الخميس، 10 فبراير 2011

للشمس سبعة الوان1 - محمد جبريل






لم يكن فى دعوة الأستاذ [ الأسوار ] شبهة غرض شخصى . تحمّل الاشتغال والتعذيب ، وأسلم نفسه إلى الموت دفاعاً عن هؤلاء الذين أحبهم أكثر من نفسه . أما الحسين ، فقد خذله الشيعة الذين استغاثوا به ، وتركوه للمصير المؤلم تحت سنابك خيل الأمويين ، وانطلقت الرصاصة التى قتلت جيفارا من مسدس ضابط بوليفى صغير ، بذل المناضل الأرجنتينى حياته دفاعاً عن حقه فى الحياة . وكان نزلاء المعتقل ـ حلمى عزت بالذات ، ذلك الذى حماه الأستاذ من أذى الآخرين ـ هم الذين دبروا القرعة الظالمة ، ليدفعوا بالأستاذ إلى الشهادة دفاعاً عن الجميع . أسر بكر رضوان [ الأسوار ] إلى نفسه ـ غداة إحدى مرات الإفراج عنه ـ " هؤلاء الناس ـ أبناء الأنفوشى ـ هم محبوبه الذى ضيّع العمر إشفاقاً عليه . فهل كان الحب من طرف واحد ؟ هل تعنى المحبوب اللحظة ، مقطوعة الصلة بما مضى ، وما سيأتى ؟ وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة فى العذاب ؟.. هذه الكلمات ـ وبكر رضوان يرى أهله وناسه منصرفين عن واقعهم الأليم ، كأنما لم يدفع أعواماً من حياته فى سبيلهم ـ تذكرنا بكلمات الحسين بن على فى حشد الجيش الأموى ، يوم العاشر من المحرم : " تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً . حين استصرختمونا والهين ، فأصرخناكم مرجفين . سللتم علينا سيفاً فى إيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ، وبدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفنوه فيكم ، ولا أمل اصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش نعمتم فيه " . وكان ما أسره بكر رضوان ، أو ما أعلنه الحسين ، هو الهاجس الذى لابد أنهم خاطبوا به أنفسهم ، أو أعلنوه للجماعة ، هؤلاء الذين بذلوا النفس دفاعاً عما هو حق وصدق وعدالة [ فى زماننا الردئ ، فإن شخصية بكر رضوان تذكرنى بقادة اليسار المصرى الذين أمضوا أجمل سنى حياتهم فى معتقلات عبد الناصر . هتفوا بحياته ، وبشعارات المرحلة ، وهم يلقون أبشع ممارسات التعذيب ، حتى الموت . ظلوا يهتفون لعبد الناصر والثورة والاشتراكية ، وسط الضربات المتلاحقة التى لم تهدأ إلا بعد أن هدأت أنفاسهم ، وماتوا . جاوزوا آلامهم الشخصية ، وجعلوا الوطن قضية ، لا يعدلون بها قضية أخرى . كان عبد الناصر على صواب فيما يدعو إليه ، ويطبقه بالفعل ، فتناسوا العذاب الذى لاقوه بأيدى أعوانه ، وأعلنوا ولاءهم للبسطاء ، وللثورة ، وللغد الذى يعلو فوق العذابات الشخصية !. لو أنهم نظروا إلى المصالح العامة من منظور مصالحهم الشخصية ، مثلما فعل الرأسماليون والإقطاعيون الذين أضيروا بقوانين الثورة ، فلعلهم كانوا الآن هم الأعلى صوتاً ضد عبد الناصر ومعطيات عهده ] . لكن البذل لم يهدر ، والصيحة المخلصة لم تواجه التلاشى فى وادى الصمت . كان الشعور بالإثم هو الدافع لأن يقتل يهوذا نفسه بعد أن أسلم المسيح إلى قاتليه . وهو الدافع أيضاً لأن يزداد أتباع المسيح تمسكاً بتعاليمه . وكان الشعور ذاته هو الذى جعل جيفارا قدوة ومثلاً بين حركات التحرر فى دول العالم الثالث ، وارتسمت حول المناضل الشهيد هالة القداسة والأسطورة . وكان أيضاً هو الشعور الذى ارتقى بالحسينية إلى مرتبة العقيدة . ففى مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء ، ولعلها أخطر نتائجها ، أنها دخلت الضمير الإسلامى آنذاك ، وهزته هزاً عنيفاً . حركت فى النفوس ما كان خامداً ، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذى فرضه الأمويون . تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلاً ضد سبعين ألفاً ، بالحرص على الشهادة رغم يسر النجاة ، بإلقاء السؤال الأهم : ماذا بعد ؟ ، بحساب الذات عن التقاعس والتواكل ، بإعادة النظر إلى ما سبق ، وما يجرى حالاً ، والتفكير فى ضرورة التغيير . ولعله يمكن القول إن فاجعة كربلاء ـ رغم بشاعتها ـ كانت ثورة كاملة . أحدثت التأثير الذى تحدثه الثورات فى تحريك النفوس ، وإلحاجها على التغيير ، حتى يتحقق المجتمع الأفضل . تعددت ثورات التوابين ، همها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد ، فى حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموى . ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة ، أيا تكن صورتها ومظاهرها . وربما كان ذلك هو الشعور نفسه الذى تحرك فى نفوس الزملاء القريبين ، بل كل نزلاء المعتقل ، بعد أن بذل الأستاذ نفسه فى سماحة ، دفاعاً عن حقهم فى الحرية ، وفى الحياة . لم تدفعه الخيانة الواضحة إلى رفض القرعة ، لكنه أسلم النفس إلى جلاديه فى قناعة المؤمن بأن شهادة الفرد قد تكون فداء للجماعة ، وخلاصاً لها . وكما يقول برتراند راسل فإننا حين نعرف النهاية نغدو أقوياء ..
أخيراً ، فإنى أتفق مع جون مورلى فى أن " الأفراد الذين يرون الضوء ـ وهم بطبيعة الحال الأفراد المثقفون ـ إذا أحجموا عن احتمال ما عليهم من تبعة ، فإنهم يضاعفون العلل الأخلاقية فى المجتمع . وهم لا يحرمون المجتمع من مزايا التغيير فحسب ، بل من يرون شعوره بالحاجة إلى التغيير ضعفاً ، وإيقاظ الإحساس الأخلاقى فى المجتمع من العوامل الهامة فى تقدمه [ المثقف الذى أعنيه ، هو الذى يملك استعداداً للتضحية بصالحه الشخصى من أجل صالح الجماعة ، لا يكتفى بترديد الشعارات عن الديمقراطية وإنكار الذات ، وإنما يحرص على تطبيق تلك الشعارات بالفعل ] . ولعل السبب المباشر فى انحطاط كثير من المجتمعات ، يرجع إلى ما يطرأ على الضمائر من الفساد وضعف الإحساس الأخلاقى . ولم يصب الضعف والتخلف الإغريق لنقص علمهم بالمذاهب الأخلاقية ، وإنما أصابهم من جراء تناقص عدد الذين يقدرون واجباتهم الأخلاقية ، وما عليهم من تبعات هامة . ويعلل انتصار المسلمين على المسيحيين فى الشرق وفى أسبانيا ، بأنه راجع إلى احترامهم للواجب ، وما كان يثيره فى نفوسهم من حماسة ".

ـ 3 ـ
فى بداية الستينيات ، كنت أنشد البحث عن موضع فى حياتنا الثقافية من خلال العمل بالصحافة . عملت ـ حيناً ـ فى " الجمهورية " مع سعد الدين وهبة فى صفحة عنوانها " صباح الخير " . ولأن الصفحة كانت تعنى بالمادة الترفيهية والاجتماعية : زواج وطلاق وأعياد ميلاد وحفلات تكريم وغيرها ، ولأنى كنت أعانى قلة المصادر ـ الأدق : انعدامها ـ فضلاً عن شحوب استعدادى .. فقد بدا لى الفشل حقيقة فى الأسبوع الأول ، وإن كابرت ، وتعمدت تجاهله ، حتى الشهر الثالث . والحق أن سعد الدين وهبة كان كريماً فى تعامله معى . لم يكن فيما أسهمت به شئ يتصل بلون الصفحة ، إنما هى خواطر فى الأدب والفن . حاولت أن أقفز على مبنى الجمهورية بالمظلة دون الصعود على الدرجات المتآكلة . مع ذلك ، فإن الرجل لم يرفض شيئاً مما قدمته له . وكان يقرؤه بعناية ، ثم يسلمه ـ فى رقة ـ إلى سلة المهملات . فلما انتهى الشهر الثالث دون أن تجد خواطرى سبيلها إلى النشر ، صارحت أحمد عباس صالح ـ وأدين له بفضل مساندة خطواتى الأولى ـ بيأسى ، فأشار على بمعاودة محاولة لقاء الدكتور على الراعى ، المشرف على الصفحة الثقافية فى " المساء " آنذاك . كان الراعى غائباً ، والتقيت بكمال الجويلى ، فعرض على أن أشارك فى الباب الذى كان يحرره ، وعنوانه " كل الناس " . وبرغم أن الباب كان أقرب فى اتجاهه إلى صفحة سعد الدين وهبة ، ولعله كان أقل احتمالاً لنشر خواطرى من صفحة صباح الخير ، فإن صداقة الجويلى الطيبة ، وتسامحه ، وأبوته ، صنعت جسراً إلى العمل الصحفى ، وإلى الحياة الثقافية بالتالى ..
ويوماً ، طلب الجويلى أن أجرى حواراً مع شاب ارتكب ثلاثاً وعشرين حادثة سرقة سيارة ، قبل أن يكتشف أمره فى الحادثة الرابعة والعشرين . وروى لى الشاب عن ظروفه الاجتماعية ، وعن أجواء المعتقل الذى قضى فيه أعواماً ـ جعله تعدد السوابق من المجرمين الخطرين ـ حتى تم الإفراج عنه فى ظروف بالغة القسوة والغرابة : ألح نزلاء المعتقل فى طلب الإفراج . أرسلوا برقيات إلى المسئولين . أضربوا عن الطعام . تظاهروا . تشاجروا ـ إلى حد الاقتتال ـ مع حراس المعتقل . ثم لجأوا إلى وسيلة بشعة لتأكيد مطلبهم فى الإفراج . أجروا قرعة فى أسماء النزلاء ، واختير عشرة أسماء تعرض أصحابها للموت حرقاً ـ علانية ـ فى ساحة المعتقل . وكانت تلك الوسيلة القاسية هى الباعث لاهتمام المسئولين ، ودراسة حالاتهم ، والإفراج عن غالبيتهم . ونشرت الحوار ، ثم نسيته تماماً . حتى عادت ـ بتفكيرى فى كتابة الأسوار ـ صورة الشاب ، والحياة فى المعتقل ، والقرعة التى أحرقت عشرة أشخاص .. كانت تلك الصورة هى الإطار السردى للأسوار ، وإن داخلها ـ بالطبع ـ تصرف أملته طبيعة الرواية ، وتباين الظروف ، والتكنيك ، والدلالة . ذاب النزلاء العشرة فى شخصية الأستاذ . تعرض للمصير المؤلم بمفرده ، وعاش فى معتقل الرواية سياسيون ومجرمون عاديون . وتمت القرعة ـ عكس الحادثة الواقعية ـ بالخيانة . باختصار ، فقد كانت فكرة القرعة هى ما أفادته الأسوار من الحادثة القديمة .
(يتبع)


ـ 4 ـ
قد يبدو رأى لابروبير " كل شئ قد قيل ، وقد أتينا بعد فوات الأوان " .. قد يبدو هذا الرأى بليغاً ، لكنه ـ فى تقديرى ـ يكتفى برؤية نصف الكوب الفارغ الإحساس باللاجدوى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يثمر شيئاً إيجابياً . لكن لابروبير أضاف ، وأضاف أيضاً أبناء جيله من المبدعين ، وأضافت كذلك أجيال أخرى تالية ، وستتحقق إضافات أخرى كثيرة فى أجيال تالية ، مما يضع مقولة لابروبير فى إطار العبارة البليغة دون أن يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك . لذلك فإنى من غلاة الرافضين للتعميمات فى إطلاق الأحكام ، وبالذات فيما يتصل بنهاية نوع أدبى . فقرار الحياة أو الموت لا يملكهما ناقد ، لأن ذلك القرار ، الذى ربما أصدره الناقد وهو يتأمل السماء فى ليلة قمرية ، لن يحول دون إقدام مبدع موهوب على الكتابة ـ فى الوقت نفسه الذى أصدر فيه الناقد قراره ـ فى عمل ينتسب للنوع الأدبى الذى قرر الناقد موته لقد أعلن ت . س . إليوت ـ قبل عشرات الأعوام ـ أن الرواية ماتت ، فأعلنت الرواية عن تواصل حياتها فى أعمال محفوظ وكامى وهمنجواى ومنيف وكازنتزاكس وجويس وماركيث وغيرهم . وكما يقول هارولد نيكولسون ، فقد " بدلت الرواية تقنيتها مراراً ، لكنها كانت تصل إلى القارئ فى كل الأحوال " . كذلك فقد أعلن إدموند ولسن ـ فى الثلاثينيات ـ أن الشعر ـ بصورته التى نعرفها ـ فى طريقه إلى الزوال ، وأن الشعراء سيتجهون ـ بالضرورة ـ إلى أشكال أخرى غير الشعر .. لكن الشعراء أهملوا ذلك الإعلان الغريب ، وقدموا معطيات متميزة . ولعلى أذكر أكثر من صيحة لناقد ، ترددت فى حياتنا الأدبية ، تنعى وفاة هذا اللون الأدبى أو ذاك . ثمة من نعى الشعر ، وآخر نعى الرواية ، وثالث نعى القصة القصيرة . أهمل المبدعون ذلك كله ، وتلقفت المطابع ـ والأدراج ! ـ أعمالاً تحفل بالتميز والجدة والإضافة ، وتؤكد انتظام أنفاس الرواية . ظلت الرواية فى موضعها المتفوق بين الفنون الأخرى ، والفضل ـ فى الدرجة الأولى ـ لتلك المحاولات المتفردة ، والمتميزة ، من فنانين متفردين ، ومتميزين ، مما قد يرين عليه من استاتيكية . الثبات والتغير هما الرئتان اللتان يتنفس بهما كل شئ حياته ، ويجد تواصله واستمراره . فإذا أبقى على الثبات دون التغير ، حكم على نفسه بالجمود ، فالموت . وإذا حرص على التغير دون مراعاة للثبات ، تشوهت ملامحه ، وفقد التواصل . من هنا ، فإن القول بنظرية للرواية هو القول بضرورة أن يكون لها خطوطها العريضة ، وسماتها العامة ، فضلاً عن نجاح كل عمل روائى يريد له صاحبه التميز ، فى أن يحقق تميزه بالإفادة من خيال الفن ووعيه وحريته فى مغادرة الأطر والتقاليد ـ فنية أو اجتماعية ـ مهما تكن ثابتة . وكانت الرواية العربية ـ على سبيل المثال ـ قبل أن يبذر نجيب محفوظ محاولاته ـ أقرب إلى ما كانت تعانيه الرواية الأوروبية فى القرن التاسع عشر ، من شوائب الوعظ والترفيه ، حتى حققت تفوقاً على يدى هنرى جيمس وجوزيف كونراد اللذين خلصا فن الرواية من معظم ما كان يعانيه من شوائب ، وأضاف إليه أبعاداً جديدة باستخدام جميع الإمكانيات التى تجعل من الرواية فناً حقيقياً .
ليس المقصود بتحديد الجنس الأدبى أن نقيم الحواجز ، ونفصل تماماً بين الأجناس الأدبية . إن بين سائر الفنون نوعاً من التكامل فى التعبير عن الذات الإنسانية . كانت وحدة الفنون قائمة فى العصور اليونانية الأولى . ثم بدأت تلك الوحدة تذوى ، وتتلاشى بالتدريج ، نتيجة للنمو المتزايد الذى فرضه التباين الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمعات بعد العصور الأولى . وهو ما أدى إلى ظهور التخصص فى الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية . فلما صار تقسيم العمل أمراً جوهرياً بالنسبة لإنتاج السلع ، كان لذلك تأثيره المباشر فى تحويل الأدب إلى وظيفة وعمل متخصص ، تقوم به جماعة خاصة ، منفصلة عن بقية الجماعات الأخرى ( فتحى أبو العينين : نصوص مختارة فى علم اجتماع الأدب ص 116 ) . الصورة المتغيرة الآن فى الروافد التى تأتى من النبع الواحد ، وتتجه إلى المصب الواحد ، روافد متشابكة تشمل الشعر والرواية والموسيقا والتشكيل والمسرح والسينما والتاريخ والموروث الشعبى وعلم الاجتماع وعلم النفس . وكما يقول الشاعر الإنجليزى صمويل بيكر ، فإن فنون الموسيقا والتصوير والكتابة هى شئ واحد . إن محصلة كل فن تأتى بتفاعله مع فنون أخرى ، تفاعل بين الوسائط والأدوات والأساليب الذاتية ، وإن كان من المهم أن نشير إلى أن عناصر علم النفس والتاريخ والاجتماع إلى غير ذلك ، والتى يحتويها العمل فى أحيان كثيرة ، لا تهمنا فى حد ذاتها ، لكن ما يهمنا ـ والكلام لألكسندر سكافتيموف ـ هو الدفعة التى تحققها داخل وحدة الكل . وحدة الفنون تعنى كسر التخوم بين السرد الروائى وفنون الشعر والمسرح والسينما والموسيقا والفن التشكيلى وغيرها ، بالإضافة إلى علوم مثل علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس إلخ . إسقاط الحواجز المفتعلة بين الفنون المختلفة ـ والعلوم المختلفة أيضاً ـ خطوة مهمة لتطوير فنوننا بعامة ، سواء أكانت فنوناً سمعية أو بصرية . وكما يقول شاعر افريقيا العظيم ليوبولد سنجور فلا يمكن " تصور الموسيقا بدون حركة أو بدون رقص . وهذا ما نستطيع تسميته بالموسيقا التشكيلية . كما أن الرقص لا يمكن أن يعيش بدون رسم أو نحت . والحقيقة أن الرقص ـ على الأقل فى فترة الحماس الدينى فى العصور الغابرة ـ كان يعتبر دراما غيبية أو تمثيلية عن المعجزات ، ومهمة الراقص هى تجسيد الأسلاف أو الأرواح الطوطمية ، وبعثها حية من خلال الزى الذى يرتديه ، والأقنعة والشعر والموسيقا والرقص . وإلى حين ، لم يعد الرسم مقدساً ، فقد احتفظ بالكثير من أصوله " ..
لاحظ كلمات : الموسيقا ، التشكيل ، الرسم ، النحت ، الدراما ، الشعر . وبوسعنا أن نضيف إليها الرواية والسينما ليكتمل معنى وحدة الفنون . نحن نتحدث عن اللون فى الموسيقا ، والإيقاع فى الرسم ، والنغمة فى الشعر إلخ ، ذلك لأنه ليست هناك ـ كما يقول ميخائيل كيسيلوف ـ حدود فاصلة بين الفنون . فالموسيقا توحد الشعر والرسم ولها معمارها . ويمكن للرسم أيضاً أن يكون له النوع نفسه من المعمار كالموسيقا ، ويعبر عن الأصوات بواسطة الألوان . لابد أن تكون الكلمات فى الشعر موسيقا ، ويجب أن يولد ارتباط الكلمات والأفكار صوراً جديدة . ويذهب جبران إلى أن " الموسيقا كالشعر والتصوير ، تمثل حالات الإنسان المختلفة ، وترسم أشباح أطوار القلب ، وتوضح أخيلة النفس ، وتصوغ ما يجول فى الخاطر " ( المؤلفات الكاملة لجبران ـ 40 )
تعددت الأحكام فى تاريخ الفن . قيل إن عصر الشعر انتهى ، وعصر المسرح انتهى ، وعصر الرواية انتهى ، وعصر القصة القصيرة انتهى .. لكن كل الأجناس بقيت ، وتداخلت . ولعل أهم عوامل المفارقة بين الأجناس الأدبية المختلفة ، ان كل جنس لابد أن يقيم عالمه الخاص به . قد يفيد من جنس أو آخر ، لكنه يقدم فى النهاية جنسه الخاص ، صورته المتميزة .
يقول رولان بارت : إن الحكاية كامنة فى الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والمشهد الصامت واللوحة المرسومة والزجاج الملون والأحداث المختلفة والحوار بين الأفراد . وهى موجودة تحت أشكال تكاد أن تكون غير متناهية فى كل الأزمنة والأمكنة ، فى كل المجتمعات " ( ت أحمد درويش ) .
الحكاية ، الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وهى بالنسبة للتقنية عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى ، كالفلاش باك فى السينما ، والتقطيع فى السينما أيضاً ، والتبقيع فى الفن التشكيلى ، والهارمونى فى الموسيقا ، ودرامية الحوار فى المسرحية إلخ .. أومن بقول بريخت : " يجدر بالكاتب ـ لكى يسيطر على القوة الدينامية للواقع ـ أن يفيد من كل الوسائل الشكلية المتاحة ، بصرف النظر عن جدتها أو قدمها " . وأتصور أن ذلك يتبدى ـبدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار وانتهاء برباعية بحرى ، مروراً بالصهبة و قاضى البهار ينزل البحر ومن أوراق أبى الطيب المتنبى والنظر إلى أسفل وقلعة الجبل وغيرها ..
نحن نجد فى الرواية رداً على كل ما طرح من أسئلة وهى تقدم ردها بصورة أعمق وأشد وضوحاً من الفنون الأخرى كالشعر والموسيقا والرسم وغيرها . إنها ـ كما يصفها بعض النقاد الأوروبيين ـ فن المشكلات ، بوسعها ـ وحدها ـ أن تعالج كل الأبعاد للمشكلة الواحدة .
الرواية تجسيد للحياة على نحو أعمق ، بينما وسائل التعبير الأخرى قد تعنى ببعد واحد . فثمة اللون فى الرسم ، والحركات التى تستهدف توترات صاخبة الموسيقا ، والمزاوجة بين اللغة وفهم الحياة الإنسانية 
ناتالى ساروت تجد فى الرواية الجديدة ضرورة ، لأن الأرض الخصبة ـ والتعبير لساروت ـ إذا طال استغلالها ، تتحول إلى أرض عقيم . ومن الواضح أن التجديد المستمر شئ لابد منه لحياة الرواية ، بل لحياة أى فن "
(Les Nouvelles Litteraires 9, 6 ,1966 )
وفى تقديرى أن إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقا والتشكيل والشعر وغيرها ، يعنى إفادتها ـ بلغة ساروت ـ من مخصّبات تضيف إلى الأرض المنهكة تجدد حياة . [ هنرى جيمس ينادى بوحدة الفنون من زاوية أخرى : إن بعض الفنون ـ مثل التصوير والموسيقا والعمارة ـ إذا استعان بها الروائى فى روايته ، فإنها ستساعد فى التخلص من اقتحام ذاتية المؤلف لروايته ] . الرواية الحديثة تفيد من الموسيقا : التركيب الموسيقى للسيمفونية ـ مثلاً ـ أو التركيب الموسيقى للسوناتا ، كما تفيد من فهم الفنان التشكيلى للشكل ، ومن فن المونتاج فى السينما . ويلح د . س بلاند فى أن نتعامل مع الكلمات فى الرواية ، كما نتعامل معها فى الشعر والدراما . أما همنجواى فإنه يشير إلى أن ما يتعلمه الكاتب من الملحنين ، ومن دراسة الهارمونى والكونتربونيت يبدو واضحاً فى أعماله ، كما لا يتطلب تفسيراً 
على الروائى أن يثرى إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ـ أشارت إليها ناتالى ساروت ـ وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى ..
وعلى سبيل المثال ، فإن الروائى ينبغى أن يكون ذا حس عال بالشعر ، بالقصيدة الشعرية ، فثمة حس للكلمة ، وحس للصورة ، وهما حسّان شاعريان . اللفظة مهمة فى الرواية ، والصورة أيضاً بالقدر نفسه لأهميتها فى القصيدة الشعرية . " الرواية الحديثة تحتوى إطاراَ شعرياً ، بل انها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا ، ولا أن تبشّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة " . إن المزاوجة بين التوتر الشعرى والفن السردى إضافة مطلوبة فى فن الرواية . ولعلنا نذكر اعتراف ميشيل بوتور بأنه لم يكتب قصيدة واحدة منذ كتب روايته الأولى ، فقد أحس أن الرواية ـ فى أكمل أشكالها ـ قادرة على تلقّى ميراث الشعر القديم . وكما يقول جبرا ابراهيم جبرا فإننا " لن ندرك حقيقة الطاقة الفاعلة فى الفن الروائى النثرى مالم نرجع بأصوله إلى محركاته الشعرية الأولى " .
أما اقتراب الرواية من الشعر ، واقتراب الشعر منها فى زماننا الحالى ، فلعلنا نجد تدليلاً له فى قول والتر بيتر : " يطمح الجميع لبلوغ الحالة الشعرية " . إن كل الفنون تطمح إلى الحالة الموسيقية ، وهى تفعل ذلك بواسطة الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . فإذا عزلت الشعر عن تلك الفنون سقطت حالاً ، وأضحت شيئاً غير الإبداع . مهمة الروائى المبدع هى أن يحول الحياة بزخمها وتوتراتها إلى ما يشبه القصيدة ، كمن يستخلص الذهب من المعادن الأخرى ، فيتحقق للكتابة الإبداعية تألقها وتفوقها قياساً إلى بقية الكتابات . أذكر قول جبرا إبراهيم جبرا : " فالشعر سمة الأصالة فى كل فن بمعنى الكلمة . وإذا كانت الفنون كلها تطمح إلى الحالة الموسيقية ـ كما قال ولتر باتر ـ فهى إنما تفعل ذلك عن طريق الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . اعزل الشعر عنها ، تسقطها جميعاً ، وتصبح شاهداً غيرالإبداع . ولعل واجب الروائى المبدع فى النهاية ، هو أن يكون قد حوّل الحياة ، بزخمها وبؤسها وروعتها ، إلى ما يشبه القصيدة ، فيكون بذلك قد استخلص الذهب من المعادن الأخرى ، وبهذا يحقق الروائى المبدع امتيازه على غير المبدع ، رغم أن الإثنين قد يعرفان الأفراح والمآسى نفسها ، ويتحدثان عن الأفراح والمآسى نفسها ، التى هى إطار الحياة اليومى لكل إنسان " .
(يتبع)

لقد بدأ بلزاك حياته الأدبية شاعراً ، ثم انتقل إلى كتابة الرواية . الأمر نفسه بالنسبة لهمنجواى وفوكنر وعشرات غيرهم . وظل فيكتور هوجو ـ إلى نهاية حياته ـ يزاوج بين الشعر والرواية .. وكان وليم بليك شاعراً ورساماً . وكان اليوت شاعراً وناقداً . ويذهب بول فاليرى إلى أن كل كتابة أدبية هى كتابة شعرية ..
أذكر أنى حاولت الشعر فى البداية ، وتأثرت بشعراء أبوللو . فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتى التعبيرية ، تبدّت لغة الشعر فى أعمالى الروائية والقصصية ، وهو الأمر الذى يعد ملاحظة أساسية فى التناول النقدى لأعمالى . تهمنى اللغة فيما أكتب . الكلمة المناسبة فى موضعها ، الكلمة الفلوبيرية ـ على حد تعبير بورخيس ـ التى تحسن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة ، أو عن الرؤيا اللحظية الكاشفة . لا تهمنى الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة ، ولكن تشغلنى موسيقا الحرف والكلمة والجملة ، أحذف وأضيف وأعدّل بما يحقق الاتساق والهمس الشعرى والإيحاء ذى الدلالة . . وثمة بعض النقاد يطالب القارئ أن يتمرس على تذوق الشعر حتى يمكنه قراءة الرواية الأقرب إلى صورة ذات تركيب شعرى ..
أوافق أدونيس ـ واختلافاتى معه كثيرة ـ فى أنه يمكن للقصيدة أن تفيد من الرواية كثيراً ، والرواية تفيد من الشعر كثيراً ، وبهذا المعنى تتداخل الأنواع ، لكن تظل الرواية رواية ، والقصيدة قصيدة " ( الأربعاء الأسبوعى 21/10/1987 ) . ذلك لأن الموضوع الذى يصلح فى الرواية ، قد لا يصلح ـ أو أنه لا يصلح ـ فى القصة القصيرة ، والعكس صحيح . وإلاّ فلا معنى لاختيار الفنان هذا الجنس الأدبى أو ذاك .
يقول هوجو لايختنتربت : " الحضارة فى أى عصر من العصور تعتمد على الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسى والأحوال الجغرافية ، إلى جانب اعتمادها على لغة البلد ، ومن ثم فهناك صلة ضرورية بين الموسيقا وبين هذه الموضوعات كافة ، وفضلاً عن ذلك فإن الموسيقا تستند إلى أساس علمى يتضمن الطبيعة والرياضة . كما أن بينها وبين كل من الأدب وسائر الفنون روابط وثيقة إلى حد ما . ولقد تأثرت الموسيقا بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية ، إلى جانب تأثيرها فى هذه الفنون بدورها " ( ت . أحمد حمدى محمود ) . وكما يقول نيتشة فإن العمارة موسيقا تجمدت .
ثمة علاقة منطقية بين الشعر والموسيقا ترتكز إلى العوامل التى تجمع بين هذين الفنين . والقول بموسيقا الشعر يعنى أهمية الموسيقا بالنسبة للشعر . إن الشعر لا يصبح شعراً بدون موسيقا . ويرى جاتشيف أن الموسيقا هى أقرب الفنون إلى الأدب ، وإن تباينا فى طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود ، وللعالم الداخلى للإنسان ( ت نوفل نيوف ) . أما السينما ، فإن لنا أن نتصور فيلما خالياً من الموسيقا . الموسيقا ـ كما نعرف ـ بعد مهم فى الفيلم السينمائى ، وهى كذلك بعد مهم فى المسرحية ، وكلاهما يضم القصة والديكور والأزياء والشعر ، وبالذات المسرحية الشعرية ..
ويرى البعض فى القصة اقتراباً من الشعر الغنائى . يؤكده ـ كما يقول أوكونور ـ الوعى الحاد بالتفرد الإنسانى . أما الموسيقا والرواية ، فإنهما ـ كما يقول ميشيل بوتور : " فنان يوضح أحدهما الآخر . ولابد لنا فى نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص الثانى ، وما كان حتى الآن بدائياً ، عليه ـ بكل بساطة ـ أن يصبح قياسياً . وهكذا يجدر بالموسيقيين أن يكبّوا على مطالعة الروايات . كما يجدر بالروائيين أن يكونوا مطلعين على بعض المفاهيم الموسيقية " (ت فريد أنطونيوس ) . ويذهب الفيلسوف الألمانى ليسنج إلى أن الرواية والموسيقا تشتركان فى الطبيعة الزمنية التى تميزهما على بقية الفنون ذات الامتداد الفضائى . الرواية هى فن الزمن ، والموسيقا كذلك عبد الملك مرتاض : فى نظرية الرواية ص 199 )
لا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو : " إذا أردت تعلم التكوين فى الرسم ، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد ، لا يستوقفنى الفنان الذى تدرس مسرحياته ، بقدر ما يبدو مطلوباً تفاعل الفن التشكيلى والمسرح . يغيظنى ذلك الذى يحاول التجريب فى القصة القصيرة ـ مثلاً ـ ويرفضه فى الفن التشكيلى . يكتب أعمالاً يؤطرها النقد فى السوريالية ، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة . الفن التشكيلى يلتحم بالفنون الأخرى ، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال . واتساقاً مع قول سرفانتس : الرسام والأديب هما سواء ، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن " التشابه بين فن الرسام وفن الروائى تشابه تام ، فمصدر الوحى فيهما واحد ، وعملية الإبداع فى كل منهما هى نفس العملية ـ مع اختلاف الوسائل ـ ونجاحهما أيضاً واحد ، وبوسعهما أن يتعلما كل من الآخر ، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كل الآخر ، فقضيتهما واحدة ، ومجد الواحد هو مجد الآخر " ( نظرية الرواية ـ 72 ) . أذكرك برواية " ممر ميلانو لميشيل بوتور التى تشبه فى تكوينها لوحات بول كيلى المسماة " تكوين " ، فهى تعرض للحياة فى احدى عمارات باريس أثناء فترة محددة ومحدودة من الزمن . ثمة علاقات متشابكة بين كل شقة والأخرى فى العمارة بقطع صغيرة ، تتحرك على لوحة شطرنج .
لقد نشأت الرواية من الدراما ، ومن ثم فهى تشتمل على بعض المكونات المسرحية . وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية . لقد تنبأت الرواية ـ والقول لكونديرا ـ بفن السينما ، وتمثلته مسبقاً ( الطفل المنبوذ ـ ص 125 ) . السينما هى رواية بالصور ، حتى أن السؤال يثار : ما أساس الفيلم السينمائى : هل هو صور لرواية ، أم رواية لصور ؟. إذا كان رأى جان كوكتو أن " الفيلم هو كتابة بالصور " فإن السينما هى الأداة الشعبية ـ أو الجمعية فى تعبير آخر ـ لتقديم الفنون فى وحدتها . فقد أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية . كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج ، التبئير ، الزاوية القريبة ، التناوب ، الاسترجاع . وتبادلت الرواية والسينما بعامة التأثر والتأثير . لقد أوجد كاتب السيناريو والروائى ـ فى زمن متقارب ـ طريقة الفلاش باك ـ ارتدادات زمنية إلى الماضى فى ذهن الشخصية ـ وكان ذلك نتيجة مباشرة للتأثير المتبادل بين المبدعين . كما أفاد الروائيون وكتاب القصة من القص واللصق والمزج والتقطيع ، وغيرها من فنيات المونتاج . من المبدعين الذين طبقوا ـ فى السرد الروائى ـ تقنيات السرد المرئى ، وإفادته من السرد السينمائى : نجيب محفوظ وفوكنر وهمنجواى ودوس باسوس وشتاينبك وفوينتس وماركيث وغيرهم . تبين إفادة نجيب محفوظ من تقنيات السيناريو ، منذ لاحظ صلاح أبو سيف حسه الدرامى المتفوق ، فلم يجد عناء فى تدريس السيناريو لمحفوظ ، بحيث أقبل ـ فى ما يشبه التفرغ ، على مدى خمس سنوات ـ حتى من الكتابة الروائية التى نذر لها موهبته الإبداعية ، وزواج جارثيا ماركيث بين الكتابة الروائية والسيناريو السينمائى . الأمر نفسه بالنسبة لكتاب آخرين . وقد أفدت ـ شخصياً ـ من دراسة السيناريو على أيدى أساتذته الكبار : صلاح أبو سيف وعلى الزرقانى وصلاح عز الدين وغيرهم . تبينت إمكانية ـ بل حتمية ـ تلاقح السرد القصصى وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع إلخ .
ثمة آراء أن السينما فى منتصف الطريق بين الرسم والموسيقا ، والسينما ـ فى بعض الاجتهادات ـ ثمرة زواج شرعى بين الرسم والمسرح ، وقد أخذت عنهما أهم خصائصهما . أما العلاقة بين السينما والتشكيل فإننا نشير إلى قول مارسيل مارتن : " إنه فى وسعنا أن نزعم أن التاريخ الجمالى للسينما هو خلاصة مركزة من التاريخ الجمالى للرسم " . وعموماً ، فقد " ترك كل فرع من فروع الفنون التقليدية بصماته على الفيلم . كما أسهم فى تحديد قواعد تكوينه . فإلى جانب الرسم التقليدى ، هناك الرسم السينمائى على الشاشة . وإلى جانب الأدب المكتوب هناك الأدب المرئى والمسموع . وإلى جانب العرض المسرحى ، هناك العرض على الشاشة . وأخيراً ، إلى جانب الموسيقا التقليدية هناك موسيقا تحكم تركيب العمل السينمائى " ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الثانى ) .
وبالطبع ، فإن العمل الإبداعى يضع قوانينه ، فلا تأتى بالضرورة من خارجه ، لا تقحم عليه ، أو تنبو عن سياقه . وعلى حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبى الذى جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانوناً وضعه هو ، بل قانوناً اكتشفه لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية إلخ .. من خلال التراث الهائل لكل منها ، يظل لها مواصفاتها الخاصة ، شكلها الفنى الخاص . ولعلى أصارحك أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه : هذا نص ! . أنى أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة ، نثرية أو شعرية ، حتى أتبين مدى اقترابها ، أو ابتعادها ، عن هذا الجنس الأدبى أو ذاك . لا أغفل إمكانية توقعى للعمل المتميز ، العبقرى ، الذى قد يفاجئنى بجنس إبداعى لم يكن موجوداً من قبل ، لكن هذا العمل لابد أن يحمل قوانين أخرى ، خاصة ، ومغايرة ..
إن تقييم العمل الفنى ، التمييز بين الفن واللافن ، الجيد والردئ ، لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصى ، لكنه لابد أن يخضع لمواضعات ، لمواصفات ، توجد فى العمل الفنى ، أو تغيب عنه . بمعنى أنه لابد للمبدع أن يكون على اتصال بتراث العالم ـ وليس تراث لغته فقط ـ من الإبداع ، وأن يكون على صلة بتراث العالم النقدى ، بالإضافة إلى اتصاله بالثقافة العالمية فى إطلاقها ..
طبيعى أن العمل الفنى يحتاج إلى تلقائية مساوية للتلقائية التى يريد الفنان أن تكون عليها صورة عمله ، بحيث يحدث تأثيراً وجدانياً ، هو المطلوب ـ ابتداء ـ ليسهل على القارئ متابعة العمل ، والتفاعل معه ، والتأثر به ، وإحداث الهزة ـ أو التغير ـ فى وجهة نظره للحياة من حوله بداية لحظة الكتابة عندى فى الإمساك بتلابيب اللحظة . أبدأ الجملة الأولى ، السطر الأول ، الفقرة الأولى ، فأجاوز العالم الذى تصورته ، ودخلت عالماً آخر ، هو عالم العمل الإبداعى : أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنمات تتخلق من داخل العمل . تفرض نفسها عليه . لا شأن لها بتصوراتى المسبقة . فى تقديرى أنه إذا أراد الفنان لروايته أن تكون فناً حقيقياً ، فإن عليه أن يوجه تأثيرها إلى مزاج القارئ ، بإضفاء صورة الحياة الحقيقية على الأحداث . تلك هى الوسيلة التى تحرص الفنون الأخرى ـ مثل الموسيقا والتصوير ـ أن توجه لها تأثيرها . أما الإسراف فى " الصنعة " ، وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سبب ، والإلحاح على صورة العمل الفنى بزوائد الظلال والتفاصيل ، فإن ذلك كله يصنع للرواية قبراً جميلاً ، تنعم فيه بالموت من قبل أن ترى الحياة . أستعير من هنرى جيمس تأكيده بأن الرواية شئ واحد متماسك ، كطبيعة الكائنات الحية ، وبقدر تماسك أجزائها ، واتصال كل جزء ـ عضوياً ـ بالأجزاء الأخرى ، تحصل الرواية على ما يريده لها الفنان من حياة . وبديهى أن الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ ، أو لحفظها فى الأدراج ، ذلك لأن العمل الفنى هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه ، وهذا المجتمع ـ بالطبع ـ لا يتشكل من ثقافة واحدة ، أو درجات متساوية من الوعى ، أو ذوق فنى عام موحد . المجتمع ـ أى مجتمع ـ يتكون من أفراد ، لكل منهم حصيلته المعرفية ، ووعيه وانتماؤه الفكرى والطبقى ، بحيث يصبح من السذاجة تصور أن فناناً ما يصل إليهم جميعاً فى محاولاته . لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو أن يكون مخلصاً فى التعامل مع فنه ، ومع نفسه ، لتجد محاولاته جمهورها الذى قد تضيق قاعدته أو تتسع ، لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذى يخاطبه الفنان فى محاولاته . وبتوالى الأعمال ، وتعددها ، فى المقولة والتكنيك ، فإن اتساع قاعدة المتلقين سيصبح أمراً شبه مؤكد ، فضلاً عن قيام الاحتمال بانضمام شرائح أخرى من المجتمع . باختصار ، فإن الرواية الجديدة ليست مودة تختفى بقدوم مودات أخرى . إنها نظرية واضحة ، متكاملة الأبعاد ، قد تطور نفسها ، وقد تستغنى عن بعض المقومات ، وتضيف مقومات أخرى . لكن المقومات الأساسية تظل فى صلة الرواية العضوية بالفنون الأخرى ، والإفادة المتبادلة بينها وبين تلك الفنون [ الرواية الجديدة هى التسمية التى تطلق ـ الآن ـ على التوجهات الطليعية فى المشهد القصصى الأمريكى اللاتينى ] . وإذا كان من البديهى أن تكون للعمل الفنى مقولته ، أو دلالته ـ راجع البداية ـ فإن هذه المقولة / الدلالة يجب أن تبين عن نفسها فى ثنايا العمل الفنى ، وليس من خلال الافتعال والمباشرة الإيحاء ـ لا التقريرية ـ هو قوام العمل الفنى . وإذا أفصح الغرض عن نفسه ، فقد العمل الفنى صفته ، واستحال منشوراً دعائياً . وكما يقول نور ثروب فتراى فإنه لا يوجد فى الإبداع خطاب مباشر ، ذلك لأن الأمر ليس ماذا نقول ، بل كيف نقول . مع ذلك ، فإن الزيف ما يلبث أن يتكشف ـ ربما للقارئ العادى ـ إن كان الهدف من التجديد مداراة نقص أو قصور فى بعض أدوات الفنان وعلى سبيل المثال ، فإن بعض الأدباء قد يلجأ إلى اللغة البرقية السريعة ، لا لضرورة يتطلبها العمل الفنى ، أو الرغبة فى التجديد ، وإنما لقصور فى ملكات الفنان الأسلوبية واللغوية . وقد يستغنى الأديب بالحوار عن السرد للسبب نفسه ، وإن غلف محاولاته بدعوى التجديد . أذكر فيلماً أمريكياً شاهدته منذ سنوات بعيدة ، عن فنانين يعيشان فى شقة واحدة ، أحدهما موهوب ، والثانى يحاول استكمال موهبته ودعا الثانى أحد أصحاب المعارض لشراء بعض لوحاته ، فلم يجد الرجل فيها ما يستحق الشراء . وقبل أن ينصرف ، لمح لوحة تجريدية مستندة إلى الجدار فى أقصى الحجرة . وعرض شراءها حالاً . كانت اللوحة للفنان الأول . وكان الفنان ذو الموهبة الناقصة يميل إلى التقليدية فى لوحاته ، فادعى اللوحة لنفسه ، ثم راح يدلق كميات من الألوان الزيتية على مساحات من القماش ، قدمها لصاحب المعرض على أنها لوحات تجريدية ، فرفضها الرجل بالطبع ، وأتيح للفنان " الحقيقى " ـ ختاماً ـ أن يحصل على فرصته . أما ذلك الذى كان يحاول تبين هويته ، فقد ظل يحاول . إن الموهبة المتكاملة التى تسيطر على أدواتها جيداً ، هى الأرضية التى ينشأ العمل الفنى ـ بدونها ـ فى فراغ .. فهل يمكن لبناء أن يقوم على فراغ ؟




ـ 5 ـ
يقول بولان " يعرف كل امرئ أن فى عصرنا نوعين من الأدب : الأدب الغث الذى هو حقاً غير جدير بالقراءة ، وهو المقروء غالباً ، ثم الأدب الجيد الذى لا يقرأ " ..
وكانت المعادلة الصعبة التى طرحت نفسها فى البداية ، هى أن أكتب ما أطمئن إليه ، وأن يطمئن القارئ إلى قيمة ما أكتب . وبالتحديد ، فقد كنت أحب أن أضع القصة فى الإطار الذى أتصوره ـ فى عصرنا ـ مناسباً لها ، وليس فى الإطار السلفية الثابتة . ولم يكن التجديد لمجرد التجديد هو هدفى فى الحقيقة ، بقدر ما كان يصدر عن نظرة يقينية أن دائرة الفنون الخلاقة مكتملة ، وأن الأسلوب الذى يعالج به الفنان لوحة ، ربما يفيد منه كاتب القصة القصيرة . والوسائل التكنيكية التى يلجأ إليها كاتب السيناريو السينمائى قد تحقق التأثير ذاته فى رؤية أدبية ، والهارمونى الذى يحرص عليه المؤلف الموسيقى هو ما يحقق للقصيدة الشعرية وحدتها العضوية . ولفرجينيا وولف مقولة شهيرة " فى ديسمبر 1910 ، أو حوالى هذا التاريخ ، تغيرت الطبيعة الإنسانية " . وكانت فرجينيا وولف تقصد بتغير الطبيعة الإنسانية ، تغير المعرفة بالطبيعة الإنسانية . أما التاريخ الذى كان بداية لذلك التغير ، فهو تاريخ إقامة معرض للرسامين بعد الانطباعيين فى لندن ، عرضت فيه أعمال لسيزان وفان جوخ وماتيس وبيكاسو ، كانت تمثل ثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والتى تقف فى موازاة المدرسة الطبيعية فى الرواية [ حددت فرجينيا وولف تاريخ الثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والطبيعية فى الرواية ، بأنه ديسمبر 1910 . مع ذلك ، فإن محاولات نجيب محفوظ ـ فى الأربعينيات من القرن العشرين ـ جاءت أشبه بثورة فى دنيا الرواية العربية ! ] . بلغ يقينى بصلة الفنون بعضها ببعض ، وضرورة تأثر كل فن بالفنون الأخرى ، أنى رفضت " قد " فى رأى سارتر بأن الفنون فى عصر واحد قد تتبادل التأثير فيما بينها . ذلك لأنى كنت أومن ـ ومازلت ـ بضرورة ـ إن لم يكن بحتمية ذلك التأثر والتأثير الذى تتبادله فنون العصر الواحد . وطبيعى أن الرفض ينسحب على قول ميشيل بوتور بأن الرواية جديدة انتهت " ومهمتها كانت إزالة الحواجز بين الفنون " . إنه رأى متناقض وغير منسجم ، لأن إزالة الحواجز بين الفنون ليست عملاً طارئاً ، ولا وقتياً ، ولا تعبيراً عن مودة موسمية . إن الأدب ـ على نحو ما ـ محور لبقية الفنون . نقطة جذب واتصال . إيقاع المفردات والتعبيرات يتسلل إلى الأذن ، فيحمل طبيعة الموسيقا ، ويطالع العين ، فيحمل طبيعة الفن التشكيلى . وقد استطاعت الرواية ـ عندما لجأت إلى فنيات الإبداعات الأخرى ، مثل السينما والمسرح والموسيقا وغيرها ـ أن تغادر عنق الزجاجة ، تجاوز الاستاتيكية إلى ديناميكية متجددة ، تستوعب الإبداعات الأخرى ، وتسيطر ـ وربما تفوقت ـ عليها . وبالطبع ، فإن فنية العمل هى التى تفرض اللغة ، وأسلوب التناول ، وإن كنت أحاول أن أفيد من لغة الشعر . ثمة روائى يقبل على روايته بروح " السيناريست " ، كأن يضع فى تصوره حركة مجسدة ، تسترسل ، أو تتصاعد ، أو تمضى إلى الأمام وإلى الوراء ، تماماً كالمونتاج السينمائى أذكرك بقصيدة إليوت الأرض الخراب التى تأثرت بالمونتاج السينمائى فى بداياته ] والسيناريو الأقرب إلى الاكتمال هو السيناريو الذى يقترب من الرواية الجيدة . لكن تميز الرواية فى مساحتها العريضة التى يصعب على أى فيلم ـ مهما يستغرق من وقت ـ أن يغطيها . والقصيدة المكتملة هى التى يتشكل بناؤها فى قالب قصصى .
والواقع أنى لم أتعمد طريقة الفلاش باك فى الأسوار . لكن الجلسة التى تشابه عشاء المسيح الأخير مع حوارييه ، كان لابد لها أن تعود إلى نقطة البداية . ولم تكن ـ فى الحقيقة ـ نقطة واحدة ، وإنما كانت عشرات النقاط ، البدايات ، التى يتشكل من مجموعها واتصالها واستمراريتها سدى الأسوار كرواية ..
الرواية هى أشد الأجناس الأدبية قدرة على احتواء بقية الأجناس من قصة وشعر وحوار درامى ، وهى الأشد قدرة على استيعاب الفنون الأخرى من مسرح وسينما وموسيقا وفن تشكيلى إلخ . بل إنها الأشد قدرة على احتواء الموروث الشعبى والأسطورة والاجتهاد الفلسفى والمشكلة الاجتماعية والواقعة التاريخية والتحليل النفسى ، بحيث تتشكل من ذلك كله ـ أو بعضه ـ ضفيرة العمل الروائى أخيراً ، فإن الرواية هى الأشد قدرة على احتواء الإنسانيات فى إطلاقها ، واستيعابها لصالح بنائها المضمونى والشكلى ، بما يجعل من الرواية فناً يعنى بالتواصل والمعرفة معاً . إن تعبير الرواية الجديدة يستفز التأمل ، ذلك لأنه سوف تولد دائماً رواية جديدة . إلى جانب أن الرواية الجديدة لا تعنى اتجاهاً محدداً لكل الأدباء . فاتجاه ميشيل بوتور ـ مثلاً ـ يختلف عن اتجاه ناتالى ساروت وألان روب جرييه ، واتجاه جرييه يختلف عن اتجاه ساروت وبوتور إلخ . ولعلى أوافق جرييه على قوله بأن تعبير الرواية الجديدة ليس دلالة على مدرسة " بل ولا جماعة معينة من كتاب يعملون بطريقة واحدة ، وإنما هى تسمية مناسبة تشمل كل من يبحثون عن أشكال جديدة للرواية ، قادرة على التعبير عن علاقات جديدة ، أو على خلق هذه العلاقات بين الإنسان والعالم . كل أولئك الذين عقدوا العزم على اختراع الإنسان . هؤلاء يعلمون أن التكرار المنظم للأشكال الفنية التى تنتمى إلى الماضى ، ليس أمراً غير معقول ، وغير مفيد ، فحسب ، بل إنه قد يصبح ضاراً إذ يغلق عيوننا عن موقفنا الحقيقى فى عالم الحاضر ، فيمنعنا آخر الأمر من بناء عالم الغد ، وإنسان الغد .
كانت الرواية جديدة دائماً ، وينبغى أن تظل كذلك . حقق جدة الرواية ـ كل فى زمانه ـ جوجول وبلزاك وتورجنيف وفلوبير وزولا وديكنز وديستويفسكى وبروست وفرجينيا وولف وكافكا وجويس وهمنجواى ومحفوظ وعشرات غيرهم ..
ـ 6 ـ
فى العاشر من ديسمبر 1973 قرأت إعلاناً للهيئة المصرية العامة للكتاب ، عن صدور أول مطبوعات " روايات مختارة " روايتى الأسوار ..
غمرنى شعور عميق بالارتياح .
1975 ـ نشر فى كتاب " محمد جبريل وعالمه القصصى " ـ 1984
التراث .. لماذا نستلهم منـه قصصنا؟
..................................

لما تكونت المدرسة الحديثة فى عام 1917 ، وأفرادها شباب الأدباء آنذاك : أحمد خيرى سعيد وحسين فوزى ومحمود عزمي ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وغيرهم .. كان أول ما دعت إليه ، رفض التراث العربى كمصدر للإلهام ، واعتبار النموذج الأوروبى هو المثل الذى يجب أن يتجه إليه الأدباء حين يبدعون أعمالهم ..
وقد يبدو غريباً أن تلك الدعوة رفعت شعاراً هو : " فلتحيا الأصالة ، فليحيا الإبداع . فليحيا التجديد والإصلاح ".. فالقسمان الأخيران من الشعار مفهومان ومطلوبان فى كل حين . أما القسم الأول - وهو التأكيد على إحياء الأصالة - فإنه يبدو غريباً ، وغير مفهوم ، فى ظل المناداة برفض التراث العربى ، وإن كان مما يغفر لذلك الشعار أنه ظهر فى وقت لم تكن الشخصية المصرية قد تعرفت إلى هويتها الحقيقية بعد .. فقد كانت موزعة بين عشرات التيارات والاجتهادات ، مابين إسلامية وفرعونية وبحر أوسطية وشرقية وعربية وغيرها ، فهى لم تسفر عن ملامحها العربية الواضحة إلاً فى الأربعينيات من هذا القرن ..
ومع أن يوسف إدريس لم يستلهم التراث فى قصصه القصيرة ، فإنه كان تعبيراً فعلياً عن الأصالة ، بمعنى أن أعماله كانت قصصاً مصرية خالصة ، دون اللجوء إلى التقليد ، وربما الاقتباس من الأعمال الأدبية الأوروبية .. وهو ماكان يفعله كُتّاب الفترة ، بدءاً بمحمود كامل ، مروراً بمحمود البدوى ويوسف جوهر وابراهيم الوردانى وأمين يوسف غراب وإحسان عبد القدوس وغيرهم .. ولعله من هنا جاء قول إدريس ، إنه اعتبر مهمته الأولى خلق أدب مصرى حقيقى ، بدلاً من التقليد الباهت للأدب الأوروبى المتأنق الذى افترش الساحة الأدبية المصرية فى أواخر الأربعينات ..
والحق أنه إذا كانت دعوة المدرسة الحديثة فى الاتجاه إلى المثل الأوروبى ، بهدف " تدمير الفاسد والرجعى ، وإقامة المفيد والضرورى " ، فإن الرفض المطلق للتراث العربى ، قد عكس تأثيراته السلبية القاسية فيما بعد ، من حيث التبعية للاتجاهات الأوروبية ، وفقدان الشخصية الفنية المتميزة ، بل والنظر إلى أعمالنا - مهما تفوقت - باعتبارها الأدنى بالقياس إلى الأعمال الفنية فى الغرب ..
ثمة رأى أنه " ليس للرواية العربية تراث ، وعلى كل كاتب روائى عربى أن يختار لنفسه وسيلة للتعبير ، دون أن يأنس إلى من يرشده فى ذلك ، ولابد - والحال كذلك - من أن يعتور عمله النقص ، ويشوبه الخطأ " ( العربى - مايو 1984 )
لذلك ، فإن الدعوة إلى الارتباط بالتراث ، إلى إحيائه ، وتحقيق التواصل معه فى أعمالنا الفنية المعاصرة ، هى دعوة صحيحة وإيجابية ، لأنها تمثل خطوة مؤكدة فى سبيل استرداد الذات ، وإعادة اكتشافها . فالأديب المصرى ليس مجرد مقلّد للأعمال الأدبية الغربية - مع بدهية الإفادة المحسوبة من فنياتها ، وأذكرك - فى المقابل - بإفادة الأدب الغربى من فنيات ألف ليلة وليلة - لكنه يجد إرهاصات أعماله ، وبداياته الفعلية ، فى تراث العرب ، وفى تراث المصريين القدامى كذلك .. ومن هنا تأتى إعادة النظر فى التراث الأدبى المصرى والعربى . حتى ذلك التراث الذى تصورناه خالياً من الفنون الأدبية المعاصرة ، كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة
أما المحاولات التى شغلت بالتأكيد على وجود تلك الأجناس فى أدبنا القديم ، فإننا يجب أن نوليها ماتستحقه بالفعل من اهتمام وتقدير ..
وبالتأكيد ، فإن استلهام التراث هو إعادة اكتشاف للطاقات الفاعلة فيه . العودة إلى التراث لاتعنى الانكفاء على الماضى ، ولا اعتباره النموذج الأمثل الذى يصلح لكل زمان ومكان ، لكنها تعنى تَمثّل هذا التراث ، الاعتزاز به كثقافة قومية أصيلة ، بهدف الانطلاق إلى المستقبل .
ولعلى أضيف أن العودة إلى التراث ، باعتباره النموذج الصالح لكل زمان ومكان ، تعد - على نحو ما - هروباً من مواجهة المشكلات الملحة ، والآنّية .
أذكر قول أستاذنا شكرى عياد : " إن إحدى مشكلاتنا ، هى أننا لانملك حضارة الغرب ، ولكننا نعيش على أبوابها كشحاذين ، لأننا لانملك ، أو لانعتقد أننا نملك حضارة سواها . يقول أقوام : بلى ، إننا نملك هذه الحضارة . وأقول : أجل ، نملك ، ولكنها حضارة ماض فقط ، فنحن مغتربون ، إماّ فى ماضينا الذى نعجز عن وصله بالمستقبل ، وإماّ فى مستقبل ليس مستقبلنا "..
إن عقدة النقص ، إزاء كل مايبدعه الأجنبى ، هى مايجب أن نتخلص منه . والاجتهادات الأجنبية ليست مسلّمات ، ولاهى صحيحة فى إطلاقها ..
وإذا كان إطلاق الخيال مطلوباً فى الأعمال الأدبية ، فإن الإيمان بالركيزة الثقافية ، بالتراث ، بالتواصل ، بالبدايات التى تجد استمراراً لها - بصورة وبأخرى - فى أعمالنا الحالية . ذلك الإيمان هو ماينبغى أن نحرص عليه ، ونؤكده ، فى كل اجتهاداتنا ، سواء على مستوى النقد ، أو على مستوى الدراسات الأكاديمية بالجامعات ..
وكما يقول ابن خلدون ، فإن الماضى والحاضر والمستقبل " كُلّ متصل متفاعل ، يقود بعضه إلى بعض " . بل إن القول بالعودة إلى التراث قول خاطئ تماماً ، لأن التراث متواصل فى الحاضر ، وفى المستقبل ..
التراث ليس الماضى فقط ، لكنه الماضى والحاضر والمستقبل . وهو ليس مقتصراً على النصوص المكتوبة وحدها ، لكنه يمتد فيشمل التاريخ والعمارة والعادات والمعتقدات والقيم والتقاليد .
من الصعب أن نفهم التراث فى غيبة الواقع ، وفى غيبة استشراف المستقبل ..
أتفق مع دعوة أستاذنا زكى نجيب محمود لمحاولة " إيجاد تركيبة عضوية ، يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصرالراهن الذى نعيش فيه ، لنكون بهذه التركيبة العضوية عرباً ومعاصرين فى آن " ( تجديد الفكر العربى ص 14)
لقد تعددت مسميات الإفادة من التراث ، فهى توظيف التراث ، واستلهام التراث ، واستخدام التراث إلخ .. كما تعددت الدراسات التى تناقش استلهامات التراث فى الأعمال الإبداعية المعاصرة ، فى موازاة الأعمال الإبداعية التى تستلهم ذلك التراث ، بما يعنى أننا لانجدف فى فراغ ، ولانشكل ظلالاً لإبداعات الغرب ودراساته . بل إن عملية البحث عن الهوية ، وتأكيد الهوية ، هى التى فرضت قضايا من مثل : التراث والمعاصرة ، الحداثة والأصالة ، الذات والكونية ، إلخ ..
نحن نحاول أن يكون أدبنا فى عمومه تعبيراً عن الذات ، وليس تقليداً للآخرين . ليس فى مجرد التعبير عن مشكلاتنا أو همومنا الآنية ، والتعبير عن البيئة التى نحياها ، وإنما فى خصائص الأدب الذى نقدمه . وهى خصائص لاتقتصر على البعد المضمونى وحده ، بل تشكل عوالم مستقلة ، متميزة ، نستطيع أن نصنفها ، باعتبارها أدباً عربياً ، له امتداداته ، وتواصله ، وملامحه التى تتفق فى مسمياتها مع مايقدمه الآخرون ، لكنها تتفق فى تعبيرها عن فنان مختلف ، ينتمى إلى بيئة مختلفة ..
أدان جارثيا ماركيث أوروبا ، لأنها " لاتعى بأن ثمة لغات أخرى ، وأنماطاً شتى لشرح الواقع " . وأكد " أن قيمتنا الوحيدة هى أننا أصليون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لاكما يرغب الآخرون أن نكون " ..
المعنى نفسه يؤكده الكاتب العراقى عبد الرحمن مجيد الربيعى ، عندما يفسر الظهور - المفاجئ ! - لأديب كولومبيا جارثيا ماركيث : " لقد حصل ذلك لأن هذه الرواية - مائة عام من العزلة - قد حققت شخصيتها الخارقة والمتميزة ، دون التعكز على روايات أخرى " ..
لقد كان توظيف التراث اجتهاداً أساسياً فى القصة القصيرة والرواية المصرية تراث فرعونى ، وإسلامى ، وعربى . النظرة المتأملة للأعمال التى صدرت منذ أواخر القرن الماضى ، تبين عن محاولات الإفادة من التراث ، بدءاً بأعمال جرجى زيدان ، واستمراراً فى أعمال أحمد خيرى سعيد ومحمد فريد أبو حديد وطه حسين وتوفيق الحكيم وسعيد العريان وعبد الحميد السحار ونجيب محفوظ وعادل كامل وسعد مكاوى ، وغيرهم ، إلى أجيالنا الحالية ..
***
فما صلة التراث بالإصالة إذن ؟.. لماذا يتلازمان ، ليصبحا - فى تقدير البعض - شيئاً واحداً ؟!..
إن الفنان يتمثل التراث ، يحيله إلى ذاته ، فيصنع منه شيئاً جديداً . يقول زكريا إبراهيم : " إن العمل الأصيل يستبقى التراث ، ويلغيه فى آن واحد ، أو أنه يحتفظ بهذا التراث بواسطة العمل على تجاوزه " ( العربى / مارس 1975)
الأصالة لاتعنى مجرد العودة إلى القديم ، أو التراث . إنها ليست مجرد دعوة إلى إحياء الماضى ، أو كما يقول البعض " تأصيل الجديد فى تربة القديم " ، لكنها تعنى أن يكون الفنان أصيلاً ، أى يكون أصل نفسه ، فهو لايصدر إلاّ عنها فى كل مايعبّر ، بحيث تبدو الفروق الفردية بينه وبين الآخرين . بل إن أصالة كل فنان هى بمدى اختلافه عن سواه من المشتغلين بالإبداع ، بما يطلق عليه زكريا ابراهيم - بحق - " الحرية الإبداعية " . فالحرية تعنى استخدام القدرة الإبداعية إطلاقاً . تعنى - كما يقول أندريه جيد - ان ماكان فى استطاعة غيرك أن يفعله ، فلا تفعله ، وماكان فى استطاعة غيرك أن يقوله ، فلا تقله ، وماكان فى وسع غيرك أن يكتبه ، فلا تكتبه . إنما تعلق فى ذاتك بذلك العنصر الفريد الذى لايتوفر لدى أحد غيرك ، واخلق من نفسك - بصبر وأناة ، وبتعجل ولهفة - ذلك الموجود الوحيد الذى يصعب لأحد غيرك أن يقدم بديلاً عنه " .
إن الأصالة لاتكمن فى واقعة التمايز ، أو الاختلاف ، بقدر ماتكمن فى عملية الاستقلال الذاتى ، أو النشاط الإبداعى .
الأصالة - بمعنى الإفادة من القديم ، وتضفيره فى أعمال فنية ، تعبر عن الذات المبدعة - هى السبيل الوحيد لتجاوز الأجيال السابقة . لاتعنى الشذوذ ، أو الإغراب ، أو التفرد المطلق ، لكنها تعنى - بأبسط عبارة - الحرية الإبداعية التى تفيد من الآخرين ، تضيف إلى إبداعاتهم ، تهضمها ، وتفرزها ، بما يعبر عن ذات الفنان ، وعن البيئة التى يصدر عنها ، والعالم الذى ينتمى إليه ..
الفارق كبير بين الاستلهام ، التوظيف ، الاستخدام ، وبين التقليد ..
نحن نحاول توظيف التراث ، لكننا لانحاكيه إطلاقاً ، ولانقلده . وعلى حد تعبير جوتة ، فإن ماورثناه عن آبائنا وأجدادنا ، لابد له من أن يعود فنكسبه من جديد ، حتى يصبح ملكاً خاصاً لنا . بل إن الفنان عندما يأخذ عن القدامى " صورة " العمل الفنى ، فإن الشخصية الفنية للفنان تظل هى المسيطرة ، هى المرتسمة فى العمل الفنى . تظل هى الشخصية الأوضح ، لاتصبح ظلاً لشخصيات القدامى ..
نحن نقرأ التراث لنستلهمه ، لالنعبده . الشعراء الأوروبيون يقرأون هوميروس ، يستلهمون أعماله ، يتمثلون فيها البراءة والصفاء . وهذا هو الإطار الذى يتحدد فيه تعاملنا مع التراث ..
نحن لانستلهم التاريخ ولا السير والقص الشعبى ، بصورة مباشرة ، بل نفيد من أسلوب التشخيص التاريخى ، أو الأسطورى ، أو الملحمى . لانلجأ إلى صيغ ثابتة ، أو مكررة ، مما ورد فى أعمال سابقة ، لكننا نستخدم لغتنا الخاصة ، تكنيكنا الخاص ، بما يتواءم وطبيعة العصر الذى نحيا فيه ، ونعبر عنه . أذكرك بما كتبه طه حسين رداً على رسالة للرافعى : " أمّا أنا ، فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت - مضطراً - أن هذا الأسلوب الذى ربما راق أهل القرن الخامس والسادس للهجرة ، لايستطيع أن يروقنا فى العصر الحديث "
فى تقديرى ، أن الأعمال التى توظف التراث ، إنما تحاول - على نحو ما - تحقيق التواصل بين التراث والمعاصرة ، بين الماضى والحاضر ، رؤية الواقع من خلال أحداث التاريخ ..
أرفض العمل الذى تقيد حركته داخل سجن الزمن . توظيفى للواقعة التاريخية ، للشخصية التاريخية ، لايعنى أنى أحيا فى زمن غير الزمن الذى أحيا فيه . المادة التراثية تؤدى - أحياناً - دور القناع الذى يستنطقه النص نيابة عن الحاضر . قد لايوظف التراث شخصية معينة ، أو بطلاً من أبطال السير الشعبية ، يحملها بعض الهموم المعاصرة ، وإنما هو يفيد من الملاحم والسير - بشكل غير مباشر - فى صياغة شخصيات ليست موجودة فى التاريخ ، أو فى السير والملاحم ، يقدمها على أنها شخصيات حقيقية ..
وهذا مافعلته - على سبيل المثال - فى روايتى قلعة الجبل ..
إن عائشة ، والسلطان خليل بن الحاج أحمد ، والنائب الكافل ، وخالد عمار ، وعبد الرحمن القفاص ، وغيرهم من شخصيات الرواية ، لاوجود لهم فى الواقع التاريخى ، وإن حاولت ألاّ يكونوا غرباء عن الفترة التاريخية التى تناولتها ، وهى فترة حكم المماليك الجراكسة ، أو البرجية . بالنسبة للواقعة ، أو الوقائع ، فليس هدفى أن أحول التاريخ إلى أعمال إبداعية ، إلى روايات وقصص قصيرة ، لكننى أحاول أن أفيد من التاريخ فى الحديث عن الحاضر . أكره كلمة " الإسقاط " . أفضل القول - وهذا ماأحاوله بالفعل - استلهام التاريخ ، توظيفه ، اعتباره مرجعاً حضارياً ، دلالات للحاضر ، والمستقبل ..
قد ينتمى السلطان خليل بن الحاج احمد - تاريخياً - إلى سلاطين المماليك البرجية ، لكن سلطان قلعة الجبل هو - فى الحقيقة - سلطان آخر ، نستطيع أن نتعرف إليه فى سلاطين عصرنا الحالى ..
أما نجاة عائشة من كل المخاطر التى أحاطها بها السلطان خليل ، فهى تذكرنا بالحماية الإلهية التى ترافق البطل ، أو البطلة ، فى الحكاية الشعبية . إنها حماية ترافق البطل فيما يواجهه من مخاطر ، فتمنع حدوث الأذى له ..
والمثل يتكرر - بصورة وبأخرى - فى روايات : إمام آخر الزمان ، من أوراق أبى الطيب المتنبى ، اعترافات سيد القرية ، زهرة الصباح ، وغيرها ..
***
لأستاذنا نجيب محفوظ مقولة مهمة : " مانريده للرواية العربية الآن ،هو أن تكون لها شخصية مميزة أصيلة . أنا عربى لا لبس فى ذلك ، وأريد أن نصل إلى رواية ذات شخصية عربية مميزة . كل مانستطيع أن نفعله الآن ، هو أننا عندما نجد أن موضوعنا يحتاج إلى أسلوب استعمله كافكا مثلاً ، أن نستعمل هذا الأسلوب بصدق ، وأن ندخل عليه من ذاتيتنا ، بحيث أن القارئ الذكى عندما يقرأه يقول : هذا كافكا صحيح ، لكنه تطور . مانريده هو تطور كاسح ، فى هذا المجال "..
أعيب تلك المحاولات التى استهدفت بعث القالب القصصى الروائى ، لكنها عادت كما يقول محمد عابد الجابرى - " لتمتح من معين التراث لا لتطويره " ( الخطاب العربى المعاصر )
وفى المقابل ، فإنى أعيب من يجعلون الحداثة الغربية - وحدها - هدياً لهم ، يتبعونها ، يقلدونها . إنهم لاأكثر من نقلة . وأذكر أن محمود صبح - وهومن علماء الأندلسيات ، ويشغل وظيفة أستاذ الأدب العربى بجامعة مدريد المركزية روى أن طلبته أعجبتهم أبيات من الشعر العربى القديم ، وإن غابت معانيها إلى حد ما - عن أذهانهم ، لأن ذلك الشعر هو الأكثر تعبيراً عن طبيعة العربى فى محيطه ، فى حين أن هؤلاء الطلاب رفضوا معظم الشعر العربى الحديث المترجم للأسبانية . البياتى مثلاً ، قالوا إن مايكتبه ليس شعراً عربياً ، لكنه مزيج من ناظم حكمت ونيرودا ورفائيل البرتى . إنه شعر غير أصيل !..( الأنباء 22/11/1986)
التراث هو حلقات أولى فى السلسلة التى نمثل الآن حلقتها الأخيرة ، لكننا - بالقطع -لسنا آخر حلقاتها ..
نحن نقرأ تراثنا ونستوعبه ، ونقرأ تراث الغرب ونستوعبه ، لكننا نحرص أن ترتكز إبداعاتنا - فى الدرجة الأولى - إلى " نحن " .. إلى تراثنا فى الدين والعلم والسياسة والاقتصاد والآداب والفنون ، وإلى قيمنا ومثلنا ..
هذا هو الإبداع الخاص بنا ، الذى ينبغى ألاّ نجاوز إطاره المحدد ، حتى لايجرفنا التقليد ، فنحاكى الغراب حين قلد مشية الطاووس ، وحتى لاننكفئ على الماضى ، نجتره ، ونرفض الجديد والإضافة ، فنرتمى - بإرادتنا - فى حضن الجمود "..
نحن نستلهم التراث ، ونحرص - فى الوقت نفسه - على الانفتاح على تقنيات الرواية الحديثة ..
أشير إلى تأكيد الكاتب الروسى سوفرونوف بأنه إذا وضع الكاتب عيناً على تراث بلاده ، فإن عليه أن يضع العين الأخرى على العالم الذى يتحرك من حوله ..
نحن نتمثل التراث ، نمزجه بثقافتنا وخبراتنا ورؤيتنا للأمور ، ثم نحاول أن نصنع من ذلك كله ، شيئاً جديداً . لانسعى إلى بعث التراث ، وإنما نحاول استنطاقه ، استلهامه ، توظيفه . قل ماشئت من مسميات ، لكن التراث يظل فى النهاية تراثاً ، والمعاصر يجب أن يكون تعبيراً عن الفترة التى صدر فيها ، وصدر لها ..
التجديد ، الحداثة ، مسألة مطلوبة لاستمرار أى فن ، لعدم جموده أو ذوائه . لكى يواصل الفن حياته ، فإن عليه أن يجدد نفسه بمحاولات ، قد ينتسب بعضها إلى الإخفاق ، أو الزيف ، لكن بعضها الآخر يضيف ، ويثرى ، ويهب الاستمرار ..
نحن - فى توظيفنا للتراث - نغربله بداية ، نفرزه ، ننقيه ، ثم نتجاوز ذلك كله ، فنثرى معطياتنا بنصوص غير مقلِّدة ، وقادرة على الاجتهاد ..
إن من حق ـ وواجب ـ كل جيل ، أن تكون له تجربته الخاصة ، المميزة ..
ويقول أستاذنا شكرى عياد إن " النص العربى المعاصر يمكنه ـ بل يجب عليه ـ أن يجرب تجاربه الخاصة ، فلا يكون التجريب دائماً محاكاة لتجريب الغرب "..
علاقتنا بالغرب علاقة جدلية ، وليست علاقة تبعية - أو هذا هو المفروض ..
وإذا كنا مطالبين بعدم الانكفاء على الذات ، والاكتفاء بما خلفه الأجداد من موروث ثقافى وحضارى ، فإننا مطالبون - فى الوقت نفسه - بألاّ نعتبر كل مايبدعه الغرب مثلاً يجب أن نحتذيه ..
العلاقة الجدلية تفرض الحوار ، والموافقة ، والرفض ، وإبداء الرأى ، واتخاذ الموقف الذى يعبر عن خصوصية حياتنا ، عن عاداتنا وتقاليدنا ، ووجوب اتصال ماضينا بحاضرنا ، وعن استشرافنا للمستقبل ..
من الخطأ أن نرتمى فى حضن التراث . كما أنه من الخطأ أن نرتمى فى حضن الثقافة الغربية ..
نحن نفيد من التراث فى تحقيق التواصل ، ونفيد من الثقافة الغربية فى تحقيق المعاصرة ، ونفيد من التراث والثقافة الغربية فى آن معاً ، فى تحقيق شخصيتنا المتفردة ، فى صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا ، وثقافتنا الخاصة عموماً ..
أكرر : من الخطأ أن نكتفى بإحياء تراثنا القديم ، باستلهامه ، أو توظيفه ، أو بالنقل عن الغرب ..
الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن . لانكتفى بالتلقى ، بالنقل ، أو التلخيص ، أو حتى الاستلهام ، وإنما يجب أن نضيف إبداعنا الآنى ، وفكرنا الآنى ، وتعبيرنا الآنى عن صورة حياتنا المعاصرة .

تذييل لمجموعة حكايات وهوامش من حياة المبتلى ـ 1996







لم يكن فى دعوة الأستاذ [ الأسوار ] شبهة غرض شخصى . تحمّل الاشتغال والتعذيب ، وأسلم نفسه إلى الموت دفاعاً عن هؤلاء الذين أحبهم أكثر من نفسه . أما الحسين ، فقد خذله الشيعة الذين استغاثوا به ، وتركوه للمصير المؤلم تحت سنابك خيل الأمويين ، وانطلقت الرصاصة التى قتلت جيفارا من مسدس ضابط بوليفى صغير ، بذل المناضل الأرجنتينى حياته دفاعاً عن حقه فى الحياة . وكان نزلاء المعتقل ـ حلمى عزت بالذات ، ذلك الذى حماه الأستاذ من أذى الآخرين ـ هم الذين دبروا القرعة الظالمة ، ليدفعوا بالأستاذ إلى الشهادة دفاعاً عن الجميع . أسر بكر رضوان [ الأسوار ] إلى نفسه ـ غداة إحدى مرات الإفراج عنه ـ " هؤلاء الناس ـ أبناء الأنفوشى ـ هم محبوبه الذى ضيّع العمر إشفاقاً عليه . فهل كان الحب من طرف واحد ؟ هل تعنى المحبوب اللحظة ، مقطوعة الصلة بما مضى ، وما سيأتى ؟ وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة فى العذاب ؟.. هذه الكلمات ـ وبكر رضوان يرى أهله وناسه منصرفين عن واقعهم الأليم ، كأنما لم يدفع أعواماً من حياته فى سبيلهم ـ تذكرنا بكلمات الحسين بن على فى حشد الجيش الأموى ، يوم العاشر من المحرم : " تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً . حين استصرختمونا والهين ، فأصرخناكم مرجفين . سللتم علينا سيفاً فى إيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ، وبدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفنوه فيكم ، ولا أمل اصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش نعمتم فيه " . وكان ما أسره بكر رضوان ، أو ما أعلنه الحسين ، هو الهاجس الذى لابد أنهم خاطبوا به أنفسهم ، أو أعلنوه للجماعة ، هؤلاء الذين بذلوا النفس دفاعاً عما هو حق وصدق وعدالة [ فى زماننا الردئ ، فإن شخصية بكر رضوان تذكرنى بقادة اليسار المصرى الذين أمضوا أجمل سنى حياتهم فى معتقلات عبد الناصر . هتفوا بحياته ، وبشعارات المرحلة ، وهم يلقون أبشع ممارسات التعذيب ، حتى الموت . ظلوا يهتفون لعبد الناصر والثورة والاشتراكية ، وسط الضربات المتلاحقة التى لم تهدأ إلا بعد أن هدأت أنفاسهم ، وماتوا . جاوزوا آلامهم الشخصية ، وجعلوا الوطن قضية ، لا يعدلون بها قضية أخرى . كان عبد الناصر على صواب فيما يدعو إليه ، ويطبقه بالفعل ، فتناسوا العذاب الذى لاقوه بأيدى أعوانه ، وأعلنوا ولاءهم للبسطاء ، وللثورة ، وللغد الذى يعلو فوق العذابات الشخصية !. لو أنهم نظروا إلى المصالح العامة من منظور مصالحهم الشخصية ، مثلما فعل الرأسماليون والإقطاعيون الذين أضيروا بقوانين الثورة ، فلعلهم كانوا الآن هم الأعلى صوتاً ضد عبد الناصر ومعطيات عهده ] . لكن البذل لم يهدر ، والصيحة المخلصة لم تواجه التلاشى فى وادى الصمت . كان الشعور بالإثم هو الدافع لأن يقتل يهوذا نفسه بعد أن أسلم المسيح إلى قاتليه . وهو الدافع أيضاً لأن يزداد أتباع المسيح تمسكاً بتعاليمه . وكان الشعور ذاته هو الذى جعل جيفارا قدوة ومثلاً بين حركات التحرر فى دول العالم الثالث ، وارتسمت حول المناضل الشهيد هالة القداسة والأسطورة . وكان أيضاً هو الشعور الذى ارتقى بالحسينية إلى مرتبة العقيدة . ففى مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء ، ولعلها أخطر نتائجها ، أنها دخلت الضمير الإسلامى آنذاك ، وهزته هزاً عنيفاً . حركت فى النفوس ما كان خامداً ، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذى فرضه الأمويون . تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلاً ضد سبعين ألفاً ، بالحرص على الشهادة رغم يسر النجاة ، بإلقاء السؤال الأهم : ماذا بعد ؟ ، بحساب الذات عن التقاعس والتواكل ، بإعادة النظر إلى ما سبق ، وما يجرى حالاً ، والتفكير فى ضرورة التغيير . ولعله يمكن القول إن فاجعة كربلاء ـ رغم بشاعتها ـ كانت ثورة كاملة . أحدثت التأثير الذى تحدثه الثورات فى تحريك النفوس ، وإلحاجها على التغيير ، حتى يتحقق المجتمع الأفضل . تعددت ثورات التوابين ، همها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد ، فى حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموى . ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة ، أيا تكن صورتها ومظاهرها . وربما كان ذلك هو الشعور نفسه الذى تحرك فى نفوس الزملاء القريبين ، بل كل نزلاء المعتقل ، بعد أن بذل الأستاذ نفسه فى سماحة ، دفاعاً عن حقهم فى الحرية ، وفى الحياة . لم تدفعه الخيانة الواضحة إلى رفض القرعة ، لكنه أسلم النفس إلى جلاديه فى قناعة المؤمن بأن شهادة الفرد قد تكون فداء للجماعة ، وخلاصاً لها . وكما يقول برتراند راسل فإننا حين نعرف النهاية نغدو أقوياء ..
أخيراً ، فإنى أتفق مع جون مورلى فى أن " الأفراد الذين يرون الضوء ـ وهم بطبيعة الحال الأفراد المثقفون ـ إذا أحجموا عن احتمال ما عليهم من تبعة ، فإنهم يضاعفون العلل الأخلاقية فى المجتمع . وهم لا يحرمون المجتمع من مزايا التغيير فحسب ، بل من يرون شعوره بالحاجة إلى التغيير ضعفاً ، وإيقاظ الإحساس الأخلاقى فى المجتمع من العوامل الهامة فى تقدمه [ المثقف الذى أعنيه ، هو الذى يملك استعداداً للتضحية بصالحه الشخصى من أجل صالح الجماعة ، لا يكتفى بترديد الشعارات عن الديمقراطية وإنكار الذات ، وإنما يحرص على تطبيق تلك الشعارات بالفعل ] . ولعل السبب المباشر فى انحطاط كثير من المجتمعات ، يرجع إلى ما يطرأ على الضمائر من الفساد وضعف الإحساس الأخلاقى . ولم يصب الضعف والتخلف الإغريق لنقص علمهم بالمذاهب الأخلاقية ، وإنما أصابهم من جراء تناقص عدد الذين يقدرون واجباتهم الأخلاقية ، وما عليهم من تبعات هامة . ويعلل انتصار المسلمين على المسيحيين فى الشرق وفى أسبانيا ، بأنه راجع إلى احترامهم للواجب ، وما كان يثيره فى نفوسهم من حماسة ".

ـ 3 ـ
فى بداية الستينيات ، كنت أنشد البحث عن موضع فى حياتنا الثقافية من خلال العمل بالصحافة . عملت ـ حيناً ـ فى " الجمهورية " مع سعد الدين وهبة فى صفحة عنوانها " صباح الخير " . ولأن الصفحة كانت تعنى بالمادة الترفيهية والاجتماعية : زواج وطلاق وأعياد ميلاد وحفلات تكريم وغيرها ، ولأنى كنت أعانى قلة المصادر ـ الأدق : انعدامها ـ فضلاً عن شحوب استعدادى .. فقد بدا لى الفشل حقيقة فى الأسبوع الأول ، وإن كابرت ، وتعمدت تجاهله ، حتى الشهر الثالث . والحق أن سعد الدين وهبة كان كريماً فى تعامله معى . لم يكن فيما أسهمت به شئ يتصل بلون الصفحة ، إنما هى خواطر فى الأدب والفن . حاولت أن أقفز على مبنى الجمهورية بالمظلة دون الصعود على الدرجات المتآكلة . مع ذلك ، فإن الرجل لم يرفض شيئاً مما قدمته له . وكان يقرؤه بعناية ، ثم يسلمه ـ فى رقة ـ إلى سلة المهملات . فلما انتهى الشهر الثالث دون أن تجد خواطرى سبيلها إلى النشر ، صارحت أحمد عباس صالح ـ وأدين له بفضل مساندة خطواتى الأولى ـ بيأسى ، فأشار على بمعاودة محاولة لقاء الدكتور على الراعى ، المشرف على الصفحة الثقافية فى " المساء " آنذاك . كان الراعى غائباً ، والتقيت بكمال الجويلى ، فعرض على أن أشارك فى الباب الذى كان يحرره ، وعنوانه " كل الناس " . وبرغم أن الباب كان أقرب فى اتجاهه إلى صفحة سعد الدين وهبة ، ولعله كان أقل احتمالاً لنشر خواطرى من صفحة صباح الخير ، فإن صداقة الجويلى الطيبة ، وتسامحه ، وأبوته ، صنعت جسراً إلى العمل الصحفى ، وإلى الحياة الثقافية بالتالى ..
ويوماً ، طلب الجويلى أن أجرى حواراً مع شاب ارتكب ثلاثاً وعشرين حادثة سرقة سيارة ، قبل أن يكتشف أمره فى الحادثة الرابعة والعشرين . وروى لى الشاب عن ظروفه الاجتماعية ، وعن أجواء المعتقل الذى قضى فيه أعواماً ـ جعله تعدد السوابق من المجرمين الخطرين ـ حتى تم الإفراج عنه فى ظروف بالغة القسوة والغرابة : ألح نزلاء المعتقل فى طلب الإفراج . أرسلوا برقيات إلى المسئولين . أضربوا عن الطعام . تظاهروا . تشاجروا ـ إلى حد الاقتتال ـ مع حراس المعتقل . ثم لجأوا إلى وسيلة بشعة لتأكيد مطلبهم فى الإفراج . أجروا قرعة فى أسماء النزلاء ، واختير عشرة أسماء تعرض أصحابها للموت حرقاً ـ علانية ـ فى ساحة المعتقل . وكانت تلك الوسيلة القاسية هى الباعث لاهتمام المسئولين ، ودراسة حالاتهم ، والإفراج عن غالبيتهم . ونشرت الحوار ، ثم نسيته تماماً . حتى عادت ـ بتفكيرى فى كتابة الأسوار ـ صورة الشاب ، والحياة فى المعتقل ، والقرعة التى أحرقت عشرة أشخاص .. كانت تلك الصورة هى الإطار السردى للأسوار ، وإن داخلها ـ بالطبع ـ تصرف أملته طبيعة الرواية ، وتباين الظروف ، والتكنيك ، والدلالة . ذاب النزلاء العشرة فى شخصية الأستاذ . تعرض للمصير المؤلم بمفرده ، وعاش فى معتقل الرواية سياسيون ومجرمون عاديون . وتمت القرعة ـ عكس الحادثة الواقعية ـ بالخيانة . باختصار ، فقد كانت فكرة القرعة هى ما أفادته الأسوار من الحادثة القديمة .
(يتبع)


ـ 4 ـ
قد يبدو رأى لابروبير " كل شئ قد قيل ، وقد أتينا بعد فوات الأوان " .. قد يبدو هذا الرأى بليغاً ، لكنه ـ فى تقديرى ـ يكتفى برؤية نصف الكوب الفارغ الإحساس باللاجدوى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يثمر شيئاً إيجابياً . لكن لابروبير أضاف ، وأضاف أيضاً أبناء جيله من المبدعين ، وأضافت كذلك أجيال أخرى تالية ، وستتحقق إضافات أخرى كثيرة فى أجيال تالية ، مما يضع مقولة لابروبير فى إطار العبارة البليغة دون أن يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك . لذلك فإنى من غلاة الرافضين للتعميمات فى إطلاق الأحكام ، وبالذات فيما يتصل بنهاية نوع أدبى . فقرار الحياة أو الموت لا يملكهما ناقد ، لأن ذلك القرار ، الذى ربما أصدره الناقد وهو يتأمل السماء فى ليلة قمرية ، لن يحول دون إقدام مبدع موهوب على الكتابة ـ فى الوقت نفسه الذى أصدر فيه الناقد قراره ـ فى عمل ينتسب للنوع الأدبى الذى قرر الناقد موته لقد أعلن ت . س . إليوت ـ قبل عشرات الأعوام ـ أن الرواية ماتت ، فأعلنت الرواية عن تواصل حياتها فى أعمال محفوظ وكامى وهمنجواى ومنيف وكازنتزاكس وجويس وماركيث وغيرهم . وكما يقول هارولد نيكولسون ، فقد " بدلت الرواية تقنيتها مراراً ، لكنها كانت تصل إلى القارئ فى كل الأحوال " . كذلك فقد أعلن إدموند ولسن ـ فى الثلاثينيات ـ أن الشعر ـ بصورته التى نعرفها ـ فى طريقه إلى الزوال ، وأن الشعراء سيتجهون ـ بالضرورة ـ إلى أشكال أخرى غير الشعر .. لكن الشعراء أهملوا ذلك الإعلان الغريب ، وقدموا معطيات متميزة . ولعلى أذكر أكثر من صيحة لناقد ، ترددت فى حياتنا الأدبية ، تنعى وفاة هذا اللون الأدبى أو ذاك . ثمة من نعى الشعر ، وآخر نعى الرواية ، وثالث نعى القصة القصيرة . أهمل المبدعون ذلك كله ، وتلقفت المطابع ـ والأدراج ! ـ أعمالاً تحفل بالتميز والجدة والإضافة ، وتؤكد انتظام أنفاس الرواية . ظلت الرواية فى موضعها المتفوق بين الفنون الأخرى ، والفضل ـ فى الدرجة الأولى ـ لتلك المحاولات المتفردة ، والمتميزة ، من فنانين متفردين ، ومتميزين ، مما قد يرين عليه من استاتيكية . الثبات والتغير هما الرئتان اللتان يتنفس بهما كل شئ حياته ، ويجد تواصله واستمراره . فإذا أبقى على الثبات دون التغير ، حكم على نفسه بالجمود ، فالموت . وإذا حرص على التغير دون مراعاة للثبات ، تشوهت ملامحه ، وفقد التواصل . من هنا ، فإن القول بنظرية للرواية هو القول بضرورة أن يكون لها خطوطها العريضة ، وسماتها العامة ، فضلاً عن نجاح كل عمل روائى يريد له صاحبه التميز ، فى أن يحقق تميزه بالإفادة من خيال الفن ووعيه وحريته فى مغادرة الأطر والتقاليد ـ فنية أو اجتماعية ـ مهما تكن ثابتة . وكانت الرواية العربية ـ على سبيل المثال ـ قبل أن يبذر نجيب محفوظ محاولاته ـ أقرب إلى ما كانت تعانيه الرواية الأوروبية فى القرن التاسع عشر ، من شوائب الوعظ والترفيه ، حتى حققت تفوقاً على يدى هنرى جيمس وجوزيف كونراد اللذين خلصا فن الرواية من معظم ما كان يعانيه من شوائب ، وأضاف إليه أبعاداً جديدة باستخدام جميع الإمكانيات التى تجعل من الرواية فناً حقيقياً .
ليس المقصود بتحديد الجنس الأدبى أن نقيم الحواجز ، ونفصل تماماً بين الأجناس الأدبية . إن بين سائر الفنون نوعاً من التكامل فى التعبير عن الذات الإنسانية . كانت وحدة الفنون قائمة فى العصور اليونانية الأولى . ثم بدأت تلك الوحدة تذوى ، وتتلاشى بالتدريج ، نتيجة للنمو المتزايد الذى فرضه التباين الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمعات بعد العصور الأولى . وهو ما أدى إلى ظهور التخصص فى الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية . فلما صار تقسيم العمل أمراً جوهرياً بالنسبة لإنتاج السلع ، كان لذلك تأثيره المباشر فى تحويل الأدب إلى وظيفة وعمل متخصص ، تقوم به جماعة خاصة ، منفصلة عن بقية الجماعات الأخرى ( فتحى أبو العينين : نصوص مختارة فى علم اجتماع الأدب ص 116 ) . الصورة المتغيرة الآن فى الروافد التى تأتى من النبع الواحد ، وتتجه إلى المصب الواحد ، روافد متشابكة تشمل الشعر والرواية والموسيقا والتشكيل والمسرح والسينما والتاريخ والموروث الشعبى وعلم الاجتماع وعلم النفس . وكما يقول الشاعر الإنجليزى صمويل بيكر ، فإن فنون الموسيقا والتصوير والكتابة هى شئ واحد . إن محصلة كل فن تأتى بتفاعله مع فنون أخرى ، تفاعل بين الوسائط والأدوات والأساليب الذاتية ، وإن كان من المهم أن نشير إلى أن عناصر علم النفس والتاريخ والاجتماع إلى غير ذلك ، والتى يحتويها العمل فى أحيان كثيرة ، لا تهمنا فى حد ذاتها ، لكن ما يهمنا ـ والكلام لألكسندر سكافتيموف ـ هو الدفعة التى تحققها داخل وحدة الكل . وحدة الفنون تعنى كسر التخوم بين السرد الروائى وفنون الشعر والمسرح والسينما والموسيقا والفن التشكيلى وغيرها ، بالإضافة إلى علوم مثل علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس إلخ . إسقاط الحواجز المفتعلة بين الفنون المختلفة ـ والعلوم المختلفة أيضاً ـ خطوة مهمة لتطوير فنوننا بعامة ، سواء أكانت فنوناً سمعية أو بصرية . وكما يقول شاعر افريقيا العظيم ليوبولد سنجور فلا يمكن " تصور الموسيقا بدون حركة أو بدون رقص . وهذا ما نستطيع تسميته بالموسيقا التشكيلية . كما أن الرقص لا يمكن أن يعيش بدون رسم أو نحت . والحقيقة أن الرقص ـ على الأقل فى فترة الحماس الدينى فى العصور الغابرة ـ كان يعتبر دراما غيبية أو تمثيلية عن المعجزات ، ومهمة الراقص هى تجسيد الأسلاف أو الأرواح الطوطمية ، وبعثها حية من خلال الزى الذى يرتديه ، والأقنعة والشعر والموسيقا والرقص . وإلى حين ، لم يعد الرسم مقدساً ، فقد احتفظ بالكثير من أصوله " ..
لاحظ كلمات : الموسيقا ، التشكيل ، الرسم ، النحت ، الدراما ، الشعر . وبوسعنا أن نضيف إليها الرواية والسينما ليكتمل معنى وحدة الفنون . نحن نتحدث عن اللون فى الموسيقا ، والإيقاع فى الرسم ، والنغمة فى الشعر إلخ ، ذلك لأنه ليست هناك ـ كما يقول ميخائيل كيسيلوف ـ حدود فاصلة بين الفنون . فالموسيقا توحد الشعر والرسم ولها معمارها . ويمكن للرسم أيضاً أن يكون له النوع نفسه من المعمار كالموسيقا ، ويعبر عن الأصوات بواسطة الألوان . لابد أن تكون الكلمات فى الشعر موسيقا ، ويجب أن يولد ارتباط الكلمات والأفكار صوراً جديدة . ويذهب جبران إلى أن " الموسيقا كالشعر والتصوير ، تمثل حالات الإنسان المختلفة ، وترسم أشباح أطوار القلب ، وتوضح أخيلة النفس ، وتصوغ ما يجول فى الخاطر " ( المؤلفات الكاملة لجبران ـ 40 )
تعددت الأحكام فى تاريخ الفن . قيل إن عصر الشعر انتهى ، وعصر المسرح انتهى ، وعصر الرواية انتهى ، وعصر القصة القصيرة انتهى .. لكن كل الأجناس بقيت ، وتداخلت . ولعل أهم عوامل المفارقة بين الأجناس الأدبية المختلفة ، ان كل جنس لابد أن يقيم عالمه الخاص به . قد يفيد من جنس أو آخر ، لكنه يقدم فى النهاية جنسه الخاص ، صورته المتميزة .
يقول رولان بارت : إن الحكاية كامنة فى الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والمشهد الصامت واللوحة المرسومة والزجاج الملون والأحداث المختلفة والحوار بين الأفراد . وهى موجودة تحت أشكال تكاد أن تكون غير متناهية فى كل الأزمنة والأمكنة ، فى كل المجتمعات " ( ت أحمد درويش ) .
الحكاية ، الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وهى بالنسبة للتقنية عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى ، كالفلاش باك فى السينما ، والتقطيع فى السينما أيضاً ، والتبقيع فى الفن التشكيلى ، والهارمونى فى الموسيقا ، ودرامية الحوار فى المسرحية إلخ .. أومن بقول بريخت : " يجدر بالكاتب ـ لكى يسيطر على القوة الدينامية للواقع ـ أن يفيد من كل الوسائل الشكلية المتاحة ، بصرف النظر عن جدتها أو قدمها " . وأتصور أن ذلك يتبدى ـبدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار وانتهاء برباعية بحرى ، مروراً بالصهبة و قاضى البهار ينزل البحر ومن أوراق أبى الطيب المتنبى والنظر إلى أسفل وقلعة الجبل وغيرها ..
نحن نجد فى الرواية رداً على كل ما طرح من أسئلة وهى تقدم ردها بصورة أعمق وأشد وضوحاً من الفنون الأخرى كالشعر والموسيقا والرسم وغيرها . إنها ـ كما يصفها بعض النقاد الأوروبيين ـ فن المشكلات ، بوسعها ـ وحدها ـ أن تعالج كل الأبعاد للمشكلة الواحدة .
الرواية تجسيد للحياة على نحو أعمق ، بينما وسائل التعبير الأخرى قد تعنى ببعد واحد . فثمة اللون فى الرسم ، والحركات التى تستهدف توترات صاخبة الموسيقا ، والمزاوجة بين اللغة وفهم الحياة الإنسانية 
ناتالى ساروت تجد فى الرواية الجديدة ضرورة ، لأن الأرض الخصبة ـ والتعبير لساروت ـ إذا طال استغلالها ، تتحول إلى أرض عقيم . ومن الواضح أن التجديد المستمر شئ لابد منه لحياة الرواية ، بل لحياة أى فن "
(Les Nouvelles Litteraires 9, 6 ,1966 )
وفى تقديرى أن إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقا والتشكيل والشعر وغيرها ، يعنى إفادتها ـ بلغة ساروت ـ من مخصّبات تضيف إلى الأرض المنهكة تجدد حياة . [ هنرى جيمس ينادى بوحدة الفنون من زاوية أخرى : إن بعض الفنون ـ مثل التصوير والموسيقا والعمارة ـ إذا استعان بها الروائى فى روايته ، فإنها ستساعد فى التخلص من اقتحام ذاتية المؤلف لروايته ] . الرواية الحديثة تفيد من الموسيقا : التركيب الموسيقى للسيمفونية ـ مثلاً ـ أو التركيب الموسيقى للسوناتا ، كما تفيد من فهم الفنان التشكيلى للشكل ، ومن فن المونتاج فى السينما . ويلح د . س بلاند فى أن نتعامل مع الكلمات فى الرواية ، كما نتعامل معها فى الشعر والدراما . أما همنجواى فإنه يشير إلى أن ما يتعلمه الكاتب من الملحنين ، ومن دراسة الهارمونى والكونتربونيت يبدو واضحاً فى أعماله ، كما لا يتطلب تفسيراً 
على الروائى أن يثرى إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ـ أشارت إليها ناتالى ساروت ـ وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى ..
وعلى سبيل المثال ، فإن الروائى ينبغى أن يكون ذا حس عال بالشعر ، بالقصيدة الشعرية ، فثمة حس للكلمة ، وحس للصورة ، وهما حسّان شاعريان . اللفظة مهمة فى الرواية ، والصورة أيضاً بالقدر نفسه لأهميتها فى القصيدة الشعرية . " الرواية الحديثة تحتوى إطاراَ شعرياً ، بل انها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا ، ولا أن تبشّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة " . إن المزاوجة بين التوتر الشعرى والفن السردى إضافة مطلوبة فى فن الرواية . ولعلنا نذكر اعتراف ميشيل بوتور بأنه لم يكتب قصيدة واحدة منذ كتب روايته الأولى ، فقد أحس أن الرواية ـ فى أكمل أشكالها ـ قادرة على تلقّى ميراث الشعر القديم . وكما يقول جبرا ابراهيم جبرا فإننا " لن ندرك حقيقة الطاقة الفاعلة فى الفن الروائى النثرى مالم نرجع بأصوله إلى محركاته الشعرية الأولى " .
أما اقتراب الرواية من الشعر ، واقتراب الشعر منها فى زماننا الحالى ، فلعلنا نجد تدليلاً له فى قول والتر بيتر : " يطمح الجميع لبلوغ الحالة الشعرية " . إن كل الفنون تطمح إلى الحالة الموسيقية ، وهى تفعل ذلك بواسطة الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . فإذا عزلت الشعر عن تلك الفنون سقطت حالاً ، وأضحت شيئاً غير الإبداع . مهمة الروائى المبدع هى أن يحول الحياة بزخمها وتوتراتها إلى ما يشبه القصيدة ، كمن يستخلص الذهب من المعادن الأخرى ، فيتحقق للكتابة الإبداعية تألقها وتفوقها قياساً إلى بقية الكتابات . أذكر قول جبرا إبراهيم جبرا : " فالشعر سمة الأصالة فى كل فن بمعنى الكلمة . وإذا كانت الفنون كلها تطمح إلى الحالة الموسيقية ـ كما قال ولتر باتر ـ فهى إنما تفعل ذلك عن طريق الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . اعزل الشعر عنها ، تسقطها جميعاً ، وتصبح شاهداً غيرالإبداع . ولعل واجب الروائى المبدع فى النهاية ، هو أن يكون قد حوّل الحياة ، بزخمها وبؤسها وروعتها ، إلى ما يشبه القصيدة ، فيكون بذلك قد استخلص الذهب من المعادن الأخرى ، وبهذا يحقق الروائى المبدع امتيازه على غير المبدع ، رغم أن الإثنين قد يعرفان الأفراح والمآسى نفسها ، ويتحدثان عن الأفراح والمآسى نفسها ، التى هى إطار الحياة اليومى لكل إنسان " .
(يتبع)

لقد بدأ بلزاك حياته الأدبية شاعراً ، ثم انتقل إلى كتابة الرواية . الأمر نفسه بالنسبة لهمنجواى وفوكنر وعشرات غيرهم . وظل فيكتور هوجو ـ إلى نهاية حياته ـ يزاوج بين الشعر والرواية .. وكان وليم بليك شاعراً ورساماً . وكان اليوت شاعراً وناقداً . ويذهب بول فاليرى إلى أن كل كتابة أدبية هى كتابة شعرية ..
أذكر أنى حاولت الشعر فى البداية ، وتأثرت بشعراء أبوللو . فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتى التعبيرية ، تبدّت لغة الشعر فى أعمالى الروائية والقصصية ، وهو الأمر الذى يعد ملاحظة أساسية فى التناول النقدى لأعمالى . تهمنى اللغة فيما أكتب . الكلمة المناسبة فى موضعها ، الكلمة الفلوبيرية ـ على حد تعبير بورخيس ـ التى تحسن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة ، أو عن الرؤيا اللحظية الكاشفة . لا تهمنى الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة ، ولكن تشغلنى موسيقا الحرف والكلمة والجملة ، أحذف وأضيف وأعدّل بما يحقق الاتساق والهمس الشعرى والإيحاء ذى الدلالة . . وثمة بعض النقاد يطالب القارئ أن يتمرس على تذوق الشعر حتى يمكنه قراءة الرواية الأقرب إلى صورة ذات تركيب شعرى ..
أوافق أدونيس ـ واختلافاتى معه كثيرة ـ فى أنه يمكن للقصيدة أن تفيد من الرواية كثيراً ، والرواية تفيد من الشعر كثيراً ، وبهذا المعنى تتداخل الأنواع ، لكن تظل الرواية رواية ، والقصيدة قصيدة " ( الأربعاء الأسبوعى 21/10/1987 ) . ذلك لأن الموضوع الذى يصلح فى الرواية ، قد لا يصلح ـ أو أنه لا يصلح ـ فى القصة القصيرة ، والعكس صحيح . وإلاّ فلا معنى لاختيار الفنان هذا الجنس الأدبى أو ذاك .
يقول هوجو لايختنتربت : " الحضارة فى أى عصر من العصور تعتمد على الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسى والأحوال الجغرافية ، إلى جانب اعتمادها على لغة البلد ، ومن ثم فهناك صلة ضرورية بين الموسيقا وبين هذه الموضوعات كافة ، وفضلاً عن ذلك فإن الموسيقا تستند إلى أساس علمى يتضمن الطبيعة والرياضة . كما أن بينها وبين كل من الأدب وسائر الفنون روابط وثيقة إلى حد ما . ولقد تأثرت الموسيقا بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية ، إلى جانب تأثيرها فى هذه الفنون بدورها " ( ت . أحمد حمدى محمود ) . وكما يقول نيتشة فإن العمارة موسيقا تجمدت .
ثمة علاقة منطقية بين الشعر والموسيقا ترتكز إلى العوامل التى تجمع بين هذين الفنين . والقول بموسيقا الشعر يعنى أهمية الموسيقا بالنسبة للشعر . إن الشعر لا يصبح شعراً بدون موسيقا . ويرى جاتشيف أن الموسيقا هى أقرب الفنون إلى الأدب ، وإن تباينا فى طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود ، وللعالم الداخلى للإنسان ( ت نوفل نيوف ) . أما السينما ، فإن لنا أن نتصور فيلما خالياً من الموسيقا . الموسيقا ـ كما نعرف ـ بعد مهم فى الفيلم السينمائى ، وهى كذلك بعد مهم فى المسرحية ، وكلاهما يضم القصة والديكور والأزياء والشعر ، وبالذات المسرحية الشعرية ..
ويرى البعض فى القصة اقتراباً من الشعر الغنائى . يؤكده ـ كما يقول أوكونور ـ الوعى الحاد بالتفرد الإنسانى . أما الموسيقا والرواية ، فإنهما ـ كما يقول ميشيل بوتور : " فنان يوضح أحدهما الآخر . ولابد لنا فى نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص الثانى ، وما كان حتى الآن بدائياً ، عليه ـ بكل بساطة ـ أن يصبح قياسياً . وهكذا يجدر بالموسيقيين أن يكبّوا على مطالعة الروايات . كما يجدر بالروائيين أن يكونوا مطلعين على بعض المفاهيم الموسيقية " (ت فريد أنطونيوس ) . ويذهب الفيلسوف الألمانى ليسنج إلى أن الرواية والموسيقا تشتركان فى الطبيعة الزمنية التى تميزهما على بقية الفنون ذات الامتداد الفضائى . الرواية هى فن الزمن ، والموسيقا كذلك عبد الملك مرتاض : فى نظرية الرواية ص 199 )
لا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو : " إذا أردت تعلم التكوين فى الرسم ، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد ، لا يستوقفنى الفنان الذى تدرس مسرحياته ، بقدر ما يبدو مطلوباً تفاعل الفن التشكيلى والمسرح . يغيظنى ذلك الذى يحاول التجريب فى القصة القصيرة ـ مثلاً ـ ويرفضه فى الفن التشكيلى . يكتب أعمالاً يؤطرها النقد فى السوريالية ، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة . الفن التشكيلى يلتحم بالفنون الأخرى ، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال . واتساقاً مع قول سرفانتس : الرسام والأديب هما سواء ، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن " التشابه بين فن الرسام وفن الروائى تشابه تام ، فمصدر الوحى فيهما واحد ، وعملية الإبداع فى كل منهما هى نفس العملية ـ مع اختلاف الوسائل ـ ونجاحهما أيضاً واحد ، وبوسعهما أن يتعلما كل من الآخر ، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كل الآخر ، فقضيتهما واحدة ، ومجد الواحد هو مجد الآخر " ( نظرية الرواية ـ 72 ) . أذكرك برواية " ممر ميلانو لميشيل بوتور التى تشبه فى تكوينها لوحات بول كيلى المسماة " تكوين " ، فهى تعرض للحياة فى احدى عمارات باريس أثناء فترة محددة ومحدودة من الزمن . ثمة علاقات متشابكة بين كل شقة والأخرى فى العمارة بقطع صغيرة ، تتحرك على لوحة شطرنج .
لقد نشأت الرواية من الدراما ، ومن ثم فهى تشتمل على بعض المكونات المسرحية . وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية . لقد تنبأت الرواية ـ والقول لكونديرا ـ بفن السينما ، وتمثلته مسبقاً ( الطفل المنبوذ ـ ص 125 ) . السينما هى رواية بالصور ، حتى أن السؤال يثار : ما أساس الفيلم السينمائى : هل هو صور لرواية ، أم رواية لصور ؟. إذا كان رأى جان كوكتو أن " الفيلم هو كتابة بالصور " فإن السينما هى الأداة الشعبية ـ أو الجمعية فى تعبير آخر ـ لتقديم الفنون فى وحدتها . فقد أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية . كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج ، التبئير ، الزاوية القريبة ، التناوب ، الاسترجاع . وتبادلت الرواية والسينما بعامة التأثر والتأثير . لقد أوجد كاتب السيناريو والروائى ـ فى زمن متقارب ـ طريقة الفلاش باك ـ ارتدادات زمنية إلى الماضى فى ذهن الشخصية ـ وكان ذلك نتيجة مباشرة للتأثير المتبادل بين المبدعين . كما أفاد الروائيون وكتاب القصة من القص واللصق والمزج والتقطيع ، وغيرها من فنيات المونتاج . من المبدعين الذين طبقوا ـ فى السرد الروائى ـ تقنيات السرد المرئى ، وإفادته من السرد السينمائى : نجيب محفوظ وفوكنر وهمنجواى ودوس باسوس وشتاينبك وفوينتس وماركيث وغيرهم . تبين إفادة نجيب محفوظ من تقنيات السيناريو ، منذ لاحظ صلاح أبو سيف حسه الدرامى المتفوق ، فلم يجد عناء فى تدريس السيناريو لمحفوظ ، بحيث أقبل ـ فى ما يشبه التفرغ ، على مدى خمس سنوات ـ حتى من الكتابة الروائية التى نذر لها موهبته الإبداعية ، وزواج جارثيا ماركيث بين الكتابة الروائية والسيناريو السينمائى . الأمر نفسه بالنسبة لكتاب آخرين . وقد أفدت ـ شخصياً ـ من دراسة السيناريو على أيدى أساتذته الكبار : صلاح أبو سيف وعلى الزرقانى وصلاح عز الدين وغيرهم . تبينت إمكانية ـ بل حتمية ـ تلاقح السرد القصصى وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع إلخ .
ثمة آراء أن السينما فى منتصف الطريق بين الرسم والموسيقا ، والسينما ـ فى بعض الاجتهادات ـ ثمرة زواج شرعى بين الرسم والمسرح ، وقد أخذت عنهما أهم خصائصهما . أما العلاقة بين السينما والتشكيل فإننا نشير إلى قول مارسيل مارتن : " إنه فى وسعنا أن نزعم أن التاريخ الجمالى للسينما هو خلاصة مركزة من التاريخ الجمالى للرسم " . وعموماً ، فقد " ترك كل فرع من فروع الفنون التقليدية بصماته على الفيلم . كما أسهم فى تحديد قواعد تكوينه . فإلى جانب الرسم التقليدى ، هناك الرسم السينمائى على الشاشة . وإلى جانب الأدب المكتوب هناك الأدب المرئى والمسموع . وإلى جانب العرض المسرحى ، هناك العرض على الشاشة . وأخيراً ، إلى جانب الموسيقا التقليدية هناك موسيقا تحكم تركيب العمل السينمائى " ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الثانى ) .
وبالطبع ، فإن العمل الإبداعى يضع قوانينه ، فلا تأتى بالضرورة من خارجه ، لا تقحم عليه ، أو تنبو عن سياقه . وعلى حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبى الذى جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانوناً وضعه هو ، بل قانوناً اكتشفه لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية إلخ .. من خلال التراث الهائل لكل منها ، يظل لها مواصفاتها الخاصة ، شكلها الفنى الخاص . ولعلى أصارحك أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه : هذا نص ! . أنى أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة ، نثرية أو شعرية ، حتى أتبين مدى اقترابها ، أو ابتعادها ، عن هذا الجنس الأدبى أو ذاك . لا أغفل إمكانية توقعى للعمل المتميز ، العبقرى ، الذى قد يفاجئنى بجنس إبداعى لم يكن موجوداً من قبل ، لكن هذا العمل لابد أن يحمل قوانين أخرى ، خاصة ، ومغايرة ..
إن تقييم العمل الفنى ، التمييز بين الفن واللافن ، الجيد والردئ ، لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصى ، لكنه لابد أن يخضع لمواضعات ، لمواصفات ، توجد فى العمل الفنى ، أو تغيب عنه . بمعنى أنه لابد للمبدع أن يكون على اتصال بتراث العالم ـ وليس تراث لغته فقط ـ من الإبداع ، وأن يكون على صلة بتراث العالم النقدى ، بالإضافة إلى اتصاله بالثقافة العالمية فى إطلاقها ..
طبيعى أن العمل الفنى يحتاج إلى تلقائية مساوية للتلقائية التى يريد الفنان أن تكون عليها صورة عمله ، بحيث يحدث تأثيراً وجدانياً ، هو المطلوب ـ ابتداء ـ ليسهل على القارئ متابعة العمل ، والتفاعل معه ، والتأثر به ، وإحداث الهزة ـ أو التغير ـ فى وجهة نظره للحياة من حوله بداية لحظة الكتابة عندى فى الإمساك بتلابيب اللحظة . أبدأ الجملة الأولى ، السطر الأول ، الفقرة الأولى ، فأجاوز العالم الذى تصورته ، ودخلت عالماً آخر ، هو عالم العمل الإبداعى : أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنمات تتخلق من داخل العمل . تفرض نفسها عليه . لا شأن لها بتصوراتى المسبقة . فى تقديرى أنه إذا أراد الفنان لروايته أن تكون فناً حقيقياً ، فإن عليه أن يوجه تأثيرها إلى مزاج القارئ ، بإضفاء صورة الحياة الحقيقية على الأحداث . تلك هى الوسيلة التى تحرص الفنون الأخرى ـ مثل الموسيقا والتصوير ـ أن توجه لها تأثيرها . أما الإسراف فى " الصنعة " ، وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سبب ، والإلحاح على صورة العمل الفنى بزوائد الظلال والتفاصيل ، فإن ذلك كله يصنع للرواية قبراً جميلاً ، تنعم فيه بالموت من قبل أن ترى الحياة . أستعير من هنرى جيمس تأكيده بأن الرواية شئ واحد متماسك ، كطبيعة الكائنات الحية ، وبقدر تماسك أجزائها ، واتصال كل جزء ـ عضوياً ـ بالأجزاء الأخرى ، تحصل الرواية على ما يريده لها الفنان من حياة . وبديهى أن الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ ، أو لحفظها فى الأدراج ، ذلك لأن العمل الفنى هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه ، وهذا المجتمع ـ بالطبع ـ لا يتشكل من ثقافة واحدة ، أو درجات متساوية من الوعى ، أو ذوق فنى عام موحد . المجتمع ـ أى مجتمع ـ يتكون من أفراد ، لكل منهم حصيلته المعرفية ، ووعيه وانتماؤه الفكرى والطبقى ، بحيث يصبح من السذاجة تصور أن فناناً ما يصل إليهم جميعاً فى محاولاته . لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو أن يكون مخلصاً فى التعامل مع فنه ، ومع نفسه ، لتجد محاولاته جمهورها الذى قد تضيق قاعدته أو تتسع ، لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذى يخاطبه الفنان فى محاولاته . وبتوالى الأعمال ، وتعددها ، فى المقولة والتكنيك ، فإن اتساع قاعدة المتلقين سيصبح أمراً شبه مؤكد ، فضلاً عن قيام الاحتمال بانضمام شرائح أخرى من المجتمع . باختصار ، فإن الرواية الجديدة ليست مودة تختفى بقدوم مودات أخرى . إنها نظرية واضحة ، متكاملة الأبعاد ، قد تطور نفسها ، وقد تستغنى عن بعض المقومات ، وتضيف مقومات أخرى . لكن المقومات الأساسية تظل فى صلة الرواية العضوية بالفنون الأخرى ، والإفادة المتبادلة بينها وبين تلك الفنون [ الرواية الجديدة هى التسمية التى تطلق ـ الآن ـ على التوجهات الطليعية فى المشهد القصصى الأمريكى اللاتينى ] . وإذا كان من البديهى أن تكون للعمل الفنى مقولته ، أو دلالته ـ راجع البداية ـ فإن هذه المقولة / الدلالة يجب أن تبين عن نفسها فى ثنايا العمل الفنى ، وليس من خلال الافتعال والمباشرة الإيحاء ـ لا التقريرية ـ هو قوام العمل الفنى . وإذا أفصح الغرض عن نفسه ، فقد العمل الفنى صفته ، واستحال منشوراً دعائياً . وكما يقول نور ثروب فتراى فإنه لا يوجد فى الإبداع خطاب مباشر ، ذلك لأن الأمر ليس ماذا نقول ، بل كيف نقول . مع ذلك ، فإن الزيف ما يلبث أن يتكشف ـ ربما للقارئ العادى ـ إن كان الهدف من التجديد مداراة نقص أو قصور فى بعض أدوات الفنان وعلى سبيل المثال ، فإن بعض الأدباء قد يلجأ إلى اللغة البرقية السريعة ، لا لضرورة يتطلبها العمل الفنى ، أو الرغبة فى التجديد ، وإنما لقصور فى ملكات الفنان الأسلوبية واللغوية . وقد يستغنى الأديب بالحوار عن السرد للسبب نفسه ، وإن غلف محاولاته بدعوى التجديد . أذكر فيلماً أمريكياً شاهدته منذ سنوات بعيدة ، عن فنانين يعيشان فى شقة واحدة ، أحدهما موهوب ، والثانى يحاول استكمال موهبته ودعا الثانى أحد أصحاب المعارض لشراء بعض لوحاته ، فلم يجد الرجل فيها ما يستحق الشراء . وقبل أن ينصرف ، لمح لوحة تجريدية مستندة إلى الجدار فى أقصى الحجرة . وعرض شراءها حالاً . كانت اللوحة للفنان الأول . وكان الفنان ذو الموهبة الناقصة يميل إلى التقليدية فى لوحاته ، فادعى اللوحة لنفسه ، ثم راح يدلق كميات من الألوان الزيتية على مساحات من القماش ، قدمها لصاحب المعرض على أنها لوحات تجريدية ، فرفضها الرجل بالطبع ، وأتيح للفنان " الحقيقى " ـ ختاماً ـ أن يحصل على فرصته . أما ذلك الذى كان يحاول تبين هويته ، فقد ظل يحاول . إن الموهبة المتكاملة التى تسيطر على أدواتها جيداً ، هى الأرضية التى ينشأ العمل الفنى ـ بدونها ـ فى فراغ .. فهل يمكن لبناء أن يقوم على فراغ ؟



ـ 5 ـ
يقول بولان " يعرف كل امرئ أن فى عصرنا نوعين من الأدب : الأدب الغث الذى هو حقاً غير جدير بالقراءة ، وهو المقروء غالباً ، ثم الأدب الجيد الذى لا يقرأ " ..
وكانت المعادلة الصعبة التى طرحت نفسها فى البداية ، هى أن أكتب ما أطمئن إليه ، وأن يطمئن القارئ إلى قيمة ما أكتب . وبالتحديد ، فقد كنت أحب أن أضع القصة فى الإطار الذى أتصوره ـ فى عصرنا ـ مناسباً لها ، وليس فى الإطار السلفية الثابتة . ولم يكن التجديد لمجرد التجديد هو هدفى فى الحقيقة ، بقدر ما كان يصدر عن نظرة يقينية أن دائرة الفنون الخلاقة مكتملة ، وأن الأسلوب الذى يعالج به الفنان لوحة ، ربما يفيد منه كاتب القصة القصيرة . والوسائل التكنيكية التى يلجأ إليها كاتب السيناريو السينمائى قد تحقق التأثير ذاته فى رؤية أدبية ، والهارمونى الذى يحرص عليه المؤلف الموسيقى هو ما يحقق للقصيدة الشعرية وحدتها العضوية . ولفرجينيا وولف مقولة شهيرة " فى ديسمبر 1910 ، أو حوالى هذا التاريخ ، تغيرت الطبيعة الإنسانية " . وكانت فرجينيا وولف تقصد بتغير الطبيعة الإنسانية ، تغير المعرفة بالطبيعة الإنسانية . أما التاريخ الذى كان بداية لذلك التغير ، فهو تاريخ إقامة معرض للرسامين بعد الانطباعيين فى لندن ، عرضت فيه أعمال لسيزان وفان جوخ وماتيس وبيكاسو ، كانت تمثل ثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والتى تقف فى موازاة المدرسة الطبيعية فى الرواية [ حددت فرجينيا وولف تاريخ الثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والطبيعية فى الرواية ، بأنه ديسمبر 1910 . مع ذلك ، فإن محاولات نجيب محفوظ ـ فى الأربعينيات من القرن العشرين ـ جاءت أشبه بثورة فى دنيا الرواية العربية ! ] . بلغ يقينى بصلة الفنون بعضها ببعض ، وضرورة تأثر كل فن بالفنون الأخرى ، أنى رفضت " قد " فى رأى سارتر بأن الفنون فى عصر واحد قد تتبادل التأثير فيما بينها . ذلك لأنى كنت أومن ـ ومازلت ـ بضرورة ـ إن لم يكن بحتمية ذلك التأثر والتأثير الذى تتبادله فنون العصر الواحد . وطبيعى أن الرفض ينسحب على قول ميشيل بوتور بأن الرواية جديدة انتهت " ومهمتها كانت إزالة الحواجز بين الفنون " . إنه رأى متناقض وغير منسجم ، لأن إزالة الحواجز بين الفنون ليست عملاً طارئاً ، ولا وقتياً ، ولا تعبيراً عن مودة موسمية . إن الأدب ـ على نحو ما ـ محور لبقية الفنون . نقطة جذب واتصال . إيقاع المفردات والتعبيرات يتسلل إلى الأذن ، فيحمل طبيعة الموسيقا ، ويطالع العين ، فيحمل طبيعة الفن التشكيلى . وقد استطاعت الرواية ـ عندما لجأت إلى فنيات الإبداعات الأخرى ، مثل السينما والمسرح والموسيقا وغيرها ـ أن تغادر عنق الزجاجة ، تجاوز الاستاتيكية إلى ديناميكية متجددة ، تستوعب الإبداعات الأخرى ، وتسيطر ـ وربما تفوقت ـ عليها . وبالطبع ، فإن فنية العمل هى التى تفرض اللغة ، وأسلوب التناول ، وإن كنت أحاول أن أفيد من لغة الشعر . ثمة روائى يقبل على روايته بروح " السيناريست " ، كأن يضع فى تصوره حركة مجسدة ، تسترسل ، أو تتصاعد ، أو تمضى إلى الأمام وإلى الوراء ، تماماً كالمونتاج السينمائى أذكرك بقصيدة إليوت الأرض الخراب التى تأثرت بالمونتاج السينمائى فى بداياته ] والسيناريو الأقرب إلى الاكتمال هو السيناريو الذى يقترب من الرواية الجيدة . لكن تميز الرواية فى مساحتها العريضة التى يصعب على أى فيلم ـ مهما يستغرق من وقت ـ أن يغطيها . والقصيدة المكتملة هى التى يتشكل بناؤها فى قالب قصصى .
والواقع أنى لم أتعمد طريقة الفلاش باك فى الأسوار . لكن الجلسة التى تشابه عشاء المسيح الأخير مع حوارييه ، كان لابد لها أن تعود إلى نقطة البداية . ولم تكن ـ فى الحقيقة ـ نقطة واحدة ، وإنما كانت عشرات النقاط ، البدايات ، التى يتشكل من مجموعها واتصالها واستمراريتها سدى الأسوار كرواية ..
الرواية هى أشد الأجناس الأدبية قدرة على احتواء بقية الأجناس من قصة وشعر وحوار درامى ، وهى الأشد قدرة على استيعاب الفنون الأخرى من مسرح وسينما وموسيقا وفن تشكيلى إلخ . بل إنها الأشد قدرة على احتواء الموروث الشعبى والأسطورة والاجتهاد الفلسفى والمشكلة الاجتماعية والواقعة التاريخية والتحليل النفسى ، بحيث تتشكل من ذلك كله ـ أو بعضه ـ ضفيرة العمل الروائى أخيراً ، فإن الرواية هى الأشد قدرة على احتواء الإنسانيات فى إطلاقها ، واستيعابها لصالح بنائها المضمونى والشكلى ، بما يجعل من الرواية فناً يعنى بالتواصل والمعرفة معاً . إن تعبير الرواية الجديدة يستفز التأمل ، ذلك لأنه سوف تولد دائماً رواية جديدة . إلى جانب أن الرواية الجديدة لا تعنى اتجاهاً محدداً لكل الأدباء . فاتجاه ميشيل بوتور ـ مثلاً ـ يختلف عن اتجاه ناتالى ساروت وألان روب جرييه ، واتجاه جرييه يختلف عن اتجاه ساروت وبوتور إلخ . ولعلى أوافق جرييه على قوله بأن تعبير الرواية الجديدة ليس دلالة على مدرسة " بل ولا جماعة معينة من كتاب يعملون بطريقة واحدة ، وإنما هى تسمية مناسبة تشمل كل من يبحثون عن أشكال جديدة للرواية ، قادرة على التعبير عن علاقات جديدة ، أو على خلق هذه العلاقات بين الإنسان والعالم . كل أولئك الذين عقدوا العزم على اختراع الإنسان . هؤلاء يعلمون أن التكرار المنظم للأشكال الفنية التى تنتمى إلى الماضى ، ليس أمراً غير معقول ، وغير مفيد ، فحسب ، بل إنه قد يصبح ضاراً إذ يغلق عيوننا عن موقفنا الحقيقى فى عالم الحاضر ، فيمنعنا آخر الأمر من بناء عالم الغد ، وإنسان الغد .
كانت الرواية جديدة دائماً ، وينبغى أن تظل كذلك . حقق جدة الرواية ـ كل فى زمانه ـ جوجول وبلزاك وتورجنيف وفلوبير وزولا وديكنز وديستويفسكى وبروست وفرجينيا وولف وكافكا وجويس وهمنجواى ومحفوظ وعشرات غيرهم ..
ـ 6 ـ
فى العاشر من ديسمبر 1973 قرأت إعلاناً للهيئة المصرية العامة للكتاب ، عن صدور أول مطبوعات " روايات مختارة " روايتى الأسوار ..
غمرنى شعور عميق بالارتياح .
1975 ـ نشر فى كتاب " محمد جبريل وعالمه القصصى " ـ 1984
التراث .. لماذا نستلهم منـه قصصنا؟
..................................

لما تكونت المدرسة الحديثة فى عام 1917 ، وأفرادها شباب الأدباء آنذاك : أحمد خيرى سعيد وحسين فوزى ومحمود عزمي ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وغيرهم .. كان أول ما دعت إليه ، رفض التراث العربى كمصدر للإلهام ، واعتبار النموذج الأوروبى هو المثل الذى يجب أن يتجه إليه الأدباء حين يبدعون أعمالهم ..
وقد يبدو غريباً أن تلك الدعوة رفعت شعاراً هو : " فلتحيا الأصالة ، فليحيا الإبداع . فليحيا التجديد والإصلاح ".. فالقسمان الأخيران من الشعار مفهومان ومطلوبان فى كل حين . أما القسم الأول - وهو التأكيد على إحياء الأصالة - فإنه يبدو غريباً ، وغير مفهوم ، فى ظل المناداة برفض التراث العربى ، وإن كان مما يغفر لذلك الشعار أنه ظهر فى وقت لم تكن الشخصية المصرية قد تعرفت إلى هويتها الحقيقية بعد .. فقد كانت موزعة بين عشرات التيارات والاجتهادات ، مابين إسلامية وفرعونية وبحر أوسطية وشرقية وعربية وغيرها ، فهى لم تسفر عن ملامحها العربية الواضحة إلاً فى الأربعينيات من هذا القرن ..
ومع أن يوسف إدريس لم يستلهم التراث فى قصصه القصيرة ، فإنه كان تعبيراً فعلياً عن الأصالة ، بمعنى أن أعماله كانت قصصاً مصرية خالصة ، دون اللجوء إلى التقليد ، وربما الاقتباس من الأعمال الأدبية الأوروبية .. وهو ماكان يفعله كُتّاب الفترة ، بدءاً بمحمود كامل ، مروراً بمحمود البدوى ويوسف جوهر وابراهيم الوردانى وأمين يوسف غراب وإحسان عبد القدوس وغيرهم .. ولعله من هنا جاء قول إدريس ، إنه اعتبر مهمته الأولى خلق أدب مصرى حقيقى ، بدلاً من التقليد الباهت للأدب الأوروبى المتأنق الذى افترش الساحة الأدبية المصرية فى أواخر الأربعينات ..
والحق أنه إذا كانت دعوة المدرسة الحديثة فى الاتجاه إلى المثل الأوروبى ، بهدف " تدمير الفاسد والرجعى ، وإقامة المفيد والضرورى " ، فإن الرفض المطلق للتراث العربى ، قد عكس تأثيراته السلبية القاسية فيما بعد ، من حيث التبعية للاتجاهات الأوروبية ، وفقدان الشخصية الفنية المتميزة ، بل والنظر إلى أعمالنا - مهما تفوقت - باعتبارها الأدنى بالقياس إلى الأعمال الفنية فى الغرب ..
ثمة رأى أنه " ليس للرواية العربية تراث ، وعلى كل كاتب روائى عربى أن يختار لنفسه وسيلة للتعبير ، دون أن يأنس إلى من يرشده فى ذلك ، ولابد - والحال كذلك - من أن يعتور عمله النقص ، ويشوبه الخطأ " ( العربى - مايو 1984 )
لذلك ، فإن الدعوة إلى الارتباط بالتراث ، إلى إحيائه ، وتحقيق التواصل معه فى أعمالنا الفنية المعاصرة ، هى دعوة صحيحة وإيجابية ، لأنها تمثل خطوة مؤكدة فى سبيل استرداد الذات ، وإعادة اكتشافها . فالأديب المصرى ليس مجرد مقلّد للأعمال الأدبية الغربية - مع بدهية الإفادة المحسوبة من فنياتها ، وأذكرك - فى المقابل - بإفادة الأدب الغربى من فنيات ألف ليلة وليلة - لكنه يجد إرهاصات أعماله ، وبداياته الفعلية ، فى تراث العرب ، وفى تراث المصريين القدامى كذلك .. ومن هنا تأتى إعادة النظر فى التراث الأدبى المصرى والعربى . حتى ذلك التراث الذى تصورناه خالياً من الفنون الأدبية المعاصرة ، كالمسرحية والرواية والقصة القصيرة
أما المحاولات التى شغلت بالتأكيد على وجود تلك الأجناس فى أدبنا القديم ، فإننا يجب أن نوليها ماتستحقه بالفعل من اهتمام وتقدير ..
وبالتأكيد ، فإن استلهام التراث هو إعادة اكتشاف للطاقات الفاعلة فيه . العودة إلى التراث لاتعنى الانكفاء على الماضى ، ولا اعتباره النموذج الأمثل الذى يصلح لكل زمان ومكان ، لكنها تعنى تَمثّل هذا التراث ، الاعتزاز به كثقافة قومية أصيلة ، بهدف الانطلاق إلى المستقبل .
ولعلى أضيف أن العودة إلى التراث ، باعتباره النموذج الصالح لكل زمان ومكان ، تعد - على نحو ما - هروباً من مواجهة المشكلات الملحة ، والآنّية .
أذكر قول أستاذنا شكرى عياد : " إن إحدى مشكلاتنا ، هى أننا لانملك حضارة الغرب ، ولكننا نعيش على أبوابها كشحاذين ، لأننا لانملك ، أو لانعتقد أننا نملك حضارة سواها . يقول أقوام : بلى ، إننا نملك هذه الحضارة . وأقول : أجل ، نملك ، ولكنها حضارة ماض فقط ، فنحن مغتربون ، إماّ فى ماضينا الذى نعجز عن وصله بالمستقبل ، وإماّ فى مستقبل ليس مستقبلنا "..
إن عقدة النقص ، إزاء كل مايبدعه الأجنبى ، هى مايجب أن نتخلص منه . والاجتهادات الأجنبية ليست مسلّمات ، ولاهى صحيحة فى إطلاقها ..
وإذا كان إطلاق الخيال مطلوباً فى الأعمال الأدبية ، فإن الإيمان بالركيزة الثقافية ، بالتراث ، بالتواصل ، بالبدايات التى تجد استمراراً لها - بصورة وبأخرى - فى أعمالنا الحالية . ذلك الإيمان هو ماينبغى أن نحرص عليه ، ونؤكده ، فى كل اجتهاداتنا ، سواء على مستوى النقد ، أو على مستوى الدراسات الأكاديمية بالجامعات ..
وكما يقول ابن خلدون ، فإن الماضى والحاضر والمستقبل " كُلّ متصل متفاعل ، يقود بعضه إلى بعض " . بل إن القول بالعودة إلى التراث قول خاطئ تماماً ، لأن التراث متواصل فى الحاضر ، وفى المستقبل ..
التراث ليس الماضى فقط ، لكنه الماضى والحاضر والمستقبل . وهو ليس مقتصراً على النصوص المكتوبة وحدها ، لكنه يمتد فيشمل التاريخ والعمارة والعادات والمعتقدات والقيم والتقاليد .
من الصعب أن نفهم التراث فى غيبة الواقع ، وفى غيبة استشراف المستقبل ..
أتفق مع دعوة أستاذنا زكى نجيب محمود لمحاولة " إيجاد تركيبة عضوية ، يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصرالراهن الذى نعيش فيه ، لنكون بهذه التركيبة العضوية عرباً ومعاصرين فى آن " ( تجديد الفكر العربى ص 14)
لقد تعددت مسميات الإفادة من التراث ، فهى توظيف التراث ، واستلهام التراث ، واستخدام التراث إلخ .. كما تعددت الدراسات التى تناقش استلهامات التراث فى الأعمال الإبداعية المعاصرة ، فى موازاة الأعمال الإبداعية التى تستلهم ذلك التراث ، بما يعنى أننا لانجدف فى فراغ ، ولانشكل ظلالاً لإبداعات الغرب ودراساته . بل إن عملية البحث عن الهوية ، وتأكيد الهوية ، هى التى فرضت قضايا من مثل : التراث والمعاصرة ، الحداثة والأصالة ، الذات والكونية ، إلخ ..
نحن نحاول أن يكون أدبنا فى عمومه تعبيراً عن الذات ، وليس تقليداً للآخرين . ليس فى مجرد التعبير عن مشكلاتنا أو همومنا الآنية ، والتعبير عن البيئة التى نحياها ، وإنما فى خصائص الأدب الذى نقدمه . وهى خصائص لاتقتصر على البعد المضمونى وحده ، بل تشكل عوالم مستقلة ، متميزة ، نستطيع أن نصنفها ، باعتبارها أدباً عربياً ، له امتداداته ، وتواصله ، وملامحه التى تتفق فى مسمياتها مع مايقدمه الآخرون ، لكنها تتفق فى تعبيرها عن فنان مختلف ، ينتمى إلى بيئة مختلفة ..
أدان جارثيا ماركيث أوروبا ، لأنها " لاتعى بأن ثمة لغات أخرى ، وأنماطاً شتى لشرح الواقع " . وأكد " أن قيمتنا الوحيدة هى أننا أصليون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لاكما يرغب الآخرون أن نكون " ..
المعنى نفسه يؤكده الكاتب العراقى عبد الرحمن مجيد الربيعى ، عندما يفسر الظهور - المفاجئ ! - لأديب كولومبيا جارثيا ماركيث : " لقد حصل ذلك لأن هذه الرواية - مائة عام من العزلة - قد حققت شخصيتها الخارقة والمتميزة ، دون التعكز على روايات أخرى " ..
لقد كان توظيف التراث اجتهاداً أساسياً فى القصة القصيرة والرواية المصرية تراث فرعونى ، وإسلامى ، وعربى . النظرة المتأملة للأعمال التى صدرت منذ أواخر القرن الماضى ، تبين عن محاولات الإفادة من التراث ، بدءاً بأعمال جرجى زيدان ، واستمراراً فى أعمال أحمد خيرى سعيد ومحمد فريد أبو حديد وطه حسين وتوفيق الحكيم وسعيد العريان وعبد الحميد السحار ونجيب محفوظ وعادل كامل وسعد مكاوى ، وغيرهم ، إلى أجيالنا الحالية ..
***
فما صلة التراث بالإصالة إذن ؟.. لماذا يتلازمان ، ليصبحا - فى تقدير البعض - شيئاً واحداً ؟!..
إن الفنان يتمثل التراث ، يحيله إلى ذاته ، فيصنع منه شيئاً جديداً . يقول زكريا إبراهيم : " إن العمل الأصيل يستبقى التراث ، ويلغيه فى آن واحد ، أو أنه يحتفظ بهذا التراث بواسطة العمل على تجاوزه " ( العربى / مارس 1975)
الأصالة لاتعنى مجرد العودة إلى القديم ، أو التراث . إنها ليست مجرد دعوة إلى إحياء الماضى ، أو كما يقول البعض " تأصيل الجديد فى تربة القديم " ، لكنها تعنى أن يكون الفنان أصيلاً ، أى يكون أصل نفسه ، فهو لايصدر إلاّ عنها فى كل مايعبّر ، بحيث تبدو الفروق الفردية بينه وبين الآخرين . بل إن أصالة كل فنان هى بمدى اختلافه عن سواه من المشتغلين بالإبداع ، بما يطلق عليه زكريا ابراهيم - بحق - " الحرية الإبداعية " . فالحرية تعنى استخدام القدرة الإبداعية إطلاقاً . تعنى - كما يقول أندريه جيد - ان ماكان فى استطاعة غيرك أن يفعله ، فلا تفعله ، وماكان فى استطاعة غيرك أن يقوله ، فلا تقله ، وماكان فى وسع غيرك أن يكتبه ، فلا تكتبه . إنما تعلق فى ذاتك بذلك العنصر الفريد الذى لايتوفر لدى أحد غيرك ، واخلق من نفسك - بصبر وأناة ، وبتعجل ولهفة - ذلك الموجود الوحيد الذى يصعب لأحد غيرك أن يقدم بديلاً عنه " .
إن الأصالة لاتكمن فى واقعة التمايز ، أو الاختلاف ، بقدر ماتكمن فى عملية الاستقلال الذاتى ، أو النشاط الإبداعى .
الأصالة - بمعنى الإفادة من القديم ، وتضفيره فى أعمال فنية ، تعبر عن الذات المبدعة - هى السبيل الوحيد لتجاوز الأجيال السابقة . لاتعنى الشذوذ ، أو الإغراب ، أو التفرد المطلق ، لكنها تعنى - بأبسط عبارة - الحرية الإبداعية التى تفيد من الآخرين ، تضيف إلى إبداعاتهم ، تهضمها ، وتفرزها ، بما يعبر عن ذات الفنان ، وعن البيئة التى يصدر عنها ، والعالم الذى ينتمى إليه ..
الفارق كبير بين الاستلهام ، التوظيف ، الاستخدام ، وبين التقليد ..
نحن نحاول توظيف التراث ، لكننا لانحاكيه إطلاقاً ، ولانقلده . وعلى حد تعبير جوتة ، فإن ماورثناه عن آبائنا وأجدادنا ، لابد له من أن يعود فنكسبه من جديد ، حتى يصبح ملكاً خاصاً لنا . بل إن الفنان عندما يأخذ عن القدامى " صورة " العمل الفنى ، فإن الشخصية الفنية للفنان تظل هى المسيطرة ، هى المرتسمة فى العمل الفنى . تظل هى الشخصية الأوضح ، لاتصبح ظلاً لشخصيات القدامى ..
نحن نقرأ التراث لنستلهمه ، لالنعبده . الشعراء الأوروبيون يقرأون هوميروس ، يستلهمون أعماله ، يتمثلون فيها البراءة والصفاء . وهذا هو الإطار الذى يتحدد فيه تعاملنا مع التراث ..
نحن لانستلهم التاريخ ولا السير والقص الشعبى ، بصورة مباشرة ، بل نفيد من أسلوب التشخيص التاريخى ، أو الأسطورى ، أو الملحمى . لانلجأ إلى صيغ ثابتة ، أو مكررة ، مما ورد فى أعمال سابقة ، لكننا نستخدم لغتنا الخاصة ، تكنيكنا الخاص ، بما يتواءم وطبيعة العصر الذى نحيا فيه ، ونعبر عنه . أذكرك بما كتبه طه حسين رداً على رسالة للرافعى : " أمّا أنا ، فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت - مضطراً - أن هذا الأسلوب الذى ربما راق أهل القرن الخامس والسادس للهجرة ، لايستطيع أن يروقنا فى العصر الحديث "
فى تقديرى ، أن الأعمال التى توظف التراث ، إنما تحاول - على نحو ما - تحقيق التواصل بين التراث والمعاصرة ، بين الماضى والحاضر ، رؤية الواقع من خلال أحداث التاريخ ..
أرفض العمل الذى تقيد حركته داخل سجن الزمن . توظيفى للواقعة التاريخية ، للشخصية التاريخية ، لايعنى أنى أحيا فى زمن غير الزمن الذى أحيا فيه . المادة التراثية تؤدى - أحياناً - دور القناع الذى يستنطقه النص نيابة عن الحاضر . قد لايوظف التراث شخصية معينة ، أو بطلاً من أبطال السير الشعبية ، يحملها بعض الهموم المعاصرة ، وإنما هو يفيد من الملاحم والسير - بشكل غير مباشر - فى صياغة شخصيات ليست موجودة فى التاريخ ، أو فى السير والملاحم ، يقدمها على أنها شخصيات حقيقية ..
وهذا مافعلته - على سبيل المثال - فى روايتى قلعة الجبل ..
إن عائشة ، والسلطان خليل بن الحاج أحمد ، والنائب الكافل ، وخالد عمار ، وعبد الرحمن القفاص ، وغيرهم من شخصيات الرواية ، لاوجود لهم فى الواقع التاريخى ، وإن حاولت ألاّ يكونوا غرباء عن الفترة التاريخية التى تناولتها ، وهى فترة حكم المماليك الجراكسة ، أو البرجية . بالنسبة للواقعة ، أو الوقائع ، فليس هدفى أن أحول التاريخ إلى أعمال إبداعية ، إلى روايات وقصص قصيرة ، لكننى أحاول أن أفيد من التاريخ فى الحديث عن الحاضر . أكره كلمة " الإسقاط " . أفضل القول - وهذا ماأحاوله بالفعل - استلهام التاريخ ، توظيفه ، اعتباره مرجعاً حضارياً ، دلالات للحاضر ، والمستقبل ..
قد ينتمى السلطان خليل بن الحاج احمد - تاريخياً - إلى سلاطين المماليك البرجية ، لكن سلطان قلعة الجبل هو - فى الحقيقة - سلطان آخر ، نستطيع أن نتعرف إليه فى سلاطين عصرنا الحالى ..
أما نجاة عائشة من كل المخاطر التى أحاطها بها السلطان خليل ، فهى تذكرنا بالحماية الإلهية التى ترافق البطل ، أو البطلة ، فى الحكاية الشعبية . إنها حماية ترافق البطل فيما يواجهه من مخاطر ، فتمنع حدوث الأذى له ..
والمثل يتكرر - بصورة وبأخرى - فى روايات : إمام آخر الزمان ، من أوراق أبى الطيب المتنبى ، اعترافات سيد القرية ، زهرة الصباح ، وغيرها ..
***
لأستاذنا نجيب محفوظ مقولة مهمة : " مانريده للرواية العربية الآن ،هو أن تكون لها شخصية مميزة أصيلة . أنا عربى لا لبس فى ذلك ، وأريد أن نصل إلى رواية ذات شخصية عربية مميزة . كل مانستطيع أن نفعله الآن ، هو أننا عندما نجد أن موضوعنا يحتاج إلى أسلوب استعمله كافكا مثلاً ، أن نستعمل هذا الأسلوب بصدق ، وأن ندخل عليه من ذاتيتنا ، بحيث أن القارئ الذكى عندما يقرأه يقول : هذا كافكا صحيح ، لكنه تطور . مانريده هو تطور كاسح ، فى هذا المجال "..
أعيب تلك المحاولات التى استهدفت بعث القالب القصصى الروائى ، لكنها عادت كما يقول محمد عابد الجابرى - " لتمتح من معين التراث لا لتطويره " ( الخطاب العربى المعاصر )
وفى المقابل ، فإنى أعيب من يجعلون الحداثة الغربية - وحدها - هدياً لهم ، يتبعونها ، يقلدونها . إنهم لاأكثر من نقلة . وأذكر أن محمود صبح - وهومن علماء الأندلسيات ، ويشغل وظيفة أستاذ الأدب العربى بجامعة مدريد المركزية روى أن طلبته أعجبتهم أبيات من الشعر العربى القديم ، وإن غابت معانيها إلى حد ما - عن أذهانهم ، لأن ذلك الشعر هو الأكثر تعبيراً عن طبيعة العربى فى محيطه ، فى حين أن هؤلاء الطلاب رفضوا معظم الشعر العربى الحديث المترجم للأسبانية . البياتى مثلاً ، قالوا إن مايكتبه ليس شعراً عربياً ، لكنه مزيج من ناظم حكمت ونيرودا ورفائيل البرتى . إنه شعر غير أصيل !..( الأنباء 22/11/1986)
التراث هو حلقات أولى فى السلسلة التى نمثل الآن حلقتها الأخيرة ، لكننا - بالقطع -لسنا آخر حلقاتها ..
نحن نقرأ تراثنا ونستوعبه ، ونقرأ تراث الغرب ونستوعبه ، لكننا نحرص أن ترتكز إبداعاتنا - فى الدرجة الأولى - إلى " نحن " .. إلى تراثنا فى الدين والعلم والسياسة والاقتصاد والآداب والفنون ، وإلى قيمنا ومثلنا ..
هذا هو الإبداع الخاص بنا ، الذى ينبغى ألاّ نجاوز إطاره المحدد ، حتى لايجرفنا التقليد ، فنحاكى الغراب حين قلد مشية الطاووس ، وحتى لاننكفئ على الماضى ، نجتره ، ونرفض الجديد والإضافة ، فنرتمى - بإرادتنا - فى حضن الجمود "..
نحن نستلهم التراث ، ونحرص - فى الوقت نفسه - على الانفتاح على تقنيات الرواية الحديثة ..
أشير إلى تأكيد الكاتب الروسى سوفرونوف بأنه إذا وضع الكاتب عيناً على تراث بلاده ، فإن عليه أن يضع العين الأخرى على العالم الذى يتحرك من حوله ..
نحن نتمثل التراث ، نمزجه بثقافتنا وخبراتنا ورؤيتنا للأمور ، ثم نحاول أن نصنع من ذلك كله ، شيئاً جديداً . لانسعى إلى بعث التراث ، وإنما نحاول استنطاقه ، استلهامه ، توظيفه . قل ماشئت من مسميات ، لكن التراث يظل فى النهاية تراثاً ، والمعاصر يجب أن يكون تعبيراً عن الفترة التى صدر فيها ، وصدر لها ..
التجديد ، الحداثة ، مسألة مطلوبة لاستمرار أى فن ، لعدم جموده أو ذوائه . لكى يواصل الفن حياته ، فإن عليه أن يجدد نفسه بمحاولات ، قد ينتسب بعضها إلى الإخفاق ، أو الزيف ، لكن بعضها الآخر يضيف ، ويثرى ، ويهب الاستمرار ..
نحن - فى توظيفنا للتراث - نغربله بداية ، نفرزه ، ننقيه ، ثم نتجاوز ذلك كله ، فنثرى معطياتنا بنصوص غير مقلِّدة ، وقادرة على الاجتهاد ..
إن من حق ـ وواجب ـ كل جيل ، أن تكون له تجربته الخاصة ، المميزة ..
ويقول أستاذنا شكرى عياد إن " النص العربى المعاصر يمكنه ـ بل يجب عليه ـ أن يجرب تجاربه الخاصة ، فلا يكون التجريب دائماً محاكاة لتجريب الغرب "..
علاقتنا بالغرب علاقة جدلية ، وليست علاقة تبعية - أو هذا هو المفروض ..
وإذا كنا مطالبين بعدم الانكفاء على الذات ، والاكتفاء بما خلفه الأجداد من موروث ثقافى وحضارى ، فإننا مطالبون - فى الوقت نفسه - بألاّ نعتبر كل مايبدعه الغرب مثلاً يجب أن نحتذيه ..
العلاقة الجدلية تفرض الحوار ، والموافقة ، والرفض ، وإبداء الرأى ، واتخاذ الموقف الذى يعبر عن خصوصية حياتنا ، عن عاداتنا وتقاليدنا ، ووجوب اتصال ماضينا بحاضرنا ، وعن استشرافنا للمستقبل ..
من الخطأ أن نرتمى فى حضن التراث . كما أنه من الخطأ أن نرتمى فى حضن الثقافة الغربية ..
نحن نفيد من التراث فى تحقيق التواصل ، ونفيد من الثقافة الغربية فى تحقيق المعاصرة ، ونفيد من التراث والثقافة الغربية فى آن معاً ، فى تحقيق شخصيتنا المتفردة ، فى صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا ، وثقافتنا الخاصة عموماً ..
أكرر : من الخطأ أن نكتفى بإحياء تراثنا القديم ، باستلهامه ، أو توظيفه ، أو بالنقل عن الغرب ..
الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن . لانكتفى بالتلقى ، بالنقل ، أو التلخيص ، أو حتى الاستلهام ، وإنما يجب أن نضيف إبداعنا الآنى ، وفكرنا الآنى ، وتعبيرنا الآنى عن صورة حياتنا المعاصرة .

تذييل لمجموعة حكايات وهوامش من حياة المبتلى ـ 1996






الحداثة .. وما بعدها
........................

التعريف اللغوى للحداثة Modernity : حدث الشىء ، يحدث حدوثاً ، وحداثة وإحداث فهو محدث ، وكذلك استحدث . والحدوث كون شئ لم يكن ومحدثات الأمور ، ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء ( لسان العرب ـ 2 / 463 ) .
يرجع البعض استخدام تعبير الحداثة ـ للمرة الأولى ـ إلى النقد الفرنسى ـ بودلير تحديداً ـ فى عام 1859 . وقد أطلق على الاتجاهات الحديثة فى الفن التشكيلى الفرنسى .
وإذا كانت الحداثة كما تصورها اجتهادات نقدية " تقاليد تناقض نفسها ، ولحظة تدمير للشروط والقواعد السائدة ، وتخريب عميق لها " [ يذهب رولان بارت إلى أن الحداثة تبدأ بالبحث عن أدب مستحيل ] ، فإن الحداثة لا تعنى المستقبل فقط . هذه نظرة خاطئة . إن تعريف الحداثة يمكن أن يطلق على كافة تجلّيات الإبداع فى كل العصور ، والتى قامت بالدور التدميرى والثورى للمستقر وتجاوزاته ، فشعر المتنبى وابن الرومى ، ومخاطبات النفرى ، وفلسفة ابن عربى ، وحكايات ألف ليلة ، وأعمال رامبو وديستويفسكى وكافكا وهمنجواى ومحفوظ وإدريس وماركيث .. كلها أعمال حداثية طمحت أن تقدم شيئاً مغايراً وغير متشابه بغية خلق إبداعى جديد . بل إن بودلير يصف الحداثة بأنها " ما هو انتقالى ، عابر ، عارض . هى نصف الفن الذى يتمثل نصفه الآخر فيما هو أبدى لا يتغير " .
الحداثة ـ فى تعريف جيانى فاتيمو ـ " حالة وتوجه فكرى تسيطر عليهما فكرة رئيسة مضمونها أن تاريخ تطور الفكر الإنسانى يمثل عملية استنارة مطردة ، تتنامى وتسعى نحو الامتلاك الكامل والمتجدد ـ عبر التفسير ـ لأسس الفكر وقواعده " . والحداثة تعنى أن العمل الفنى يمتلك هويته الخاصة التى يحددها بنفسه . ربما لهذا اعتبر البعض ثلاثى جيمس جويس ومارسيل بروست وفرانز كافكا هم بداية الحداثة . ومن هنا يأتى قول رامبو : " يجب أن نكون مطلقى الحداثة " ..
والحداثة تعنى أحد مستويين : أولهما هو الاستخدامات اللغوية ، بكل ما تحمله من دلالات . أما المستوى الثانى فهو فلسفة الحياة عند الفنان ، نظرته الشاملة من الكون والعالم والمجتمع والإنسان وعلم الجمال والموروث الخ ..
الحداثة ـ بأبسط عبارة ـ هى التغيّر المستمر ، والحتمى ، ثم التقدم الدائم ، والمتوقع . ومع ذلك ، فإنها لا تعنى رفض الماضى ، أو الانسلاخ عنه ، إنما هى التواصل ، ارتباط الجذور بالأفرع والأغصان .
***
إن النظريات الفنية والأدبية والنقدية تتلاحق من أواسط القرن العشرين . عشرات النظريات تتعارض وتتداخل وتتشابك وتتقاطع ، فتصيب المبدع ـ فضلاً عن المتلقى العادى ـ بحيرة صادمة ..
كان رفض البنيوية [ تينيانوف هو أول من استخدم لفظة " بنية " فى مطالع العشرينيات ، ثم استخدم رومان ياكبسون كلمة " البنيوية " ـ لأول مرة ـ فى 1929 ] ثم التفكيك ، للمذاهب النقدية السابقة والمعاصرة لغياب المعنى .. لكن البنيوية فشلت فى تحقيق المعنى ، بينما أفلحت فى تحقيق اللامعنى . بدا الرفض لذاته إذن دون تقديم البديل أو المغاير . ثم تقلصت النظرية البنيوية احتلت مساحات من أرضها نظريات ما بعد البنيوية ، وما بعد الحداثة .. مضت البنيوية إلى أفق الغرب منذ العام 1966 ، وتولى جاك دريدا فى محاضرة بجامعة " جونز هوبكنز " خطوات التغسيل والدفن وإحلال التفكيك بديلاً ( المرآة المحدبة ص 15 ) ، ولكن المشكلة عند التفكيكيين إنهم لا يعترفون بوجود النص أصلاً !..
***
ما بعد الحداثة Postmodernity هى موضة هذه الأيام فى حياتنا الثقافية . سبقتها موضات الحداثة والبنيوية والأسلوبية وعبر النوعية والحساسية الجديدة وغيرها من المسميات التى ربما أضافت إلى حصيلتنا المعرفية ، لكنها تضع النقد فى إطار التنظير ، دون أن يجد ذلك الإطار تطبيقاً فعلياً له فى إبداعات " بعد حداثية " !
تقول نك كاى إن " الحداثة هى الأرض التى تقف عليها ما بعد الحداثة ، وتشتبك معها فى جدال ونزاع دائم ، وهى الأرض التى تمكّنها أيضاً من الدخول فى حوار وجدل مع نفسها . ومن هذا المنظور تتضح مشكلة تحديد الملامح المميزة لفن تيار ما بعد الحداثة . وهى مشكلة تتلخص فى أن التوصل إلى معنى وخصائص ما بعد الحداثة لا يتأتى إلاّ عن طريق الخوض فى معانى وخصائص الحداثة والحداثية " ( ما بعد الحداثية والفنون الأدبية ـ المقدمة ) .
والحق أن المذاهب الفنية فى الغرب هى إفرازات لأحداث مهمة ، وانعطافات فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ..
المذاهب المعاصرة فى الغرب لم تظهر عفواً ولا مصادفة ، إنما أملتها طبيعة المرحلة التى حاول المبدعون أن يعبروا عنها ، وحاول النقاد مناقشتها بالتالى فى ضوء التوجه الإبداعى المغاير . وبطبيعة الحال ، فإن الجديد لابد أن يصبح قديماً . حتى أعمال فرجينيا وولف التى اعتبرت بداية للرواية الجديدة ، أصبحت ـ فى رأى ناتالى ساروت ـ فطرية ساذجة ، كما تحولت أعمال جويس وبروست إلى مجرد شواهد تمثل زمناً ماضياً !
ثمة تعريف لما بعد الحداثة بأنها التشكيك فى كل النظريات أو القصص الشارحة ما بعد الحداثة ـ كما يقول ليوتار ـ لا تتحقق إلاّ فى صورة محاولة لتدمير كل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها ، وفى صورة تشكك جذرى فى كل ما هو معروف ومألوف وثورة عليه . إنها حالة من عدم الاستقرار الدائم . وعلى سبيل المثال ، فإن فنون ما بعد الحداثة تقيم علاقة مركبة جديدة مع الماضى ، وتتخطى كل التصنيفات الفنية ، وتقاوم التقنين والتحديد ، وتكسر القواعد . وتصف نك كاى ما بعد الحداثة ـ فى الفن والأدب والمسرح ـ بأنها تقترن بمحاولات التكسير والقلقلة التى تدفعها الرغبة فى تحدى قدرة عناصر العمل الفنى ما بعد الحداثى ، باعتباره شيئاً يحدث بصورة دائمة دون نهاية .إنها ـ بتعبير آخر ـ سعى إلى مراوغة القواعد وتجاوزها ، أو تدميرها ، وخرق الحدود المتفق عليها ، بمعنى رفض كل التصنيفات ، وخلخلة فرضيات قواعد الفن وقواعده ، وبمعنى تقويض للسعى نحو تحقيق الاكتمال ، والاكتفاء الذاتى للعمل الفنى . إنها تتبنى مبدأى التشظى والتنافر ، وتطرح من خلالهما أسلوباً ينأى عن النموذج المثالى القديم للعمل الفنى المتكامل ، الذى يفقد الكثير من قيمته لو أنه أضيف إليه ، أو حذف منه ..
وإذا كانت الحداثة ترتبط بالحركة الاجتماعية الشاملة التى استهدفت الخروج من مجتمعات العصور الوسطى ، والانتقال إلى مجتمعات تدين بالرأسمالية وما رافقها من ميل إلى التجديد والتحديث ، فإن ما بعد الحداثة تجد بدايتها فى الولايات المتحدة . وبالتحديد منذ انتصارات الحرب العالمية الثانية ، وما تلاها من محاولات للهيمنة ، فضلاً عن أنها التقت فى مرحلة لاحقة باتجاهات ما بعد التعبيرية الأوروبية ، وهى كذلك تعبير عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى طرأت على المجتمع الأمريكى ، ورفعتها الرأسمالية المتعددة القومية إلى مرتبة نموذج مثالى يجرى تعميمه على مستوى العالم كله ..
واللافت أن اهتمام مثقفينا بالبنيوية قد بدأ عندما بدأ اهتمام مثقفى الغرب بها يقل ويذوى ، بل إنها أصبحت ـ فى أذهان النقد الغربى ـ تنتمى إلى الماضى ..
***
(يتبع)
إن التخلف الذى نرسف فى إساره يجعل من الحداثة ضرورة .. ولكن أى حداثة ؟..
هذا هو السؤال ..
الملاحظ أن البعض من فاقدى الموهبة يلجأون إلى أواخر المذاهب الفنية ، دون أن تشغلهم الظروف الموضوعية التى أثمرت ذلك ، وهى ظروف لها إرهاصاتها وبواعثها ، بحيث تشكل النتيجة التى كان المذهب الفنى محصلة لها . أخشى أن أقول إن العديد من تلك الكتابات يحاول ـ ولو بحسن نية ـ طمس هويتنا ، يبعد بإبداعاتنا عن محاولات التأصيل وتأكيد الانتماء والجذور .
الثابت ـ تاريخياً ـ أن الحداثة الأوروبية ـ عندما ازدهرت فى الأعوام الأولى من القرن العشرين ـ إنما تحقق ذلك عند التقاطع بين نظام حاكم شبه أرستقراطى ، واقتصاد رأسمالى شبه مصنع ، وحركة عالية شبه ناشئة ، أو شبه متمردة . فأين الواقع العربى ـ باختلاف الوقت وتباين الظروف ـ فى هذه الصورة ؟
إن لحظتنا الحضارية تختلف عن اللحظة التى يحياها الغرب . دعك من التعبيرات المخدرة مثل القول إن العالم قرية صغيرة .. فثمة مجتمعات منتجة ، وأخرى مستهلكة ، وثمة من يعانى مشكلات الترف والديمقراطية والحرية ، ومن يعانى مشكلات الفقر وحق الإنسان فى المقومات الدنيا للحياة ..
أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون هدف جميل ، لكن اللحظة الحضارية أشبه بنظرية الأوانى المستطرقة ، والفن ينبغى أن يعبر عن المجتمع الذى صدر عنه ، وليس عن مجتمعات الآخرين . لا أتصور أن العمل الإبداعى يمكن مناقشته بعيداً عن بيئته ، عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى صدر عنها ، ونشأ فيها ..
ولا شك أن الحداثة الغربية تنطلق من قلب تراث حضارى وتاريخى وفلسفى وإبداعى ، له خصوصيته المؤكدة . إنها نتاج واقع مغاير للواقع الذى يجدر بالحداثة العربية أن تنطلق منه . وعلى سبيل المثال ، فإن البنيويين ، يفرضون على النصوص الإبداعية " نظاماً ليس نابعاً منها ، ولا كامناً فيها ، بل هو سابق ومسقط عليها ، وأنه يحتمى بالتجريد والغموض لعجزه عن السيطرة على المادة " ( فصول ـ فبراير 1991 ) . حتى المفاهيم والمصطلحات التى تطالعنا فى كتابات الحداثة العربية ، تنتسب إلى ثقافة أخرى ، مغايرة ، وهو ما يفضى ـ بالضرورة ـ إلى حدوث انفصام بين المبدع والنص الذى يقرأه ..
ومع أن المناخ الثقافى فى كل من أمريكا وأوروبا أقرب منه إلى المناخ الثقافى بين كل منهما ، وبين الوطن العربى ، فإن الأمريكية إديث كروزويل ذهبت إلى أنه من الصعب على البنيوية أن تجد فى أمريكا نفس الاستجابة التى لقيتها فى فرنسا ، وذلك لاختلاف النظرة إلى التاريخ ، وإلى المستقبل . وفى المقابل ، فقد وجدت التفكيكية فى الثقافة الأمريكية تربة صالحة لاقترابها من المزاج النفسى الأمريكى أكثر من اقترابها من المزاج النفسى الفرنسى ..
نحن نلجأ ـ فى خطابنا الأدبى ـ ربما دون تبصر ـ إلى المفردات والتعبيرات المستوردة . لا نحاول التعبير بما يعكس خصوصية لغتنا وثقافتنا وفكرنا . إن المذاهب الأدبية والنقدية الأوروبية هى إفراز لإبداع الغرب . ولعلنا فى حاجة إلى الحداثة التى تجاوز التخلف ، وتسعى إلى الإضافة والتطوير والتقدم فى كل الآفاق ، وهى حداثة يجب أن تصدر عن ظروفنا ، تنبع منها . لا تحاكى ، ولا تقلد ، ولا تقتات على موائد الآخرين ، ولا تعبر عن واقع ليس هو الواقع الذى نحياه ..
ولعلى أزعم أن أعمالى التى توظف التراث قد تنتسب إلى ما بعد الحداثة من حيث إن ما بعد الحداثة تسعى " عن وعى إلى إعادة طرح صور من الماضى ، باعتباره كياناً مبهماً ، لا يمكننا التعرف عليه يقيناً ، ولا نملك إلاّ أن نعيد بناءه المرة تلو الأخرى من خلال الجدل المستمر بين العديد من الصور المعاصرة التى تحيل إليه ، وتسعى إلى تجسيده ، باعتباره فكرة مجردة " ( ما بعد الحداثية والفنون الأدائية ـ 26 ، 27 )
***
أعرف أن مدّعى الحداثة العرب يوجهون الاتهام إلى كل من يختلف معهم بالجهل والتخلف ، لكن الاستيراد قد يصح فيما يصعب على قدراتنا أن تنتجه ـ التكنولوجيا مثلاً ـ فى حين أنه من غير المتصور أن نستورد الفكر والإبداع أيضاً . الأدب تعبير عن خصوصية فى التاريخ ، وأنماط التفكير ، واللحظة المعاشة ، بالإضافة إلى أن متلقى الأدب ـ فى الدرجة الأولى ـ هو الوجدان ..
إن البنيوية والتفكيكية وغيرها من معطيات الحداثة ، ليست إلاّ مرحلة أخيرة ـ وليست نهائية ـ للفكر الفلسفى فى الغرب ، متداخلاً مع الإبداع الذى يحاول أن يعبر عن فلسفة حياة . إنها نتاج للحداثة الغربية بكل ما تنطوى عليه من ظروف وملابسات . فإذا تم نقلها إلى العربية فى عزلة عن تلك الظروف ، افتقدت شرعية الأبوة والبنوة ، وعانت غياب النسب !
المؤكد أن عمقى الحضارى يمتد بضع آلاف من السنين ، بينما العمق الحضارى للغرب يمتد بضع مئات من السنين ، مما يفرض مغايرة حادة ، والتأكيد على عدم النقل عن الحداثة الغربية ، يعنى ـ ببساطة ـ إنشاء حداثة عربية ، وهو ما لم يتبد ـ حتى الآن ـ فى الأفق القريب ، أو البعيد ..
ثمة بعد آخر : إذا كان من حق الفنان الموهوب أن يستشرف فى إبداعه أفقاً أوسع ، فإن من واجب الذين يعانون غياب المعرفة والموهبة ألا يحاولوا القفز دون أن تسعفهم قدراتهم ، والبديهى أن طالب الفن التشكيلى يبدأ بدراسة التشريح قبل أن يدرس الكلاسيكية وينتهى بالتجريبية والسوريالية وغيرها من المذاهب الحديثة ..
والحق أنى أنظر إلى العمل الإبداعى من وجهة نظر تناقش وتحلل وتفيد من القراءات والخبرات والآراء ، فلا تأخذ إلاّ بما ترى أنه أقرب إلى فهمى وتفهمى ، وإلى صلتى بالعملية الإبداعية ..
أصارحك بأنى أقف ـ فى الأغلب ـ موقف المتحير أمام الخطوط المتوازية والمتقاطعة والمائلة ، والزوايا الحادة والمنفرجة ، والدوائر ، والمستطيلات ، والمثلثات ، والمعادلات الجبرية ، والشفرات ، والطلاسم . وتشتد بى الحيرة حين تتقابل " القطيعة المعرفية " بعدم معاداة التقاليد بمعناها الإيجابى ، وإنما إقامة علاقة حوارية معها . وهو قول الحداثيين أيضاً . بل إنى حاولت أن أفيد من إضاءة النقد البنيوى لما قرأته وقرأه نقاد البنيوية من أعمال إبداعية ، فدفعنى شحوب الإضاءة إلى الاكتفاء باجتهاد شخصى ، يستند ـ فى كل الأحوال ـ إلى قراءات وخبرات ، ومتابعة للمدارس والمذاهب الأدبية والنقدية . أفادتنى ـ بلا جدال ـ فى تأليف كتابى مصر فى قصص كتابها المعاصرين " الذى نلت به ـ ولست ناقداً ـ جائزة الدولة فى النقد !..
إن نقاد الحداثة يسعون إلى " تأصيل دراسات تحاول تطوير منهج علمى فى النقد ، يبتعد عن الانطباعية التى تغرق الدراسات النقدية على وجه العموم " ..
كلام جميل كما ترى ، وينشده الحداثيون وغير الحداثيين . ينشده من يجد فى النقد محاولة لإضاءة النص ، وليس التعتيم عليه ، لتحليله ، وليس الربط بين الغلاف ونوعية الخطوط والأبناط ، واعتبارها جزءاً مكملاً للعمل الإبداعى ، فى حين أنها رميات بغير رام . إنها تخضع للاجتهاد الشخصى الذى لا صلة له بالنص ، سواء من الفنان التشكيلى الذى يصمم الغلاف ، أو فنّى الكومبيوتر الذى تختلف نظرته إلى العمل ـ بالتأكيد ـ عن نظرة المبدع .
أعجب الأمور عندما يحاول الناقد أن يستنطق الإبداع بما ليس فيه . إن التعبير عن فلسفة الحياة هم للمبدع ، مثلما أن البحث عن فلسفة الحياة هم للناقد ..
المذاهب الفنية ليست موضة ، لكنها تعبير عن موهبة ومعرفة وفلسفة حياة . إن الوجه العربى من الحداثة يجب أن تكون له ملامحه المميزة . وكما أن المواطن الأوروبى له ملامحه التى تختلف ـ بدرجة وبأخرى ـ عن ملامح المواطن العربى ، فإن هذا الاختلاف قائم أيضاً ـ بدرجة وبأخرى ـ فى القيم والمثل والعادات والتقاليد ، والثقافة فى إطلاقها . ولعلى غير مغرم بالتسميات : الحداثة ، وما بعد الحداثة ، وما يتصل بهما من تسميات البنيوية والتفكيكية والأسلوبية وغيرها . أميل إلى التجريب بعامة . أرفض المحاكاة أو التقليد ، وأحاول الخصوصية . الحداثة العربية كما يصفها إلياس خورى ـ الأدق أن هذا هو ما يأمله ـ " محاولة عربية داخل مبنى ثقافى له خصوصياته التاريخية ، ويعيش مشكلات نهضته " ، فالحداثة العربية إذن حداثة نهضوية . إنها محاولة بحث عن شرعية المستقبل ( الذاكرة المفقودة ص 25 )
***
من السذاجة نقل المصطلحات النقدية الجديدة ، والتعامل بها ، فى عزلة عن خلفيتها الثقافية ، عن التطورات السياسية والفلسفية والاجتماعية التى انبثقت منها ، ونشأت فيها . وإذا لم يكن بوسع الحركة النقدية ـ لاعتبارات ليس هذا مجالها ـ أن تشكل نظرية نقدية عربية ، فإن ما نتطلع إليه فى المدى القريب ، أن تقدم اجتهادات نقدية عربية ، تجعل الإبداعات العربية ـ فى إطار الظروف العربية ـ محوراً لها . وبتعبير محدد ، فإننا فى حاجة إلى اجتهادات نقدية ، تصدر عن أعمالنا الإبداعية ، فهى اجتهادات عربية فى الدرجة الأولى .
1999





الكاتب .. والقارئ
......................

نحن نكتب على أمل أن نجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة علينا
أندريه جيد


إذا كان الفن يكمن فى العلاقة بين الدوافع الكامنة وراء الإبداع الفنى وبين المتلقى لهذا الإبداع ، فإن الكثير من الشخصيات الروائية ـ والقول لأندور لايتل ـ يجيئون إلى الحياة عبر صفحات العمل الإبداعى بقوة الإلهام اللاشعورى المتحكم فى مسيرة الكتابة ، دون إعداد سابق قد يسهل على القارئ تبينه . أذكر رأى أستاذنا حسين فوزى بأن " الحاسة الفنية لا يكاد يخلو منها إنسان ، وإن تفاوتت قدرات الناس على الانفعال بالفن ، واختلفت قيمة الأعمال الفنية ذاتها بالنسبة لمقدرة الناس على التذوق ، ووعيهم الثقافى " ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . لذلك فإن على القارئ أن يستدعى مخزونه المعرفى من قراءات وتجارب الذات وتجارب الآخرين ، بل وإعمال الخيال ليصل ما قد يحمله العمل الإبداعى من دلالات ..
الفنون هى أعلى شكل من أشكال النشاط التوصيلى . والعلاقة بين المبدع والمتلقى ـ فى تصورى ـ أشبه بالعلاقة بين جهازى الإرسال والاستقبال ، وعلى المبدع أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، بمعنى أن يطمئن إلى صدقه الفنى ، لا يتعمد الغموض ، وإنما يترك العمل يكتب نفسه ، مستفيداً من موهبة المبدع ، ومن خبراته وقراءاته وتجاربه .. وفى المقابل ، فإنه على المتلقى أن يبذل جهداً مكافئاً لما بذله المبدع فى فنه ، أن يشارك المبدع مغامرة اكتشافه وإبداعه ، لا يكتفى بالتلقى السلبى أو السطحى الذى ينشد المتعة المجانية ، وإنما يحاول تذوق العمل الإبداعى ، وتبين دلالاته ، وتلمس النشوة الروحية العميقة التى يهبها لمتلقيه . بل إن عملية القراءة تختلف باختلاف لحظات التلقى . فالذهن الرائق ، والحالة المسترخية المنبسطة ، أو الموافقة التى قد تكون مسبقة لما يحمله النص من دلالات ، تتلقى النص بصورة مغايرة للذهن المكدود ، أو الحالة المزاجية المتعكّرة ، أو الرفض الذى قد يكون مسبقاً لما يحمله النص .
ولعلى أوافق سارتر على أن القراءة عملية خلق من القارئ بتوجيه من الفنان . ثمة نصوص تهبنى نفسها منذ السطر الأول ، تهبنى صداقتها ، وخطابها التحدثى ، وحميميتها . تنفتح أمام القارئ ، فيسهل عليه المتابعة والفهم . قد يكتفى بدلالة ما ، وقد يعيد القراءة ، فيخرج بدلالات أخرى . وثمة نصوص تنغلق أمام قارئها ، فهو يجد صعوبة فى تلقّيها ، لا يصل ـ من خلال المتابعة ومحاولة الفهم ـ إلى مستوى دلالى ، ومن ثم فهو يضطر ـ لتحقق المتابعة ـ إلى تحميل النص دلالات قد لا يحتملها ، أو قد يمتنع عن مواصلة التلقى .
القول بأن موت المؤلف سيجعل القارئ على الحياد ، يحتاج إلى مراجعة ، لأن عملية التلقى ـ بافتراض موت المؤلف ـ لا شأن لها بشخصية المتلقى نفسه . المتلقى شخصية مقابلة ، مغايرة ، لها خصائصها التى تحسن التلقى ، أو العكس . أنا أقبل على قراءة العمل الأدبى بمخزون معرفى وخبرات ، تمثل ـ فى مجموعها ـ الشخصية المتلقية التى هى أنا . المتلقى ليس شخصاً مطلقاً ، ليس مجرد فهم واحد ، متكرر ، فى تلقى العمل الأدبى ، لكنه شخص ، فرد ، يختلف فى ظروفه وبيئته وثقافته وتجاربه عن بقية القراء ، وباختلاف ذلك كله تختلف درجة التلقى بين قارئ وآخر ..
ربما وجد الفنان فى دراسة نقدية لأحد أعماله دلالات لم تكن فى باله عندما شرع فى الكتابة ، بل ولا حين دفع بالعمل إلى المطبعة . لم يكن يقصد المعنى الذى تحدث به القارئ / الناقد إطلاقاً . وللدكتور عبد الله الغذامى مثل مهم ، هو أن المتنبى كان يقول إن ابن جنى أعرف بشعره منه ، أى من المتنبى . وكانت اجتهادات ابن جنى فى شعر المتنبى ، تأويلاً وتفسيراً ، رائدة وغير مسبوقة ، فضلاً عن امتيازها المؤكد المستند إلى ثقافة موسوعية . لكن الأجيال توالت ، وقدمت تأويلات جديدة لشعر المتنبى ، تختلف ـ بصورة جذرية أحياناً ـ عما قدمه ابن جنى من تأويلات ..
والحق أن مشاهدة مسرحية ، أو فيلم سينمائى ، لا تحتاج من المتلقى إلاّ التركيز فى متابعة ما هو متجسد أمامه بالفعل . أما قراءة الرواية أو القصة ، فهى تترك للذهن تجسيد ما يقرأه ، بتخيل الشخصية والحدث ، بإثارة الحوار مع ، وفى ، ذلك جميعاً . إن الإبداع الجيد هو الذى نكتشف أننا لم نعد كما كنا عندما بدأنا تلقيه ..
وبالطبع ، فإن الكتابة لا تتم فى لحظات ، إنما هى قد تأخذ زمناً طويلاً من الكتابة والمراجعة والتأمل ، والاطمئنان إلى الصورة النهائية . بالإضافة إلى ما سبق ذلك من قراءة وتجربة ومعايشة ، بحيث اكتملت للمبدع أدواته الفنية ، واكتملت نظرته الشاملة . وفى المقابل ، فإن القراءة يجب ألا تتم فى لحظات . إنها تحتاج إلى جهد يقترب ـ ما أمكن ـ من جهد الكتابة . قد تصح القراءة السريعة لمواد الجريدة اليومية من أخبار وتحقيقات وغيرها ، لكن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى قراءة واعية ، ومتأملة ..
***
ابتداء ، فإن المبدع يجب أن يعيد قراءة ما كتب أكثر من مرة . الناقد فى ذات المبدع هو صاحب النظرة الأخيرة التى تناقش وتحذف وتضيف وتجيز . وقد يكتب الأديب قصة فى ليلة ، ويراجعها فى أشهر .. وهذا ما أفعله شخصياً . وفى المقابل ، فإنه على القارئ أن يبذل جهداً مساوياً للجهد الذى بذله المبدع فى الكتابة . من الصعب التوقع بأن يمنح العمل الإبداعى عطاءه ، ويكشف مقولته ودلالاته ، دون أن يسهم القارئ فى مغامرة الاكتشاف . النص الإبداعى يحتاج إلى قراءة متأملة ، متعمقة ، متفكرة ، بحيث يلامس مفتاح العمل ، ويستطيع اكتناه دلالاته . وكما يقول أوكونور ، فإنه ليس للروائى أن يتوقع من القارئ أن يصبر على قراءته مرتين اثنتين ، إذا لم يكن مستعداً لقراءة ما يكتب عشرات المرات . أشفق على المبدع الذى يعنيه القارئ أكثر مما تعنيه العملية الإبداعية فى ذاتها . إنه يفكر فى التأثير الذى سيحدثه الموقف ، أو الشخصية ، أو الدلالة التى يعنيه توصيلها .. لكننى ـ فى الوقت نفسه ـ أرفض القارئ الذى تعنيه سهولة العمل . القارئ الذى أريده هو الذى يشاركنى فى متابعة الأحداث ، وفى فهمها ، وتقبل الشخصيات ، أو عدم تقبّلها ، التعاطف معها ، أو معاداتها . يقرأ بإيجابية ، يتأمل ، يضع الملاحظات ، يشارك بإيجابية فى تنامى النص ، يظل منشغلاً بما قرأه بعد أن يتركه . من المهم أن تتحول العلاقة بين المبدع والمتلقى من مجرد متابعة مسلية إلى مناقشة ، أخذ ورد ، قبول ورفض . ولعل غاية ما أرجوه أن أثير فى القارئ ـ القارئ العادى تحديداً ـ ملكة النقد . كذلك فإنى أفضل النهاية المفتوحة بدلاً من النهاية التى تقرر وتحسم . إنها تحض على تأمل العمل ، والتحاور معه ، ومحاولة الكشف عن الدلالة ـ أو الدلالات ـ الكامنة فيه . النهاية المفتوحة ، مجرد النهاية المفتوحة لقصة ما ، بحيث يضع المتلقى دلالتها ، يعنى أن المتلقى ليس مجرد مستهلك للعمل الإبداعى ، لكنه مشارك فى عملية الإبداع ..
الأدب هو المعرفة الكاملة بخبرة الإنسان ، والمقصود بالمعرفة الفهم الفريد والمتشكل للعالم ، وهو ما لا يقدر عليه غير الإنسان . وبالنسبة لى ، فحين أستغرق فى القراءة ، أغادر صفحات الكتاب ، وأغادر الكرسى الذى أقعد عليه ، والحجرة التى تحتوينى ، والمدينة التى أقيم فيها . أتعرف إلى أماكن أخرى ، قريبة وبعيدة ، وإلى شخصيات تتحدث بلغات متباينة ، وأحيا التاريخ والجغرافيا والفلسفة والميتافيزيقا وعلم الاجتماع والسياسة إلخ . وثمة حقيقة ـ أتصورها بديهية ـ هى أن عمل الروائى الأساسى هو أن يجعل القارئ يستمر فى قراءته ، وهو لن يستمر إلا إذا استهواه ما يقرؤه ، أو فلنقل ما دام يؤمن بصدق ما يقرؤه .
ثمة من لا يملك صبراً طويلاً على الأدباء الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليتفهم كتاباتهم : " ليس لدى صبر طويل على هؤلاء الكتاب الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليستبطن معنى ما يقولون . وما عليك إلاّ أن تذهب إلى كبار الفلاسفة لترى أنه من الممكن التعبير فى وضوح عن أعمق الأفكار " . وتقول الشاعرة ماريان مور : " إذا لم تستطع أن تشد انتباه المتلقى منذ البداية ، وتجعله يتابع ما كتبت ، فلا جدوى من الاستمرار " ، ولكن على القارئ ألاّ يتوقع حلاّ جاهزاً يقدمه له المبدع ، وعلى المبدع ـ فى الوقت نفسه ـ أن يحرك فى القارئ استجابة كافية للعمل بما يدفعه ـ بإرادته ـ إلى التفكير فى التغيير . الأدب فن للقراءة يقوم به القارئ وحده وهو يتلقى الصور التى يخلقها العمل الأدبى بمخيلته فى الدرجة الأولى ، أى فى التصور الروحى .
يقول ميشيل بوتور : " إن القارئ لا يقف موقفاً سلبياً محضاً ، بل يعيد من جديد بناء رؤيا أو مغامرة ابتداء من العلاقات المجمعة على الصفحة ، مستعيناً هو أيضاً بالمواد التى هى فى متناول يده ، أى ذاكرته ، فيضىء الحلم الذى وصل إليه بطريقته هذه كل ما كان يغشاه من الإبهام . إن الإبداع ليس مهمة المبدع وحده ، وإنما يجب أن يشاركه فيه القارئ ، لأنه وجه العملة الآخر . أوافق على أن القارئ طرف فى علاقة طرفها الآخر هو النص . " نحن نبدع النصوص حين نقرأها ، ونحن بالقراءة نقيم حياة النصوص ، أو نشهد على موتها " . وكان كورناى Corneille يترك الجميع يعلنون آراءهم ، ثم يحاول أن يفيد من النصائح الصالحة ، بصرف النظر عن مصدرها . ربما لذلك أحرص على أن أدفع بكل عمل جديد أكتبه إلى أصدقاء متباينى الثقافة والمكانة الأدبية أو الاجتماعية ، يبدون آراءهم ، فأهمل مالا أراه عيباً فى العمل ، أو إضافة له ، وأعمل بالملاحظات الإيجابية . وأذكر أنى عملت بملاحظات أصدقاء بعيدين عن العمل الثقافى ، لأنها أنقذت بعض ما كتبت من أخطاء معيبة . وعلى سبيل المثال ، فقد تنبه صديق إلى وفاة الخادم فى اعترافات سيد القرية قبل وفاة البطل " زاو مخو " ، وكنت قد جعلته يقف على تحنيطه كما كان الحال فى العصر الفرعونى . خطأ مبعثه مغالاتى ـ كما ذكرت لك ـ فى أن تكتب القصة نفسها . أبدأ بالقليل ، ويتخلق الكثير الباقى فيما بعد . تتخلق أحداث ، وتظهر شخصيات ، وتموت شخصيات ، وتتبدل مسارات ، ولا يكون لى فى ذلك كله حيلة . وأذكر أنى توقفت عند النهاية التى اختارها محمد قاضى البهار ، بعد أن حاصرته الظروف تماماً ، حتى همس لى ـ بعد أيام قليلة ـ وأنا أسير فى الشارع ـ انه اختار النزول فى البحر ..
ونزل محمد قاضى البهار البحر ، وإن لم أجعل ذلك التصرف نهائياً فى حياة قاضى البهار ، ربما لأنى وجدت فيه قيمة مصرية . قد تغيب عن حياتنا ـ لبواعث طارئة ـ لكنها لابد أن تعود ..
***
الفن إضمار ، بمعنى أن العمل الإبداعى يجب أن يوجد فيه ضوء ، وفيه أيضاً ظلال . وفى أوفيد بجماليون : " الفن هو أن تخفى الفن " . بل إن العمل الإبداعى قد يجد إضماره فى تقديم بعض المفاتيح غير الحقيقية ، بحيث يصعب أن نتوصل من خلالها إلى دلالات مؤكدة . وعلى حد تعبير جون برين فأنت لا تدرى ما يحدث فى الرواية حتى تنتهى .. بل إن الفنان ـ فى تقدير جورجى جاتشيف ـ لا يدرك الكثير من تفسيراته الممكنة .. ومع ذلك ، فإنى أوافق شوبنهاور على أن " أسلوب التعبير الملتبس الغامض دائماً ، من الدلالات البالغة السوء . وهو يأتى فى معظمه نتيجة لغموض الفكرة ، بمعنى أنه يوجد نقص وتناقض فى الفكرة نغسها ، أو أن الفكرة خاطئة " .
***
يقول فلوبير : " ان الفنان فى العالم الروائى ، صاحب القدرة على كل شئ ، برغم أنه لا يكشف عن ذاته .. ان عليه أن يكون مختفياً فى ثنايا عمله ، كالإله فى السماء " . لذلك فإنى أرفض الوصف الجسدى إذا لم يكن للعمل الإبداعى حاجة إليه . لماذا أقتحم ذهن التلقى بصورة محددة ، فى حين أنه ربما رسم صورة مغايرة ، تتسق مع الشخصية ، ومع الأحداث . الأبعاد الحقيقية لشخصية ما فى عمل إبداعى هى الأبعاد النفسية . كلما أجاد الفنان التعبير عنها ، توضّح تميزها ، صورتها الخاصة . وثمة عوامل مساعدة ، مهمة ، للأبعاد النفسية مثل تيار الوعى ، والحوارات الداخلية ، ودرامية الحوار ، والتصورات والأحلام والرؤى والذكريات الخ . أتفهم حب الكثير من الأصدقاء للقراءة أو السماع ، بدلاً من المشاهدة . القراءة والسماع يتركان للمتلقى فرصة تخيل المكان والشخصيات . أما المشاهدة فهى تحدد ذلك بصورة قاطعة . أنا أرسم الملامح الظاهرة إذا فرضت الحتمية الروائية ـ إن جاز التعبير ـ ذلك . أما الوصف لمجرد أن يكون للشخصية ملامحها الخارجية ، فهو تزيد لا معنى له ، ويشوش على الصورة التى ربما رسمها القارئ ـ فى ذهنه ـ للشخصية .
العمل الإبداعى يصل إلى المتلقى بقدر الصدق الفنى الذى عبّر به المبدع . الصدق الفنى هو ما أطلبه فى العمل الإبداعى الذى أتلقاه . ما يهمنى هو قيمة العمل الفنية ، لكننى لا أستطيع أن أهمل البيئة التى أحيا فيها ، لا أستطيع أن أهمل المعتقدات والقيم والتقاليد ، فلا أنسلخ عنها ، ولا أرفضها ، ولا أسخر منها . العلاقة الإبداعية هى بين مبدع ومتلق . ومن الصعب أن تنهض هذه العلاقة على نقيض الاحترام ، وهو ما لن يتحقق إذا ناقض المبدع ما يؤمن به المتلقى من قيم ثابتة ..
***
فماذا عن النقد ؟.. أليس الناقد قارئاّ ؟..
الناقد الممتاز ـ فى تعريف البعض ـ هو فنان تبحر فى المعرفة ، وذوّاق كبير ، لا أفكار مسبقة عنده ولا غيره . بينما يرى آخرون أن الناقد ليس مقوماً بتوخى العدالة فى أحكامه ، إنما هو روح مرهفة الحس تصف لنا مغامراتها بين روائع الفن . ويرى جوتييه Gautier فى الناقد الخصى المسكين المجبر على مشاهدة السيد الكبير ـ المبدع ـ وهو يلهو ! . أما روجر ب . هينكل فقد لاحظ أن معظم الدراسات التى تعنى بالقراءة النقدية تسلك أحد سبيلين ، فهى قد تتخذ من المجموعات القصصية أو المقتطفات الروائية ما تعتمد عليه فى تحقيق ما تريده من إيضاح المداخل المتعددة للقراءة النقدية ، أو أنها قد تلخص المقالات النقدية النظرية المعنية بدراسة الرواية . ويناقش الفرنسى ألبير تيبوديه ما يشاع بين الكتاب من أن الفنان مبدع ، وأن الناقد لا يبدع شيئاً ، وليس له وظيفة إلا أن يرى ، وأن يحكم ، وعلى وجه أخص أن يطرى ما ابتدعه الآخرون . والمديح الأكبر الذى يمكن أن يوجهه إنسان إلى ناقد كبير هو أن يقول له : إن النقد فى المستوى الذى ارتفعت به إليه أصبح حقيقة نقداً مبدعاً خلاقاً . ويجيب تيبوديه عن السؤال : ما هو ذلك الإبداع ؟.. يقول : " لنأخذ نمط المعمارى . لكن هناك معمارى ومعمارى . معمارى يبنى بيتاً للسكن ، على حين أن مايكل رانج يبتدع قبة سان بيير . أن تبنى معناه أن تطبق قواعد استخدام المواد الأولية وتلاحمها وفقاً لخريطة معدة ، أن تطبق الذكاء الحركى ، لكن أن تبدع ، معناه أن تسهم فى قوة الطبيعة ذّاتها ، أى أن تنتج من خلال عبقرية موازية للعبقرية الأولى " ( ت أحمد درويش ) .
***
ويفرض السؤال نفسه : هل الناقد مجرد وسيط بين المبدع والمتلقى العادى ، ليصبح المتلقى قادراً على الاستجابة للعمل الإبداعى ؟..
النقد الأدبى ـ بأبسط تعبير ـ هو فن الحكم على الإبداع الأدبى . دراسة العمل الفنى يجب أن تركز على العمل نفسه ، وليس المبدع أو المتلقى . تركز على بناء العمل ، مكوناته ، صورته الفنية ، عناصره المختلفة ، تفصل بين العمل الفنى وأية عوامل أخرى أساسية أو مساعدة ، مادامت لا تتصل ببنية العمل نفسه . وبالنسبة لى ، فأنا حين أقرأ عملاً ما لا أدعى أن ما كتبته عنه هو تقويم بقدر ما هو تعبير عما فى خاطرى . وأستعير التعبير من " ليمز " .
والحق أن قراءة النقد الذى يعرض للأعمال الأدبية ، ويناقشها ، ليست بديلة عن قراءة الأعمال الأدبية نفسها . ومع أن الناقد هو قارئ فى الدرجة الأولى ، فإن مهمته هى تحويل القراءة إلى كتابة ، أى أنه يهبنا فى كتابته ما لم يفصح عنه العمل الإبداعى . وفى أسرار البلاغة يقول الجرجانى إن الباحث عن المعانى كالغائص فى الدر . الكتابة السردية كنز ، والتأويل فعل اكتشاف ذلك الكنز .
ثمة رأى أنه " ليس هناك قراء يتشوقون إلى متابعة أحكام النقد أكثر من المؤلفين أنفسهم " . وفى تقديرى أنه إذا كان النص ـ حين يبدأ الناقد فى قراءته ـ يتحول إلى علاقة بين وعيين : وعى المبدع ، ووعى الناقد ، فإن النقد فى أفضل صوره ـ والتعبير لفورد مادوكس ـ يتعامل مع العمل الفنى كنقطة بداية فى عملية خلق جديدة . أما أبشع أنواع النقد ، فهى تلك المبنية على معرفة مسبقة خارجة عن العمل الفنى . الرومانسية ـ على سبيل المثال ـ تنظر إلى العمل الأدبى على أساس " أنه تعبير عن العالم الداخلى للفنان ، ومواز له . وصارت مهمة الناقد أو المفسر هى أن يفهم الفنان بهدف فهم العمل نفسه ، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التى يمكن له تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية " ( فصول ـ إبريل 1981 ) . ولعلى أميل إلى قول بيير ماشرى Pierre Macherey إن مهمة الناقد أن يركز اهتمامه على " لا شعور " النص " أى ما لا يقال ، وما هو مكبوت بالضرورة ( ت . جابر عصفور ) .
يقول همنجواى : " كثيراً ما أشعر بأن هناك اليوم منافسة بين الأدباء والنقاد ، بدلاً من الشعور بضرورة مساعدة كل جانب للآخر " . لا ينبغى ـ والقول لأميرسون ـ أن يكون النقد باحثاً عن الشجار ، داعياً إلى هدر الطاقات ، يمسك بالسكين ، وينتزع الجذور . عليه أن يكون هادياً ، معلماً ، ملهماً . عليه أن يكون ريحاً منعشة وليس ريحاً باردة تجمّد الأطراف " . أما بوب فإنه يرى ان " الناقد الكامل يقرأ كل عمل بالروح نفسها التى كتب بها المبدع عمله . عليه أن ينظر إلى العمل فى شموله ، ولا يسعى إلى أن يتصيد الهنات ، مادامت العاطفة الحقة قد حفزت الكاتب ، والنشوة قد أوقدت عقله " ..
أذكر قول تشستر فيلد : " لنترك الناقد الغبى يعيش على جثث الأعمال . أعطونى أنا روح العمل ورواءه " ..
أما الفنان الذى يمارس النقد ، فلعلى أذكر قول أستاذنا يحيى حقى إن " الفنان الذى يشتغل بالنقد ، إما أن يكون تدفقه غنياً جداً ، وموهبته كبيرة جداً ، بحيث لا يؤثر اشتغاله بالنقد على فنه ، وإما أن تكون قدرته على الفيض الفنى محدودة ولا ترضيه ، فيحاول التعبير عن أفكاره بكتابة المقالات النقدية مادام لم يشملها تدفقه الفنى " .
***
إذا تحدثت عن موقف النقد من حيث الكم النقدى الذى تناول أعمالى الإبداعية ، فلعلى أعترف أنه كثير للغاية إلى حد أن جماعة " أصوات " الأدبية ضمت بعض المقالات والدراسات والحوارات التى ناقشت أعمالى حتى عام 1984 فى كتابين ، وثمة أعمال أخرى سابقة وتالية ، تفوق ما ضمه كتابا جماعة أصوات ، وهما " محمد جبريل وعالمه القصصى " و " قراءات فى أدب محمد جبريل " . أذكرك بكتاب حسين على محمد " البطل المطارد فى روايات محمد جبريل " ، وكتاب ماهر شفيق فريد " فسيفساء نقدية ـ تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل " ، وكتاب سعيد الطواب " استلهام التراث فى روايات محمد جبريل " وكتاب نعيمة فرطاس " فلسفة الحياة والموت فى رواية محمد جبريل الحياة ثانية " ، وكتاب حسن حامد " مصر التى فى خاطره " ، وكتاب سمية الشوابكة " التراث والبناء الفنى فى روايات محمد جبريل ، وكتاب محمد زيدان " المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل " إلخ ..
مع ذلك ، فإنى ـ حتى الآن ـ لست مدرجاً فى قوائم ـ وبتعبير أدق : لست مدرجاً فى تصنيفات السادة الأعزاء من أدباء الأيديولوجية والشللية ونقادها . إذا أرادوا أن يتحدثوا عن كتاب القصة والرواية ، فإنهم يعلنون القائمة التى تضم ممثلى الأيديولوجية أو الشلة فى أقل تقدير .. ولأنى أتصور الكاتب أكبر من أى منصب أو تنظيم حزبى أو أيديولوجى ، لأنى أرفض مبدأ الشللية فى إطلاقه ، ولأنى لا أتردد على المقاهى والجلسات الخاصة ، وأفضل المشاركة فى المؤتمرات الثقافية ، والحياة مع الناس العاديين ، وقضاء غالبية الوقت فى بيتى أقرأ وأكتب .. لذلك كله فإن قوائم الشلل والأيديولوجيات تخلو من اسمى ، وإن وجدت تعويضاً حقيقياً ، وجميلاً ، فى الكثير من الكتب والدراسات والموسوعات المتخصصة والحوارات التى تناولت سيرتى الإبداعية وأعمالى ، وفى العديد من الرسائل الجامعية التى كان قرار أصحابها بإعدادها أول تعرفى إليهم .
أزمة النقد ـ التى يتجدد حديثها فى الصحف والدوريات ـ اصطنعتها تلك التقسيمات الجائرة ، والمنحازة .. حتى أنه يمكن القول : قل لى من هم نقادك ، أقل لك من أنت !
1987 بإضافات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق