الاثنين، 21 مارس 2011

طرابلس – القاهرة هدي حسين





طرابلس – القاهرة


- لا يغرنك أنني دكتور في الجامعة.. ينبغي أن أكون صريحا معك. لا يمكنني أن أفعل لك شيئاً. أغلبنا هنا لم يقبض راتبه لأكثر من ستة أشهر. وكلنا نتعكز على بعضنا البعض. البعض يرغب في العودة إلى مصر، لكن في النهاية نقول: نعود ونترك وراءنا ستة أشهر عمل بلا راتب؟.. نريد رواتبنا وكلما منعوها عنا كلما ازدادت رغبتنا في البقاء حتى لا نكون قد عملنا مجاناً. وهكذا أيضاً نجد أنفسنا نستمر بالفعل في العمل مجاناً.. العمل هنا محاط بمخاطر كثيرة.. منها مثلا....


ظل السيد الدكتور المصري يتحدث وأنا أتابعه باهتمام حقيقي لمشكلته. لم أعد أفكر في مشكلتي. بصراحة اعتبرت أن رحلتي انتهت عند بيت الشباب.. واعتبرت أنني الآن أتابع رحلة شخص آخر. رحلة دكتور في الجامعة جاء ليزيد من ماله فاكتشف أنه يعمل مجاناً.بينما أسرته في مصر في انتظاره تحلم بكل الوعود التي قطعها على نفسه تجاههم..


أخبرني أنه لا يستطيع مساعدتي مادياً لهذا السبب، كما أنه لا يمكنه أن يستقبلني في سكن الأساتذة هنا خوفا من القيل والقال الذي قد يودي ليس بسمعته فقط ولكن بحياته أيضاً، ولامني كثيرا لأنني قررت أن أسافر إلى ليبيا، وكانت نبرته توحي لي أنه كان يريد أن يلومني لأنني أتيت إليه هو بين كل الموجودين في ليبيا.. بابتسامة مسالمة أخبرته أنني لم آت إليه إلآ بعد الإلحاح الشديد من أحمد الذي قرر لي ذلك دون حتى ان يأخذ رأيي. أما أنا فكل ما كنت أريده هو أن يدلني على مكان أغير فيه دولارات حتى أتمكن من أخذ أول مايكروباص إلى القاهرة.


بدا على الدكتور الفرح أول ما سمع كلمة دولارات. وبدأت استضافته لي تصبح أكثر كرما كأن يسألني مثلا إن كنت أريد أن أشرب شاياً. ثم ذهب ليوقظ زملائه في السكن. الذين جاؤا واحتفوا بقدومي وكأنني "حاجة من ريحة الحبايب في مصر".. فجأة صرت مهمة وصار استقبالي طيباً.. كل هذا أكد لي أن الدكتور بلع الطعم. كل الحكاية أنني أردت مساعدته مادياً دون أن يشعر. فجعلته يشعر أنه سوف يحصل عن طريقي على صفقة رابحة. قال لي:
- الدولار هنا لا يغيره أحد
- أعرف لهذا أنا مستعدة لتغييره حتى ولو بنصف الثمن. أريد أن أعود إلى القاهرة، هذا كل ما في الأمر، وهناك عندي مالي وعملي ولن أحتاج هذه الدولارات..
- حسناً.. انتظريني قليلاً.. آه، بالحق، أين هذه الدولارات التي تريدين تغييرها؟
أظهرتها له ثم وضعتها مرة أخرى في حقيبتي. ذهب الدكتور وبعد نصف ساعة عاد قائلا:
- لا يمكن أن يتم تغيير الدولارات هنا، أنا طبعاً أثق فيك يا ابنتي، لكن زميلي الذي سيغرها لك يخاف من أن تكوني دسيسة علينا، لهذا يريد أن يأخذ الدولارات ويغيرها بمعرفته وعندما يعود يسلمني مالك الذي أسلمه لك أنا حتى لا تري وجهه.
- وهو كذلك. خذ، هذه هي الدولارات. أنا أيضا أثق بك يا دكتور.
التصقن على وجهه بسمة علايضة، وأنا أيضا لصقت على وجهي بسمة أعرض منها وكأنها أكثر سذاجة. لم يكن يهمني إن أخذ المال ووهرب به. كان معي ما يكفي للعودة. بعد نصف ساعة أخرى عاد. قال إن زميله ذهب ليغير العملة لي وأنه سيطرق الباب بطريقة معينة عندما يعود.


مر على ذلك ساعات كان النوم فيها يغالبني، لكنني كي أبقى متيقظة، أخذت أسأل الدكتور عن حياته زوجته وبناته في مصر.. ولما لم نجد ما نقوله، أنتبهت إلى الصبارات في شرفته وأخذت أتحدث معه عنها. فمنذ صغري وأنا أحب الكائنات الصحراوية، بالتحديد الكائنات التي لا تعتمد كثيرا على غيرها، الصبارات والزواحف ذوات الدم البارد.


عاد الرجل وطرق الباب ففتح له الدكتور ولم يظهر الرجل وجهه، لم أره أبداً. أعطاني الدكتور ما يكفي لسفري والشيء القليل أكثر. فأعدت له المبلغ كله وقلت له عندي ما يكفي سفري. فرح ولم يصدق "سذاجتي" وكان يبدو أنه يريدني أن أرحل بسرعة قبل أن أغير رأيي!.. تركته وخرجت من المبنى كله. كانت السماء مظلمة والمكان كله حالك السواد.. وكان الرعب يرجفني. لم أكن اعرف كم الساعة. كانت تبدو وكأنها ساعة موحشة جداً..


أخذت أمشي والرعب يكاد يجعلني أبكي من كثرة ما انتفض. مرت سيارة اجرة فأشرت لها بسرعة أن تأخذني إلى موقف ميكروباصات القاهرة. سألني السائق لماذا أنتفض هكذا محاولا أن يلمح عما قد يكون قد حدث لي "من أمر مشين". لحسن الحظ لم أكن قد ابتعدت عن سكن الأساتذة كثيراً. قلت للسائق أن زوجي يعمل في الجامعة وأننا تلقينا برقية تقول أن أمي مريضة مرض الموت، وهو لا يصدقني ويظنني أكذب عليه، وأنا خائفة جدا على أمي ولا يمكنني أن أنتظر حتى يصدقني لكي نذهب إلى القاهرة لنراها.. لهذا ينبغي ان أذهب حالاً. أما بكائي فجزء منه خوفا على أمي والجزء الآخر حزنا وصدمة في كون زوجي لا يصدقني..


لا أظن السائق صدقني. لكنها كانت حكاية يمكن بها أن يتابع السير. أوصلني إلى الموفق وهناك أخذت أول ميكروباص ذاهب إلى القاهرة. بلا أمتعة كما ذهبت وبلا مال أو ذهب أيضاً..


لم أشا أن آخذ الميكروباص الذاهب إلى الأسكندرية. فلكثرة ما ذكر اسم الاسكندرية وكثرة ما التقيت بشباب اسمهم أحمد وفيهم عرق سكندري، شعرت أن هناك مغامرة تنتظرني في الاسكندرية، وتزرع لي تلميحاتها في ليبيا. لم أكن أحتمل مغامرة تلو مغامرة.. كنت أحتاج لفترة راحة. لهذا آثرت أن أخذ الميكروباص الذاهب للقاهرة. وبدلا من التفكير في أحلامي وهواجسي، كنت أفكر ماذا سأقول لوالدي الذين تركتهم فجأة وسافرت. حتى محاولاتي أن أتصل بهم من ليبيا باءت بالفشل.. ماذا سأقول لهم عندما أعود هكذا فجأة مثلما اختفيت فجأة.. من المؤكد أنهما قد ابلغا كل أقسام الشرطة عن اختفائي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق