الاثنين، 31 أكتوبر 2011
أَحْمَدُ الشَّهَاوِي أَسُوقُ الغَمَام ج3
أَكْبَرُ مِنْ مَجَازٍ حُرٍّ
أَكْبَرُ مِنْ وَرْدَةٍ
أَكْبَرُ مِنْ حَجَرٍ أَزْرَقَ
وَأَدْفَأُ مِنْ ثَلْج شَمْسٍ
أَكْبَرُ مِنْ خَاتَمٍ نَادِرٍ
وَأَعْلَى مِنْ سُورَةٍ خَاصَمَتْهَا السَّمَاءُ.
َبيُوتُها لُغَةٌ تَعطَّلَتِ المَعَاجِمُ عَنْ فَكِّ شَفْرَةِ سِرِّهَا
تَهَيَّأَتْ سُفُني
فَنَزَلْتُ تَحْمِلُنِي العِبَارَةُ خَالِيًا مِنْ شَرْطِ دُسْتُورِ الهَوَىَ
وَحَمَلْتُ جُمْلَتِيَ البَعِيدَةَ للمَجَازِ الحُرِّ
منْ صُور المَسَالِك والمَسَالك
كَيْ أَكُونَ مُسَيِّرًا للناي فِي طَيَرَانِهِ
وَمُدَلِّلاً طَيْفَ المعاني حِينَ تُخْطِئُ حَدْسَهَا.
هِيَ حُرَّةٌ
وَدَلِيلُهَا مَاءٌ مِنَ الفِرْدَوْسِ بَاقٍ
تَحْتَ سُورٍ مِنْ صَدَى.
هِيَ مُهْرَةٌ
مِرْآَتُها كَأْسٌ مِنَ الشِّعْرِ المُخَمَّرِ.
هِيَ حِكْمَةٌ مَخْطُوفَةٌ
هَرَّبْتُ نَجْمَتَهَا لِتَكْتُبَ أَنَّنِي
نَحَّاتُ أَسْئِلَةٍ عَلَى عَرْشٍ
مِنَ الفِعْلِ المُضَارِعِ
يَنْبَنِي مِنْ حَذْفِ وَاوِ العَطْفِ
فِي الاسْمِ المُبَارَكِ
لِلْفَرَاشَةِ حِينَ تَخْرُجُ مِنْ حريرٍ سَاخَنٍ
كَكَلاَمِ ضوْءٍ نَاعِسٍ فَوْقَ الحِيَطانِ العَارِيَةْ.
عمَّان
23 من نوفمبر 2008 ميلادية
مَاءٌ مَاتَ هَجْرًا
عَلَى بَابِكِ نَهْرٌ جَارٍ
فِي النَّهْرِ زُهورٌ بِاسْمِكِ تَشْدُو
وَقَلاَئِدُ مِنْ سِرِّ الأَزْرَقِ.
أُوتِيِتِ حِكْمَةَ أَنْ تَلِدِي عِشْقًا
أَوْ تَشْرَبَ عَيْنَاكِ النَّهْرَ
أَوْ تُشْعِلَ رُوحُكِ حَطَبَ الحِبْرِ
وَأَنْ يأتي لُقْمَانُ إِلَيْكِ لِيُنْقِذَ نَهْرَ الرُّوحِ مِنَ المَدِّ.
أُوتِيتِ الحِكْمَةَ
فَاعْتَنِقيِ الَّليْلَ كِتَابًا
يَحْمِلُكِ إلى عِتْقِ الطَّيْرِ
الجَالِسِ فَوْقَ عُرُوشِ يَدَيْكِ.
طَفِّي الشَّرَّ بِشَرٍّ
أَقْصُدُ طَفِّي النَّارَ بِنَارٍ أُخْرَى
تَذْهَبُ نَحْوَ المَاءِ وَتَصْحُو
خُشِّي دَارَ الكِتْمَانِ
وَأَوْصِي لِي بِقِيرَاطَيْنِ مِنَ العِشْقِ
فَلاَ أَطَمَعُ مِنْ إِرْثِ حَبِيبِي
إِلاَّ بِحَبِيبِي
أَوْ تَحْديدًا أَحْتَاجُ إِلَى رَأْسِ التَّاجِ
لِيَبْقَى مُلْكِي مُمْتَدًّا بَعْدَ المَوْتْ.
أُوتِيتِ الوَحْيَ
فَمَا أَخْطَأْتُ البَوْحَ
آَمَنْتُ بِمَا خَطَّ التَارِيخُ عَلَى جَسَدِكْ
وَكَتَبْتُ لأَِفْضَحَ ما بي
وَْلأَحْفَظَ ذَاتَكِ مِنْ مَاءٍ مَاتَ بِفْعِلِ الهَجْر
أَوْصِي لِي
بِتُوَيْجٍ ضَاقَ بِدُنْيَاهُ
بِالأَسْوَدِ
بِالرَّائِحَةِ البِكْرِ
بِالأَحْمَرِ حِينَ يَغِيبُ مع الشَّمْسِ
بِشِرَاعٍ أَسْوَدَ كَانَ ابْيَضَّ مِنَ الحُزنِ
بِدُمُوعِ هِيبَاتْيَا فِي الَّليْلِ
بِمَاءِ الفَلْسَفَةِ المَالِحِ
بِمَا رَسَمَتْهُ الأَرْوَاحُ لِوَجْهِ الزَّهْرَةِ
بِسَمَاءٍ نَزَلَتْ مِنَهَا عَيْناكِ
أَوْصِي لِي
بِالآَخَرِ فِيَّ
فِي أَحْمَدَ حِينَ يَطِيرُ إِلَى أَزْرَقِهِ.
القاهرة
26 من نوفمبر 2008 ميلادية
الأحد، 30 أكتوبر 2011
أَحْمَدُ الشَّهَاوِي أَسُوقُ الغَمَام ج2
أُقَدِّرُ الضَّمَّةَ
نَبِيَّةٌ أَنْتِ
عِنْدَمَا تَرْجُمِينَ شَيْطَانَكِ
كُنْتِ في المكَانِ الذي لاَ يُسَمَّى
كُنْتِ فِي حَرْفَيْنِ مِنْ نُورٍ.
أُقَدِّرُ الضَّمَّةَ
أَحْمِلُ السُّكُونَ حَرَكَةً
أَصِلُهُمَا بِشَفَتَيْنِ حَرْفَيْنِ
هُمَا لِسَانٌ فَاتِحٌ
وَرُضُابٌ في سَمَاءٍ تَسْأَلُ.
عمَّان
الجمعة 21 من نوفمبر 2008 ميلادية
لا يَبْقَى مِنِّي سِوَاكِ
دُونَ حُرُوفِ العِلَّةِ
دَونَ حُرُوفِ الجَرِّ
دُونَ كَافَاتِ التَشْبِيهِ
دُونَ أَشْبَاهِ الجُمَلِ
دُونَ نَهْرٍ بِكَامِلِهِ
دُونَ بَحْرٍ غَاضِبٍ فِي دَمِكِ
دُونَ سِيَرةِ الإسَكَنْدَرِ وَتَارِيخِ كَفَافِيس
تَظَلُّ شَفَتَاكِ عُنْوانَ الُّلغةِ
وَعَيْنَاكِ بَابَ الشَّجَنْ.
تَقْدَحِينَ
وَأَكْتُبُ
فَلِمَاذَا تُخْفِينَ النَّارَ الأُولَى
وَأَنَا مِنْهَا شَجَرٌ أَخْضَرُ
وَسَمَاءٌ تَبْحَثُ عَنْ زَهْرَةِ بَشْنِينٍ
فِي رُوحي؟
كُلُّ جُمْلَةٍ نَاقِصَةٍ
تَنَامُ فِي يَدِي
تَكْتَمِلُ بِالسَّلاَمِ عَلَيْكِ.
كُلُّ تَاءَاتِ التَأْنِيثِ
مُعَطَّلَةٌ
مَالَمْ تَحُجّْ فِي كَعْبَةِ تَائِكِ.
لا تُنْكِرِي نَسَبِي
فَأَنَا ابْنٌ لِزَهْرَتِكِ الأُوَلَى
أَنْتَسِبُ إِلى قَمَرَيْنِ فِي صَدْرِكِ
وَمَاءٍ يَتَنَزَّلُ مِنْ كِتَابِ هِلاَلَيْكِ.
كَأَنَّكِ وِرْدِي
مُنْذُ كَانَت السَّمَاءُ بَعِيدَةً
(أَنَا "......" إِنْ حَييتُ وَإِنْ أَمُتْ)
أَسْقِطي كَافَ التَشْبيهِ
وَامْلأَي الفَرَاغَ بِحَجَرٍ كَرِيمٍ يَدُلُّ عَلَيْكِ.
أَنْتِ بِذْرَةُ جِنٍّ
سَتُنْبِتُهَا الأَرْضُ حُبًّا.
لاَ تُطَرِّزِي العُْزلَةَ
لاَ تَخِيطِي زَمَنَكِ بِإِبْرَةِ الحَسْرَةِ
فَمَادَامَت شَفَةٌ تَضُمُّ
وَأُخْرَى تَلُمُّ
فَجُوسِي عَارِيةً
سَأَنُفُخُ رُوحِي
فِي شَفَتيْ نَايِكِ
فلا يَعودَنَّ يَبْكي
أَوْ يَسْأَلُ عَنْ أَصْلِهِ
سَيَبْدَأُ تَرْنِيمَةً
وَيَكْتُبُ فَتْحًا جَدِيدًا لِشَمْسَيْنِ فِي يَدِكِ.
تَنَازَلْتُ عَنْ إِرْثي فِي السَّمَاءِ
مَاذَا تُرِيدُ؟
أُرِيدُ لسَاحِلَيْكِ مَزِيدًا مِنَ المَاءِ
وَأَضْرِبُ
إِذْ كَيْفَ يَعْطَشُ نَهْرٌ يَفِيضُ؟
أُريدُ مِنَ الوَقْتِ وَقْتًا
كَيْ أَسُوقَ الغَمَامَ إِلى رَاحَتَيْكِ
أُرِيدُ نَبِيذًا أُشِعُّ بِهِ كَمَاسٍ يَنَامُ وَيَصْحُو عَلَى جِيدِ نَارِكِ
أُرِيدُ مَزِيدًا مِنَ الَّليْلِ
كَيْ أُذَوِّبَ رُوحِي وَأُسْقَى
وَأَشْرَبَ كَاسًا مِنَ الزَّهْرِ
هِيَ لي فَاتحَةٌ وَختَامْ.
أُرِيدُ بَابًا
وَطَائَِرةً نَحْوَ رُوحِكْ
ذَهَبًا يَقُودُكِ بِاتجَاهِ البَرْقِ فِي شَفَتَيْكِ
مِرْآَةً لأَِرَى طَرِيقَ الطَّيْرِ نَحْوَ زَهْرَتِكِ الفَرِيدَةِ
فِي الهَوَى.
أُرِيدُ حَنَانًا يَلِيقُ بِطِفْلٍ يَتِيمٍ
تَنَازَلَ عَنْ إِرْثِهِ فِي السَّمَاءِ
لِتُوتِ الطَّريقِ
وَجميزةٍ فِي الغِيطَانِ البَعِيدَةِ
عَنْ أَعْيُنِ القِطَطِ المَنْزِلِيَّة.
أُريدُ أَمَانًا بِحَجْمِ وَفَائِي
لِرَأْسِ سَمَاكِ التِي ظَلَّلَتْنِي.
أُريدُ اجْتِنَابَ الزَّحَامِ
لأَِفْرِدَ أَشْرِعَةً مِنْ سَوَادٍ
لِيَظْهَرَ أَبْيْضُ قَلْبِكِ فِي الَّليْلِ
وَيَحْفِنَ نِيلُكِ مَاءً ويأتي إِلَيْكِ.
أُرِيدُ انْفِرَادَ الطَّرِيقِ بِصَاحِبَتِي
كَيْ يَرَى جَنَّةً
وَهِي تَكْتُبُ لِي وَصْفَةً مِنْ مَاءِ خلخالٍ
تَحَدَّرَ مِنْ ذَهَبْ
فَتَشَبَّعَتْ عَيْنَاهُ بِالأَسْرَارِ
لَمْ يَنْشُرْ عَلَيَّ سِوَى القَلِيلِ مِنَ الوَهَجْ.
أَحْمَدُ الشَّهَاوِي أَسُوقُ الغَمَام ج1
كُلُّ جُمْلَةٍ نَاقِصَةٍ
تَنَامُ فِي يَدِي
تَكْتَمِلُ بِالسَّلاَمِ عَلَيْكِ.
أَحَمْدُ
نَوَالُ عِيسَى
مَا نَفْعُ الحَجِّ
إِنْ لَمْ تَكُن الكَعْبَةُ
قَلْبَكِ؟
أَحْمَدُ الشَّهَاوِي
كَعْبَةُ التَّاءِ
بَابٌ فِي رَأْسِي
أَمْسُ
حَيْثُ الكَأْسُ الثَّالِثَةُ
وَحَيْثُ الأَسْوَدُ مَفْتُونٌ بِالسَّاقَيْنِ
وَمَشْغُولٌ بُزُهُورِ الذَّهَبِ الطَّالِعَةِ
مِنَ الجَسْدِ المَاطِرِ نَارًا
حُيْثُ سَرِيرُ الَّليْلِ وَحِيدٌ
وَالنِّيلُ يَرَانَا
وَبَابُ الغُرْفَةِ يَنْتَظِرُ الإِغْلاَقَ
وَيُغْوِي
وَالبَابُ السِرِّيُّ شَرِيكِي فِي العِشْقِ
قَدَّمْتُ السَّبْتَ
لَكِنَّ الآَحَادَ تَمادَتْ فِي الخَوْفِ
مِنَ الحِيطَانِ
عُدْتُ إِلَى بَيْتِي
مَشْمُولاً بِالكَأْسِ
وَمَحْموُلاً بِالأَسْوَدْ.
القاهرة
28من يناير2009 ميلادية
شُرْفَةٌ تُطِلُّ عَلَيَّ
دَعِي الطَّرِيقَ لِي
فَإِنِّي سَأَمْشِي إِلَى آَخِرِي
وَافْتَحِي شُرْفَةً
وَلاَ تُغْلِقِي بَابًا تَوَارَبَ
فَأَنَا سَآَكُلُ بُرْتُقَالَك
أَنَا سَأَحْصدُ غلّتَك
أَنَا بَابُ بَابِك
فَلاَ تَبْكِي عَلَى وَتَرٍ تَقَطَّعَ فِي الكَمَان
لاَ تَبْكِي عَلَى مَاءٍ يَنُوحُ
فَلاَ صَمْتِي سَيَنْفَعُ
وَلاَ رَمْلُ الأَصَابِعِ يَوْمًا سَيَطْرَحُ فَاكِهَة
شُِدِّي رِحَالَكِ نَحْوَ كَأْسٍ مِنْ نَبِيذٍ أَزْرَقَ
فَأَنْتِ أَزْرَقُنَا وَأَبْيَضُنَا فِي تَمَامِ كَمَالِهِ.
عمَّان
23 من نوفمبر 2008 ميلادية
السبت، 29 أكتوبر 2011
ندَّاهة الكتابة نصوص مجهولة فى إبداع يوسف إدريس د. عبير سلامة ج7
«إلى جوار مدار الساقية، كان "مكاوى" ممددا فى العين الكبيرة ب- "الطوالة". وإلى جواره فى العين الأخرى الصغيرة، كانت بهيمة الغيار تلوك بفكيها حفنات من التبن المخلوط بالفول. وعلى رأس "مكاوى" تماما سقطت دودة سنط صغيرة من أعلى الشجرة، وراحت تتضاغط بجسدها الأملس، على عنق "مكاوى" وخده. كان "مكاوى" راقدا فى سكون، ولكن رأسه كانت تغلى بسخونة مرتفعة. كان عقله صاحيا، وكانت حواسه أكثر صحوا. كان يريد أن يفيق، أن يجلس، أن يخنق الآلام الفظيعة فى رأسه بيديه. ولكنه لم يقدر مطلقا. لم يقدر أن يرفع يده، ليقتل هذه الدودة.
وفتح "مكاوى" عينيه بجهد، فتجهما للحظة خاطفة. كانت البهيمة ما تزال تواصل خطواتها الرتيبة فى المدار، ومعنى ذلك، أن أحواض الأرز تتدفق فيها مياه الساقية، وكان الظلام مشوبا بضوء رمادى، ضوء الفجر الكاذب. وأغمض "مكاوى" عينيه بسرعة، وراح يحاول جاهدا، أن يبعد الصور المخيفة من رأسه. ولكنها راحت تتوالى برغمه، بسرعة خارقة، واحدة بعد الأخرى.. كانت دواليب الساقية الصفيحية تمتليء بمياه سوداء، عطنة الرائحة، ثم تتدفق فى الإسمنتى الصغير، وتنحدر إلى قناة إسمنتية، تحت مدار الساقية، لتخرج من الناحية الأخرى، صاخبة، فتصطدم بجدار الإسمنت، ويردها الحاجز الطينى على القناة الكبيرة، فتجرى إلى أحواض الأرز مع مجرى القناة.. وكان أنين الساقية الرتيب يدوى، وينسكب كالدموع فوق المزارع كلها، فوق أحواض الأرز الفسيحة، وأشجار السنط، والتوت، والسدر والأعشاب الشيطانية على خفافى القنوات.. وبين الأسلاك الشائكة التى تحيط بالحدائق المتناثرة هنا وهناك، كانت تومض أوراق عش الغراب ومضات فوسفورية خاطفة، وكان يجرى نمس، وآخر من حقل إلى سواه.. وعلى البعد، قريبا من القرية، كانت المقابر راكدة مخيفة، تحول فيها الأجداد والآباء والأمهات، إلى أشباح مرعبة، تبعث الرعدة فى القلب.
ولم يع "مكاوى" شيئا بعد. غرق فى غيبوبة كالكابوس. فقط، رأى نفسه مكان البهيمة فى المدار، ورأى طاحونة صخرية مكان الساقية، ورأى نفسه يدور بالطاحونة الصخرية الضخمة. وكان ثمة كائن مجهول، عملاق، يحمل سوطا ذا ألف شعبة. ويقف فوق حجر الطاحونة، وراح العملاق يدور معها ويهوى بالسوط على جسده. وراح هو يرتعد تحت ضربات السوط، ويجرى ويجرى على مدار الطاحونة، دون توقف , ثم اخذ يناضل بكل قواه، ليفتح عينيه ن وأذنيه، ليهرب من الطاحونة. وأخذ العملاق ينكمش، ويتضاءل. وراحت الطاحونة تختفى. ووقف هو على المدار، وفتح عينيه.. كانت الدودة تسرى أمامه على حافة "الطوالة". مد يده آنئذ، وقذفها بعيدا بقسوة. وعندئذ رأى البهيمة واقفة على المدار، وليس حوله من صوت، أى صوت.
كان "مكاوى" يتصبب عرقا. وفكر أنه ينبغى للساقية ألا تكف عن الدوران، حتى الصباح. وتحامل "مكاوى" على نفسه، وغادر "الطوالة" على قدميه، وفك رباط البهيمة، وذهب إلى المدار. ينبغى للساقية أن تدور، حتى ولو كان ميتا. لابد أن تشرب الأرض، وأن يكبر الأرز ويكبر، ويصبح أصفر مثل الكردان الذهبى. وضرب "مكاوى" البهيمة بحبل من التيل، فراحت تدور بالساقية، وراحت الساقية ترسل انينها الرتيب. وآنئذ مرق نمس صغير مرتعبا. وهو يبحلق بدهشة فى أوراق عش الغراب البراقة. وعاد "مكاوى" بالبهيمة المجهدة، لتأكل، وتستريح. وراح يوثق قيودها فى الوتد الخشبى. وعندما كان منحنيا، تدفق الصداع إلى رأسه ثانية، وراح يرتعد. وعندما رفع رأسه منتصبا، انفتحت أذناه، وراح يسمع:
كان طنين جارف هدار، كموج البحر، يملأ أذنيه. وأخذ الطنين يتلاشى، ويختفى. وفى الوقت نفسه، انبعث صوت هاديء، راح يعلو رفيعا كالخيط، ثم راح يزداد حدة وصخبا. وعندما استوت نغماته، سمع "مكاوى" اسمه، سمعه يتردد فى فضاء الحقول، ويتدفق مع مياه الدواليب فى الساقية، ويخرج من كل مقبرة، ويسقط من حالق، من كل نجمة فى السماء. كان الصوت رفيعا أجوف، يردد: " يا مكاوى.. يا ميكااااوىى.. يا مكاوى.. "
كان جسد "مكاوى" ينتفض كله، تسرى فيه النار، والرعشة، والخوف. ورفع "مكاوى" يديه بسرعة، ليغلق أذنيه، لكيلا يسمع اسمه، واغلق عينيه أيضا , ولكنه راح يسمع اسمه يتردد فى داخله:
".. يا مكاوى.. يا ميكااااوىىى.. يا مكاوى..". وتراجع "مكاوى" إلى الوراء، خطوة، خطوة، خطوة. كانت ركبتاه متيبستين، ولكنه راح يتراجع للخلف. ويتراجع. وقال لنفسه: "يمكن هيه.. هيه تمام". وللفور، وقف، ومد عينيه بعيدا فى قلب الظلام. وفكر أن الصوت ياتى من هناك، من قلب المقابر، وأخذ يتراجع، ويتراجع، حتى أصبح على شاطيء الترعة، فى قلب الطريق العريض. وتوقف "مكاوى" فجأة، وراح يصرخ بأعلى صوته فى الفضاء:
- أنا عارفك.. أنا عارفك كويس.. مش انت النداهة.. أنا عارفك.. عارف انك بتنادينى علشان أموت.. انت موتى عمى قبل كده، وما قلناش حاجة.. بس سيبينى يا نداهة للصبح.. سيبينى لما ييجى ابن عمى.. الرز عطشان.. عاوز يشرب.. عشان النبى يا شيخة..
وصمت "مكاوى". وآنئذ ارتفع الصوت ثانية، وراح يتردد فى أذنيه كالصدى: ".. يا مكاوى.. يا ميكااااوىىى.. يا مكاوى.." وانتصب هو بكل استطالته فى الظلام، وهتف:
- يعنى مش عاوزه تبطلى.. طب تعالى لى هنا.. اطلعى من الترب وتعالى موتينى.. بلاش الرز يشرب.. تعالى هنا.. يا تموتينى يا موتك.. سامعه!
وعاد الصوت يتدفق ثانية فى أذنيه، دون مبالاة: ".. يا مكاوى.. يا مكااااوىىى.. يا مكاوى.." وغاص الخوف فى قلب "مكاوى" إلى أقصاه. سيموت حتما. لن ينجو أبدا. لم تناد المكلوبة أحدا ونجا من الموت. سيظل عدة أيام يسمع نداءها. عندما نادت عمه لم ينم، ولم يأكل، ولم يشرب، ولم يتكلم كلمة. راح يجف كالحطبة حتى مات. ربما مات هو الآن. اكتسحه الخوف تماما، فراح يعدو مذعورا وعند المنعطف، قذف بنفسه فى طريق القرية كالريح، وراح يجرى، يجرى، دون توقف. وسقطت رجله فى حفرة، فانكفأ على وجهه، واصطدمت رأسه بالأرض الترابية. ولكنه وقف ثانية، وراح يعدو بكل قواه. كان الصوت ما يزال يطارده، ويدوى فى أذنيه مترددا، هذه المرة، مع وقع قدميه، قادما من ألف ناحية. كانت آلاف الأيدى، أيدى أولاد النداهة الصغار تصفق، وتردد مع النداهة: ".. يا مكاوى.. يا مكاوى.. يا مكاوى". كان يحاول أن يبتعد عن أيديهم فى جوانب الطريق، ولكنهم كانوا يلمسون ظهره، فى كل مرة، بأيديهم الباردة، ويصفقون، ويرددون اسمه. اصطدمت قدم "مكاوى" بحجر، فوقع ثانية. خيل إليه هذه المرة، أن النداهة تجذبه من ساقه. فجذب ساقيه إليه مرتعبا. ورفع رأسه لينهض. كانت المقابر أمام عينيه، على حافة الطريق، بجواره تماما. سقط على وجهه مذعورا. لم تكن لديه قوة ما ليقف. لم يستطع أن يحرك ساقيه، لم يستطع أن يبكى، ولا أن يصرخ مستنجدا. راح يزحف. أخذ يغرس يديه فى التراب. كان الصوت يدوى فى أذنيه ما يزال. كان الصوت قد أصبح هادئا، وهامسا جدا، هذه المرة. أليس "مكاوى" قريبا منها، هنا، بجوار المقابر. إنها هناك تنتظره ليذهب. كانت تقول له بخلاعة: "يا مكاوى.. مكاوى.." كان صوتها هامسا جدا، ولكنه لن يذهب أبدا، أبدا. وعبر قنطرة المصرف، ودخل أول شارع. لم يكن بمقدوره أن يتكلم. ومع ذلك. صرخ بكل استطاعته طالبا الغوث. ولكن أحدا لم يسمعه. فكر أن القرية كلها قد ماتت. قتلتها النداهة. ولم يبق سواه. أولاده الأربعة أيضا ماتوا. وتحركت ساقاه آنئذ، ونهض منتصبا، وصوت النداهة يطارده، ساخرا ضاحكا، مدويا فى الفراغ. وراح يعدو. فليمت هو. ولكن أولاده ينبغى أن يعيشوا ليزرعوا الأرز فى كل عام. ووقف أمام الباب. ومد "مكاوى" يده إلى أعلى لاهثا، إلى الحلقة الحديدية فى الباب الضخم. ودق الباب. بعنف، بحدة، ليوقظ أولاده الذين ماتوا، وراح ينادى بصوت داو:
- آسما.. آسما..
وسمع الباب يزيق. سمع باب القاعة عاليا فوق صوت النداهة. ورأى الضوء من بين ألواح الباب السميكة، ضوء اللمبة أم شعلة، باهتا، مرتعشا. وفتحت "آسما" الباب. وفتح "مكاوى" فمه، وسألها بلهفة عن الأولاد. وتطلعت هى إليه برعب، وتمالكت نفسها. كان صوته يدوى فى نفسه مختلطا بنداء النداهة. سألته هى قائلة:
- سيبت البهايم والرز يا مكاوى؟
لم يجبها هو. وصرخ فى وجهها عندئذ:
- الأولاد.. آسما.. الأولاد..
فزعت هى. لم تسمعه قط. سحبته من يده، وأغلقت الباب، بينما كانت تصرخ فى قلب البيت:
- يا حاج.. مكاوى.. مكاوى يا حاج!
وسار "مكاوى" معها إلى القاعة، متكئا إلى ذراعها. وعندما رأى أولاده نياما، ألقى بنفسه إلى جوارهم على الحصير. وصرخ الحاج من قلب الظلمة خارج القاعة:
- ماله يا آسما.. ماله مكاوى..
وراحت "آسما" تدثره بالغطاء، وكان الحاج يتحسس الظلام بيديه، مع أن الحاجة تقوده من يديه. ودخلا القاعة. وراح الحاج يتحسس نور القاعة بيديه. باحثا فى الفراغ عن "مكاوى". وأجلسته الحاجة بجوار ابنه. وتطلع "مكاوى" إليهم جميعا. هذه هى البداية. حاول أن يحدثهم عن البهائم، والأرز، والصوت الذى ما يزال يسمعه.إن أحدهم لن يسمعه مطلقا، لا يسمع صوت النداهة سوى الشخص الذى تناديه. قال الحاج: - مالك يا مكاوى؟.. عيان؟.. سيبت البهايم..؟.. الرز شرب؟ الميه حاتروح بكره.. حاتروح بكره يا مكاوى!!
هز "مكاوى" رأسه موافقا. لم يره الحاج مطلقا. قالت الحاجة:
- بيقول لك أيوه يا حاج.. هو عيان، وساب البهايم.. مش قادر يتكلم يا حاج.. الواد اللى ايدنا ورجلنا يا حاج..
بحلقت عينا الحاج آنئذ، كعينى مومياء، زجاجيتين، فى الفراغ. وهتف مرتعبا فى وجه "مكاوى":
- مكاوى.. انت سمعتها.. سمعت المكلوبة..
لم يجرؤ الحاج على أن ينطق باسمها قط. وتحدرت الدموع من عينى "مكاوى" فى صمت. وراح ينشج بلا صوت. كان جسده يغلى، ينشر حوله صهدا كصهد النيران. ومدت الحاجة يديها وأغلقت له أذنيه. هز هو رأسه دلالة على الرفض. ما الفائدة. لقد نادته وانتهى الأمر. إنه وهو بين يدى أمه ما يزال يسمعها تناديه، ساخرة، بصوت خليع: "يا مكاوى.. يا ميكااااوىىى.. يا مكاوى..". تركته الحاجة، ووقف الحاج وهو يبكى، وهتف:
- آسما.. روحى صحى ولاد أخويا.. يشربوا البهايم والرز..
وتحركت "آسما" خائفة. خافت أن تقابلها "النداهة" فى البيت، أو فى الشارع، وكانت تعلم أنها لا تغادر المقابر قط. وخافت أن تناديها بدورها. كان ينبغى عليها أن تذهب، حتى ولو نادتها المكلوبة، وخرجت "آسما" من القاعة فى صمت. وضرب الحاج كفا على كف، وقال مخاطبا نفسه:
- العوض على الله.. راح الواد فى شربة ميه.. الواد حاينشف زى الحطبة.. مش حايتكلم.. مش حاياكل.. مش حاينام.. العوض على الله..
ومسح الحاج دموعه، ونظر إلى السقف قائلا لله بصوت عال:
- طب موته موتة تانية.. خده دلوقت.. بلاش موتة المكلوبة ديت.. بلاش تعذبه بدون أكل ولا شرب
.. سامعنى.. ولا نوم.. سامعنى..
وهتفت فيه الحاجة قائلة:
- قدر ولطف يا حاج.. وحد الله يا حاج.. مين عارف اللى فى علمه..
وسكت الحاج لحظة، كمن أشرقت فى رأسه فكرة. كان الأولاد قد التفوا حول أبيهم فى صمت. لم يجرؤ أحدهم حتى على البكاء. كان دخان اللمبة أم شعلة يملأ الحجرة ز وقال الحاج للحاجة:
- حاجة؟.. روحى خبطى على باب الدكتور.. هاتيه.. يمكن.مين عارف.. يمكن عنده دوا للمكلوبة..
وعادت "آسما" آنئذ، وهى ترتجف وحدها. لم تجرؤ امرأة على أن تغادر دارها معها. وخارج الدار، وقف بعض الشبان يتهامسون فى جرأة، وأيديهم ترتعد. وقالت "آسما" للحاج:
- أولاد أخوك راحوا يا حاج، وخدوا معاهم العصيان والبنادق..، كانوا عاوزين ييجوا، قلت لهم مفيش لزوم للصبح، ويروحوا للبهايم والرز.. طلعوا يجروا ربع على هناك..
أغمض "مكاوى" عينيه. كل شيء بخير الآن. أما هو فلا فائدة منه. لا فائدة مطلقا. لن ينجو أبدا. وفتح "مكاوى" عينيه، ونظر لأولاده بحنان. استبقى لهم الأرض، والبهائم، وأولاد العم. لن يموت أحدهم جوعا.. وقال الحاج لاسما:
- آسما.. روحى مع الحاجة للدكتور.. مين عارف ياولاد..
وخرجت المرأتان. كان الطبيب قريبا من البيت. وعندما سمع طرقات الباب، كان الفجر يفتح صدره الرحب لشقشقة العصافير فى باحة الدار. وترك الطبيب سريره، دون كلمة، ووضع المعطف الرمادى على كتفيه. وذهب معهما دون أن يقول شيئا ما. وفى الطريق سألهما عن الخبر، فمالت عليه الحاجة هامسة فى ارتعاب، بينما كانت عشرات الأعين، ترقب الموكب الصغير، من وراء النوافذ المغلقة. قالت الحاجة:
- المكلوبة يا خويا.. نادت ابنى.. مكاوى..
ابتسم الطبيب. وقال لنفسه: "النداهة.. مرة تانية". ومع ذلك فقد ارتجف. كانت النسوة يتجمعن فى الضوء الرمادى، بملابسهن السوداء، أمام أبوب البيوت فى الحارة. ونظر الطبيب إلى وجه "مكاوى". كان محتقنا جدا. سأله الطبيب قائلا:
- دماغك بتوجعك؟.. وبتحس ببرد؟
- سامع حد بينادى عليك؟.. وبتلف فى طاحونة؟
ومضت آنئذ عينا "مكاوى" الضيقتان، خلف غلالة العرق المتفصد من جبينه. وهز "مكاوى" رأسه موافقا. وآنئذ مد الطبيب يده إلى حقيبته، وأخرج منها زجاجة صغيرة، ومن الزجاجة أخرج حبتين، وهزهما فى يده وقال بثقة:
- حبتين الكينين دول.. مش حيخلوك تسمعها أبدا.. ومش حتقدر تقرب منك..
وجاءت "آسما" بكوبة ماء. وتجرع "مكاوى" الحبتين، وومضت عيناه بالأمل. ولمعت عينا الحاج، عيناه الزجاجيتان، وتحركتا للحظة خاطفة. وقال للطبيب بدهشة وفرح:
- دا شرب يا دكتور.. يعنى حايعيش.. ندر على يا شيخ، يا دكتور.. لو ما قدرتش المكلوبة تقرب له، لابنى لك مقام.. واعمل سبيل فى طريقك.. عشر تزيار للناس تشرب..
وضحك الطبيب برفق. وجلس ليشرب فنجال الشاى من يد "آسما". وراح يرقب "مكاوى". كان مدثرا بغطاء صوفى من وبر الغنم، وكان العرق يتفصد من كل وجهه، ويصنع مع التراب أخاديد من الوحل، ويتحدر فيها إلى عنقه، وصدره. وقال الحاج للطبيب:
- راح يعيش يا دكتور؟ حاكم أخويا مات بسبب المكلوبة.. رجع من الغيط ماتكلمش.. وماكلش.. ولا شربش.. ولا نامش.. وفضل ينشف زى الحطبة كام يوم لحد ما مات..
كان "مكاوى" ينام آنئذ، يغفو بهدوء، وأنفاسه تنتظم. لم يكن يسمع شيئا قط، لا النداهة. ولا الجالسين فى الحجرة الطينية. وقال الطبيب للحاج:
- اطمئن يا سيدى.. أهو شرب.. وأهو دلوقت نام.. ولما يصحى جهز له فرخة شمورت ياكلها..
وقال الحاج فى حيرة:
- لكن. أخويا؟ ازاى كان زيه، وماكلش، ولا شربش، ولا...؟
وأجاب الطبيب قائلا بسأم:
- ماكانش فيه دوا أيامها ضد النداهة يا حاج..
وتذكر الحاج أن البلدة لم يكن بها طبيب وحاد فى ذلك الحين. ولكنه هز رأسه بشك. وقال للدكتور:
- كلام إيه ده يا دكتور.. هو فيه دوا يقف ضد المكلوبة ديت.. دى جنية كافرة.. مابيردهاش حد، ولا شيء فى الدنيا كلها.. دى ربنا سايبها على الخلق، ليوم القيامة يقصف رقبتها..
وهز الطبيب رأسه دون أى انفعال. نفس الكلمات كان يسمعها دائما فى آخر الليل. وقال للحاج بتأكيد:
- ما هى النداهة يا حاج، ما بتناديش الواحد، إلا لما يكون عيان!
وهز الحاج رأسه دون أن يفهم شيئا. ودخلت "آسما" بالشاى. وشرب الطبيب كوبه بسرعة، ثم وضع يده على جبهة "مكاوى". كانت حرارته قد هبطت. ووضع الطبيب معطفه الرمادى فوق بيجامته. وحمل حقيبته الصغيرة فى يمناه. وقال للحاج:
- حايصبح رايق إن شاء الله.. أما يصحى خليه يفوت عليه فى العيادة أو البيت، علشان أديله دوا..
وسارت معه "آسما" تودعه إلى الباب. كان ضوء الفجر قد انتشر. وتسلق الطبيب كومة من السباخ فى الحارة، وانحدر هابطا من فوقها. وعند الجدار الخرب، الذى يجلس تحته مبيض النحاس، شاهد الأطفال يلتفون حول أحدهم. كان هو بعينه ابن "مكاوى". وسمعه الطبيب يقول لمن حوله:
- انتو عارفين سيدى الحاج.. دا أصله مخاوى واحدة من الجن. انتو عارفين الساقية بتاعتنا. دا مرة جدى نزلها، طلعت له جنية، بيطق من عينيها النار، نادته، وخدته معاها تحت الأرض. وعاش معاها هناك.
ووقف عندئذ قريبا من الأطفال فى الضوء المتكثف. وسمع أحدهم يقول لابن "مكاوى":
- طيب، كان بيتنفس ازاى تحت الأرض..
كان هو نفس السؤال الذى دار بخاطر الطبيب. وقال ابن "مكاوى" ديت تقدر تعمل قطة، وتقدر تعمل حمار، وتقدر.. دا جدى خلف منها أربعة، عايشين هناك تحت الأرض.. وفين وفين على ما رضيت الجنية تسيب سيدى الحاج يرجع لنا، بعد ما خدت عليه شرط..
وسأله الأطفال دفعة واحدة:
- إيه هو الشرط؟
رفع ابن "مكاوى" رأسه فى تعال، وقال بثقة:
- إنه مايقلش لحد عنها، ولا يجيب سيرتها.. وكمان هو ما خلفش حد بعدها.. دى خدت أم أولاده..
وضحك الطبيب، ضحك من أعماقه، دون صوت، ودلى رأسه بين كتفيه، وراح يهز الحقيبة فى يمناه وهو يمر بجانب الأطفال، وواصل سيره فى ارض النداهة. أرض خرافية. وبين حين وآخر، كان الطبيب يذب بكفه بعوضة صغيرة كانت تحط باستمرار، على أذنه اليسرى!».
*** *** ***
العالم الرئيسى فى القصتين هو عالم القرية، وفى حين جاء سليمان فياض بالمدينة ممثلة فى الطبيب إلى القرية، أخذ إدريس شخصياته إليها، ولأنهم غير مؤهلين لاحتمال تناقضاتها وقسوتها - عادوا منها فى النهاية مهزومين.
عنصر الهاتف الغامض أو الصوت الآمر أبرز ما يميز القصتين، وهو تجسيد لفكرة الجبر أو القهر القدرى الذى تقع الشخصيات البائسة هدفا له. وتتضمن النهاية فى القصتين خلاصا من الهاتف، وتطورا فى الوعى بفضل المعرفة الجديدة، ويأتى الخلاص دائما على يد ابن المدينة.
الشخصية الرئيسية فى القصتين أضعف من عالمها، يعاندها القدر ويسير حركتها دون أن يمنحها شيئا من سُبل مواجهته والتماسك أمام قسوة اختياراته. والصراع لا وجود له، لعدم التكافؤ بين الطرفين.
يتضح عنصر التقابل: بين الجهل والمعرفة فى نداهة سليمان، وبين البراءة والشر فى نداهة يوسف. ويوجد فى القصتين عنصر التهرب من مواجهة الأزمة الحقيقية أو المشكلة، من قبل الطبيب فى نداهة سليمان، وحامد فى نداهة يوسف.
الموقف الفكرى فى القصتين هو مواجهة مجتمع يندفع للمدنية راغبا فيها، ويتشبث فى الوقت نفسه بروابطه التى تربطه بمجتمع زراعى متخلف فكرا ومادة، ويعنى التفكير الخرافى فى القصتين عجز الإنسان عن التحكم فى مصيره وفى الظروف المحيطة به، وكان الحل الذى طرحه فياض يقترح وجوب مساعدة المجتمع فى عملية التغيير بإلقاء المسؤولية عليه، أما إدريس فالحل عنده يعتمد على المصادفة، ويعول كثيرا على تغير الوعى فى لحظة مفاجئة قد لا تحدث أبدا، وهذا ما لا يتفق مع أيديولوجيته، ومع توجهات العصر الذى صنعه.
الإلحاح على فحص ارتباط الكتابة بالعصر والواقع إلحاح فاسد، فقوة الكتابة ليست فى استجابتها لمقاييس عصرها فحسب، بل فى استجابتها لمقاييس مستقبلية تجعلها صالحة لإثارة خيال من يتلقونها فى أى عصر، ونحن إذ نطلب من الكاتب أن يعبر عن كذا ويصور كذا من القضايا والأفكار، فإننا فى الحقيقة نطلب منه تكرار ما هو موجود، نطلب منه المألوف الذى لا يكلفنا مجهودا ذهنيا لفهمه، ونفسيا للتوافق معه، وخياليا لإدراكه، فى حين أن وظيفة الكتابة الأهم، من وجهة نظرى، أن تجعل المتلقى يستعين برؤيته الخاصة للحقيقة كما تتجلى فى التجربة المتخيلة، لإدراك الوجوه المتعددة للحقيقة فى الواقع واختيار أحد هذه الوجوه مع ثقته بكونها ليست نهائية.
وتبرز عبقرية الكاتب حين يجعل المتلقى يستغرق بكليته فى عالم آخر، متحررا من قيود العقل والزمان وضرورات عالمه، ثم يقيم تجربته بالنسبة للتجربة المتخيلة، ولن يستطيع ذلك إلا إذا قام هو نفسه - الكاتب - بتقييم الحياة فى فنه بالنسبة إلى قيم كبرى خالدة فى كل عصر.
لا يمكن القول إن إدريس فى قصة النداهة كان معنيا بإقناع المتلقى بأمر ما، أو تعليمه سلوكا اجتماعيا خاصا، فجل عنايته كان موجها - كما يُنتظر من أى فنان حقيقى - إلى إخصاب الخيال، والوصول بقارئه إلى حالة الاتصال بالشخصيات لمعايشة عذابها، ثم الانفصال عنها لمعاينة عذابه الشخصى.
وآية ذلك أن الحس القدرى فى القصة يناقض الرؤية الاجتماعية التى سادت فى وقت كتابتها، والتى آمن بها إدريس نفسه، فكيف يتفق هذا الاستسلام أو الاستلاب المروع من الشخصية مع الرؤية التى تنادى بامتلاك الإنسان / الشعب لعوامل قيادة مصيره، وقدرته التى لا تحدها حدود على التغيير الخلاق لأسباب سقوطه؟!
لكن المغزى وراء هذا التناقض يكمن فى إيمان إدريس بضرورة التغيير، وفى الإشارة بضياع "فتحية" - بعد تحقق الهاجس الذى راودها طويلا - إلى أن السقوط من حتميات هذا التغيير المنشود للوصول إليه بإرادة واعية. وقد ندرك ما أراده يوسف إدريس إذا تأملنا دلالة تاريخ نشرها فى 15 يناير 1968، أى بعد ستة أشهر فقط من هزيمة يونيو 1967.
إن مغادرة شكل الحياة التقليدية السهلة فى المجتمع القديم (القرية) إلى شكل آخر معقد وزاخر بإمكانات الرخاء المادى والارتقاء الاجتماعى فى المجتمع الجديد (المدينة) يستلزم نوعا من التضحية والتنازل لقبول القواعد المنظمة لهذا الشكل الجديد، يستلزم قبول السقوط مؤقتا حتى يتمالك المجتمع نفسه، ويواصل الصعود لطموحه المشروع.
ليس الوعى الاجتماعى معيارا للفن، ويستطيع الكاتب أن يعبر عن آرائه الاجتماعية والسياسية إذا كان موضوعها هو ما حرك انفعالاته الفنية عند الكتابة، لكن روح الفن تأبى عليه أن يكون داعية، يصنع للمجتمع منهجا تعليميا يقوده للصلاح من وجهة نظره، فدوره هو فتح شرفات متعددة على عوالم مختلفة، أو إمكانات أخرى للحياة وتمكين الناس من رؤيتها باصطحاب أرواحهم إليها فى رحلة سحرية، سيزول السحر قطعا بانتهاء زمن القراءة أو بعده بقليل، لكن الروح التى راحت ليست هى التى تعود، فلو أعانهم الكاتب على أن يجدوا أنفسهم سيصبح بإمكانهم أن يجدوا المجتمع الذى يريدون العيش فيه، وهذا هو المغزى العبقرى فى نداهة إدريس، والمحرك الرائد لجميع العلامات البارزة فى رحلة إبداعه القصصى.
يقول يوسف إدريس على لسان السارد فى قصة (عند تقاطع الطريق) أو (صاحب مصر)– كما فى العنوان المعدل-: "كل نفس كالمحارة مهما انغلقت فهى لا تكف عن إحالة التجربة بالإضافة والإعادة والتعديل الى لؤلؤة، الى ماسة ثمينة من ماسات الخبرة الإنسانية المركزة والمكثفة والمصنوعة داخل تلافيف الحياة"([2])
نستطيع بوضع كلمة (الكتابة) محل كلمة (نفس) أن نقول إن الكتابة كانت بالنسبة الى إدريس كالمحارة النداهة، لا تنغلق أبدا، لا يتوقف نداؤها، ولا تكف عن إحالة التجربة، بالإضافة والإعادة والتعديل، الى لؤلؤة أو ماسة ثمينة من ماسات الخبرة الإنسانية المكثفة فى الإبداع.
نداهة يوسف إدريس إذن هى الكتابة، وقصة النداهة – إن لم نتعسف فى التأويل – هى قصة الوجود الخاص للمبدع ذاته، فى انتظاره المضنى لفتوحات "الجميلة" القصة العفوية الأصيلة، "المصرية" التى يراود بكارة روحها، فتستعصم بتقاليدها، أو حصانتها بعصمة غيره من المبدعين، فإذا باغتها مغتصبا نفرت منه إلى الأبد، حتى لو توهم للحظات امتلاكه جسدها، أو خدع نفسه بأنها – للحظة خاطفة – فتحت له بوابات سحرها.
6- قصص المقالات وحدود التجريب.
كتب الشاعر نجيب سرور إلى يوسف إدريس رسالة يرجوه فيها أن.."يكف عن كتابة المقالات المتسرعة التى يتورط فيها مكرها أو تطوعا فى الكثير من المناسبات وأن يفرغ ما لديه من مشاعر وأفكار فى قصص قصيرة أو طويلة أو فى روايات ومسرحيات، فهذا أجدى كثيرا وأبقى على الزمن مما يكتب من مقالات - فى أية مناسبة ولأى اعتبار - لأنه يتيح للمشاعر والأفكار فرصة النضج، كما يهييء قدرا كبيرا من المراقبة للنفس والفكر والسيطرة على الحرف والكلمة والعبارة! كذلك حتى لا يحشر نفسه وتلامذته وقراءه فيما لا جدوى منه وفيما يستطيعه غيره".([3])
يستطيع بالطبع من كان يعرف الراحل نجيب سرور أن يتصور طبيعة رد فعله لو شهد وقائع نشر يوسف إدريس لهذه المقالات بوصفها إبداعا خالصا، فى مجموعاته القصصية المنشورة منذ مطلع الثمانينيات، خصوصاً مع تناول عدد من أبرز النقاد لها نقديا باعتبارها قصصا تجريبيا، وتصنيف كربر شويك ود.حمدى السكوت لها ضمن القصص التى نشرت بدوريات، فى الببليوجرافيا التى أعدها كل منهما لأعمال إدريس.
ليس السؤال محاولة لحصر ما لا يحد، لكن.. هل للتجريب حدود؟! متى يجرب الكاتب ولماذا؟!
سيفضل من تقع فى يده نصوص شباب لم يقرؤوا قصصا بغرض معرفة النوع وتاريخ تطوره محليا وعالميا - أن يكون التجريب درجة عليا فى سلم إبداع الكاتب، ومرحلة طبيعية تأتى بعد ممارسات ناجحة، أو خبرة نظرية - على الأقل - بالإطار السائد للنوع. ليس الإنجاز التراكمى من الشكل التقليدى، عند توفر الخبرة النظرية به، شرطاً لازماً لإثبات القدرة المعيارية، وإن كان ضروريا، فى تقديرى، للتفرقة بين التجريب الأصيل والادعاء. فماذا عن تجريب يوسف إدريس فى القصة المقالة؟!
نحتاج للحكم على تجريب إدريس إلى تحديد مفهوم ما للفرق بين الأصالة والادعاء، ولا مفر هنا من عرض مفهومى الخاص، ويحدده الاحتراز التالى: ألا يكون التجريب اضطراريا أو نفعيا.
من المعروف عن إدريس أنه تعرض لأزمة التوقف عن كتابة القصة فى السبعينيات، وأن الكتابة كانت عمله الوحيد ومصدر دخله، بعد أن ترك ممارسة الطب منذ الخمسينيات. ويعنى هذا أنه احتاج للمواءمة بين الموقفين، فتوصل لصيغة كتابية تفى بالغاية النفعية، وتنفى احتمال العجز الإبداعى.
يتجه هذا الاستدلال للحكم بالادعاء، لكن النظر فى القصص المجهولة لإدريس سوف يخفف من تأثيره، فما وصف فى إبداعه بالقصص التجريبى توجد له إرهاصات مبكرة جدا فى نص (تلميذ طب).
يعبر نص (تلميذ طب) عن محاولة قديمة لاختراق النوع القصصى، وتفكيك تماسكه بإدخال عناصر من خارجه عليه. وهو ليس قصة إلا بالمعنى الذى جادل يوسف إدريس كثيرا فى السنوات الأخيرة من عمره، ليقنع الآخرين بقبوله بديلا عن مستوى قصصه المدهشة بمضامينها المتوهجة ومعمارها المحكم الدقيق، إنها القصة المقالة والحكاية والسيرة، يقدم فيها تجارب حقيقية، شخصية أو عامة، بطريقة حكائية لا تختلف كثيرا فى خصائصها السردية عن القصة الفنية الخالصة، غير أنه يكون مباشرا فى عرض القضية
أو المشكلة بأسبابها وظواهرها وأحيانا خيارات حلولها.
أو المشكلة بأسبابها وظواهرها وأحيانا خيارات حلولها.
لكننا، بعيدا عن الظروف النفسية التى أحاطت بكتابة القصص الأخيرة، سنحاول أن نتأمل الأمر من وجهة نظر تجريبية خالصة، فننظر فى نضج ملامح التجريب الإدريسى بين نصى: تلميذ طب 1954، ويموت الزمار 1981، مع اعتبار الأول نصا تداولياً pragmatic text والآخر نصا شبه تداولى.([4])
المقال نص تداولى، يطرح للتداول على نطاق جماهيرى واسع ومتنوع لغاية إشارية حقيقية، حيث يوجد المشار إليه خارج النص، ويسهل التمييز بين قصد الكاتب وتعبيره، ويمكن من ثم تصويب الإشارات الحقيقية فيه، أو التجربة الواقعية بمعرفة المتلقى للحقائق والواقع.
والقصة إنشاء حر غير تداولى، وظيفة اللغة فيها إشارية مزيفة، إذ لا يوجد مشار إليه خارج النص، بل ينتجه النص نفسه باستقلال ينغلق على عالمه، بحيث لا يمكن اقتطاع جزء مما يخصه ونقله إلى السياق العام للمعرفة فى العالم الواقعى، بغية تصويبه باستخدام معلومات مستمدة من ذلك السياق.([5])
أما النص شبه التداولى فلا يحرص كاتبه على تطبيق مفاهيمه النوعية المستقرة، وتتصف ارتباطات المفاهيم فيه بالانفتاح على إمكانات أخرى لتنظيم الخبرة الواقعية وتوصيلها، مما يجعل الإطار الفنى للنص منطويا على وحدة مخصوصة بين العناصر الإشارية والعناصر غير الإشارية.
برزت فى قصص المقالات محاولة إدريس انتهاك حدود الإطار الفنى للقصة، بالتزام الواقعية القصوى أو المحاكاة المطابقة، لتجور تفاصيل الحياة على حدود الفضاء الفنى من غير أن تحطمها تماما، مثلما نجد فى مفتتح قصة (أنا سلطان قانون الوجود) حيث يقول إدريس.. "لا أعتقد أن أحدا – خارج أسرة مدرب الأسود محمد الحلو – قد حزن لمصرعه مثلما حزنت. ذلك أن القدر ليلتها ساقنى لأدخل السيرك، وكانت ليلة الافتتاح، ولا أعرف لماذا؟ ولكنى بعد رؤيتى لعبة الأسود تنبأت أن حادثا جللا لابد سيقع وأن قاهر الأسود محمد الحلو سيصرع على يد أو (ناب) أحد أسوده".([6])
وهذه المحاولة مدفوعة برغبة إنتاج نص شبه تداولى، غايته التقريب بين عالمى التمثيل والواقع، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الصدق فى التمثيل، وفى سبيل الصدق لا يبذل الفنان جهده كله، لحماية صوره - التى أصبحت رموزا - من الانزلاق عن قواعدها الجمالية والامتزاج بالحياة، شأنها شأن العناصر الأخرى المماثلة لها.([7])
يطرح إدريس فى نص (تلميذ طب) المفارقة بين آمال دارسى الطب والشائع عن المهنة والأطباء، وحقيقة أوضاع الدراسة البائسة والعمل، الطرح من منظور السخرية الهادفة، للإيحاء بضرورة التغيير، والعلاقة بين الطرح والواقع واضحة، تجبر القاريء على تجاوز حدود النص لعرضه على خبرته، وسد الثغرات المتعمدة، لكن السمة الجوهرية التى صار بها النص تداوليا هى أن الموقف المطروح له نتائج حقيقية قد تقع على الكاتب، ممن تعرض لكشف ممارساتهم السلبية، لذلك وقع إدريس على النص بالحروف الأولى من اسمه.
ويعرض نص (يموت الزمار) تجربة كاتب تعرض لأزمة الشعور بعدم جدوى الكتابة فقرر التوقف عنها، لكنها كانت أساس وجوده ولما نفاها أوشك أن ينفى وجوده ذاته. الحالة المعروضة، بالتفصيل فى النص، إشارية واقعية، فهى من الأمور المعروفة عن يوسف إدريس،([8]) لكن ربط الإشارة إلى المشاهد الحقيقية بالنص القصصى يدمجها فى الإطار الخيالى المغلق للقصة، فكأن إدريس يحول الحقيقى إلى خيالى بإدراجه فى سياق مؤلف، وهذه مهمة مغايرة لما كان يفعله فى النصوص القصصية غير التداولية، حين كان يجعل الخيالى المبتكر جزءا من خبرة القاريء بالحقيقى.
نحتاج شاهدا آخر على تحول الحقيقى إلى خيالى فى نص محدد نوعيا، ونجده فى أحد الحوارات الصحفية مع إدريس، يقول: "والدى كان عنده قدرة غريبة على رواية الحدوتة والحكاية... إذا شهد فى محكمة مثلا وعاد إلى البيت لا نجلس لتناول الطعام حتى يحكى لنا كل ما شهده فى المحكمة، وكان عند والدى هذه القدرة على الحكاية التى لا أستطيعها رغم كتابتى للقصة".([9])
المشهد نفسه موجود فى قصة (اليد الكبيرة) ونصه: "وطريقته فى الكلام تأسرنا وتخلب ألبابنا. يكون قد ذهب إلى المحكمة مثلا وأدى الشهادة ويقص هذا علينا، ونحب قصته فهو يبدأ من اللحظة التى نريده جميعا أن يبدأ منها ويقص علينا التفاصيل المثيرة الدقيقة ويسرح بنا ويدخل فى حكاية أخرى، ولا نحس أن حكاية بدأت وأخرى قد انتهت، إنما نحس أننا سعداء وأننا نحب أبانا ونعبده".([10])
الفرق فى القصة، أنه تم توصيف قدرة الأب على الحكى، بالبدء من نقطة مهمة، والعناية بالتفاصيل المثيرة وتداخل الحكايات بسلاسة. وهو توصيف فنى دقيق، وغير لازم للنص الخيالى، بل يحتاجه النص الواقعى، مع ذلك الاعتراف "المتواضع" من الكاتب بالعجز عن مشابهته، وحاجة قاريء الحوار، بالتالى، لمعرفة جوانب النقص. ولا يعنى هذا التبادل بين ضرورات النصين المتوقعة سوى اتحاد موقعى الحقيقة والخيال فى مفهوم إدريس لهما.
يستخدم إدريس فى نص (يموت الزمار) بضع بنيات توثيقية وسياسات سردية ماكرة، توجه القاريء إلى تجاوز حدود النص عند قراءته فى صحيفة بطريقة مختلفة عن نمط التوجيه اللازم عند قراءة النص نفسه فى كتاب يحتوى على قصص غير تداولية، فالنص فى الصحيفة غير مسبوق بالإشارة المعتادة إلى كونه قصة قصيرة، أو قصة مصرية، والمفتتح يحث القاريء على تحويل القصة إلى وهم الواقع، والاقتناع بأن الصوت السارد فيها يشير إلى شخص واقعى متعين لا شخصية قصصية متخيلة..
"تقريبا كل ما كتبته من قصص ونسبته إلى نفسى أو قمت فيه بدور الراوى، كانت كلها أبدا لم تقع لى، إلا هذه القصة فأنا فعلا فيها الراوى وما حدث فيها حدث لى. ولقد حاولت المستحيل لكى لا أكون أنا أنا أو لكى يكون الحادث وقع لغيرى، وكان ممكنا أن تكون أروع وأكثر إمتاعا ولكنى بينى وبين نفسى كنت أحس أنى سأكذب بالضبط مثلما كنت حين أتقمص أنا شخص الراوى فى قصص أخرى، معظمها أبدا لم يحدث لى، كنت أحس أنى أكثر صدقا مع الآخرين ومع ذاتى.
إنها إذن قصة خاصة جدا، أعرف أن كثيرين سيهزون أكتافهم حيالها ويقولون:
ومالنا ولهذا القول الذاتى الخاص، ولكن، من يدرى، ربما لن أعدم واحدا يحس ذاته تماما وهو يرانى أتحدث عن ذاتى"([11])
النص طارد للاهتمام ببنيته اللغوية، ولا تؤول أدبيته إلى فنية نوعية عدا الحكاية الحرة([12])، والسمة الغالبة عليه هى الاستطراد، حتى فى أشد اللحظات إثارة، كلحظة فحص السارد طبيا بعد إصابته بالجلطة..
"وكان لابد من إعادة الفحص. وأوضع من جديد تحت شقى الرحى ولكن أى رحى أية غرفة تلك التى أنا فيها؟ حين تخرجت من كلية الطب كانت الآلة الهندسية الوحيدة التى نعرفها هى جهاز أشعة اكس وجهاز إصدار الأشعة فوق البنفسجية. ما أراه طب مختلف تماما وفرع جديد اسمه الهندسة الطبية يتطور بسرعة الصاروخ... إلخ".
سيخرج قارئ نص (يموت الزمار) فى الصحيفة بنتيجة كلية هى أن الحالة المعروضة تخص يوسف إدريس نفسه، ويفترض قبول الكلى قبول ما يندرج تحته من جزيئات، مثل أن التوقف عن الكتابة مثلا كان قرارا اختياريا بإرادة تامة لا عجزا كما يصوره الشامتون.
وهى النتيجة نفسها التى سيخرج بها قارئ النص فى كتاب بين سياق من القصص المتخيلة، لكن عبر طريق مختلف، فعدم الإشارة إلى نوع النص أو أسبقية نشره فى صحيفة، يوجه القارئ تلقائيا لاستقباله بوصفه قصة متخيلة يستخدم كاتبها إجراءات نصية متطورة، كإسقاط الحاجز المفترض بين الكاتب والقارئ، وتداخل الخبرات الواقعية مع الفنية فى نص أيقونى، يحاكى ما هو خارجى ويجسد خصائصه مثلما تجسد اللوحة المرسومة لإنسان ملامحه.
نفى إدريس وجود مرحلة (الحمل بالفكرة) فى مراحل العملية الإبداعية عنده، لكنه نفاها اسما فحسب لا معنى،لأن كمون الفكرة فى وعيه ثم نشاطها، أو تنشيطها، بعد سنوات لا يعنى سوى اشتغال العقل على هذه الفكرة فى الخفاء. ويترتب على هذا الاشتغال اختلاف النص الإبداعى عن المثير الحقيقى، إما فى جوهره وإما فى شكله، وقد يختلف الشكل والجوهر معا، ولا نستطيع تحديد حجم هذا الاختلاف وقيمته إلا إذا قمنا بالموازنة بين أصل المثير الحقيقى كما دونه الكاتب، والقصة التى تولدت عنه.
منحنا يوسف إدريس هذه الفرصة النادرة لإجراء الموازنة حين كتب فى عمود (يوميات) بجريدة الشعب (13 يوليو 1959 ص5) عن واقعة حقيقية شهدها، ثم حولها إلى قصة قصيرة بعد ست سنوات ونشرها بعنوان (قصة مصرية جدا) وهى من القصص التى لم تنشر فى أية مجموعة، وسبقت فى فصل (القصص المجهولة)، لذلك سأكتفى هنا بإثبات نص اليوميات.
«هذه الواقعة شاهدتها بعينى. كنت فى الأتوبيس حين صعدت راكبة جديدة إلى العربة من باب الدرجة الأولى. وكان واضحا أن الصاعدة ليست من راكبات الدرجة الأولى، فقد كانت ترتدى جلبابا اسود طويلا وتلفع طفلا على كتفها بينما طفل آخر ممسك بكلتا يديه بذيل ثوبها وكأنه لو تركه سيموت. صعدت المرأة، وظلت تزق تنزق وتدفع وتتدافع بينما طفلها راكب الكتف يصرخ، وطفلها المستميت على الثوب يسبها ويلعن أياها ويبكى، حتى بلغت منتصف الدرجة الأولى ثم لم تستطع بعد هذا حراكا. والعادة جرت أن ركاب الدرجة الأولى ما يقادون يضبطون واقعة كهذه حتى تتنبه فيهم غريزة الكمسارية الطبقية فيتطوع أكثر من واحد منهم بقوله دى درجة أولى ياست خشى جوه..
ولكن أحدا لم يقل لها هذا لا لان الراكبة الصاعدة كانت جميلة او ذات سمنه أو مؤهلات أخرى، فقد كانت عادية جدا لا يميزها عن غيرها من مرتديات السواد، ولافعات الأطفال إلا أن انفها – دونا عن بقية وجهها كان احمر شديد الحمرة – هكذا لله فى لله وكأنما ولدت به مسلوخا ربما لم يقل لها أحد شيئا لأنهم أحسوا أنها هى الأخرى مضطربة وشاعرة بالذنب لوجودها فى درجة غير درجتها، أو لعل السبب انهم تركوا مهمة تنبيهها للكمسارى الحقيقى حين يجئ..
وجاء الكمسارى أو بالأصح نفذ فجأة من بين أجساد الركاب المتلاحمة مع انه كان تخينا اصلع يرتدى بيريه. وما كاد يلتقط أنفاسه ويلم نفسه ويزيل عن وجهه قرف الدرجة الثانية ليطليه بابتسامة تليق بالدرجة الأولى حتى تنبه إلى وجود المرأة. والعجيب أنه لم يفتح لها محضرا كالعادة ويأمرها قبل أى شئ بمغادرة البريمو والذهاب إلى السكندو كل ما حدث أنه دق على لوحته الخشبية مرة ثانية. وقال: تذاكر. وتوجه بالكلمة إلى المرأة دون غيرها من الركاب، بل قبل أى من الركاب وكانت هى الأخرى تتوقع هذا فقد فردت كفها اليمنى المطبقة على شئ ومدتها إليه. ودون أن يلتقط ما فى يدها او يتفحصه عرف الكمسارى انه نصف قرش، وعرف أنها تريد تذكرة درجة ثانية، وعرف أيضا أن لابد من قرش كامل ليقطع لها التذكرة وأن عليه أن يتقاضى عن فارق الدرجتين. عرف كل هذا بلمحة عبقرية خاطفة. وكذلك عرفه ركاب الدرجة حتى دون أن يلتفتوا. بل المرأة هى الأخرى عرفته. وقبل أن يتكلم أحد قالت بلهجة صادقة ليست فيها شائبة كذب واحدة: والنبى ياخويا ما معايا غيره. ولوى الكمسارى رقبته اشمئناطا كالمحاضر الذى فلق رأسه طوال اليوم بل طوال العمر، يعيد نفس الدرس وقال: يا ستى عايزين تعريفه كمان. ولوى ركاب الدرجة الأولى رقابتهم هم الآخرون، واستعدوا للجدل السخيف الذى لابد أن ينشأ خاصة وأن الأتوبيس كان لا يزال واقفا فى المحطة لم يتحرك بعد، والكمسارى قد وضع الصفارة على فمه استعدادا لصفارة طويلة يأمر بها السائق ألا يتحرك، ومن يدرى، قد يؤدى الأمر إلى الذهاب إلى القسم وضياع ساعات.
ولكن المرأة لم تجادل أو تحاور، بل حتى لم تنظر هنا وهناك لتتعرض ركاب الدرجة الأولى الأفندية وتنتقى أحدهم. فعلت شيئا لا يمكن أن يحدث إلا فى مصر. مدت كفها المفتوحة بالنصف قرش إلى الأفندى الواقف بجوارها مباشرة، فعلت هذا من سكات، ودون أن تتكلم أو تطلب، مدتها هكذا وفى ملامحها ثقة ما بعدها ثقة انه لن يخذلها وكأنها تعرفه من سنين، أو كأنها ركبت العربة معه. ثقة لا يفترض الإنسان وجودها إلا فى أخ أو صديق.
ومن سكات أيضا، وبلا أى دهشة أو استنكار، وكأنه فعلا أخ أو صديق مد الرجل أصابعه فى جيب سترته الشار كسكين الناصعة البياض واستخرج نصف قرش، ووضعه بكل بساطة فى الكف الممدودة المفتوحة. وببساطة أيضا انتقلت الكف من قرب الأفندى إلى قرب الكمسارى.. وتناول الكمسارى القرش، وقطع التذكرة، وصفر وتحركت العربة».
*** *** ***
اليوميات مرحلة أولى فى كتابة السيرة الذاتية، حيث يقوم الكاتب بتسجيل تاريخ اليوم وأبرز ما وقع فيه من أحداث، بدون تعليق عادة، لحفظها من النسيان والاستعانة بها بعد ذلك فى المرحلة الثانية، وهى المذكرات حيث تمتد مساحة الكتابة بنقد الأحداث، ورصد دور الأفعال والأحاسيس، ثم تأتى المرحلة الأخيرة، وهى السيرة، وفيها يربط الكاتب بين ماضيه وحاضره بنظرة كلية واعية راصدا الدوافع والأهداف، ومحللا السلوك والمشاعر والأفكار، لتقييم تجربته الشخصية والخروج منها بدلالات إنسانية.
الكاتب فى اليوميات الشخصية هو البطل الفاعل، وجهة نظره هى الغالبة، اللغة غير مدققة، والأسلوب مختزل وعار من النضج والجمال غالبا. السرد من الخارج لا ينفذ إلى وعى الشخصيات المذكورة أو وعى الكاتب نفسه، والتحديد الزمنى حاضر دائما.
تختلف اليوميات الصحفية عن اليوميات الشخصية فى أن الأولى متقطعة، غير متواصلة حتى لو كان للكاتب عمود ثابت فى الصحيفة. وتكتب اليوميات الصحفية لغاية موضوعية وتوجه لقارئ عام، لذلك يركز الكاتب فيها على فكرة واحدة، مشهودة أو منقولة، يعرضها بلغة سليمة وأسلوب واضح. وتخضع دائما لانتقائية يحكمها شكل، وحجم، تفاعل الكاتب مع مجتمعه وعصره.
الواقعة التى قدمها يوسف إدريس لقراء "الشعب" حقيقية، شهدها بنفسه، والفكرة فيها غياب الوعى عموما، والوعى الطبقى خصوصا، من وجهة نظر كاتب تقدمى. فالمرأة الفقيرة جاهلة تنوء بالأعباء، ولا تحسن حتى المهمة الرئيسية التى تقوم بها، مادامت قد أساءت تربية الطفل الذى "يسبها ويلعن أباها".
وهى تقدم على الفعل دون تبرير، ولا تسأل عما لا تعرفه، تتصرف ببلادة محيرة، وتختار حلا للمشكلة ينم عن عدم وعيها وكسلها، إلى حد تفضيل امتهان كرامتها وإحراج الآخرين على السير بضع خطوات إلى الدرجة الثانية فى العربة. يقهر الكمسارى فى اليوميات أهل "السكندو" ولو بالتأفف والضجر، ويتملق من فى "البريمو".
وركاب الدرجة الأولى "الأفندية" شامخون بطبقتهم، لكنهم لا يعترضون على وجود المرأة، ربما لإحداث التمايز الطبقى اللازم لإرضاء تشامخهم، ومع ذلك فليسوا سواء، إذ لن تعدم بينهم المتعاطف مع بؤس الآخرين، والسلبى غير المبالى، والعابث الساخر، والمهذب المشفق الذى لا يرد سائلا.
تتداخل السيرة الذاتية، إذا كتبت بشيء من الحرفية، مع نوع الرواية فهل نستطيع القول بالمقابل إن اليوميات تتداخل مع نوع القصة؟ قد يستخدم الكاتب اليوميات الشخصية فى الرواية لغاية تقنية، لكن القصة فى تقديرى لا تحتملها، فمنطق السرد فى النوعين يختلف، والفكرة نفسها تحتاج إلى تطوير إذا أراد الكاتب تحويل اليوميات الصحفية إلى قصص، مثلما فعل يوسف إدريس.
حذف إدريس من نص اليوميات صيغة تأكيد رؤيته للواقعة، وصوته السارد بالضمير الأول، أى قطع النص عن شخصيته، وصدره لسارد افتراضى سيدرك القارئ تلقائيا أنه أحد ركاب الدرجة الأولى، وأنه يجلس فى موقع يمكنه من رؤية كل العربة بوضوح، ولديه من الفضول ما يغريه بالمتابعة الدقيقة لكل ما يحدث.
حذف أيضا ما أوحى بتصور سلبى عن شخصية الكمسارى، وأضاف ما يوحى فى القصة بصفات المرح الطبيعى، وخفة الظل التى تيسر له كل صعب، ثم حذف فى النهاية ما ينم عن عفوية مساعدة الرجل للمرأة وبساطتها، وأضاف ما يوحى بدلالة هذه المساعدة على الخلق الطيب والسلوك اللائق.
نستطيع أن نستكشف ما أصاب الفكرة من اختلاف إذا تأملنا حالة العربة عند صعود المرأة فى النصين، ففى اليوميات كانت العربة واقفة، لم تتحرك من المحطة بعد، وفى نهاية الواقعة تحركت، بعد أن عرفت المرأة ما يكلفها انتقالها من "درجتها" وعرف الركاب أنهم لابد أن يتعاونوا إذا أرادوا ألا يتعطلوا.
وفى القصة تحركت العربة، وتوقفت فى الطريق لتصعد المرأة، ثم نشأ نتيجة وجودها فى غير مكانها المناسب لإمكاناتها – تهديد بتوقف العربة، وضياع وقت الركاب وراحة نفوسهم، لو استمروا جميعا لا يعترضون على الخطأ جهرا، أو لا يتجاوزون التعاطف الصامت بالمساعدة العملية. ولما استجاب واحد منهم للطلب متفهما الموقف كله زال التهديد، واستمرت العربة متحركة.
يطرح إدريس فى هذه القصة فكرة عدم التحديد الطبقى فى العربة / المجتمع من منظور مركب، فهو فى النص مع ضرورة التحديد، نظرا لما يترتب عليه من انتماء موجه لنفع الطبقة الخاصة، وعدم انفصال بين الطموح والواقع. وفى الوقت نفسه لا يعترض على الحركة بين الطبقات أو مغادرتها، لكنه يشترط امتلاك مقومات هذا التحرك أولا.
الركاب ليسوا سواسية، أخلاقيا وماديا، هذه حقيقة اجتماعية، لكن ذلك ليس مبررا لإيقاف العربة والإضرار بمصالح الجميع، إنما ما يحتاجه المجتمع حقا هو انسجام بين المتعدد، ووحدة تستوعب التعدد ذاته. ليس الاختلاف فى الفكرة بين النصين إذن جوهريا، وعلى المستوى الظاهر مازال الأسلوب يحتاج إلى تعديل إضافى، وسبب ذلك فى تقديرى أن إدريس لم يكن يحول نصا واقعيا الى نص خيالى، بل يعدل نصا خياليا كتبه فى اليوميات بقلم قصصى.
لا يعتبر إدريس - فى إحدى إفاداته المحيرة عن الكتابة - ما يكتبه قصصا، إنها كما يقول رؤى: " تخطر لى، وليس لى إلا فضل تسجيلها. بل إنى لأعجب أحيانا حين يطلقون على ما أكتبه عنوان "قصة" إذ إنى لا زلت للآن لا أعرف ما هى القصة. صحيح: ما هى القصة؟ إنها ليست أبدا الحكاية، ولا القصيدة، ولا المغزى، ولا موسيقى النثر، ولا لوحة ألوانها الكلمات. إنى ربما أكتب كمحاولة منى لأن أعرف فى كل مرة بالضبط. ما هى القصة؟".([13])
ربما لذلك، وبسبب تلك الحيرة فى الإمساك بمفهوم ثابت للقصة، نجد - بتأمل بعض اللزوميات فى أسلوبه الفنى - أنه يعتبر القصة حكاية ومسألة وأحداثا مروية ولوحة سردية، باتساق مع تصوره الخاص، وطموحه لكتابة قصة مصرية، وهذا هو الإطار الذى ينبغى التعامل مع قصصه فى حدوده، مع تقدير تفاوت القيمة الفنية لهذه القصص على مدى تاريخه الإبداعى الطويل، وعدم الثقة فى تواريخ نشرها، أو الاعتماد على هذه التواريخ لاستخلاص نتائج نقدية تتصل باتجاهات إبداعه ومراحل تطوره.
تبدو مسألة التطور مناسبة للعلوم الطبيعية أو الظواهر العلمية أكثر من الأدب، إذ إن نماذجه الكبرى تتشابه، وتمثل وحداته غالبا نقاطا متباعدة ليست على خط واحد منتظم، من هنا يمكن النظر إلى مقولة التطور حيثما وردت فى سياق نقدى باعتبارها مؤشرا على لون من التغير فحسب، قد يكون ارتقاء وقد يكون انحدارا، وتحديد حجم هذا التغير ونوعه هو ما ينأى بالتاريخ الأدبى عن أن يكون توثيقا جافا وبالناقد عن أن يكون مؤرخا، لأن هذا الجانب لا يمكن التجرد فيه من سمات التذوق الشخصى، المسبقات الثقافية، والمسالك الفكرية والنفسية المطروقة، إذا أردنا رصد التغيرات الدقيقة للقدرة الاستيعابية والدلالية فى النصوص.
7- بداية أخرى
أن نضبط العبقرى - بتعبير يوسف إدريس نفسه - فى موقف لا يقفه إلا الأغبياء - أو غير المخلصين - مسألة لا تدفع للاعتقاد بأنه أخطأ كما يخطئ غيره من الناس، ولكنها تفسر على أنه يفعل هذا عن عمد، وأن وراء الظاهر هدفا ذكيا خبيثا.([14]) وهذا ما يؤكد أن وراء هذه الارتباكات المتعددة فى النشر سببا يفوق الأسباب السياسية والاجتماعية الدينية أو الاقتصادية، إنه سبب يتعلق بقيمة وجوده الفنى والإنسانى كما تصورها، وكما حاول الدفاع عنها والإبقاء عليها حتى النهاية، من جانب، وبخصائص العملية الإبداعية لديه من جانب آخر.
حصر يوسف إدريس قيمة وجوده فى كونه كاتبا، وكاتبا للقصة بالتحديد، فالقصة عنده.. "بُعد من أبعاد الأشياء والكائنات" مثلها مثل الحجم والكتلة والمسافة والزمن، وغياب بعد من هذه الأبعاد لا يؤدى إلى نقص معرفتنا بالشىء فحسب "إنما يلغى الشىء كله من الوجود"([15])
إنها فى تصور إدريس البعد الخامس للإنسان، البعد الذى لا يكون الإنسان إنسانا إلا به، ومن هنا كان اكتشاف الكاتب - أى كاتب - القانون القصصى الخاص به معادلا لاكتشاف قانون الوجود.
نستطيع أن نقدر - مع هذه القيمة الحيوية للقصة والكتابة - حجم الأزمة التى عانى يوسف إدريس منها فى شيخوخته، ونستطيع أن نفهم سر هذا التعلق الدائم بقصصه والاشتغال المتواصل عليها، فقد كان حريصا على أن يثبت للآخرين، المتربصين به خاصة، أنه لم ينته، وأنه مازال يوسف إدريس، الخامس من أعلام القصة فى العالم، بعد بوكاشيو، جى دى موباسان، أدجار آلان بو، وتشيكوف.([16])
كان يدافع - بطريقته المبتكرة - عن وجوده، ويمنع عنه ما تصور أنه خطر الفناء، ربما لذلك كان يحلم باليوم الذى لا تكون الكتابة فيه طلبا لخلود الكاتب، بل سعيا لخلود القيم والإنسان.. "إنى أتمنى أن استمر فى امتلاك القدرة على أن أحلم، فلقد قضيت الحياة منذ طفولتى ومتعتى ليس أن أحياها، إنما أن أحلم بحياة أمتع، وربما كتبت لكى أحرك فى الآخرين القدرة على أن يحلموا هم أيضا أحلامهم الخاصة، فالإنسان بلا أحلام فى رأى كائن أعمى، الحلم هو الأمل المبصر المستشرف، هو قدرته على أن يرى إلى الأمام وأن يجمع الماضى والحاضر والمستقبل، فى نقطة لقاء وهمى، هى الفن.. هى الجزء الثمين المتمرد فى كل البشر، إن بعضنا يكتب لأنه يريد أن يكون كاتبا كسارتر وهيمنجواى، وبعضنا يفضل أن يكتب للمسرح ليكون كشكسبير.. إنى أحلم أن نصل إلى اليوم الذى نكتب فيه لأننا نحب شعبنا، ونحبه أن يكون أكثر الشعوب أدبا وذوقا وأخصبها إنسانية، نكتب بدافع من واجب ملح نحسه إزاء مواطنينا ولا نملك إلا أداءه، نكتب لا لأننا نريد الخلود لأنفسنا، إنما لأننا نريد الخلود لإنساننا وقيمنا، لأننا نريد أن نصنع فى بلادنا حضارة ليست انعكاسا للحضارة الأوروبية، ولكن حضارة نابعة منا، حضارة من خلقنا وفكرنا، نثرى بها حضارة عالمنا ونضيف إليها".([17])
إبداع يوسف إدريس شديد الارتباط بخصائص المجتمع المصرى فى النصف الأخير من القرن الماضى من جانب، وبخصائصه النفسية الذهنية من جانب آخر، ويمكن بتأمل تاريخ المجتمع والتاريخ الشخصى للمبدع تفسير كثير من فنية هذا الإبداع وفلسفته، لكن ذلك ليس مبررا لتقييم إنجاز إدريس وفقا لسلوكه الفردى، فتقديرنا للكاتب مختلف عن تقديرنا للإنسان.
ربما يشعر كثيرون الآن بالاستياء من تناول التكوين الأدبي للمبدعين، هذا الحقل المرشح لأن يشغل النقاد لسنوات قادمة، بمظنة أن جوانبه- ما دام الكاتب قد أخفاها- شخصية، لكن نمط الاستجابة التي قوبلت بها دراسات "ما قبل" نصوص فلوبير، زولا، ستيندال، بروست، جويس، وبالمثل انتشار المؤتمرات والمطبوعات ذات العلاقة، منذ سبعينيات القرن الماضي في أوروبا- يؤكد أن العمل على المخطوطات الأدبية الحديثة جدير باهتمام القراء وفضاء جذاب للبحث النقدي.
لقد رحل يوسف إدريس الإنسان، وبقى منجزه الثقافى لمتلقيه ونقاده، ولتاريخ الأدب الذى يعيد تنظيم الماضى ويعلله، ويصل رحم النص بمبدعه، وبالسياقات المختلفة التى أثرت فى كليهما.
8 ــ ببليوجرافيا قصص يوسف إدريس
1- مجموعة أرخص ليالى 1954
م1 | م2 | القـصـة | بيانات النشر |
1 | 1 | 5 ساعات | التحرير أكتوبر 1952 |
2 | 2 | المرجيحة | روز اليوسف 17 نوفمبر 1952 |
3 | 3 | نظرة | المصرى، 1 يناير 1953 |
4 | 4 | ع الماشى | روز اليوسف 1 مارس 1954 |
5 | 5 | أرخص ليالى | المصرى، 14 مارس 1953 |
6 | 6 | على أسيوط | المصرى، 21 مارس 1953 |
7 | 7 | أم الدنيا | روز اليوسف 4 أبريل 1954([19]) |
8 | 8 | رهان | المصرى 11 أبريل 1953 |
9 | 9 | الشهادة | المصرى، 18 أبريل 1953([20]) |
10 | 10 | الأمنية | المصرى 3 مايو 1953 |
11 | 11 | الهجانة | المصرى 17 مايو 1953 |
12 | 12 | المكنة | المصرى، 26 مايو 1953 بعنوان (فراق) |
13 | 13 | مشوار | المصرى، 7 يونيو 1953 |
14 | 14 | 1/4 حوض | المصرى، 10 يوليو 1953 |
15 | 15 | شغلانة | المصرى، 9 أغسطس 1953 |
16 | 16 | بصرة | المصرى، 30 أغسطس 1953 |
17 | 17 | مظلوم | المصرى، 6 سبتمبر 1953 بعنوان (إدمان) |
18 | 18 | الحادث | روز اليوسف 14 ديسمبر 1953 |
19 | 19 | فى الليل | روز اليوسف 8 فبراير 1954 بعنوان (الليل)([21]) |
20 | 20 | أبو سيد | المجموعة |
21 | 21 | المأتم | المجموعة |
2 - مجموعة جمهورية فرحات
م1 | م2 | القـصـة | بيانات النشر |
22 | 1 | جمهورية فرحات | روز اليوسف 17 مايو 1954 |
23 | 2 | الطابور | المجموعة |
24 | 3 | رمضان([22]) | المجموعة |
3 - مجموعة أليس كذلك 1957
م1 | م2 | القـصـة | بيانات النشر |
25 | 1 | الحالة الرابعة | المصرى، 8 مايو 1953 |
26 | 2 | المحفظة | صباح الخير، 29 مارس 1956 |
27 | 3 | داوود | صباح الخير، 10 مايو 1956 |
28 | 4 | التمرين الأول | روز اليوسف 25 يونيو 1956 |
29 | 5 | الوجه الآخر | الجمهورية، 9 فبراير 1957 بعنوان (وجه جديد) |
30 | 6 | مارش الغروب | الهدف، أغسطس 1956 بعنوان (لحن الغروب) |
31 | 7 | أليس كذلك | الشعب، 31 أغسطس 1956 |
32 | 8 | ليلة صيف | الجهورية، 25 يونيو 1956 |
33 | 9 | المستحيل | الجمهورية، 2 مارس 1957 |
34 | 10 | الناس | الهدف، مايو 1957 |
35 | 11 | الكنز | المجموعة |
4- مجموعة قاع المدينة 1957
م1 | م2 | القـصـة | بيانات النشر |
36 | 1 | أبو الهول | صباح الخير 23 فبراير 1956 |
37 | 2 | هى.. هى لعبة | المساء 16 نوفمبر 1956 |
38 | 3 | الجرح | الجمهورية، 24 يناير 1957([23]) |
5- مجموعة حادثة شرف 1958
م1 | م2 | القـصـة | بيانات النشر |
39 | 1 | شيخوخة بدون جنون | الجمهورية، 7 يوليو 1957 |
40 | 2 | طبلية من السماء | الجمهورية، 4 ديسمبر 1957 |
41 | 3 | اليد الكبيرة | الجمهورية، 8 يناير 1958 بعنوان (ما أبشع هذا) |
42 | 4 | محطة | صباح الخير 27 مارس 1958 |
43 | 5 | تحويد العروسة | صباح الخير، 3 يوليو 1958 |
44 | 6 | حادثة شرف | صباح الخير، 7 أغسطس 1958([24]) |
6- مجموعة آخر الدنيا 1961
م1 | م2 | القـصـة | بيانات النشر |
45 | 1 | أ الأحرار | صباح الخير، 30 يوليو 1959([25]) |
46 | 2 | أحمد المجلس البلدى | الجمهورية، 6 فبراير 1960 |
47 | 3 | آخر الدنيا | الجمهورية، 18 سبتمبر 1960([26]) |
48 | 4 | الستارة([27]) | الجمهورية، 18 نوفمبر 1960 بعنوان (آخر من يعلم)([28]) |
49 | 5 | لعبة البيت | المجموعة، ثم فى مجلة الشرقية مايو 1974 بعنوان اللعبة الخالدة، ثم مجلة حواء 3 فبراير 1979 بعنوان الخناقة الأولى. |
(3) انظر: فارس على حصان من خشب (فى رسالة إلى يوسف إدريس)، مجلة الفكر المعاصر، مايو 1979، و"فارس على حصان من خشب " عنوان مجموعة قصصية لعبده جبير، يقدمها نجيب سرور فى الرسالة ـ مع كثير من التلميحات الشخصية والثقافية ـ إلى يوسف إدريس باعتبار جبير واحدا " من كثير من الموهوبين الشباب يتنفس بصعوبة فى مناخنا الثقافى وفى ظل غيبة النقد وتجاهل أجهزة الإعلام ".
(4) المستوى التداولى أحد الظواهر السيميائية، وتدرس فيه العلاقة بين النص والجمهور الذى يتوجه إليه " ويمكن القول إن البنية التأليفية للعمل الأدبى تتنبأ ببعض استجابات القاريء على نحو يجعل المؤلف يدخل فى حساباته ردود الأفعال هذه، ويبدو كما لو أنه يبرمج هذه الاستجابات المختلفة " انظر: بوريس أوسبنسكى، شعرية التأليف " بنية النص الفنى وأنماط الشكل التأليفى، ترجمة سعيد الغانمى وناصر حلاوى، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة (79)، 1999، ص 138.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)