المُثقّف المُبدع، كُتلة الأحاسيس التي تسير على الأرض بقدمين، ممتطيةً روحًا تطمح إلى الحُريّة، والمحبّة، والسّلام، واستئصال بشاعات العالم الكبيرة، وشطف وجه الأرض بكثيرٍ من العدالة القادرة على تنظيف وساخات الجَور والفساد. ذاك الذي يعيش على خط بُعدٍ ثالثٍ من العالم، ينظُر فيه إلى الواقع بعينٍ أبعدُ نظرًا من بقيّة النّاس، وإحساسٍ أكثر تأثّرًا من عامّتهُم، ألا يستحقّ ثوانٍ من الحُريّة المعنويّة ليُعبّر فيها عن أحزانه الصّريحة، وهمومه التي تستوطن القلب من الوريد إلى الوريد؟ ألا يحقّ له الحديث دون قيود عن إحباطاته اليوميّة الصّغيرة، وانكساراته المعنويّة الكبيرة، ومشاعر الهزيمة التي تحتلّ كيانه في لحظاتٍ تتأرجح بين كفّتي اليأس والأمل؟
في وقتٍ صار فيه المُثقّف لا يجد من يسمعه، وإن وجَد فإنّه لا يحظى بحُريّة التعبير عن ذاته في قضايا جريئة دون حدود تُحاول مُصادرة رأيه، أو مُكافحة وُجهة نظره، اخترنا عددًا من مُثقّفي الوطن العربي لنقترب أكثر من خطّ أحزانهم بهذا السؤال الشّاسع: تُرى؛ ما هو أكثر ما قد يُحبط المُبدع العربي، أو يملأه شعورًا بالهزيمة والانكسار؟
التخلّف المُجتمعي والثّقافي:
كانت بداية حديثنا مع الكاتب والنّاقد المغربي محمّد فاهي؛ الذي رحّب كثيرًا بخوض مثل هذه القضيّة في وقتٍ صار فيه المُثقّف العربي يتوق للتعبير عن إحباطاته ومُناقشتها -على حدّ تعبيره- قبل أن يُشاركنا الرّاي بقوله: "يوجد المثقف العادي، وقبله مثقف الأنتلجنسيا، وجها لوجه مع مظاهر التخلف المُستشرية في المُجتمع، في الكثير من القِيَم والعَادات والعِلاقات والمُمارسات السّياسية، وحتى الثقافية. وهو أكثر وعيًا بهذه المظاهر، ومن أوائل الذين تستفزّهم، بل وتهددهم بالاحتواء والقهر والإقصاء...وهو لايملك من وسائل المُجابهة إلا وَسائله الخاصة، المتمثلة في الإبداع والكتابة...وإذا كان بعض المُثقفين محظوظين لأنهم يوصلون أعمالهم لطبيعتها الفنية ذات الاتصال بوسائل الإعلام الجماهيرية؛ فإن الكتابة حظها قليل في الانتشار والتأثير، بحكم انتشار الأميّة والعُزوف عن القراءة. وقد دخلت فئة واسعة من المُتعلّمين ضِمن هذه الشريحة. لكل ذلك تغدو الكتابة نخبويّة ذاتيّة. وحتى داخل الحقل الثقافي على المثقف المُبدع أن يبحث عن موطئ لقدمه في الخريطة الثقافية . ولم يعد عمله هو رهانه الوحيد لتحقيق الذات، إذ أصبح "النذص" جزء لايتجزء من شبكة إرسالية قوامها الدعاية والإعلان والتسويق، ناهيك عن الانخراط في شبكة أخرى من الولاءات والتكتلات والتحالفات والانتماءات. حتى بعض الصفحات الثقافية، وبعض المَنَابِر الإعلامية تفرض نوعًا من الرّقابة ليس على النصوص، بل على المُبدعين. وكأنّ المُبدع عليه أن يُحضر تأشيرة الدخول إلى هذه الجهات...وكأنه (برّاني) ...وكأن الوطن منفى.. وكأن..... لقد تحوّل "النّص" إلى الهامش، مثلما أزيح العالم والمعنى والإنساني. وهذا ما يُمكن إثباته عبر شبكة الإنترنيت نفسها، إذ لاتملك بعض التجارب من جدارة إلا الأضواء التي تُعمي الأبصار."
تصريف الثّقافة الشّعبيّة:
ويُضيف فاهي : "وإذا كان الإنسَان العَادِيّ يتدبر أمُوره الثقافية بتصريف ثقافته الشعبيّة، فإن المُثقف يستلهِم هذه الثقافة، وبتمثلها ويعيش بها، بل ويُدافع عنها، لكنّه لايَستطيع توصيل صَوته، بحكم العوامل السّابقة الذكر. ويمكن أن نُضيف إليها التمثلات العامّة، التي لاترى في المنتوج الأدبي إلا نوعا من البذخ الزائد. وهو نفس التمثل السائد حول الدراسات الأدبية في الأسلاك التعليمية، في مجتمع يُعلي من قيم النفعية الضيّقة. ولا ينال المبدع من كل ذلك إلا التبخيس والإهانة ،حتى من قبل فئة من المتعلمين، يتصورها المبدع من شريحة القراء المفترضين. ومن جهة أخرى، تعمل بعض الجهات على إغلاق الأبواب في وجه المُبدعين لحسابات آيديولوجية مُنغلقة، أو لاعتبارات أخرى، يعرف الموروث (في جانبه المظلم) كيف يفرضها فرضًا، كالدّوافع القبلية، أو العشائرية، أوالذاتية المريضة. إن المثقف العادي في هذه الظروف يناضل من أجل تحقيق ذاته، بدون سند في الغالب إلا مايكتبه. ومن المُمكن التحدث عن حالة يصبح فيها المبدع مُرسِلا ومُتلقيًا لأعماله. إن جُل الكُتاب في المغرب يتكبدون عناء طبع أعمالهم على نفقاتهم الخاصة، وفي الكثير من الأحيان عليهم أن يوزعوا منتوجهم بأنفسهم، إذا أرادوا الإفلات من الشروط المُجحِفة التي تضعها دُور النّشر والتوزيع. "
مُمارسات بعض المُثقّفين:
ويؤكّد (فاهي) واثقًا: "إن الثقافة في البلدان العربية عمومًا، ليست الا مُكوّنًا ثانويًا في سِياسات التدبير الرسمية، ولم يُنظر إليها بعد كرهان فعّال للتنمية، علما بأنّ العَالم يدخل اليوم في مايُسمّى باقتصاد المعرفة، باعتبارها ثروة الحاضر والمستقبل. لكلّ هذه الأسباب ظهرت في المغرب، في الآونة الأخيرة، أصوات تطالب برد الاعتبار للثقافة والمثقف، أولاً بتخليص الثقافة من قِيَم السّطحية والابتذال والبهرجة الفارغة والزّيف، وتخليصها – ثانيًا- من أشكال التبَعِية، ودفعها بالتّالي لتكون ضمن الأولويات . ويضاف إلى ذلك الحفاظ على كرامَة المُثقف، وصَون حُقوقه. وإذا أضَفنا إلى العوامل السابقة بعض المُمارسات الشائعة بين المثقفين، بحثا عن زعَامَاتٍ وهمية، وبحثا عن النّجومِيّة باتباع جميع السّبل الكيديّة لإقصاء آخرين، وتبخيس مجهوداتهم، وقهرهم.. لكل ذلك سيبدو الوضع أقرب إلى المأساوي، مادام المثقف لايرقى ببعض ممارساته وأساليبه إلى قيم الديمقراطية، والإنصاف، والاعتراف، والاحترام...وهي القيم التي يفترض فيه الدّفاع عنها وتبنيها، ليس على مستوى الخطاب فقط، بل على مستوى المُمارسة. وإلا كان هذا النوع من المُثقفين يُكرّس القيم التي يتبجّح في نقدها، ونقد الناس البُسطاء الذين يتصرّفون بشكلٍ أنبل من تصرّفه. هذه المُمارسات غالبًا ماتحفزّها دوافع انتهازية ووصولية، تعمي أصحابها حتى عن الأرض التي يطؤونها بأقدامهم."
ويُشير فاهي إلى أنّ " كتابة نص ناجح من بضع كلمات يمنح سعادة داخلية، تسمو فوق كل الكوابح. ونحن في حاجة إلى أي عمل جاد ومثمر، فكرا وإبداعًا. ولانتصوّر كيف سنقدر على كسب رهان الحاضر والمستقبل بدون مُفكّرينا ودارسينا الذين يُشخّصون أحوال مجتمعاتنا وتحولاتها ومطالبها وعللها، والجوانب المُضيئة في التاريخ والحضارة. كما يتناولون الثقافة في مكوّناتها المختلفة، وفي تلويناتها وجذورها وتطلعاتها وقيمها...إنه عمل ضخم هذا الذي يقوم به المفكرون والدارسون والكتاب والشعراء...لكل ذلك يستحقون أن يتبوؤوا مكانتهم في المجتمع، وأن ترعى كرامتهم ويُقدّر واجبهم. وينبغي أن تنتهي كل جهة، تتكفل بنشر الأدب خصوصًا، على استغلال المُبدع والحطّ من مجهوده واستعباده، وذلك بإنصافه ومكافأته ماديًا ومعنويًا. إنّ المنتوج الثقافي هو عمل مثل جميع الأعمال، تهدر في سبيل إنجازه طاقات وعرق ووقت. ومن العدالة والإنصاف أن يُقدّر المجتمع ذلك، وأن تسهر الدّولة والأحزاب والمؤسسات المدنية على رعاية حقوق المبدعين. ومن المفروض أن تلتفت مؤسّسات أخرى كاتحاد الكتاب إلى وضعية المُبدعين بالاعتراف بأغلبية ساحقة منهم، وفيهم من راكَمَ مؤلفات حظِيَت بالاعتراف ...وبالدّفاع عنهم، لا إقصائهم. وننتظر في المغرب أن تضاعف وزارة الثقافة من مجهوداتها، بخصوص دعم الكتاب ونشره وترويجه...وأن تدخل وزارات أخرى على الخط، كوزارة التربية التي تكتفي – في الغالب- بترويج الكتب المقررة"
أسباب مُجتمعيّة وفكريّة:
من جانبه، يُلخّص الكاتب السّوري (فيصل حامد) كمًا من الأسباب المُجتمعيّة، والفكريّة، بالإضافة إلى الانكسارات الوطنيّة والقوميّة الباعثة على الإحباط؛ بقوله: "الكاتـب المُلـتزم بقضايا مجـتمعه ووطنـه يُعاني كثيرًا من الحِصَار و المُحاربة وربّما يتمادى الكثير من مُواطنيه إلى ازدرائه والاستخفاف بافكاره وآرائه، حتى إن كانت هذه الأفكار و الآراء تتوخّى في مضامِينِها و توجّهاتها تحصين أولئك المواطنين المُزدرِين والمستخفّين بعوامل النهوض والارتقاء والنّماء. ،هذا اعتقاد تؤكده الكثير من الوقائع المُشاهدة التي لا يجوز تجاهُلها وإخفاؤها كما تخفي النّعامة رأسها تحت الرّمال. من مآسينا الآخذه بالتجذر و الاتساع نظرتنا إلى الحياة من زوايا الخسارة و الرّبح بالمقاييس المادّية البحتة المُجرّدة من القيم المُجتمعية الخيّرة الجميلة على قاعدة تقول (معك فلس أو قرش تساوي فلسا أو قرشا)..أي أن الإنسان الذي خلقه الرّحمن بأجمل صوره وزوّدة بالعقل و الإيمان أمسى سِلعة رَخيصة تباع في سوق النّخاسين من المُتموّلين وأصحاب الحظوة والسّلطان بغضّ النظر عن مُعطياته، ومُكتنزاته العلمية، والثقافية، والمناقبية، ومساهماته المُجتمعية، والارتقائية. وهذه إهانة مُزدوجة ترقى إلى درجة الانحطاط والتخلف.. من جهةٍ أخرى نرى علماءنا، ومُفكّرينا، والمبدعين الغيارى على مجتمعهم ووطنهم في بلادنا العربية يُعانون من الحاجة وذل السّؤال، أو تختطفهم الدول المتقدمة الاخرى بأثمان غالية للاستفادة من مواهبهم، ويختطف الموت أخرين منهم من دون أن يمشي أحد في جنائزهم، أو من يقول فيهم كلمة رثاء أو عزاء."
ويُكمل حامد قائلاً: "ومن المُحبِط حقًا ما نلحظه في مجتمعاتنا من تصرفات في الشوارع والعديد من الفضائيّات والنّشرات مما يندى له الجبين خجَلا ويجعل من اليَقين وجلا على المصير السيء والمهين الذي ينتظرنا جميعًا من غير تحديد أو تفريد إن بقينا على هذه الحال من المَيَعان والتّسافُل في عصر الأمركة والانفتاح الذي يقودنا خطوة خطوة إلى الانبطاح المهين، تدوسنا اقدام الغزاة الجدد باسم العولمة وما يسمى بحقوق الإنسان، وما يُعطى لتخثير الإيمان في القلب والوجدان من القوميّة والدّين والعنفوان، من أجل أن يتحلل ارتباطنا بأرضنا وسمائنا حتى يسهل للكيان الصّهيوني العدوّ لنا بالدين والقومية والوجود من السيطرة على كامل أرضنا العربية من الفرات إلى النيل، وعلى جميع مقدساتنا فيما بعد دون استثناء او استبقاء، فهل نحن واعون أم أننا غدونا كالقطط التي لا تنتشي الا بلعق دمها لحسًا على المبارد الفولاذية الصماء دون أن تدري حتى تسقط مغشيًا عليها ولا حياة فيها، ولا حركة تجري في أجسادها، وقد قضت على نفسها بنفسها دون أن يقضي عليها احد، ثمّ ماتت غير مأسوف عليها أو من يحزنون ؟"
ثمن اليقظة هو الألم
وبدوره يؤكّد الكاتب السعودي (حسين العلي) على مُشكلة التخلّف المُجتمعي، إضافة إلى السّلوكيّات السلبيّة لبعض المحسوبين على الثقافة والأوساط الثّقافيّة، ويقول إنّ "المُثقف يحبطه الكثير مما حوله، لأنّه كائن يقظ، وملتفت لأدق الأمور وتفاصيلها وخباياها أكثر من غيرة، وبالتالي ثمن هذه اليقظة هو الألم، والإحباط، والشعور بالعزلة التي تصل إلى حد الاغتراب الاجتماعي.. فالمحيط مُتخم بالتخلف وعدم المُبالاة والتبلد الذهني والفِكري. علمًا أن المُثقف يُدرك الأسباب ويَعرِف حتى العِلاجات، لكن المُحبط الحقيقي لديه هو ما يُلاقيه يوميًا ممن يدّعون الوَعي والثقافة، ويفرضون سُلطتهم عليه وعلى غيره، ويسترزقون باسمه، ويسرقون إبداعه، ويتاجرون بحقوقه، إما بطباعة نتاجه دون وجه حق أو سرقته، أو بتغير وتشويه ما يُقدمه من أفكار بما يملكون من حيل لا تنفد، أو بتزييف الوَعي وتغيير الحقائق، وخلق الوهم الذي يُعد ضد حلم المثقف الذي يحارب ليكون واقعًا بالإمكان السّّير عليه للمزيد من الحضارة والتطور والارتقاء بمجتمعه إلى حالٍ أفضل ممّا هو عليه.."
أمّا الكاتب السّعودي (حسن القحطاني) فقد كانت وجهة نظره أنّه لا يُحبط المُبدع الحقيقي وينال من عزيمته وطموحه أكثر من قراءته لمن هم أدنى منه فكراً وقلماً، واقعاً مشهوداً ملموساً عكس ما قد يبدو عليه من غَرور ٌ وزَيف ، كذلك وعلمه بأن المحسوبيّة تقف أولاً وأخيراً خلف الإشارة أو النشر لأولئك على بعض؛ أو كافّة الوسائل الإعلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق