داخلها وبعض الأشجار اليابسة والتى وقعت . يدخل إلى المكان اثنان من الرجال وهما يتحدثان بينما على الجانب الآخر يقوم عامل البئر بالعمل وهو يغنى وينشد الشعر على اليسار يقف الشاهد يراقب ما يحدث )
الشاهد : سقيا لعهد قد تولى ومضى كالطير في جو السماء مغردا
فتن اليماني السهيل بشدوه ثم استراح ونام في بئر الصدى
عامل البئر:لا بد لليل أن ينجلي .
(يمد رأسه داخل البئر ثم يصرخ فسمع دوي الصدى مع أصوات
همهمات غير مفهومة إلا أنه يستجيب لها وكأنه يفهمها )
الشاهد : هذى الصخور الصلدة الصماء هذى الجبال الوعرة الشماء
هذى الشعاب المقفرات الموحشات تطل منها القسوة الحمقاء
ومخالب الأشواك قد روت منابتها الكئيبة ادمع ودماء
والهول والأشباح والأوهام في تلك الدروب تهيجها الظلماء
وتهب هوجاء السموم كأنها زفرات جن في اللظى وعواء
عيش على شط الحياة معربد وطبيعة مجنونة هوجاء
من بين هاتيك الدياجر والمجاهل ا شرقت في العالمين زُكاء
فصحا الغفاة أبصرت نهج الحقيقة في المزالق أعين عشواء
وتفجرت فيها ينابيع الهدى حتى ارتوت من فيضها البطحاء
وجرت بأنحاء الوجود جداولا منها استمد الحكمة الحكماء
وسرت بروضاء الحياة نسائم قد بللت نفحاتها الأنداء
فالعيش خصب والنفوس قريرة والجدب ري والرياح رخاء
ذاك ابن سُلْمَى يصطفيه النابغة ودريد عند لبيد والخنساء
وأبى ربيعة إذ يلاقى عنترة يتبعهم الأعشى على استحياء
ما ذاك إلا الوحي من لد قادر خشعت لنور جلاله الأشياء
ولرب فرد من سلالة هاشم جادت على الدنيا به الصحراء
محسن : هل لك أن تدقق النظر فترى ما أرى ! أو تسمع ما أسمع ؟
مطلق : أكاد ألا أصدق ناظري
محسن : أجِني أم أنسي ذاك؟
محسن : إنه عامل البئر الذي طالما حدثتني أمي عن حِكَمه التي يرويها حول
الآبار
عامل البئر : رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ
تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ
وَمَنْ لَمْ يُصَـانِعْ فِي أُمُـورٍ كَثِيـرَةٍ
يُضَـرَّسْ بِأَنْيَـابٍ وَيُوْطَأ بِمَنْسِـمِ
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ
يَفِـرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْـمَ يُشْتَـمِ
مطلق : لقد تعبت قدماي ، لنا ساعتين ونحن نمشي في هذه الصحراء
محسن : يا مطلق يا أخي . لا تنس أنك تساعد صديق عمرك الوحيد
مطلق : يا محسن يا صديقي . أنا لا مانع عندي أن أساعدك ولكن قدماي لم
تعد تحملني ( يجلس )
محسن : يا مطلق . يا صديق عمري . يا حياتي . فات الكثير ولم يتبق إلا القليل
عامل البئر : ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
القليل أوف بوعدك يا رجل ( يحاول أن يستنهضه )
مطلق : يا أخي ، لدي فكرة نارية ، وهي من ستضع عن كاهلنا كل هذه
المتاعب
محسن : وما هي ؟ أخبرني بها وبسرعة . حقيقة كما عهدتك . صديق
عمري... قل حالا ...هيا ؟
مطلق : نقول الحقيقة لوالدك فذاك أسهل
عامل البئر : ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
محسن : أتريدني أن أخذل والدي . فقد أخبر عمى أنى شاعر أكتب الشعر
وأر تجله
مطلق : احفظ له أي أبيات من الشعر ثم ألقها عليه
عامل البئر : ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
محسن : إن عمى شاعر ، ويحب الشعر القديم ويحفظ شعر القدماء جلهم
مطلق : كلهم؟ لم يترك واحدا!
محسن : جلهم .. ولذا على أنا أن أحفظ الأشعار كلها
مطلق : أعانك الله .أنا تعبت، الطريق وعر ..وأنت تأخذنا فيه ولا أعرف
إلى أين
عامل البئر : ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لم يكرم نفسه لم يكرم
مطلق : ماذا تريد مني إذاً ؟
محسن : أريد العثور على سيد الشعراء
مطلق : سيد الشعراء ؟! أنا أسمع منك هذه الكلمات منذ ثلاثة أيام وأنت
تسأل الشيوخ وكبار السن عن سيد الشعراء أو عن وادي عبقر
محسن : لم يتبق في المهلة التي أعطانيها عمى سوى أربع ليال وإذا لم
أعد فسوف يزوج ابنته زينه إلي غيري ممن يقولون الشعر
ويحفظونه
مطلق : أيا هذا . ألا توجد بنت غير بنت هذا الرجل ؟
محسن : إنني أعشقها
مطلق : أ قطعت سرتك هناك ؟
محسن : تقريبا
مطلق : لكننا سنهلك
عامل البئر : ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
مطلق : ولكن قل لي ، منذ متى وأنت تهوى الشعر؟
محسن : منذ أن كنت طفلا وأنا مولع بالجلوس في مجالس الشعراء فوافق
طلب حماي هوىً في نفسي ، قرض الشعر وحفظه ولذا قبلت
التحدي وخرجت للبحث عن وادي عبقر أو سوق عكاظ
مطلق : كنت أستشيط غضبا حينما كان والدك يتفاخر بك في المجالس
محسن : لما ؟
مطلق : لأن والدك كان يأخذك ترافقه في كل مكان عكس ما يفعل أبي
محسن : كنت يتيم الأم وليس لي في هذا العالم سوى والدي أتشبث بأذيال
ثيابه كلما هم بمغادرة البيت ، فلا أحب أن أترك بمفردي وأنا وحيد
مطلق : حينها كنت أعتقد أنه من فرط التدليل فيشتد حنقي عليك
محسن : والدي كان فقيرا جدا بينما كان والدك من علية القوم وكنت أحبك
مطلق : وكنت أرتدي ملابس العيد الجديدة أما أنت فلا تجد سوى ما يقذفه لك
المحسنون من بقايا ثياب أولادهم وكان هذا يرضى غروري
محسن : ما كنت تترك الثوب إلا برقعه ..
مطلق : والله إنني كنت أقطع الثوب بأسناني حين أعلم أن أبى ينوي إعطاءك
إياه
محسن : ولذا لم يجد أبى عوضا عن الثروة والمال والجاه في سوى ابن
شاعر يتباهى بشعره وقريحته . كم أجله وأحترمه ... سأحقق
حلمه بإذن الله
مطلق : والآن ها أنت تسعى للفوز بأجمل بنات القبيلة وأعلاهن نسبا .. آه
لولا شرط هذا الوالد الشاعر
محسن : رغم ما أصابنا من نصب فلن أكل ولا أمل إلا بعد تحقق الطلب
مطلق : وأنا لن أتحرك من هذا المكان إلا بعد الحصول على بعض الماء
محسن : هناك البئر وهناك عامله يقرض الشعر كما سلف . حسنا هو كما
كانت أمي تحدثني عن عامل البئر وهو يلقي الحكم حول بئره
( يقتربان من البئر حيث يقف عامل البئر وهو ينشد بعض الأشعار
القديمة والتي تحتوى على الحكمة من التراث )
عامل البئر : وكاء ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يلق منه إلا صورة اللحم والدم
مطلق : عمت مساء يا أخ العرب
عامل البئر : عمتما مساء أيها الفتيان
محسن : أ لك أن أتدلنا إلى طريق الطائف؟
عامل البئر : الطائف . على مسيرة يوم واحد من هنا
محسن : أليست هذه طريق مكة؟
عامل البئر : لا . مكة من هنا . على مسيرة ثلاث ليالي
مطلق : هلا أعطيتني كوبا من الماء ؟
عامل البئر : الماء شحيح هنا
الشاهد : طير على غصن القصيدة قد شدا في أيكه الدهر الطروب وغردا
كم هز أعطاف القصيد نشيده طربا وهدهد حسه بئر الصدى
كم ارقد البحر الخضم وكم سقى عبر الدهور ولا يزال كما ابتدا
في وحشة البيداء يمضى حاملا في قلبه للناس مصباح الهدى
ما ملت الأحقاب من ترجيعه أبدا وما أودى به طول المدا
ذكراه للإنسان تورف راحة والعيش في لفح الهجير توقدا
ترد المشاعر والحقول حياضه ظمأى وتصد ر مثل إعصار بدا
لي كل يوم في مداها نزهة أجد السكينة في رباها والندى
هو طرفة بن العبد رق معينه مازال للقيم الرفيعة موردا
وهب السلام حياته وشعاره لا للحروب ولا لأنات الردى
فاليوم لا جوع ولا عطش إذا يهب الحياة نضارة وتوردا
محسن : ما شاء الله أيها الشيخ . أ تقف على بئر ماء وتشح عليّ بكوب ، وأنا ألهث
عطشاً ؟!
عامل البئر : لقد جف الماء هنا منذ مئات السنين ولكنني أشدو وأغني لأروي عطش
الصحراء فالبئر قد جفت
محسن : وماذا تفعل إذا بجوار هذه البئر
عامل البئر : قلت لك أروي الصحراء عشق وولع
مطلق : أ عاشق ولهان دونما يفيق ؟( لمحسن )
عمال البئر : أجل .
محسن : من هي إذا ، من تستحق ذلك
عامل البئر : الصدى.
مطلق : الصدى ؟
عامل البئر : نعم أجلس أستمع الصدى منذ مئات السنين
مطلق : ماذا.؟. تستمع الصدى ؟!
عامل البئر : نعم .ألا تعرف أن هذه بئر الصدى ؟
محسن : لم أسمع بها من قبل
مطلق : وما حكاية بئر الصدى هذه ؟
عامل البئر : إنها قصة طويلة والليل أرخى سدوله
محسن : نحن لن نمشى في الصحراء في جنح الظلام ، سننتظر معك حتى الصباح
عامل البئر : لماذا جئتما إلى هنا ؟
مطلق : نحن في طريقنا إلى الطائف .. نسعى للقاء سيد الشعراء
عامل البئر : سيد الشعراء ؟
محسن : نعم قيل لنا سنجده في الطائف
عامل البئر : ولماذا تطلبون لقاءه ؟
مطلق : نسعى لحفظ الشعر منه ، فصديقي هذا اشترط أهل عروسه أن يحفظ شعر
المعلقات كمهر لها
عامل البئر : ولماذا اشترطوا عليك هذا الشرط يا أخ ..؟
محسن : اسمي محسن وهذا صديقي مطلق . والدي أخبرهم أني شاعر ظنا منه أني
شاعر أجيد نظم القوافي لأنني أحمل رسالة الدكتوراه في الشعر
عامل البئر : هل أقرضته الشعر يوما .؟
محسن : كنت أكذب عليه في بعض الأوقات وأقص عليه أشعار الأقدمين على أنها
من شعري . ولم أعلم بأن الأمر سيجري بي في اتجاه آخر
عامل البئر : ( يضحك حتى يستلقي على ظهره ) إذا فكذبك أوقعك في شر أعمالك
محسن : فطلبت من صديقي أن يلازمني السفر إلى سيد الشعراء وأن أتعلم الشعر
على يديه عسى أن أقرض الشعر فلا يصبح والدي كاذب في نظر رجال لم
يعهدوه إلا صادقاً
عامل البئر : ومن أخبرك بمكان سيد الشعراء ؟
محسن : شيخ طاعن في السن عندما سألته كيف أتعلم شعر القدماء فنصحني أن أقضي
ليلة واحدة في وادي عبقر أو أن أذهب إلي سوق عكاظ هناك عند سيد
الشعراء ، وحينما سألت دلني بعض الناس للطائف .. هل هذا صحيح ؟
عامل البئر : في هذه المنطقة كان الناس يجتمعون . هنا في سوق عكاظ أما وادي عبقر فلا
أعرفه
مطلق : مع أن شكلك يوحي بأنك أتيت منه
عامل البئر : ماذا تقصد ؟
محسن : هو لا يقصد الإهانة ... فقط يمازحك ...عد إلى نشيدك وغني
عامل البئر : ( يغني):
ودار لها بالرقمتين كأنها
مراجيع وشم في نواشير معصم
لها العين والآرام يمشين خلفه
وأطلاؤها ينهضن من كل مجشم
مطلق : الله .. زدنا أيها الشيخ
ع البئر : حسناً
محسن : أتقضي يومك كاملا بجوار البئر تغني وتنشد الأشعار ؟
عامل البئر : هكذا . نعم اليوم بأكمله
مطلق : منذ متى؟
عامل البئر : منذ ألف عام أو أكثر
محسن : ألف عام ؟!
عامل البئر : أو يزيد
محسن : بالرغم من أنه لا شي في بطنها سوى الحجر!
عامل البئر : كل يوم . منذ الصباح حتى المساء وأنا أقذف بحبالي وبالدلاء في قلب البئر
مطلق : وماذا تجود به عليك البئر ؟
عامل البئر : بالصدى
محسن : تسمع صدى الدلاء ؟
مطلق : لا . إنه يسمع صكة الدلاء في قعر البئر ، وارتطامها بالحجارة
عامل البئر : ليس كذلك لكنني كلما أنشد تخضر الأرض وترتوي ، وتنسى الطبيعة قسوتها .
أما إذا نسيت يوما أو تكاسلت أجدبت الأرض وأنا أخاف على الأجيال القادمة
من الجدب . فأظل هكذا حتى يأتي من يخرجهم ويرد للبئر ماؤها ماذا
مطلق : إنه يهذي .
ع البئر : ماذا تريدون مني ؟ هلا ابتعدتم عني . وتركتموني وشأني
وَإَنَّ سَفَاهَ الشَّـيْخِ لا حِلْمَ بَعْـدَهُ
وَإِنَّ الفَتَـى بَعْدَ السَّفَاهَةِ يَحْلُـمِ
سَألْنَـا فَأَعْطَيْتُـمْ وَعُداً فَعُدْتُـمُ
وَمَنْ أَكْـثَرَ التّسْآلَ يَوْماً سَيُحْـرَمِ
مطلق : لا . أرجو أن تكرمنا وتتعطف علينا
عامل البئر : ماذا تريدان ؟
محسن : نريد أن نعرف ما هي فائدة ما تفعله ، إذ لا يوجد ماء يخرج من بين جنبات
بئرك المزعومة .
عامل البئر : إنها الحرب
محسن : الحرب
عامل البئر : هي من جففت هذا النبع وألقت في بطنه بحجر . ثم ألقي بهم في جوفه إلى أن
يجنحوا للسلم . وأنا من نجوت منهم ، لكن كان جزائي أن مكثت على قارعة
البئر أناجيهم . أعيش في غربة . فلا كنت ممن هوى في بطن البئر منسيا ولا
كنت ممن لحق بالزمن الآتي فأعاصره . لقد تعبت من طول الغربة ولقد
تعبت من عد السنوات . وهذا جزاء من يحمل بين أذنيه رأساً
مطلق : أو لا تلتقي بهم ؟
عامل البئر : أسامرهم .. ليس إلا .
مطلق : إنه يهذي .. هذا هراء . تسامر من أيها العجوز الخرف ؟
عامل البئر : من هم بالقاع .. بين صخور هذه البئر.
محسن : "بسم الله الرحمن الرحيم"" .. وأنت ..هل تتحدث معهم ؟
عامل البئر : لم أرهم منذ زمن يضرب جذوره في عمق الدهر. فقط أصواتهم .. كم أشتاق
إليهم
مطلق : أقترح أن نذهب في التو واللحظة . فالسير ليلاً تحت جنح الظلام افضل
من الانتظار حتى الصباح
محسن : وممَ تخاف ؟
مطلق : وأنت. ألا تخاف .؟ أرني ركبتيك ، أعتقد أنهما قد أصبحتا كصدفتين فارغتين
محسن : فارغتين ؟!
مطلق : مجوفتين ليس بهما سوى دوامات الهواء
محسن : أخاف مماذا .. يقول لك إنه يسمع أصواتهم فقط , وكم يشتاق لهم
عامل البئر : لَعَمْـرِي لَنِعْمَ الحَـيِّ جَرَّ عَلَيْهِـمُ
بِمَا لاَ يُؤَاتِيْهِم حُصَيْنُ بْنُ ضَمْضَـمِ
مطلق : دعك من هذا واستمع ( يقترب من البئر متصنتا.. ثم لعامل البئر ) نريد أن
نسمع ما تسمعه
عامل البئر : ليس الآن . وإنما إذا ظهر النجم "سهيل" وتكبد السماء حينها تباشروا .
( يضع الحبل من فوق كتفيه على الأرض ثم يتجه إلى كومة حطب ويشعل
بها النار ويبدأ في تحميص البن وإعداد القهوة )
الشاهد : أيا قمرا أضاء دجى حياتى لتبصرنى عيون الفرقدان
تقضى ما تقضى من حياتى وموج الشعر يهدر فى كيانى
أأسكت يارفاقى أم أغني على الدنيا باعذب ما شجانى
أأفصح أم اموت بما اعانى وفى الوجدان ابكار المعانى
كانى لم اكن يوما سويا ولم اخطر بهاتيك المغانى
ولم يملك جمال الكون حسى ولم ينبض فؤادى بالامانى
ولم ارقص على نغم القوافى ولم اشرب من الفصحى بحان
كتمت روائع الانغام دهرا وقيدت الشوادر فى جنانى
وعشت كما يعيش الغمر دوما حليف الصمت معتقل اللسان
ايسمعنى اذا غنيت قومى ويحلو فى مسامعهم بيانى
على الحالين انى سوف اشدو على ايقاع هيل الحبهان
لكى تستاف رياها انوف معودة على ريح الدخان
سانشد ما يجيش به فؤادى واطلق للصدى فضل العنان
وحسبى ان تصيخ لى الدرارى ويصغى فى السماء الفرقدان
مطلق : معه حق ، أن رائحة دخان هذا الحطب العتيق يعيدني إلى الأزمنة
الغابرة وعبق شذاها
محسن : أي حبهان وأي قهوة تنضج على نار وجدانه
مطلق : وجدان امتلأ بالحب وكره الشقاق فالآخر هو جنته وناره
عامل البئر : أَلاَ أَبْلِـغِ الأَحْلاَفَ عَنِّى رِسَالَـةً
وَذُبْيَـانَ هَلْ أَقْسَمْتُمُ كُلَّ مُقْسَـمِ
فَـلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُـمْ
لِيَخْفَـى وَمَهْمَـا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَـمِ
يُؤَخَّـرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَـرْ
لِيَـوْمِ الحِسَـابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَـمِ
مطلق : كأنما الشوق يأكل عليه ويشرب
محسن : اتركه مسترسل ودعه يبوح
عامل البئر : وَدَارٌ لَهَـا بِالرَّقْمَتَيْـنِ كَأَنَّهَـا
مَرَاجِيْعُ وَشْمٍ فِي نَوَاشِرِ مِعْصَـمِ
بِهَا العِيْنُ وَالأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَـةً
وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّةً
فَـلأيَاً عَرَفْتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّـمِ
محسن : أي حالة من الاغتراب تلك ! يالك من رجل
مطلق : الليل شديد البرد ولا يوجد مكان ننام به
محسن : ومن أين سيأتي النوم بعد ما سمعت . من العزلة والاغتراب . إن
داهمك النوم فاذهب إلى السيارة ونم بها
مطلق : أ تريد مني أن أسير ساعتين إلى هناك ، أبحث عنها في الظلام بعدما
سمعت ما سمعت من عجوزك الخرف ؟
محسن : صه . دعنا نري
عامل البئر : (يصب القهوة ثم يقدمها لهم) "سهيل" هلّ على محياكم الطيب
مطلق : ما الخبر .. هه ؟ قل لنا ما هي الحكاية؟
عامل البئر : الخاتم . إنه خاتم بئر هوت هذا ( يشير إلى خاتم في إصبعه ) هو ما
ورثته عن أمي وهو خاتم يحمل طلسم قديم
محسن : طلسم قديم ..( خائفا ) بورك فيك أيها الرجل نحن ننتظر أن نسمع .
فقط نريد أن نسمع .. أفهمت
عامل البئر : خلق الإنسان عجولا ، مهلا . حالا سيخرجون
مطلق : الله . الله لقد ازدانت . زدنا..
عامل البئر : أ لديكم دابة ؟
محسن : نعم لدينا. ولها أربع عجلات . تعطلت . نفذ منها الوقود
عامل البئر : عجلة حربية ! وبها وقود .. أنتم غزاة إذاً
مطلق : غزاة ..؟ لنا ساعتين نسير ونقذف الوقود في كل اتجاه فلم نجد محطة
( لمحسن ) كيف لنا التحدث والتفاهم مع رجل متحفي عمره أكثر
من ألف عام ؟
محسن : هل من الممكن أن تخبرني أين نحن الآن ؟حتى أن الجوال لا يعمل !
( يتجه لعامل البئر ) عمي الكريم ، أين نحن الآن ؟
عامل البئر : أنتم في سوق عكاظ
مطلق : يقول لك سوق عكاظ ..هذا الرجل من عصر الجاهلية !
عامل البئر : أنت تعرفه ؟
مطلق : إنه صديقي منذ عشرين سنة
عامل البئر : إنني أسأل عن سوق عكاظ ؟ أ تعرفه ؟
مطلق : قرأت عنه كثيراً . وعلمت أنه كان ملتقى الثقافة ومنبع الشعر حيث
يلتقي الشعراء حين تناخ القوافل التجارية ...
عامل البئر : زد على ذلك الحكم في شتى الأمور .. كم اشتقت إليهم
محسن : لمن ؟
عامل البئر : النابغة والأعشى والخنساء والأبرص وابن أبي ربيعة وابن حلزة
اليشكري
مطلق : أ هم أصدقاؤك ؟
عامل البئر : بالطبع .
محسن : شعراء الجاهلية ؟
عامل البئر : نعم .
مطلق : أتحفظ أشعارهم ؟
عامل البئر : بعضا منها
محسن : حسن ، أ لك أن تسمعنا بعضها ؟.
عامل البئر : سيسمعونكم بأنفسهم
مطلق : من هم ؟
عامل البئر : الشعراء
محسن : سيقولون لنا شعراً بأنفسهم؟
عامل البئر : نعم . .. في كل ليلة . ومع ظهور نجم سهيل يقام السوق
مطلق : سهيل هذا يظهر ليلا ، والسوق يبدأ ليلا ؟
عامل البئر : نعم .. يبدأ السوق في الليل ، حيث تنصب خيام الشعراء منذ هلال ذي
القعدة
محسن : أيها الرجل . أيها العم الكريم ، هؤلاء الشعراء قد ماتوا من زمن
ليس بهين
عامل البئر : ألم تأت لتبحث عنهم ؟
مطلق : أبحث عن شعرهم عن عالمهم عن مناقبهم . أما هم فقد ماتوا
عامل البئر : ماتوا .. كيف . ستراهم حالاً أمام عينيك . إنهم سر بقائي وسلوى
عزلتي
مطلق : أ معك مفتاح السيارة ؟
( تسمع أصوات من داخل البئر )
عامل البئر : لا عليكم سوى السكون التام .. اجلسوا واستريحوا واسمعوا لهذه
المناجاة بيني وبين الخنساء فكلانا لا ينام من شدة الولع والشوق
( يقف على البئر وينشد ، متظاهراً بوجود علاقة حب بينه وبين
الخنساء )
تُرِيْكَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى خَـلاَء
وَقَدْ أَمِنْتَ عُيُوْنَ الكَاشِحِيْنَـا
ذِرَاعِـي عَيْطَلٍ أَدَمَـاءَ بِكْـرٍ
هِجَـانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأ جَنِيْنَـا
وثَدْياً مِثْلَ حُقِّ العَاجِ رَخِصـاً
حَصَـاناً مِنْ أُكُفِّ اللاَمِسِيْنَـا
ومَتْنَى لَدِنَةٍ سَمَقَتْ وطَالَـتْ
رَوَادِفُهَـا تَنـوءُ بِمَا وَلِيْنَـا
وسَارِيَتِـي بَلَنْـطٍ أَو رُخَـامٍ
يَرِنُّ خَشَـاشُ حَلِيهِمَا رَنِيْنَـا
فَمَا وَجَدَتْ كَوَجْدِي أُمُّ سَقبٍ
أَضَلَّتْـهُ فَرَجَّعـتِ الحَنِيْنَـا
ص الخنساء : قذىً بعينيك أم بالعين عوارُ
أمْ أقفرتْ إذْ خَلَتْ من أهلِها الدار
أمْ أقفرتْ إذْ خَلَتْ من أهلِها الدار
عامل اليئر : ( وقد شعر بالحرج وعمل على أن يغير المقال )
هذا أخوان اثنان قد جاءا
يطلبان اللقاء بالأحباء
ص الخنساء :أخوان بينهما أشد تقلُّبٍ
وعلى التقلُّبِ ليس يجتمعان
إنْ طالَ هذا كان هذا قاصراً
فعَلَى إخائِهِمَاْ هُمَاْ ضِدَّانِ
مُتحرِّكٌ هذا وهذا ساكِنٌ
وعلى التقلُّبِ ليس يجتمعان
إنْ طالَ هذا كان هذا قاصراً
فعَلَى إخائِهِمَاْ هُمَاْ ضِدَّانِ
مُتحرِّكٌ هذا وهذا ساكِنٌ
والفرق بينهما وعيشك دانِ
عامل البئر : هل سمعتما .. ماذا تقول لقد ردت على الشعر بالشعر بالرغم من أنه
ليس لسانها . لا يهم ما هو كنه قولها إنما المهم أنها ردت على الشعر
بالشعر أفهمتم ؟.
محسن : من الذي يرد عليك شعرك؟
عامل البئر : في هذه المرة هي الخنساء ، وإنما أحيانا كثيرة فأنا لا أعرف من الذي
يرد على شعري فكلهم ها هنا . ها هنا
مطلق : أ أشباح هم ؟
عامل البئر : ليسوا أشباحاً ، إنما صوت الصدى ، فهذه الوديان تحمل أصواتهم
،فإذا ما رغبت في سماعها فستسمعها إذا تذكرت أحدهم . يظهر لك
دون مواربة
محسن : هات سيرة الشيطان يحضر!
عامل البئر : ليسوا شياطين وإنما فرسان شعر زمانهم وعيونه
محسن : هل فيهم شعراء المعلقات ؟
عامل البئر : نعم هل تعرفهم ؟
محسن : الذبيانى ، عنترة ، ابن أبي سلمى ،الأبرص والأعشى
عامل البئر : لا تذكرهم دفعة واحدة فردا فردا عساك تسمع حديثهم
محسن : هل إذا ذكرتهم اسمع حديثهم ؟
مطلق : لن أذكر أحداً ، حتى لا نسمع أيا منهم
عامل البئر : خذ يا بنى أشرب من هذا الماء وضع هذا الخاتم في إصبعك الأوسط
في يدك اليسرى
مطلق : لا . لا تفعل .
( محسن يمد يده ويشرب ثم يضع الخاتم في إصبعه .ويبدأ المكان في
الإظلام التدريجي )
محسن : زهير ابن أبي سلمي
( يخرج دخان من البئر وفى وسط الدخان يلبس عامل البئر
ملابسه فيظهر في طيف زهير بن أبي سلمى )
عامل البئر : هو زهير بن أبي سُلمى
مطلق : أهلا وسهلا أنا سراب بن هباب التغلبي
ع البئر : من تقول؟
محسن : إنه فقط يداعبك
ع البئر : لم ؟
مطلق : مداعبة ..ليس إلا
ع البئر : أنا لا أعرف هذه الكلمات
محسن : هل أنت زهير بالفعل
ع البئر : أنا ربيعة بن رياح بن قرّة بن الحارث بن إلياس بن نصر بن نزار،
المزني، من مضر.
محسن : ولكن زهيرًا رحل عن عالمنا منذ مئات السنين
عامل البئر : إذا تذكرت أحباءك فهم يسمعونك ويأتون إليك أينما كنت
مطلق : والله إنكما شيخان أخرقان
ع البئر : ماذا تقول يا إمعة
مطلق : أنا إمعة ؟
ع البئر : بلى. ولو كنت حضرت أمامي و في مجلسي لكنت أضحكت عليك
القوافل والرعيان
مطلق : أ صدقت نفسك ..؟
محسن : هل لك أن تخبرنا عن أشياء لا يعرفها إلا زهير؟
ع البئر : وكيف تعرفها أنت ؟
محسن : أنا لا أعرف أي شئ؟
ع البئر : وكيف تطلب منى البوح بأسراري
محسن : على أن أتعرف عليك وأتأكد من هويتك
ع البئر : قبل أن تلوم الناس على إفشاء أسرارك فلتلم نفسك أولا على إفشاء هذا
السر
صوت : يا دارَ مَيّة َ بالعَليْاءِ، فالسَّنَدِ،
أقْوَتْ، وطالَ عليها سالفُ الأبَدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائِلُها،
عَيّتْ جواباً، وما بالرَّبعِ من أحدِ
مطلق : ما هذا الصوت
عامل البئر : يالك من أحمق . إن هذا لسان الذبياني ( لنفسه) إنهم يريدون الخروج
صوت : سأنشرُ إن حييتُ لهم كلاماً يُنشرُ في المجامع من عكاظ
ع البئر : هذا حسان بن ثابت
صوت : تغيّبتُ عن يومي عكاظ كليهما
وإنْ يكُ يـومٌ ثالثٌ أتغيبُ
وإنْ يكُ يـومٌ رابعٌ لا أكن به
وإنْ يكُ يـومٌ رابعٌ لا أكن به
وإنْ يكُ يومٌ خامسٌ أتجنبُ
ع البئر : هذا دريد بن الصمة
صوت : أوَ كلما وردتْ عكاظَ قبيلةٌ
بعثوا إليّ عريفَهم يتوسمُ
ع البئر : هذا طريف بن تميم العنبري
محسن : كيف لك أن تتعلم كل هذا العلم من النقد والتحليل والمعرفة بالبحور
والقوافي
ع البئر : إذا أردت أن تصبح شاعرا عليك أن تقرأ وتحفظ أشعار السابقين
محسن : هذا أمر صعب ولكنني سأحاول
ع البئر : وبعد أن تقرأها عليك نسيانها
مطلق : ولما أتعب نفسي بالحفظ طالما على أن أنساها
ع البئر : حتى تتكون لك شخصيتك الشعرية وتصبح لك مفرداتك اللغوية
التي تميزك عن سواك
محسن : وهل كل الشعراء في هذا العصر كانوا يحفظون الشعر
ع البئر : هذه مواهب فطرية هناك فارق بين الموهبة والصنعة إنما ما أقوله لك
فهو ضرب من الصنعة
مطلق : صنعة ماذا إنه دكتور وليس بسباك
عامل البئر : سباك ... سباك ... سباك
مطلق : ماذا تقول ؟
عامل البئر : كلمة جديدة لم أسمعها من قبل، فقط أضيفها إلى ذاكرتي
محسن : الشيخ لم يقصد إهانتك
ع البئر : لما تريد تعلم الشعر ؟
محسن : مهر عروسي . كما أسلفت وذكرت لك
ع البئر : مهر عروسك شعر ..أن تصبح شاعر بلدك أو وطنك أم أن تصوغ
الشعر وكفى ؟
محسن : أنا لا أحب أن أقلل من احترام القبيلة لأبى أو أن يدعوه أحدهم
بالكذاب ، إذ قال أنى شاعر فلابد أن أتعلم الشعر وأنا حاصل على
الدكتوراه في الشعر النبطي
ع البئر : النبطي ؟
مطلق : نعم الشعر النبطي هل لديك أي اعتراض
ع البئر : لا من أي بحر تكتب ؟
مطلق : من بحر الرمال
ع البئر : تقصد بحر الرمل
محسن : لا تكترث بما يقول انه شعر شعبي دارج باللهجة المحلية
مطلق : يخيل لي أنني رأيت فيلما كهذا من قبل
محسن : وكيف عرفت أصواتهم
ع البئر : أنا أعرفهم من أشعارهم وليس من أصواتهم
محسن : كم كنت أتمنى أن أحيا أيامهم
ع البئر : هذا من أيسر ما يمكن فقط اغلق عينيك
محسن : فقط أغلق عيني ؟!
ع البئر : نعم
مطلق : لا تغلق عينيك يا محسن فلا يؤمن جانبه
ع البئر : لا تخف يا ابن هباب
مطلق : من تقصد ؟
ع البئر : أنت . أو لم تقدم نفسك على إنك أنت سراب بن هباب
محسن : إنه يرد لك مداعبتك يا مطلق
ع البئر : هيا أغلقا عينيكما يا محسن ويا مطلق
( يغلق الرجلان أعينيها فيبدأ الدخان يملأ المكان وأضواء مبهرة
ويبدأ المنظر في التحول إلى سوق عكاظ )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق