الخميس، 10 فبراير 2011

للشمس سبعة الوان2 - محمد جبريل








ملاحظات في فن الرواية
..............................

" العمل الفنى شأنه شأن العالم ، شكل حى ، كائن ، لا حاجة إلى تبريره "
ألان روب جرييه

إذا كان الأسبانى خوان أنطونيو دى ثونتو نيغى يصف بالبؤس من يبدأ روايته دون أن يجهل كيف يتمها ، فلعلى أعترف أنى ذلك البائس . مدخل الرواية عندى يبدأ خطوطاً عريضة ، اسكتشات ، أجساداً بلا ملامح ولا تفاصيل ، ثم تبين الرواية عن ملامحها وتفصيلاتها فى أثناء عملية الكتابة . لحظات تخلق فكرة العمل الإبداعى ، مناوشتها لى ، توضح الملامح والقسمات ، واختفائها ، لتحل ملامح وقسمات أخرى ، تحاول أن تأخذ تصوراً أدبياً ، ولو فى صورة أولية تبدأ بها عملية الكتابة . وقد تتغير الصورة ـ فى أثناء الكتابة ـ تماماً . ولعلى أشير إلى قول فورستر ، إن الروائى ـ بدلاً من أن يقف خارج عمله ليسيطر عليه ـ يلقى بنفسه فيه ، ليحمله إلى هدف لم يكن يتنبأ به ..
الرواية ـ فى تقديرى ـ مشروع إبداعى ، تتحدد ملامحه وقسماته أثناء الكتابة . أرفض التصور المعمارى للعمل الإبداعى على نحو يطلب النهاية وهو فى مرحلة البداية ، ولا يترك النهاية تغيب عن أفق نظراته . وكما تقول إيزابيل الليندى : " لست أنا التى أحدد الموضوع ، وإنما الموضوع هو الذى يختارنى ، ويتلخص عملى ببساطة فى تكريس وقت كاف وعزلة وانضباط لكى أكتب وأحسب " . الكاتب يعرف قدراً كبيراً عن قصته مسبقاً ، فقد أنضجها فى ذهنه بعناية ، وفى الوقت نفسه لا يعرف بشكل مطلق ما يحدث فيها بالتفصيل . والسبب فى ذلك هو أنه متى بدأ كتابة قصته ، فإن أفكاراً جديدة تأتى فى أثناء انهماكه فى الكتابة . ويروى كاميليو خوسيه ثيلا تجربته : " تأتينى الرواية تلقائياً . إنها ليست بالشىء الذى أتهيأ له بتأن . عندما أظفر برواية داخلى ـ يمكن أن تظل داخلى عدة سنوات ـ فإننى لا أفكر بكيفية تطويرى لها . عند نقطة ما تبدأ بالتشكل من تلقائها ، وبخطوة ثابتة ، بعد فترة ثمانية إلى عشرة شهور . أنا لا أومن ـ الكلام لثيلا ـ بكتابة سيناريوهات تمهيدية . إذا كانت الشخصيات حية ، فما عليك إلاّ أن تفتح لها الباب وانظر ماذا تفعل . إن قصة فعل الشخصيات هى الرواية " .
وبالنسبة لى فثمة ومضات ، أو صور متكاملة ، تلح . أتشاغل عنها حتى يصبح الإلحاح سيطرة كاملة ، فأجلس لكتابتها . لا أنهى الجلسة حتى أتمها . لا يشغلنى أن يكون النص مفتوحاً أو مغلقاً ، ما يشغلنى أن تقلع الطائرة فى موعدها المناسب ، أن أضع نقطة الختام ، فى اللحظة التى يجب أن توضع فيها ، فلا اختصار مخل ، ولا ترهلات . ربما أهملت سذاجة بعض المواضع أو ركاكتها ، وربما جاوزت عصيان السرد فى مواضع أخرى ، لكننى أعود إلى العمل جميعاً بين فترة وأخرى ، أضيف وأحذف وأعدّل وأبدّل ، حتى تكتمل صورته فى عينى الناقد الذى هو أنا . وتتجدد صورة المشروع الإبداعى ، بل وتأخذ صوراً متعددة ، ودلالات متعددة بالتالى ، أثناء القراءة . وكما يقول ريموند فيدرمان Raymond Federman : فإن الكتابة تعنى إنتاج معنى لم يكن موجوداً من قبل . إنها تتخلق وتنمو ، دون أن تخضع لمعان مسبقة . لا تتمثل الواقع ولا تحاكيه ، ولا تحاول حتى إعادة خلق الواقع . إن لها واقعها الخاص بها ، مكانها الروائى الذى قد يشتمل على إمكانية حقيقية ، وأخرى غير حقيقية [ قرية جارثيا ماركيث " ماكوندو " ـ على سبيل المثال ] ، وقد تلجأ إلى زمن حقيقى ، لكن زمن الرواية يظل هو زمن الرواية . إن مفهوم الزمن الروائى يختلف بالتأكيد عن المفهوم المنطقى للزمن . انه زمن الرواية ، الزمن السميولوجى الذى يختلف عن الزمن الواقعى الذى يحيا فيه ، وبه ..
من هنا ، فإنى أرفض إخضاع الزمكانية الروائية للتذكر . أرفض : وتذكر فلاناً ، أو تذكر المكان الفلانى .. فالبديهى أن الشخصيات والأمكنة والأحداث تنثال إلى الذهن دون ترتيب ، ربما انعكاساً لمواقف عابرة ، أو كلمات يصلها الذهن بما سبق . لا يفصل الكاتب بين الآنى والسابق ، إنما تتداخل اللحظات دون حدود فاصلة . ثمة عشرات ، وربما مئات ، وربما آلاف التعبيرات والأمثال والمواقف والمجازات مودعة فى حافظة الذاكرة ، وهى تغادر مواضعها فى أثناء عملية الإبداع . تظهر على الورق فى لحظة قد تفاجئ المبدع نفسه .
وعلى الرغم من عدم اجتماعيتى المعلنة ، فإنى حريص على أن أتلمس التجربة وألامسها ، بدءاً بالقراءة ، وانتهاء بالمعايشة ، أو الممارسة الفعلية ، مروراً بالسفر ، والتعرف إلى الخبرات ، والارتماء فى المغامرة ما أمكن . وبتعبير آخر ، أن أحيا الحياة ، أخوض بحرها ، ولا أكتفى بالوقوف على الشاطئ ..
قد ينشأ الحدث الروائى من مجرد لحظات عابرة فى حياة الفنان . كتب جارثيا ماركيث قصته قيلولة الثلاثاء ـ التى يعتبرها أفضل قصصه القصيرة ـ بعد أن شاهد سيدة وطفلها يرتديان الثياب السوداء ، ويستظلان بمظلة من شمس الصيف الحارقة فى طريق صحراوى . أما رواية الورقة الساقطة فقد تخلقت من لحظة عجوز يحمل حفيده إلى القبر . وأما رائعته الكولونيل لا يجد من يراسله فقد جاءت بتأثير رؤيته رجلاً يعانى انتظار قارب فى أحد الأسواق . كذلك فقد استمد فوكنر شخصيته الرئيسة فى رائعته الصخب والعنف من فتاة ، كان يقود سيارته ، حين رآها تلهو بأجوحة أمام بيتها فى الجنوب الأمريكى [ أذكرك بقول تولستوى : إن الكاتب الجيد هو الذى يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار عابر رآه فى الطريق ] . أما شخصية إمام مدنى السمرة فى روايتى مواسم للحنين فإنها ثمرة رؤية متكررة لذلك الرجل الذى كان يسير فى شوارع الإسكندرية ، وهو يرفع إصبعيه بعلامة النصر .
***
عقل الشاعر يدأب أثناء عملية الإبداع ـ فى رأى أ . إم . فورستر ـ على دمج تجارب منفصلة ومتفاوتة ، وظنى أن ذلك أيضاً دأب الروائى والقاص والمسرحى ، المبدع بعامة . لقد جاءت كل تجربة إبداعية لى مختلفة عن التجارب السابقة ، تتخلق الشخصيات والأحداث والمصائر فى أثناء العملية الإبداعية ، وتتخلق الصورة الفنية كذلك . حين أبدأ فى كتابة قصة أو رواية ، فإن الصورة هى التى تفرض الإطار ، أو ـ بالتعبير النقدى ـ يفرض المضمون الشكل . لا أتخذ قراراً مسبقاً بالتكنيك الذى تختاره القصة أو الرواية ـ هى التى تختار ! ـ السرد العادى ، الاتجاه إلى المخاطب المشارك ، الاتجاه إلى المخاطب المتلقى غير المشارك ، الراوى العليم بكل شئ ، طريقة الاسترجاع [ الفلاش باك ] ، أسلوب التقطيع ، تصاعد الأحداث هارمونياً ، طريقة التبقيع ، القص واللصق [ الكولاج ] إلخ ..
الراوى ـ فى اللون الذى كتبت به روايتى النظر إلى أسفل ـ لا يتجه إلى القارئ وحده ، لكنه قد يتجه إلى متلق آخر فى داخل العمل ، متلق مشارك ، أو غير مشارك ، فى الحدث القصصى ، لا يراه القارئ وان تخيله . يتجه إليه الراوى بما يقول ، فهو قارئ مفترض ، متلق اخترعه الكاتب وتصوره القارئ . المتلقى الحقيقى للعمل ، وإن اختلف عنه المتلقى داخل العمل فى أنه جزء من العمل بالمشاركة ، أو أنه يتحدد فى إطار السلبية ، لا يسهم فى تجسيد الحدث القصصى ولا نموه . ملامحه ضائعة أو باهتة لأنه غير موجود بالفعل داخل العمل . لا أحد على مستوى النقد المتخصص ، أو القراءة العادية تعرف إلى ذلك المتلقى : هل هو صديق لشاكر المغربى ؟ هل هو وكيل النيابة " هل هو محقق الشرطة ؟ هل هو شاكر المغربى نفسه ؟.. صعب القول بتعريف محدد ، لأن المتلقى الذى تتجه إليه الرواية ـ فى داخلها ـ غير مشارك ، فهو غير موجود فعلاً ، وتغيب من ثم ملامحه الجسمية والنفسية .
ولأنى من غلاة المؤمنين بوحدة الفنون ، فقد شغلت على مستوى التجريب ـ منذ روايتى الأولى الأسوار بالتجريب الشكلى ، بالتكنيك ، مثل التقطيع والفلاش باك والمونولوج الداخلى وتيار الوعى وأسلوب التحقيق ، إلى غير ذلك من الخصائص الشكلية . ولعلى أسرف فى التجريب أحياناً ، فأتوقع عدم الفهم ، أو الرفض ، لدواع فنية أو دينية أو سياسية ، وأحتفظ ـ من ثم ـ بما كتبت فى داخل الأدراج [ التجريب كلمة لها العديد من المعانى والدلالات ، بل إنها لا تجد نفسها لغوياً ، بمعنى أنه لا يوجد لها المقابل اللغوى الدقيق . هل هو الاختلاف ؟ هل هو الخروج عن التقليدى ؟ هل هى المغايرة ؟ هل هى المجاوزة ؟ هل هى محاولة الإضافة ؟ هل هى محاولة التفرد والتعبير عن الخصوصية الفنية ؟ . يظل التجريب كلمة حمالة أوجه ، بمعنى أن معناها ودلالتها تختلف من مبدع إلى آخر ، فضلاً عن أن البعض يرفض الكلمة إطلاقاً . وعموماً ، فإنى أرفض التجريب الذى يطيل الوقوف أمام الإبداعات الأوروبية ، فهو ـ فى حقيقته ـ تقليد ، وليس تجريباً . التجريب هضم لقراءات وتجارب وخبرات ، ومحاولة إفراز ذلك من خلال خصوصية مؤكدة ] . فى ضوء ذلك ـ أو فى ظله ـ كتبت مجموعتى الأولى تلك اللحظة ، ودفعت بها إلى المطبعة . ولأنى حرصت على التجريب فيما كتبت ، فقد غلبت الذهنية أحياناً ، والمباشرة أحياناً أخرى ، فى بعض المواقف . وثمة العديد من قصصى القصيرة هى إسكتشات ، أو إرهاصات ، بأعمال روائية . أشير إلى روايتى بوح الأسرار التى نشرت قصة قصيرة ـ منذ عشرين عاماً ـ فى " الآداب " البيروتية . ثم شغلتنى ، وناوشتنى ، كإبداع روائى . وقد بدأت روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى باعتبارها قصة قصيرة ، ثم طالت فصارت رواية ، لا من حيث عدد صفحاتها فحسب [ أكثر من 150 صفحة ] وإنما من حيث تعدد شخصياتها وأحداثها ، وتوالى تلك الأحداث موجة إثر موجة ، وهى خاصية روائية بعكس القصة القصيرة التى تشبه الدوامة ..
وبالطبع ، فإنه من الصعب تصور أن يجلس المبدع ليكتب دون تصور ما ـ ولو تصور هلامى ، أو اسكتش بلغة الفن التشكيلى ـ لما يعتزم إبداعه . حاول أستاذنا نجيب محفوظ ذلك فى أعقاب نكسة 1967 ، وكان الذهن مشغولاً ، والنفس تعانى ، لكنه حرص على الجلسة اليومية ما بين السادسة والثامنة مساء . لم يكن فى ذهنه ما ينقله على الورق ، واحتذى حذو بعض الكتاب الأوروبيين ، وترك القلم ـ دون فكرة مسابقة ـ يسود بياض الصفحات ، فلخص ـ بتناول جديد ـ روايته القديمة عبث الأقدار . وكتب قصصاً قصيرة أخرى ، لا ترقى إلى مستوى إبداعاته بعامة ، فهى ـ أحياناً ـ تسرف فى التلغيز ، وتبدو ـ أحياناً ثانية ـ أقرب إلى المعادلات التى تهب شفرة تطلب الحل !
وإذا كان رأى مالارميه " إن الآلهة توحى لنا بالأبيات الأولى من القصيدة ، أما بقية القصيدة فينبغى أن نعتمد فيه على أنفسنا " ، فإن تشيخوف يرى أن الفنان لا يختار موضوعاته ، إنما هى التى تختار الفنان . الآلهة قد توحى بالسطور الأولى ، لكن بقية النص الإبداعى هى من صنع النص نفسه ، فهى تتخلق ـ فى أثناء عملية الكتابة ـ من داخله . لقد أعلن تورجنيف دهشته حين رأى ما حل ببطله " بازاروف " فى روايته الآباء والأبناء . وحين بدأ تولستوى كتابة روايته أنا كارنينا ، كانت المرأة باردة العاطفة ، وكانت تستحق المصير الذى واجهته ، لكنه اكتشف ـ بعد أن أنهى الرواية ـ أن صوت الرواية ـ الذى يختلف بالتأكيد عن صوت الروائى . وقد أشار سهيل إدريس فى تقديمه لروايته الحى اللاتينى إلى أن بطلى روايته أصابعنا التى تحترق فرضت مقتضيات الحدث الروائى ـ عكس ما كان يتوقع ! ـ أن يخون الرجل زوجته ، وتوشك الزوجة على الخيانة كذلك ، وخضع الفنان ـ على حد تعبيره ـ لتصرفات بطليه . حتى كلود سيمنون الذى كان يحرص على أن يعد ملفاً بأسماء شخصيات رواياته ، وأعمارهم ، ووظائفهم , وعاداتهم ، ونوعية الأمراض التى أصابتهم ، أو ستصيبهم ، وما إذا كانوا متزوجين ولهم أبناء . حتى كلود سيمون لم يكن يعرف ـ باعترافه ـ إلى أين تمضى الرواية التى يكتبها ، ولا النهاية التى سيضع عندها نقطة الختام .
ثمة مبدعون كبار يحرصون على التعرف إلى العمل الإبداعى ـ قبل الجلوس لكتابته ـ من ألفه إلى يائه . جابرييل جارثيا ماركيث يشير إلى أنه يمعن التفكير فى القصة ـ قبل كتابتها ـ سنوات طويلة ، حتى يستطيع حكايتها مرات كثيرة " من أمام ، ومن خلف ، وكأنها كتاب انتهيت من قراءته " . ونجيب محفوظ يعد ملفات بالملامح الظاهرة والجوانية لكل شخصاته ، حتى الشخصيات الهامشية ، أو التى تبدو كذلك . وقد وافق يوسف الشارونى على ملاحظتى بأنه يعرف موضع الكلمة فى داخل الجملة ، فى داخل السطر ، فى داخل النص . ويؤكد ماريو بارجاس يوسا إنه يحسب كل شىء بإحكام قبل أن يبدأ فى الكتابة . وعلى الرغم من إلحاح السؤال : كيف يفكر كاتب السيناريو ، وأن ذلك الأسلوب فى التفكير يتناقض مع التلقائية فى كتابة الرواية أو القصة . إنه أنسب بتقنية السيناريو الذى يعرف جيداً ـ قبل أن يبدأ التصوير ـ دور كل شخصية وموضع كل مشهد وكلمة .
الإبداع عندى لحظة اكتشاف ، تساوى معناها عند المتلقى . تفاجئنى الشخصيات والأحداث ، مثلما تفاجئ القارئ تماماً ، وتفاجئنا ـ القارئ والكاتب ـ النهاية التى ربما لم يتوقعها كلانا . أنا لا أعرف شيئاً مسبقاً . أعرف البداية فقط . أما النهاية ، فلست كاتباً للسيناريو حتى أحددهـا قبل أن أخلو إلى العمل . ليس عندى نتائج مقررة أحددها سلفاً .
على الرغم من ذلك ، فإن اختلاف وسيلة الكتابة بين القصد والعفوية ، لا تعنى التقليل من شأن الكتابة القصدية ، بقدر ما تعنى اختلافاً مزاجياً ، وفى طريقة الكتابة بين مبدع وآخر .
أنا لا أختار النهاية التى قد تفاجئ الفنان نفسه . لا أعرف حاضر شخصياتى ولا مستقبلهم ، لا أعرف كل شئ سلفاً ، فهى ليست مجرد خيوط أحركها . أفضل أن أبدأ خالى الذهن إلاّ من البداية ، وصور بلا ملامح محددة ، كالهلاميات ، ثم تكتسب الصورة ـ أثناء الكتابة ـ ملامحها . أذكر قول كلود سيمون : " قبل أن أكتب على الورق ، لا يوجد شئ إلاّ حشد غير محدد من الأحاسيس التى تكاد تكون غامضة ، ومن الذكريات التى تعانى غياب الوضوح ، فضلاً عن أن مشروع الكتابة نفسه يكون ضبابيا " . قد تكون البداية مجرد ومضة ، مشهداً عابراً ، عبارة قيلت عفواً . وعلى حد تعبير فورد مادوكس ، فإن الحياة توحى للفنان بمادة فنه ، لكن هذا الاستيحاء يقتصر على بذرة العمل الفنى ، على صورته الهلامية ، قبل أن يجد تجسيداً له فى أثناء عملية الإبداع .
ثمة اختلاط بين لحظات الماضى والحاضر واستشرافات المستقبل ، بين الفكرة التى تلح على نحو ما ، والقراءات ، والخبرات ، ومشاهدة أو سماع الأعمال الإبداعية . بل إنه أثناء فعل الكتابة تتوالى الصور والعبارات التى نسيتها تماماً ، لكنها تفد إلى الذاكرة . فالقلم ، فى لحظة غير متوقعة ، لحظة تختار نفسها ولا نختارها نحن ، نستعيدها واضحة أو شاحبة الملامح ، وقد تختلط الأزمنة والتفصيلات ، وان شكلت لبنات فى بنية العمل . وانحياز إبداعى لقيم محددة ، أو لقضايا بعينها ، أو لجماعة ما ، لا يأتى بقرار ، لا ألوى عنق العمل الإبداعى من أجل توصيل مقولتى ، وإنما التعبير عن ذلك يأتى من خلال العمل نفسه . قد تكون المقولة قديمة ، وقد يرفضها الحداثيون ، لكننى أومن أن كل مضمون يفرض الشكل الخاص به . وكما تقول ناتالى ساروت :" لا أظن أنه بوسع إبداع ما ، رواية أو لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية ، أن يتحول إلى مجرد تطبيق لفكرة مسبقة . إنه بحث يبدع نفسه ، فهو يقرر بنفسه مسائله الخاصة به " . ولعلى أضيف قول نورمان ميلر إنه يبدأ فعل الكتابة دون أن يعرف ما الخطوة ـ أو الخطوات ـ التالية . إنه يعتمد على اكتشاف العمل لنفسه ، واكتشاف المبدع للعمل أثناء الكتابة ، ويعتمد ـ فى كل الأحوال ـ على الحياة التى يثيرها العمل " أشعر دائماً كأنى لست أنا الذى أكتب القصة ، وإنما أنا مدفوع للكتابة ، فلا أملك إلاّ أن أكتب " . البداية ـ دائماً ـ هى أصعب ما فى الأمر . السطر الأول فى عمل ما هو الأهم . أحيا الشعور بأن النهاية فى مدى الأفق .
ولم يكن مورافيا يعد إبداعاته مقدماً بأية صورة ، ولم يكن يفكر فيها عندما يكون مشغولاً بالكتابة . وكانت فرانسواز ساجان تبدأ الكتابة لكى تأتيها الأفكار ، وربما تغير أثناء الكتابة كل انتوت تسجيله من أحداث . وقد وصف الشاعر جورج راسل أوفلاهرتى بأنه أوزة حين يفكر ، وعبقرى حين يكتب الشعر . والمعنى الذى يقصده هو القيمة التى يكتسبها العمل إذا انطلق من العفوية ، وعبر بها ..
وشخصياً ، فإنى أبدأ بكتابة القصة القصيرة على أنها كذلك ، ثم ما تلبث ـ بتوالى الأمواج ـ أن تتحول إلى رواية . تتعدد الشخصيات ، وتتعدد الأحداث ، وتتسع المساحة ، ويزيد عدد الصفحات ، ليطالعنى ما كتبته ـ ختاماً ـ فى صورة رواية . ذلك ما حدث فى روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى . بدأت فى كتابتها قصة قصيرة ، لكن كثرة المصادر والمراجع ، وتبين الكثير مما يستحق التوقف بدّل ملامح القصة القصيرة ، فأصبحت رواية ، ليس فى مجرد زيادة عدد الصفحات ، وإنما فى اكتسابها لخصائص الرواية بعامة ..
وفى تقديرى أن انتهاء العمل الإبداعى عند نقطة محددة ينطوى على تعسّف مطلق فى التعامل مع حيوات كان يجب أن تظل مستمرة ، وهى تلك التى كانت لشخصيات الرواية قبل أن تختفى بالنهاية المغلقة . القصة قد تنتهى عند نقطة ما تختارها ، لكنها ليست النقطة التى تنتهى عندها حياة الشخصية ـ أو الشخصيات ـ فى الرواية ..

***
(يتبع)
الشخصية الروائية تنتمى إلى مبدعها من حيث وضع البذرة فى الأرض ، النطفة فى الرحم ، لكنها تكتسب ملامحها من عملية التخلق . وإذا كان ميشيل بوتور يذهب إلى أن الروائى يبنى أشخاصه ، شاء أم أبى ، علم ذلك أو جهله ، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة ، وأن أبطاله ما هم إلا أقنعة يروى من ورائها قصة ، ويحلم من خلالها بنفسه ، فإن القصة تكتب نفسها ، تستمد مقوماتها ، حياتها ، خصوصياتها ، من داخلى ، من ثقافتى وتأملاتى وخبراتى وخبرات الآخرين ، من التفصيلات والمنمنمات التى تشكل ـ فى مجموعها ـ نظرة الفنان الشاملة ، فلسفة حياته . لم يبدأ بيكاسو من اللحظة ، ولا من المطلق ، لكنه استوعب تاريخ الفن التشكيلى جيداً ، قبل أن تجرى ريشته بالخط الأول . درس مبادئ التصوير ، وتعرف إلى التقاليد الفنية منذ ما قبل عصر النهضة وإلى الفن الإغريقى والرومانى المسيحى . وتعرف أيضاً إلى تقنيات متحف السلالات البشرية ، وعلى أعمال السكان الأصليين لقارة استراليا وعلى أعمال الهنود الحمر والفن الفرعونى والهيلينى والقبطى والإسلامى إلخ .
وأحياناً ، فإنى أتقمص الشخصية بالتوغل فى العمل الإبداعى . تصبح هى أنا ، أو أصبح أنا هى . وبالتأكيد ، فقد كنت ـ على سبيل المثال ـ منصور سطوحى فى الصهبة ، ومحمد قاضى البهار فى قاضى البهار ينزل البحر ، وعماد عبد الحميد فى النظر الى أسفل ، ورءوف العشرى فى الخليج ، وحاتم رضوان فى الشاطئ الآخر ، وصلاح بكر فى صيد العصارى ، والراوى فى زوينة ، وهاشم السعدنى فى زمان الوصل ، والراوى شاباً فى مواسم للحنين ، بل إنى لم أضمن شخصية إسماعيل صبرى روايتى أهل البحر إلا لأن اسمه أطلق على الشارع الذى ولدت ، ونشأت فيه .
ولعلى أتوقف أمام الشخصية المسماة ـ بلغة السينمائيين ـ " الكاراكتر " ، الشخصية غير المألوفة ، والصامتة أحياناً ، سواء على المستوى الجسدى أو النفسى . الشخصيات العادية لا تلفت انتباهى ، لا أتوقف أمامها ، أعبرها بالعين وبالتأمل فى آن . أتذكر قول جين مالاكويه لنورمان ميلر : " الكتابة هى السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة . والوقت الوحيد الذى أعرف فيه أن شيئاً ما حقيقي ، هى اللحظة التى يعلن فيها عن وجوده أثناء فعل الكتابة . أنا أكتب لأكتشف ما أفكر فيه ، وما أنظر إليه ، وما أشاهده ، وما يعنيه ذلك كله ، ما أتطلع إليه وما أخافه ، وما الذى يدور فى توالى الصور داخل ذهنى " ..
وطبيعى أن الحرص على أن تكتب القصة نفسها قد أثمر بعض النتائج السلبية ، وأخطرها الوقوع فى " مطب " السهو . فأنا أسمى الشخصية ، ثم أختار ـ لسبب أو لغير سبب ـ اسماً آخر ، ويختلط الاسمان فى لحظات الكتابة ، فلا أنتبه إلى التداخل المعيب إلا فى لحظات القراءة . هذا ما حدث فى روايتى ياقوت العرش ، حين اختلط اسما المنزلاوى والتميمى ، وفى روايتى بوح الأسرار عندما أصبح اسم سليمان عبد الواحد ـ فى بعض الأحيان ـ سلامة عبد الواحد !. وفى زمان الوصل تسلل اسم الشخصية الحقيقى إلى إحدى الفقرات .
***
أصارحك بأنى لا أميل إلى القصة التى تراعى القواعد الفنية التقليدية : البداية ، والذروة ، والحل ، وهو مايسمى بالقصة القوس Arcstory، لكننى أوافق رامان سيلدن على أن : " الحبكة Mythos هى التنظيم الفنى لأحداث القصة " . لا أتصور قصة بدون حبكة . الحبكة هى الفنية . ومن الصعب تصور فن بدون فن . القصة تظل حكاية ، حتى تحيلها الحبكة الى قصة ، تهبها الخاصية الفنية . والقصة تكتب نفسها إطلاقاً ، حتى التكنيك ، الصورة الفنية تختارها القصة ، أسلوب الراوى الذى يعرف كل شئ ، أسلوب الراوى الذى يخاطب المشارك ، أسلوب الراوى الذى يخاطب غير المشارك . وقد لاحظ أنتونى ترولوب أنه لم يعرف على الإطلاق كيف ستنتهى قصته ، فضلاً عن أن الحبكة تبدو غائبة التفاصيل عندما يبدأ الكتابة . أتذكر قول ميشيل بوتور : " هنالك مادة ما ترغب فى الظهور ، وبمعنى آخر : ليس الروائى هو الذى يضع الرواية ، بل الرواية هى التى تضع نفسها بنفسها ، وما الروائى سوى أداة إخراجها ، ومولّدها . ونحن نعرف مقدار ما يتطلبه ذلك من علم ومعرفة وصبر وأناة " ( ت فريد أنطونيوس )
من عادتى أن أقرأ ما أكتب ، ثم أعيد القراءة ، ثم أضيف وأحذف وأبدّل ، وربما مزّقت أوراقاً مما كتبت ، وربما مزّقت الأوراق كلها ، لا أطمئن إلى انتهاء العمل إلاّ إذا اطمأن الناقد فى داخلى إلى تلك النهاية ..
وإذا كان ابن عميرة يرى أن قواعد الإعراب لا تفيد فى الكشف عن معانى الكلام وجماله ، أو أنها ليست من مسببات جمال الكلام ، فإن اللغة ـ تحديداً ـ ليست هامشاً فى العملية الإبداعية ، ليست مجرد أداة ، ولكنها جزء مهم فى نسيج العمل . ولعلى ـ مع ذلك ـ أحذّر من إغراء اللغة بما يسئ إلى العملية الإبداعية ، ويحيلها إلى كلمات ، أو عبارات ، جميلة ، مرصوصة ، لكنها تفتقد الروح . لا أقصد بأن تكتب القصة نفسها أن يبدع القلم الفكرة . ربما انساق القلم وراء سحر الكلمة المكتوبة ، فهو يبحث عن جماليات اللغة ، ولا ينظر إلى اللغة على أنها فحسب أداة تعبير ، أداة توصيل . اللغة ليست مجرد إطار . ليست مجرد توشية أوحلية . إنها لا تنفصل عن الحدث فى العمل الإبداعى ، فهى ـ فى أقل تقدير ـ وعاء الإبداع ، وسيلة الصياغة ، وإهمال الوعاء أو الوسيلة أشبه بتغليف جوهرة ثمينة بورقة ممزقة متسخة . وبالتأكيد فإن الرواية التى توظف التراث الفرعونى تختلف عن الرواية التى توظف التراث العربى ، وعن الرواية التى تصور واقعنا الآنى . لا أعنى التقليد أو المحاكاة أو ارتداء الأثواب المتعددة . قد يفيد الفنان من مفردات الفترة ، أو العصر ، يحيلها خيوطاً يضفر منها نسيج عمله الفنى . إذا أراد المبدع أن تكون له شخصيته الخاصة ، فلابد أن يكون له أسلوبه الخاص . الكلمات التى نستخدمها يجب أن تعبر عن موهبتنا الخاصة ، عن قاموسنا اللغوى الخاص ، عن طريقتنا فى صياغة الجملة . اللغة ليست مجرد كلمات ، ولكن بنى مركّبة ، وعبارات مؤلفة ، ونسق من الكلمات التى تحتفظ بفاعليتها الخاصة . ما أعنيه ليس مجرد الصياغة الأسلوبية ، أو بمجرد الحرص على موازين النحو والصرف وأصول البيان والبلاغة التراثية ـ وهى مهمة مطلقاً ـ وإنما العناية بالإيقاع والمفردات والتعبيرات ، ميلها إلى القصر أو الطول ، إفادتها من التشبيهات والاستعارات والكنايات وغيرها من " الحيل " البلاغية ، وغيرها . فإذا وضعت نقطة النهاية ، عدت الى " النص " أحذف كل مايمكن الاستغناء عنه ، فبديهى أن يبرأ من الأحداث الزائدة أو غير المبررة ، ومن الحشو والنتوءات . ولعل فى مقدمة ما أحرص عليه أن أجدد قاموسى اللغوى ، سواء بتطعيم اللغة بموروث مهجور ، أو بمفردات عادية ، تمليها الضرورة الفنية ، لا تسئ إلى جماليات اللغة ، ولا إلى السياق ، أو بخلق مفردات وتعبيرات تضيف إلى العمل ، وإلى اللغة بعامة . ولعلى أذكر قول الطيب صالح : " إننى على معرفة جيدة بالإنجليزية ، وعندى بالفرنسية معرفة لا بأس بها ، وأستطيع أن أجزم أنه ليس من لغة تضاهى جمال العربية " .
لقد وصف هارولد بنتر الجملة عند همنجواى بأنها كتلة واحدة ، يستطيع أن يحملها بيده ، ويقول إنها تستحق أن تبقى ، فهى أساسية . إن قلم المبدع يجب أن يؤدى دوره فى حذف كل ما يشكل نتوءاً فى عمله ، أو أن العمل فى غير حاجة إليه ، مهما تبدو الكلمة ، أو العبارة ـ فى ذاتها ـ جميلة . أكره الكلمة النشاز أو المجافية للسياق . أذكرك بما فعله تولستوى فى الحرب والسلام ، فقد بلغت أصولها ـ عقب الكتابة الأولى ـ أكثر من أربعين ألف صفحة ، فحذف الفنان تسعة أعشارها !..
وثمة أدباء كبار لا يعنون بعلامات الوقف والترقيم ، لا يلتفتون اليها . ما يشغلهم هو الكتابة وحدها ، السرد وحده . لا يستوقفهم اتصال الجمل ، وتغيّر اللحظات بما يستدعى وضع نقطة أو فصلة أو بدء جملة جديدة . وفى رأيى أن علامات الوقف والترقيم مهمة جداً . إنها ليست زخرفاً ولا وشياً ، وإنما هى تضيف إلى العمل بصورة مؤكدة . وإذا كنت قد لجأت إلى ترك فراغ أبيض فى النظر الى أسفل و الشاطئ الآخر ، فلم يكن ذلك لتصوير مرور الزمن ، وإنما لتصوير حالة مغايرة ، بصرف النظر عن استمرارية الزمان أم انقطاعها . أتذكر قول هنرى جيمس إن تصوير مرور الزمن يجب أن يتم بطريقة تختلف عن مجرد ترك فراغ أبيض ، أو الفصل بين الفقرات بصف من النجوم ..
***
يقول أرسكين كالدويل : " الكتابة عادة ، تتكون فى أنفسنا مثل التدخين " . أى فرد يريد أن يصبح كاتباً ـ كما يقول بول جاليكو Paul Gallico " ـ لا يوجد أمامه سوى ممارسة الكتابة باستمرار ، لا أن يحلم بأن يكتب ، ويفكر فى الكتابة ، ولا يخرج بأفكاره إلى حيز التنفيذ . فالكتابة أشبه بعضلة من العضلات ، كلما قمت باستعمالها وتمرينها ، كلما ازدادت مرونتها ، واستطعت استعمالها بسهولة تامة " . وثمة نصيحة يقدمها معظم المبدعين ـ وهى نصيحتى أيضاً ـ هى ألا يتحدث المبدع عن عمله قبل أن يبدأ فى كتابته ، ذلك لأنه عندما يتحدث عن العمل الذى يعد نفسه له ، سيكتفى بالكلمات الشفاهية ، ولن يجلس إلى الورق والقلم ـ لكتابته ـ يوماً . مع ذلك ، فإنى أحرص على أن أدفع بمسودات كتاباتى ـ بعد أن أضع نقطة الختام ـ إلى أصدقاء ، قد لا يكون لبعضهم بالأدب صلة حقيقية : أثق فيما كتبت ، وأعرف أن آراء الآخرين لن تدفعنى إلى إعادة كتابته ، أو إجراء تعديلات فى البنية أو السرد . ما أريده من قراءاتهم هو تنبيهى إلى مواضع القصور المعلوماتى . اسم شخصية ثانوية أكتبه فى فقرة تالية باسم آخر ، الاعتماد على الذاكرة المتعبة فى ذكر تاريخ قد لا يكون صحيحاً إلخ ..
***
يبقى أنه إذا لم تحقق القصة ما أرجوه منها ، ولها ، فإنى أفضل التخلص منها ، واعتبارها كأنها لم تكن ، ولا أحاول كتابتها ثانية . إنها أشبه بالطلقة التى خرجت من فوهة المسدس ، يصعب أن تستخدم ثانية .

الثقافة الجديدة ـ فبراير 2008م





دلالات الكتابة
................

الكلمات تدوم أكثر من الأحجار كثيراً
كاميلو خوسيه ثيلا

أتفق مع تشيخوف فى قوله " إن الفنان يكتب قصة عندما يريد التعبير عن فكرة " . أختلف ـ فى المقابل ـ مع ألان روب جرييه فى أن الحدوتة لم يعد لها قيمة فى رواية اليوم ، وألح فى رفض الرأى بأن رواية القرن العشرين قد انعدم فيها المغزى . إن أهم المشكلات التى تعنى بها البنيوية ـ مع تحفظى المعلن على إمكانية تعبيرها عن مشروعنا الإبداعى أو النقدى ـ هى معنى النص ، أو قدرته على الدلالة . المعنى ، أو الدلالة ، هى كذلك المشكلة الأهم للمشروعات النقدية النى ظهرت عن الحداثة . وإذا كان رامان سلدن يذهب إلى أن مهمة الفن هى أن يعيد الينا الوعى بالأشياء التى أصبحت موضوعات مألوفة لوعينا اليومى المعتاد ( ت . جابر عصفور ) فإن الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ـ المسميات كثيرة ـ تظل هى نواة العمل الروائى ، بعداً رئيساً لها . اذا حاول المبدع أن يستغنى عنها ، فإنه يستغنى عن عمود مهم فى أساسات عمارته الروائية . أرفض قول فورد مادوكس بأنه على الفنان أن يحتفظ برأسه ، فلا يمنح تعاطفه لأحد من البشر ، ولا لقضية من القضايا ، وإنما عليه أن يظل ملاحظاً بلا مشاعر فياضة ولا شفقة . الفنان ينتهى ـ كما يقول مادوكس ـ إذا تحول إلى داعية . وهو قول صحيح تماماً . فللداعية وسيلته ، ولعالم الاجتماع وسيلته ، وللفنان وسيلته كذلك ، وهى ـ ببساطة ـ وسيلة الفن . وإذا كان تشيخوف يرفض أن يكون الكاتب قاضياً يحكم على شخصيات عمله الإبداعى ، ويطالب الكاتب بأن يكون شاهداً غير متحيز ، فإنى أجد انحياز الكاتب لقضية ما ، لوجهة نظر معينة ، لموقف أو مجموعة مواقف ، مسألة مهمة ومطلوبة ، ولعلى أتصورها ـ للفنان الحقيقى ـ بديهية . الفنان لا يجدف فى الفراغ ، ولكن يجب أن تكون له وجهة نظر ، رؤية معينة ، أو ما يسمى ـ بالنسبة للفنان المتكامل الثقافة والموهبة والخبرة ـ " فلسفة حياة " . ولعلى أذكرك بقول كازنتزاكس إن الكتابة ربما كانت ممتعة فى وقت التوازن واعتدال الأمزجة . أما الآن ، فالكتابة واجب حزين لتحفيز الآخرين على أن يتخطوا الوحش الكامن فى داخل الإنسان .
***
ثمة رأى أنه يجب أن تقدم القصة القصيرة فكرة فى الدرجة الأولى ، ثم وجهة نظر مخلصة فى الطبيعة الإنسانية ، ثم يأتى الأسلوب فى النهاية . بل إن وت بيرنت الذى يرى أن قصة بلا وجهة نظر مع فنية متفوقة لا تساوى شيئاً ، يفضل أن يكون للمبدع مقولة دون بناء فنى ، على أن يكون لديه بناء فنى دون مقولة . النص المغلق ودعناه فى قصص أمين يوسف غراب ، النهاية الباترة الحاسمة التى تحرص أن تهب المتلقى دلالة واحدة ، وحيدة . والحق أنه لا يشغلنى شخصياً إن كان تعدد الدلالة مما يذهب إليه النقاد الجدد أم لا ، لكننى أومن بتعدد دلالة العمل الإبداعى . كلما تفوقت فنية العمل الإبداعى تعددت دلالاته ، والعكس ـ بالطبع ـ صحيح . الاختلاف بين النص العلمى والنص الأدبى أن النص العلمى يعنى بتحقيق معنى محدد ، دلالة واضحة لا مجال فيها للمجاز أو البلاغة . أما النص الأدبى فهو يرفض ـ فى دلالته أو دلالاته ـ المعنى المحدد . إن قيمته ـ فى تقديرى ـ فى تعدد معانيه ، فى تعدد دلالاته ، وبتعبير آخر : فى تعدد مستويات القراءة . ولعلى أضيف إن النص الإبداعى ليس نصاً واحداً ، ولكنه نصوص متعددة بتعدد القراءات والتأويلات . لا أقصد التفكيكية ، وإنما أقصد ما يجب أن تكون عليه النهاية الجيدة للنص الجيد . إساءة القراءة كما يذهب التفكيك ، معنى لا أفهمه ، ولا يهمنى ، بل أعنى القراءة الواعية الفاهمة التى تتعدد بها مستويات التلقى . ولعل الاختلافات النقدية حول روايتى " الصهبة " ما يبين عن تعدد الدلالات . ثمة من اعتبرها تصويراً للعلاقات الأسرية فى تشابكاتها المحيرة ، ومن وجد فيها تناولاً لضغوط الواقع الاقتصادى وتأثيراتها ، وثمة من اعتبرها رواية واقعية ، ومن اعتبرها فانتازيا يختلط فيها الواقع بالحلم .. واجتهادات أخرى كثيرة ، تنتهى إلى دلالات عابرة تصل ـ فى تباينها ـ إلى حد التضاد !
الرواية ـ فى رأى روجر ب. هينكلى ـ يمكن أن تكون وسيلة ادراك معرفى ، بمقدورها أن تزودنا برؤية صحيحة عن عالم الحياة والأحياء والعلاقات الإنسانية تفوق فى قدرتها على التأثير فينا مايمكن أن نحصّله من علم الاجتماع والتاريخ والنفس والإنسان ( قراءة الرواية ) . وأتذكر قول ميشيل بوتور : " أنا لا أكتب الروايات لأبيعها ، بل لأحصل على وحدة فى حياتى . إن الكتابة بالنسبة لى هى العمود الفقرى " .
***
تقول سيمون دى بوفوار : " ان الرواية الفلسفية إذا ماقرئت بشرف ، وكتبت بشرف ، أتت بكشف للوجود لا يمكن لأى نمط آخر فى التعبير أن يكون معادلاً له . انها وحدها التى تنجح فى احياء ذلك المصير الذى هو مصيرنا ، والمدون فى الزمن والأبدية فى آن واحد ، بكل ما فيه من وحدة حية وتناقض جوهرى " .. مع ذلك فإن الرواية التى أعنيها هى التى تعبر عن فلسفة الحياة ، وليست الفلسفة بالمعنى الميتافيزيقى . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . أرفض تحول الروائى إلى مفكر جدلى ، كما أرفض أن يتحول المفكر الجدلى الى روائى . ذلك نوع من الخلط يسئ الى الفلسفة والى الرواية فى آن . أعرف أن تولستوى يواجه اللوم ـ حتى الآن ـ للفقرات الفلسفية المقحمة على رواياته . إن أعمال كاتب ما يجب أن تشكل وحدة عضوية ترتبط جزئياتها بأكثر من وشيجة ، لأن رؤية الفنان لقضايا الإنسان الأساسية تتردد كالنغم عبر أعماله جميعاً ، وتربطها كلها فى وحدة عضوية متماسكة " ( صبرى حافظ : المجلة ـ مارس 1964 ) على الرغم من ـ أو مع الإشارة إلى ـ تحفظ فورد مادوكس أن تعقد الحياة المعاصرة ، قد يتيح لنا تأمل الحياة طويلاً ، ولكن من المستحيل أن نراها فى صورتها الكلية . ولعلى أشير كذلك إلى قول ألان روب جرييه " الفن ليس فيه شئ معروف قبلاً ، فقبل العمل الأدبى لا يوجد شئ ما ، لا يقين ولا دعوى ولا رسالة . والزعم بأن الروائى لديه شئ يقوله ، وأنه يبحث بعد ذلك عن كيفية قوله . زعم فاحش الخطأ ، فإن هذه الكيفية ، أو طريقة القول ، هى ـ بالتحديد ـ التى تكون مشروعه بوصفه كاتباً ( ت . شكرى عياد ) .
***
الأدب هو الأسبق دائماً فى النظرة ، فى محاولة استشراف آفاق المستقبل . إنه يسبق فى ذلك حتى العلم نفسه . وكما يقول كافكا : " فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت إلى حياة لا نهائية . أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ماهو متفق مع القانون العام . ان رسالة الكاتب نبوية " . كانت القيمة الأهم لإبداعات تولستوى هى الترديد المستمر للأفكار العامة ، للنظرة الشاملة ، لفلسفة الحياة ، فى مجموع تلك الأعمال . وكان ذلك هو الذى أعطى أعمال تولستوى ـ كما يقول أدينكوف ـ " تكاملاً وتماسكاً داخلياً " . وعلى حد تعبير تولستوى ، فإن الكاتب الذى لا يمتلك نظرة واضحة ، محددة وجديدة للعالم ، ويعتقد أن ذلك بلا ضرورة ، لن يستطيع تقديم عمل فنى حقيقى . وإذا كان الموت هو المصير الإنسانى ، فإن العمل هو سلاح الإنسان ضد الموت " بالعمل وحده سيبزغ الفجر ، ولو فى القبر " . وقد حاول كل من تولستوى وديستويفسكى أن يجيب عن السؤال : هل الحياة جديرة بأن تحيا ؟. وكان تقديرهما أن الحياة التى نحياها ليست مجرد جسر إلى حياة أخرى ، أو أنها تنتهى بالعدم . ثمة ما ينبغى أن نتطلع إليه ، وأن نحاول صنعه حتى ننتزع للإنسانية أملاً من ظلمة المستقبل . وكان الإيمان بالعمل هو البعد الأهم فى الفلسفة الحياتية لأنطون تشيخوف . كان الطب مهنة تشيخوف ، وكان الأدب هوايته ، لكنه أخلص فى العناية بحديقته الصغيرة ، كأنه يحترف الزراعة ، وكان رأيه أنه لو أن كل إنسان فى العالم فعل كل ما بوسعه فى الرقعة التى تخصه ، فسيكون العالم جميلاً . يقول : " إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل المستمر ليل نهار ، والقراءة الدؤوبة ، والدراسة ، والسيطرة على الإرادة ، فكل ساعة من الحياة ثمينة " . ويذهب إيتالو كالفينو إلى أننا كلما تقدمنا فى قراءة تشيخوف ، التقينا بشخصيات تقرر ـ فى نهاية الأمر ـ أن تعمل بجدية ، أو تتكلم عن تلك الحياة الرائعة التى ستقوم على لأرض بعد مائة عام ، أو بعد مائتين ، أو عن تلك الزوبعة التى سوف تجتاح كل شيء " . ويقول الدكتور أستروف بطل مسرحية " الخال فانيا " : " كل ما فى الإنسان يجب أن يكون جميلاً ، وجهه ، ملابسه ، روحه ، أفكاره ، ما أمتع لذة احترام الإنسان وتقديره " . والقيمة الأهم فى روايات الروسى إيفان جونتشاروف هى " الدعوة الموضوعية إلى العمل الذى تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى : التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنسانى وروحى " . أما رؤية د . هـ . لورنس المتكاملة فتعنى بعزلة الإنسان فى العالم الحديث ، والانفصام الحاد بينه وبين الطبيعة ، فى مقابل تشويه الثورة الصناعية ، وتأثيرها بالسلب على المدينة والقرية فى آن . والحرية هى النبع الذى تنهل منه أفكار سارتر وكتاباته الفلسفية ، وإبداعاته . إنها المحور فى فلسفة حياته ، حرية الفرد والجماعة والوطن . أما همنجواى فقد تمحورت رؤيته الحياتية فى أن العالم قادر على تحطيم أى انسان ، لكن كثيرين يستعيدون قواهم ، وينهضون . الحياة ـ فى نظر شخصيات همنجواى ـ معركة خاسرة ، لكن الهزيمة تصبح نصراً إذا واجهها المرء بنفس شجاعة ومقاومة ، أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان . وبتعبير آخر ، فإن الإنسان ـ فى فلسفة همنجواى الحياتية ـ قد يتحطم ، لكنه لا ينهزم . أبطال همنجواى يدركون أن الموت هو الواقع الذى لا مفر منه . إنه اليقين الوحيد فى حياة الإنسان ، ولعل ممارسة الجنس فى أتون المعارك الحربية ، والتلذذ بمصارعة الثيران ، وبالصيد .. لعل ذلك يمثل تحدياً ـ ولو عبثياً ـ لحتمية الموت . وعلى حد تعبير جارثيا ماركيث فإن شخصيات همنجواى لم يكن لها الحق فى الموت قبل أن يعانوا ـ لبعض الوقت ـ مرارة الانتصار . الإنسان ـ عند كامى ـ يكتشف عبثية الحياة ، لا معقوليتها ، وليس بوسعه الاّ أن يتحدى كل شئ فى هذا العالم . شجاعة الإنسان ـ فى تقدير كامى ـ ليست فى غياب اليأس ، وإنما فى القدرة على التحرك ضد اليأس ، ضد عبثية الحياة . إن العادلين فى مسرحية كامى يحملون رسالة تعطى لحياتهم معنى ، فهم يحيون من أجل أدائها ، ويجعلونها قضيتهم . وباختصار ، فإنه لكى يحيا الإنسان يجب عليه أن يبقى على شعور العبث فى داخله كى يستمد منه طاقة التحدى اللازمة للبقاء .
***

(يتبع)
إن ما يغيب عن ابداعاتنا هو الفلسفة المتكاملة ، فلسفة الحياة التى تستطيع أن تربط الأفكار بالانطباعات . فمعظم روائيينا يرون أن العمل الإبداعى يجب أن يقتصر على المتعة ، على تحقيقها ، واستثارة اهتمام القارئ ومتابعته ، ومشاعره . أذكر قول أستاذنا زكى نجيب محمود : " ان الكاتب فى مصر ، انما يكتب فى غير قضية أساسية تكون فى حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى " . حيادية الإبداع مسألة يصعب تقبّلها . بعض الأصدقاء المبدعين يعتز بحيادية ابداعاته . وهـو قول ينطوى على قدر من المبالغة ، أو من النية الحسنة . المبدع ـ فى تقديرى ـ يجب أن يكـون منحازاً لقيمة ، أو لقضية ، أو لقيم ، أو لجماعة . هذا الانحياز يبين عن نفسه على نحو ما فى مجموع أعمال المبدع ، وهو ماسميته بفلسفة الحياة ، تلك الفلسفة التى تطالعنا ـ بصورة مؤكدة ـ فى أعمال نجيب محفوظ ، بينما تغيب ـ أو تكاد ـ فى أعمال غالبية مبدعينا
يوماً ، سألت يوسف السباعى عن فلسفته فى أعماله . وتطرقت المناقشة إلى توفيق الحكيم . قلت : عبّر الحكيم عن فلسفته نظرياً فى كتابه " التعادلية " ، وعبر عنها تطبيقياً فى الإبداعات التى أصدرها ، ونحن نجد فارقاً كبيراً بين النظرية والتطبيق عندما نفتقد التعادلية فيما قرأناه للحكيم . إنه يتحدث عن فلسفة أخرى يمكن تسميتها " الزمانية " ، الزمن فى حياة الإنسان المصرى ، وانعكاسه على قيمه ومعاملاته ونظرته إلى الأمور . قال السباعى فى تحيّر : الواقع أننى لم أفكر فى الزمنية هذه فى أعمال الحكيم ، ولم أبحث عنها . ولعلى أستعيد قول أحمد بهاء الدين إننا إذا جمعنا أعمال الحكيم الفكرية والآراء التى عبر عنها ، فسنجد أنه عبر عن كل رأى ، ودعا الى الشئ ونقيضه .
واللافت أن الزمن هو نبض العديد من الأعمال الإبداعية العالمية ، مثل عوليس لجيمس جويس ، والبحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست ، والجبل السحرى لتوماس مان إلخ .. وبالطبع ، فإن الفكرة الفلسفية تصبح ـ فى اللحظة التى تدخل فيها إلى العمل الفنى ـ خاضعة لقوانينه ، وليس لقوانين العمل الفلسفى .
***
بالنسبة لى ، فإنى أكاد أتصور أن الكتابة خلقت من أجلى ، قبل أن أخلق أنا للكتابة . لا أتصور نفسى فى غير الكتابة ، وفى غير القراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات والإبداع . الكتابة عندى جزء من حياتى اليومية . جزء من تكوينى الجسدى والنفسى ، وهى مثل احتياجات الإنسان الضرورية ، مثل الطعام والجنس والنوم والحرية . أذكر قول رايومونى Rayaumoni " لقد أصبحت روائياً بالضرورة ، وما استطعت تجنب ذلك " .
لقد بدأت فى المعايشة والملاحظة والاختزان من سن باكرة للغاية ، ربما لأنى كنت مهموماً بكتابة القصة فى تلك السن . لم أتعمد أى شئ ، لكن ما أختزنه ـ دون تعمد ـ من قراءات ، وتجارب لى ، وتجارب للآخرين ، ورؤى ، وخبرات ، وملاحظات ، يظهر فى لحظة لا أتوقعها أثناء فعل الكتابة . ثمة مشكلة ، أو مشكلات ، تلح على وجدان الكاتب ، وتبين عن ملامحها فى مجموع أعماله ، هذه المشكلة أو المشكلات ، هى محصلة خبرات شخصية ، وتعرف إلى خبرات الآخرين ، وقراءات وتأملات يحاول التعبير عنها من خلال قدرة إبداعية حقيقية . وحتى الآن ، فإنى أستعير من توماس هاردى قوله ، فى إجابته عن السؤال ، عن فلسفة الحياة فى أعماله ، بأنه ليس له فلسفة بعد ، وإنما هى كومة مختلطة من الانطباعات ، مثل انطباعات طفل حائراً أمام عرض سحرى . أنا أحاول أن أفيد من قراءاتى ، وخبراتى ، وخبرات الآخرين ، صوغ وجهة نظر متكاملة . ولعلى أزعم أن عالمى الإبداعى يتألف من " تيمات " أساسية يدور حولها ما أكتبه من رواية وقصة . من يريد تناول أعمالى ، أو حتى يكتفى بقراءتها ، أن يقرأ كل هذه الأعمال ، مجموع ما كتبت . ثمة وجهات نظر ، نظرة شمولية ، إطار عام ، أحاول أن أعبر ـ من خلاله ـ عن فلسفة حياة مكتملة ، بالإضافة إلى محاولات التجريب تقنياً ، ربما أعدت تناول التيمة الواحدة فى أكثر من عمل . لا يشغلنى التكرار بقدر ما يشغلنى التعبير عما أتصوره من أبعاد فلسفية حياتية .
وطبيعى أن نظرة الكاتب الى الهموم التى تشغله ، موقفه الكامل منها ، يصعب أن تعبر عنـه قصة واحدة أو قصتان ، لكننا نستطيع أن نجد بانورامية نظرة الفنان فى مجموع أعماله ، وفى كتاباته وحواراته التى تناقش تلك الأعمال . لذلك فإن الكثير من أعمالى تنويع على لحن سبق لى عزفه فى أعمال سابقة ، وربما مهدت لعمل ما بعملين أو ثلاثة ، أعتبرها إرهاصاً لذلك العمل ، أو أنها استكمال له . إنى أفضل أن أُقْرأ كعمل كلى ، وليس كأعمال منفصلة . أن يقرأ الناقد مجموع أعمالى ، ويتأمل دلالاتها المنفصلة ، ودلالاتها الكلية ، يحاول أن يتعرف فيها إلى فلسفة حياتى ، إلى نظرتى الشاملة . للمبدع وجهات نظر فى الدين والفلسفة وما وراء الطبيعة والتاريخ والسياسة والعلم والفن . وهو يضمّن إبداعاته ذلك كله ، أو جوانب منه . وقد حاولت ـ فى مجموع كتاباتى ـ أن أعبر عن القضايا الأساسية التى تلح على ذهنى ، وأعتبرها قضية حياة . لست الكاتب البريطانى أنتونى باول الذى يؤكد أن هدفه من الكتابة ، هو إعادة تشكيل العالم ، أو تحقيق النظام فيه .. ولا أريد ـ مثل الألمانى ستيفن هيرمان ـ أن أترك أثراً ، بل ولا أريد ـ بقصد ـ تغيير العالم اليومى للمتلقى ، الذى هو واحد ممن تتجه إليهم إبداعاتى . ما أريده أن أتخطى حواجز المكان ، بل وحواجز الزمان ، فأتخذ من الإنسان موضوعاً ، ومن العالم موضعاً ، وأجعل وقتى هو العصر الآنى . أتفهم قول أندريه موروا إنه ليس على الرواية أن تبرهن على شيء ما ، فالعمل الفنى ليس جدلاً ، ولا برهاناً ، وخصيصته ـ بالعكس ـ هى أن يبعث على الإقناع ، بمجرد التأمل " إنه هناك ، هذا كل شيء " .
إن تجربتى الإبداعية ـ على تعدد أبعادها وتنوعها ـ تحاول الخضوع لوجهة نظر شاملة ، لفلسفة حياة تحاول التكامل ، وإن استخدمت فى كل عمل ـ الأدق : يستخدم كل عمل ـ ما يناسبه من تقنية . إن القارئ المتأمل يستطيع أن يتعرف إلى المبدع ، فى مجموع ما كتب .
ظنى أن القضية الأساسية فى خلفية كل القضايا هى الوجود الإنسانى : الحياة ، المصير ، الموت ، ما بعد الموت ، وما قد يخلفه الإنسان من أثر فى هذا العالم . ثمة الحب ، والموت ، والإحساس بالمطاردة ، والوحدة ، والحنين إلى الماضى ، والعزلة عن الجماعة ، وصلة المثقف بالسلطة ، والقهر فى الداخل ، والغزو من الخارج . لكن العنوان العريض الذى أتناول ـ من خلاله ـ تلك القضايا هو المقاومة ، مقاومة كل مظاهر القهر والمطاردة والتسلط والعبث .
من المؤكد أنى لا أميل ، بل أرفض دعائية الفن وجهارته وتقريريته ومباشرته ، لكننى لا أنفى القيمة ، لا أرفضها . أجد فيها بعداً مهماً فى العمل الإبداعى ، وإلاّ تحول إلى ثرثرة لا معنى لها ، لا قيمة فيها ولها . ربما أكون محمّلاً بفكرة ، أو مقتنعا بها ، وربما حاولت أن أعبّر عن ذلك فى كتاباتى ، لكنى أفضّل أن يتم على نحو فنى ، فلا تقريرية ، ولا جهارة ، و لامباشرة ، وإنما حرص مؤكد على فنية العمل الإبداعى من حيث هو كذلك ..
***
كانت الأسوار هى روايتى الأولى . كتبتها بعد إنهاء الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " [ أفردت لذلك مقالة مستقلة ] . ثم شغلتنى إمام آخر الزمان . حاورت فيها أصدقاء ، أذكر منهم سامى خشبة الذى سألنى وهو يودعنى فى رحلة عمل الى منطقة الخليج : لماذا تشغلك دائماً فكرة المخلص ؟..
تقول أسطورة يونانية ان الآلهة تهجر المدن المهجورة . ويقول مالرو : " إننا نعلم أننا لم نختر أن نولد ، وإننا لن نموت باختيارنا ، وأننا لم نختر أبوينا ، وأننا لا نستطيع أن نفعل شيئا ضد الزمان " . الموت هو الحقيقة التى تواجهنا ، تصدمنا ، منذ بواكير حياتنا . يموت الأب أو الأم ، فنبدأ بالقول الكاذب : لقد سافر . ثم نعلم الإبن السائل بالحقيقة ـ فيما بعد ـ فيبدأ فى إلقاء الأسئلة : ما الموت ؟ ما الآخرة ؟ ما الجنة والنار ؟ إلخ . نحن نمضى فى الطريق إلى الموت دون أن تكون لنا إرادة . إنه ـ كما يقول مالرو ـ يحيل الحياة إلى مصير . من الأصوب أن نواجه الموت باسم غاية نحيا من أجلها . يتساءل مالرو : ماقيمة حياة لا يقبل المرء أن يموت فى سبيلها ؟ . إن الإنسان يقامر بحياته فى سبيل ما يؤمن به من قيم ، ويتحدى الموت بوصفه التأكيد النهائى لشخصيته الحقة . سيكون للبذل ، للتضحية ، معنى : لو أنه اكتفى بما قدمه دون أن ينتظر جزاء إيجابياً ، ولا يفاجأ بأن الجزاء سلبى . وقد فضّل الحسين ـ كما تعلم ـ أن يستشهد ، على أن يتنازل عن الفكرة التى يؤمن بها . المثقف الحقيقى مطالب ـ دوماً ـ بأن يغلب الموضوعى على الذاتى . إنه يرضى بالمنطق الذى ترفضه العلاقة بين حبيبين ، فهو يحب من طرف واحد ، لا ينتظر من المحبوب اعترافاً بالجميل ولا مساندة ، وربما انتظر جزاءً سلبياً . إنه قد يموت وهو يهتف باسم من دفع حياته ثمناً لخذلانه ، لخذلان المثقف !
***

القهر فى الداخل ...
أتذكر كلمات خوان جويتيسولو ـ بعد وفاة فرانكو ـ " لقد عشنا احتلالاّ طويل الأمد وغير ملحوظ من الخارج ، احتلالاً بلا خوذ ولا بنادق ودبابات ، وليس احتلالاً للأراضى ، بل احتلال للعقول " . الإنسان مطارد منذ الميلاد إلى الموت . إنه ـ كما يقول سارتر ـ مخلوق يطارده الزمن ، لكن المطارد فى رواياتى ليس الزمن وحده . إنه قد يكون السلطة ، أو قيم الجماعة ، أو غيرها مما قد يضيع حياته فى محاولة الفرار منه . قد يكون البطل مطارِداً ، وقد يكون ـ فى الوقت نفسه ـ مطارَداَ . ذلك ما يسهل تبينه فى شخصية منصور سطوحى فى الصهبة ، أو شخصية السلطان خليل بن الحاج أحمد فى قلعة الجبل ، أو أبى الطيب المتنبى فى أوراقه ، أو زهرة الصباح ، أو رءوف العشرى فى الخليج ، أو الحاكم بأمر الله فى سيرته الروائية ، إلخ.
وإذا كان المصريون القدماء يسمّون الموت " النزول من البحر " ، فإن محمد قاضى البهار نزل الى البحر ، ولم ينزل منه ، فهو اذن قد نزل الى الحياة . وبالإضافة الى محاولة قاضى البهار الفرار من القهر ، فإنى أتصور حياته قد أظهرت الهوة التى تفصل بين عالم المثالية الذى كان يحيا فيه ، والواقع القاسى الذى يريد أن يفرض عليه طقوسه وقوانينه وأحكامه ، وهو واقع لا يستند إلى قيم نبيلة ، ويلجأ الى الزيف والخداع ونكران الحقيقة ..
والآن ، فإن التيمة الأساسية التى تلح فى غالبية أعمالى ، هى مواجهة الآخر ، سواء بالمقاومة الجسدية ، أو بتفعيل التحدى الحضارى ..
إن الصراع العربى الإسرائيلى ليس مجرد مواجهات سياسية وعسكرية ، إنما هو صراع ذو إبعاد تاريخية وحضارية وثقافية . إنه تواصل واستمرارية حياة ، وتناول الإبداع لجوانب من ذلك الصراع لا يعنى السقوط فى هوة المباشرة أو الجهارة ، بل إن الإعمال الكبيرة هى التى تناولت قضايا كبيرة . المثل : خريف البطريرك " لجارثيا ماركيث ، والحرب والسلام لتولستوى والطاعون لكامى ، والحرافيش لمحفوظ ، والحرام لإدريس ، وسمرقند لمعلوف ، وغيرها . وبالنسبة للصراع العربى الصهيونى ـ تحديداً ـ فمن الصعب إغفال أعمال غسان كنفانى المهمة ، مثل رجال فى الشمس ، وعائد إلى حيفا ، و " ما تبقى لكم " وغيرها . ذوى إعجابى القديم بعبقرية زفايج ، وروايات كافكاا ، واجتهادات فرويد ، ونظرية إينشتين ، ولوحات شاجال . شحبت الملامح الجميلة فى مرآة الصهيونية . فرض التوجس نفسه حتى فيما لم يعد يحتمل ذلك .
***
ماذا يبقى من ذلك كله ؟..
بالطبع فإن المتلقى قد ينشد الدلالة فى العمل الإبداعى . وقد يكتفى فحسب بمتعة التلقى ، بمتعة القراءة أو السماع أو المشاهدة . لكن الكتابة بقصد التسلية ـ على حد تعبير جورج مور ـ سوف تنتهى بالفن إلى لا شىء .
أوافق على الرأى بأن الإنسان إذا تعلم أن ينظر إلى الفن على أنه شىء لا ينتمى إلى الجمال والحق ، بل إلى الرأى وحده ، فإنه ـ كما قيل ـ سيفقد بصيرته ، ويصبح كما يريده رجال العصابات ، حيواناً ينتمى إلى قطعان "
وإذا كان رامان سلدن يرى أن العمل الإبداعى الجيد هو الذى يخبرنا بالحقيقة عن الحياة الإنسانية ، بالكيفية التى تكون عليها الأشياء ، فإنى أستعير قول بورخيس : " المهم أن يبقى أربع أو خمس صفحات من كل ما يكتبه الكاتب " .

الأسبوع الأدبى ـ 13/5/2006م.



القـــــراءة
.............

إن المرء هو حصيلة ما يقرأه . وكما يقول كارلوس فوينتس : " أنت تتكون من الشىء الذى تأكله ، كما أنك المجلات المصورة التى تمعنت فيها وأنت طفل " ..
كانت مكتبة أبى ، التى تعلمت فيها القراءة ـ بالإضافة إلى الكتاب المدرسى ـ باعثاً لأن أقرأ كتب " الكبار " قبل أن أقرأ كتب " الأطفال " . قرأت طه حسين والحكيم والجبرتى والأصفهانى والمقريزى والماوردى وأجاثا كريستى وألكسندر دوماس ، قبل أن أقرأ كتب سعيد العريان وفريد أبو حديد وكامل كيلانى . أقصد كتبهم التى صدرت للأطفال . أتاح لى زميلى فى الفرنسية الابتدائية ممدوح الطوبجى ، قراءة كل تلك الأعمال . قام بدور مكتبة الإعارة ، فهو يعيرنى رواية ، أعيدها فى اليوم التالى ، وأحصل على رواية أخرى ، وهكذا ..
والحق أن مكتبة الطوبجى لم تقتصر على كتب الأطفال ، فقد تعرفت فيها ـ للمرة الأولى ـ إلى صلاح جاهين . طالعنى عالمه الإبداعى الجميل فى قصائده الأولى . ولازلت أذكر ـ حتى الآن ـ ترديدى لأسطر القصيدة : القمح مش زى الدهب .. القمح زى الفلاحين .. عيدان نحيله .. جدرها مغروس فى طين ..
المؤكد أن القراءة صرفتنى عن شواغل وهوايات كثيرة . استولت على كل وقتى ، فانصرفت عما عداها . فتحت أمامى نوافذ وأبواباً ، وسلطت الضوء على فضاءات متسعة ، امتدت آفاقها بتنوع القراءة وخصوبتها وجدواها ، وتعبيرها عن الأنا والهو والوطن والعالم . أذكر وصف هنرى ميلر لرامبو بأنه كان يقرأ وهو واقف ، ويقرأ وهو فى طريقه إلى العمل . حتى كرة القدم والجمباز وتنس الطاولة وغيرها من الألعاب التى أحببتها ، ما لبثت أن انصرفت عنها لاعباً ، واكتفيت بالفرجة على مبارياتها إن أتيح لى ذلك ..
وفى مطالع الستينيات ، فى الأيام الأولى لعملى بالصحافة ، كنت أركب الترام أو الأوتوبيس إلى ميدان القلعة . أصعد فى شارع المحجر . يطل ـ فى أسفل ـ على أحواش المقابر ، وفى امتداد النظر على أحياء القاهرة . أصل إلى دار المحفوظات ، فأضغط على الجرس المثبت بالباب . يعلو الرنين فى المكان بكامله . هذا زائر ربما يكون لصاً ، فاحذروا !. أرقى السلالم إلى القاعة العلوية . فسيحة ، فى جوانبها كتب ومجلدات . أطلب ما يعن لى قراءته . يجتذبنى اسم الصحيفة ، وقِدم تاريخ صدورها ، فأطلبها . زادت تلك الفترة من حبى القديم للتراث . بدأت بقراءة ما كانت تضمه مكتبة أبى من كتب تراثية ، ثم بدت لى صحف دار المحفوظات عالماً ينتسب إلى العالم الذى كنت أحياه ..
النسيان هو ما أعانيه فى القراءة . أتبين ـ فى فقرة ما ـ قد تتضمنها الصفحات الأخيرة ـ أن هذا الكتاب قد سبق لى قراءته ، وأقبل عليه كأنى أقرأه للمرة الأولى . ما يثبت فى الذاكرة مما أقرأه قليل ، لا أتمتع بالذاكرة الحافظية التى كان يمتلكها العقاد وكامل الشناوى . ثباته فى الذاكرة لأنه يهمنى ، أو لأنه عمق من فهمى لقضية ما .
أمضيت معظم حياتى فى ثنايا الكتب . ثمة كتب أقرأها فلا أذكر أنى قرأتها إلا عندما أصل إلى معلومة ما ـ ربما فى نهاية الكتاب ـ بما يذكرنى أنى قرأته من قبل . وثمة ـ فى المقابل ـ كتب تظل فى داخلى ـ الذهن والوجدان معاً ـ تناوشنى ، وأستعيد ما بها من شخصيات ومواقف وأحداث . القيمة الأهم عندى هى معايشة آلاف الشخصيات والأحداث والتواريخ والمعالم والأفكار . الوجود الإنسانى منذ بداياته : عهود ما قبل التاريخ . أيام الإسلام الأولى . مؤامرات القصور . حكايات الحب العذرى . اكتشافات المناطق المجهولة . نشأة الزراعة . عصر البخار . أعماق المحيطات والبحار وضفاف الأنهار . الأسواق العتيقة والقيساريات . لحظات التاريخ الحرجة . محاكم التفتيش . حضارات الفراعنة . عقود العرب فى الأندلس . معاناة المقيدين فى الأقبية والزنازين . شخصيات شكسبير . حكايات شهرزاد . رحلة الإسراء والمعراج . رسالة الغفران . الكوميديا الإلهية . إبداعات الواقعية الطبيعية . سير الملوك والقاصرة والأكاسرة وقطاع الطرق والجوارى والزهاد وقادة الجيوش ، وبنو هلال والخليفة الزناتى والظاهر بيبرس وأبو الحسن الشاذلى والسيد البدوى وإبراهيم الدسوقى وكليوباترة وشجر الدر . غزوات الإسكندر . الفايكنج . الغزوات الصليبية . الثورة الفرنسية . الانقلابات العسكرية .. إلخ .
ومع أنه قد أتيح لى قراءة الكثير من الكتب ، فإن الكثير من الكتب لم يتح لى قراءتها . أوزع ساعات اليوم ـ بصرامة ـ بين القراءة والكتابة وأمور الحياة اليومية . وإن كان أغلب الوقت للقراءة ، لكن مشروعى القرائى لم يتحقق على النحو الذى كنت أتطلع إليه . ما كنت أتصور أنى سأقرأه فى يوم واحد ، ربما استغرقت قراءته أسبوعاً أو أكثر . وثمة كتب أعيد قراءتها مرة ثانية ، وثالثة ، وفى كل مرة يبين الكتاب عن جوانب لم أكن قد تنبهت إليها . وأحياناً فإنى أقرأ النص الإبداعى ـ فى المرة الأولى ـ لمجرد المتعة ، ثم أناقش ـ فى المرة أو المرات التالية ـ ما يحمله النص من دلالات . فى النص الواحد قابلية لبضع دلالات ، وليس ثمة قراءة يمكن أن تستنفد أبداً كل المعانى المطروحة فيه . ما يشغلنى هو النص . لا شأن لى بحياة المؤلف ولا بموته ، ولا بأن إزاحة المؤلف تؤدى إلى القراءة " التى هى فى الأثر الأدبى قراءة استهلاكية تقيّد القارئ بالمعنى الحرفى للنص " ، ولا لتقريب القراءة من الكتابة بحيث يصبح القارئ كاتباً . النص هو الكتابة التى أقرأها ، العالم الذى يلح الكاتب فى اجتذابى إليه ، أو تنفيرى منه ..
أعترف إنى أفضل أن أقتنى الكتاب . أشتريه ، أو أحصل عليه بالإهداء ، ولا أستعيره ، الكتاب الذى أبدأ فى قراءته ـ إن كان يستحق القراءة بالفعل ـ أبدأ معه ـ فى الوقت نفسه ـ علاقة صداقة . وقد يتحول إلى صديق جميل ، فأنا لا أتصور أنى أستغنى عن صداقته ، لا أستطيع أن أستغنى عنه !. وحين أقرأ عملاً إبداعياً ، فإن قراءتى له تختلط باستعادة ذكريات شخصية ، وتخيل ، وتأمل . أحب الكتاب الذى يحتفظ برونقه . يضايقنى اتساخ الصفحات أو تمزقها . أرمقها ـ فى لحظات القراءة ـ بنظرة مستاءة ، متكررة . والحق أنى أحب الكتب بعامة . أحبها مصفوفة فى داخل الأرفف ، أو على طاولة ، أو فى واجهات المكتبات ، أو عند باعة الصحف . تجتذبنى فأتأمل العناوين ، وربما قلبت الصفحات بسرعة قبل أن يراجعنى البائع فيما أفعل ، أو يبدى تذمره . أجد نفسى بين الكتب كالمتصوف فى الحضرة . تجتذبنى حتى الرائحة . تمنيت أن أعمل فى مكتبة . أقضى الوقت فى مهنة تتصل بالقراءة . أقلب الكتب بيدى ، أبيعها ، أشتريها ، أقرأها .
إن رواية جيدة قد تصرفنى عن أشياء كثيرة . لا أتابع المناقشات ، ولا أشاهد التليفزيون ، ولا أتناول الطعام فى موعده ، ولا أذهب إلى النوم . أسلم نفسى لسحر القراءة الجميل . القلم الرصاص فى يدى ، أخط به تحت التعبيرات التى تستلفت نظرى ، فهى تحتاج إلى التأمل ، أو إلى المناقشة . لا أميل إلى الحرف الكبير ، لأنه قد يصلح للكتب المدرسية ، ولا أميل إلى الحرف الصغير لأنه يجهد العين . الحرف المتوسط لا يزيد صفحات الكتاب أكثر مما ينبغى ، ويريح العين فى القراءة . وأفضل أن تكون فقرات النص متصلة ، منفصلة ، بمعنى أن يظل السياق متصلاً ، تقطعه ـ لتسهيل القراءة ـ فواصل ، كالعناوين الفرعية ، أو الموتيفات الصغيرة ..
ولاشك أن الكلمات التى تكتب للقارئ ، تختلف عن الكلمات التى تطالع مشاهد المسرح ، وعن الكلمات التى تخاطب الأذن المستمعة . والحق إنى لا أحسن الإصغاء ، ولا أحسن الاستماع عموماً . أهب سمعى لمحدثى لحظات ، ثم أطير إلى جزر بعيدة وقريبة ، تعزلنى عن محدثى وعن كل ما حولى . أنسى مجرد وجوده . أكتفى بهزة من رأسى بما يعنى المتابعة . المصيبة لو أنه قطع حديثه وسألنى فى أجزاء مما قال . يعرونى ارتباك ، وأغمغم بما لا يعبّر عن معنى محدد . حتى الإبداعات التى أستمع إليها ، أغمض عينى ، وأحاول التركيز حتى لا أشرد ، فأفقد القدرة على المتابعة ..
النص ـ كما نعرف ـ ما هو مكتوب . ويقول والتر سلاف : " إن الأعمال الأدبية تكتب لكى تقرأ " . ومع أن مصطفى ناصف يشدد على أن كل نص مقدس يراعى فيه قراءة الجهر لا قراءة العين ، وأن إهدار القراءة الجهرية إهدار لمعنى الرسالة أو البلاغ أو البطولة أو الخطاب الحى البرىء ، فإن طريقتى الوحيدة فى القراءة هى الصمت . القراءة سراً . لا أتصور أن القراءة بصوت مرتفع تساعد على التركيز ، ومن ثم على الاستيعاب . [ ثمة رأى يقول : من المهم أن تسرع فى القراءة لكى تتفادى الملل ] . قيل إن " القراءة فى الصمت الذى يرافقها ليست إلاّ امتداداً للعمل الأدبى نفسه " . وعندما أستغرق فى القراءة ، فإنى أمارس فعل الاستغراق ، لا أقرأ لمجرد أن أتعرف إلى تفصيلات الحدث ، ولا حتى إلى الملامح الظاهرة أو النفسية للشخصيات ، إنما أحاول التعرف إلى جماليات العمل الإبداعى : اللغة ، الفنية ، السرد ، الحوار ، الدلالة .. كل ما يتصل ببنية العمل الإبداعى . وبالتحديد ، فإنى أبحث فى العمل الإبداعى ـ ربما لأنى أحاول الإبداع ـ عن كل ما يهبه ـ أو لا يهبه ـ من خصوصية . وبالطبع ، فإن المروى عليه ، أو المخاطب ، يختلف عن القارئ . المخاطب جزء فى العملية الإبداعية . أما القارئ فهو جزء فى عملية التلقى . القارئ متابع للحدث الذى يشارك فيه الراوى والمروى عليه . القارئ مخاطب غير مشارك ، بمعنى أنه لا يسهم فى صياغة الأحداث ولا تنميتها . يتخيل ، ويناقش ، ويوافق ، ويرفض ، وإن تحدد دوره فى متابعة ما يقوله النص . أما المخاطب فى داخل العمل الإبداعى فهو قد يكون مشاركاً أو غير مشارك ، لكنه يتصل على نحو ما بصميم العمل . المخاطب المشارك يملك الفعل ، مثل شهريار الذى لم يلغ إنصاته لحكايات شهرزاد توقع إنهائه للعبة الحكى . كانت شهرزاد راوية ، وكان شهريار مروياً عليه ، أو مخاطباً مشاركاً . أما القارئ فهو يتابع ما يدور بين الراوى والمروى عليه . مشاركته تتحدد فى المتابعة ، وانعكاس الأحداث على وجدانه . قد يكون المروى عليه مشاركاً ، فالراوى يتحدث عن مواقف شاركا ـ الراوى والمروى عليه ـ فى صنعها ، أو فى تلقيها . وقد يكون المخاطب ، أو المروى عليه ، غير مسمى . لا يعرف القارئ اسمه ، ولا مهنته ، بل ولا دوره فى أحداث العمل الإبداعى . هو أشبه بالموضع الذى يعيد إلى القارئ صدى الحدث . إنها قراءة ـ كما يصفها رولان بارت " لا تترك شيئاً يمر ، تزن النص وتتشبث به " . إن القراءة ـ بما تحمله من معلومات وخيال وآراء ـ تحرّك مخزون الذاكرة ، تستدعى ما كان غائباً ، أو مفتقداً . وكما يقول أندريه موروا ، فإن القراءة فن يستطيع المرء عن طريقه أن يلتقى من جديد بالحياة نفسها لكى يتفهمها على غير حقيقتها عبر الكتاب نفسه .
***
الإنسان ـ فى تقدير أفلاطون ـ يحول ما يقرأ إلى صورة منطوقة . الكلام هو الصورة الأصلية للغة . ويقول جمال الدين بن الشيخ إن القراءة لا تنحرف بالحكاية [ القصة ] لكنها تتولد فيها . إنها ترتكز على اختيار دلالة معينة ، توجه مجموع النص فى اتجاه منظوره الخاص ، وفى اتجاهه فقط . إن القارئ هو الذى ينتج النص من خلال فعل القراءة ، يسقط عليه وعيه وفهمه وخبراته وثقافته ، وربما حالته النفسية فى لحظات القراءة . ومن جماع ذلك كله ينتج أبعاد النص الشكلية والمضمونية ، ويسقط دلالته أو دلالاته . إن قراءة أى نص هى ـ على نحو ما ـ قراءة ثقافة القارئ وفهمه ووعيه وخبراته . طبيعى أن تختلف دلالة العمل الإبداعى باختلاف قرائه ، باختلاف ثقافتهم ومستواهم التعليمى وأمزجتهم وحالتهم النفسية وانتمائهم الطبقى . قد أجد فى القصة دلالة ما ، تختلف عن الدلالة التى تتحقق فى لحظة أخرى مغايرة ، بل إن النص قد لا يتكيف مع كل قارئ يدخل فى اتصال معه . القارئ الذى يطرح دلالة يتصورها للعمل ، يختلف فى ثقافته ووعيه وحسه الفنى والجمالى عن القارئ الذى يكتفى بالبحث عن الدلالة فى ثنايا العمل ، أو فى نهايته . قد يفاجأ القارئ غير المتخصص ، أو الذى ألف قراءة الجريدة اليومية ، يصده عن المتابعة أو المواصلة . القارئ الحقيقى هو القارئ المبدع . إنه يقرأ بجماع الحواس ، وليس بالعينين وحدهما . يقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . يحيا فى داخل النص ، ولا يكتفى بالحياة على هامشه . القراءة التى تعى خصائص العمل الإبداعى ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن القراءة التى لا تدرك تلك الخصائص ، فهى تقرأ النص الأدبى بالكيفية نفسها التى تقرأ بها التحقيقات الصحفية ، أو أخبار الحوادث ..
وبالنسبة لى ، فإن قراءتى لنص ما ، ترافقها ـ بالضرورة ـ قراءات سابقة فى نصوص أخرى . تنقّل غير محسوب بين تجارب وخبرات ورؤى ، قد لا تتصل بالموضوع الذى يتناوله النص ، لكنها تستدعى نصوصاً غائبة ، تختلط وتتقاطع وتتشابك ، فيغيب بعضها حالاً ، ويناوشنى بعضها لحظات ، وربما استقر بعضها فى الذاكرة ، أفيد منه ـ فيما بعد ـ فى عمل أكتبه . وفى تقديرى أن القارئ المبدع هو قارئ إيجابى . إنه يقرأ بعينيه ، ويقرأ بعينيه ، ويقرأ كذلك بذهنه ووجدانه ومخزونه المعرفى وتأملاته . ويصف جورج أورويل محاولاته النقدية بأنها مجرد هواية . ويضيف ـ بنص كلماته ـ " القراءة هى النشاط الطبيعى لأى إنسان مهتم بالعالم الذى يحيا فيه . وحين يمارس المرء القراءة ، فلا بد له من أن يفضل بعض الكتب على غيرها ، وأن يكره بعض الكتب أكثر من غيرها . وبديهى ـ فى هذه الحالة ـ أن يكتب وجهة نظره فى تلك القراءات " .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق