السبت، 29 أكتوبر 2011

ندَّاهة الكتابة نصوص مجهولة فى إبداع يوسف إدريس د. عبير سلامة ج5



لعنة الجبل([1])

«تململ "شعبان" فى فراشه ثم انتفض وهو يردد كالمخبول..يجب أن افعل شيئا..أى شئ، أية جريمة وهرشت زوجته فى رأسها بعد أن دبت الحياة فى جسدها الميت إلى جواره، وأحست وهى تزيح أطياف النوم عن جفونها، أن الذى انتفض هو زوجها وان الصوت المتقطع المرتجف الذى دوى فى سكون الليل هو صوته، فبادرته قائله بلهجة تحمل التأنيب فى ثناياها:مالك؟.. ماذا حدث يا شعبان؟
وكأن صوت زوجته كان النور ينبثق فجأة فى غياهب عقله، فيوقف تخبطه فى غياهب الظلام،ويعلن إليه فى قوة ووضوح الحافة التى يطل منها على الهوة السحيقة إن كانت هناك هوة فما أن ران صوتها فى أذنه ورجعته أغوار عقله حتى عاد إلى هدوئه وفطن إلى نفسه التى لعبت بها مؤامرات عقله فى غياب النور. حقا..ماذا به؟..وماذا حدث؟ إن الجريمة قد اقترفها، فما ذلك الفحيح الذى يتردد فى أعماق وجدانه ويدعوه إلى إثم جديد، لقد مات (الغرباوي) واحتوته ضلوع الجبل فى حنان أو ترحيب،مات..، انه لم يمت، بل قتل، وكان هو قاتله! كان هو المجرم الجانى الذى رفع بيد ثابتة بندقيته وأردى بها الغرباوى،فهوى من فوق الجبل كدمعه أثمه من دموع الزمن تنحدر على وجهه المتحجر، ولكن يده الثابتة ارتجفت حينذاك، وجندل الغرباوى، ورأى هذا الإصبع القصير إصبعه ينهى بضغطة منه حياة، ويقتل بحركة منه جسدا، بردت دماؤه، وسكنت ثورته وعادت إليه فلول إرادته لتحس بما جناه، ولتحملق فيما أتا.
......([2]) لقد انتهى الغرباوى فى ذلك اليوم القائظ من أيام الصيف، إنه ليشعر - فى وهج الضوء الذى يتسلط على غياهب عقله الآن بتفاهة نفسه.. بتفاهة تفكيره.. بل يشعر بأنه ليس له عقل على الإطلاق، وأن ما يحتل رأسه هو قبضة من تراب قريته القارية فى أقصى الصعيد.
وآن لزوجته أن تنهى ذلك الشرود الذى انتاب زوجها، فمدت يدها تهزه برفق، فهى تخافه وتخشاه، تخاف منه هذه الغيرة التى تطفو فوق ملامحه فجأة وهم جالسون حول العشاء، وتخشى منه هذه النظرة العميقة يطالعها بها حين يعود من عمله وشعر بهزتها، واستطاع أن يدرك أخيرا أنه ليس الوحيد فى ظلام الليل، وأن انتفاضته لم تصهر المشاعر المتجمدة فى قلبه فقط بل أيقظت كذلك زوجته، فرمقها بنظرة من نظراته العميقة، تلك النظرة التى احتارت زوجته مرارا فى تأويلها، فلما استغلق عليها الأمر بدأ الشك يساورها فيما وراء النظرة، أهى زوجة أخرى تطالع شعبان فى الأفق الضيق الذى يعيشون فيه، ولكنها لمحت فى هذه المرة شيئا خيل إليها أنه نداء خافت واهن لها.. لشريكته فى وضح النهار وظلام الليل، وأنه فى حاجة إليها وهى نظرتها الحانية للأمور، فهتفت بصوت أودعته كل ما تملكه بنات الريف من أنوثة:  شعبان.. بربك أخبرنى ماذا بك؟! ومدت يدها لتزيد من ضوء المصباح الغازى عله يبعثر الأشباح التى وجدت مرتعا خصبا فى عقله، وقد رأت زوجها وقد أطرق برأسه، ثم مد يده وأخرج علبه لفائفه وأشعل واحدة وجذب منها أنفاسا نهمة ثم رفع بصره قليلا وواجه زوجته.. وخيل إليها أيضا أنه إنسان هذه المرة.. شعبان نعم ولكن بلا نظرة ولا غبرة، وبلهجة ابنتها حين تعترف لها بذنب ارتكبته بعد طول مراوغة من الكذب البرئ قال..
أتذكرين غرباوى يا بهية؟ -
كيف لا أذكره؟. أليس هو صاحب الشارب المفتول؟ والجسم الضخم؟ والوجه الأحمر الممتلئ الذى كانت ترتعد له الفرائس حين يدب بخطوة الثقيل فى شوارع قريتنا؟
يا امرأة.. لا أريدك أن تذكرى غرباوى صاحب الشارب بل أريدك أن تذكريه.. قاتل الرجال وقاطع الطريق.. غرباوى الذى دوخ رجال الأمن ونصب نفسه حاكما آمراً ناهيا لإقليمنا فى يوم من الأيام.
نعم.. ذلك الوحش.. وهل أنا أخيف ابنتنا إلا به؟
أجل ياله من وحش..
وعاد إلى إطراقه ثانية ثم قال بعد هنيهة: بهية.. سأروى لك قصة:
كان ذلك قبل زواجى بك، وكنت فتى يافعا من فتيان القرية كما تذكرين، كانت الدنيا بأجمعها لا تتعدى فى ناظرى قبضتى القوية وعودى الممتلئ، وذات يوم كنت مارا فى الطريق إلى بيتكم وكنت أتبط حزمة من عيدان القصب اعتزمت أن أهديها إليك، وفجأة وجدته أمامى.. وجدت غرباوى، فتسمرت فى مكانى، وتسللت عيدان القصب من تحت إبطى تسلل شجاعتى من قبضتى القوية وعودى الفارغ فما كان منه إلا أن رمانى بنظرة لا تزال ذكراها تنهش رأسى ثم أهوى بيده على وجهى فى صفعة قوية وهو يتمتم: أأنت رجل؟!
ومضت الأيام وأنا أتحس الصفعة كل صباح ثم تثور نفسى، وتتجمع شجاعتى وتأخذ مكانها من قبضتى فأظل اضرب بيدى فى الهواء.. أضرب أشباح الوحش اللعين، ويطير عقلى وأنا اردد مع زئير الرياح. لماذا ضربنى؟ وكيف احتملت صفعته؟! ثم.. ماذا كان يفعل فى شارعكم، وهو صاحب الشارب المفتول والوجه الأحمر الممتلئ و؟ وهمت زوجته أن تقول شيئا ولكنه أسكتها بحركة آمرة من يده، وجذب نفسا أخير من لفافته ثم ألقى بها فى ثورة تزمجر، وحقد يغلى إلى أقصى الغرفة واستطرد: ثم كبرت.. وكبر معى حقدى.. وانتظمت فى سلك الجندية وتزوجت، واستقر بى المقام بعدها حارسا فى هذا السجن.. فى (ليمان) أبى زعبل.. والشهر الماضى فقط يابهية كان موعد "الوارد" الجديد من المساجين.. النوع الطازج من الضمائر الخربة والنفوس العفنة، وإذا بى أجده فى الموكب الحافل، أتعرفين من؟ إنه الوحش.. الأفعوان صاحب اللطمة.. غرباوى الهرم العجوز.
وشهقت زوجته وهى تردد: غرباوى
أجل وقع أخيرا فى يدى: يدى التى تسربت منها الشجاعة وساما لمرآة، وتسلك إليها القسوة حين رأته تحت رحمتها، تحت رحمة هذا الإصبع القصير الغليظ، وتحينت الفرصة بل عملت لها، واستطعت أن أتبادل حراسة المسجونين مع زميلى، فصرت سيد.. صرت أقوى منه ومن الرجال الذين يعدهم على أصابعه، ولم يعرفنى اللعين، ولم يذكر اللطمة بين جرادل الدماء التى سالت بين يديه، والتى استطاع ولا أدرى كيف أن يمسحها على باب المحكمة وقبل أن يمثل بين يدى القضاء ولكننى كنت أذكر صفعته على وجهى، وقبضتى التى تراخت فى خوف وذلة.
ثم كان اليوم المشهود.. كنا فى الجبل، ورأيته بعد أن قطع الأحجار ينتحى ركنا لقضاء حاجته، وهنا تسربت القسوة التى احتلت يدى فمضت إلى عقلى تصرخ فيه، هذه فرصتك، هذه حجتك فى قتله.. إنه يحاول الفرار. وانتصبت زوجته واقفة وحملقت فيه قائلة.
وقتلته..?!
نعم.. ونلت على قتله هذا (الشريط)!!
قالها فى لهجة هى خليط من الزهد والفخر والقوة التى تنساب من كلمات المساء.. ولكنك لا تفتح فيها أثرا لتأنيب الضمير. واقتربت منه، وكأنما تريد أن تصفعه هى الأخرى.. تود أن تصفع زوجها شعبان الذى لا تذكر يوما أنه استطاع فيه أن يذبح دجاجة، أو حتى أن يردى البومة التى تنتحب كل ليلة على الشجرة المقابلة لدارهم، فإذا به قد قتل رجلا، وأزهق روحا ولكنها عادت وتراجعت. جبنت حتى عن أن تجابهه.. أن تجابه فتاها الأول فى قربتهم.. ورجلها الأوحد فى دارهم التى لا يفصلها عن السجن إلا خطوات معدودة. وانخرطت فى البكاء.
وهز شعبان رأسه فى بطء وتثاقل وكأنما يحدث نفسه، إنها لا تفهم.إنهم جميعا لا يفهمون.. كلهم لا يدركون وكيف تستطيع الفهم وهو نفسه قد اختلط عليه الأمر ولم يعد يلمح إلا خيالات مبهمة غامضة تجوب فكره وتقض مضجعه؟
ماذا حدث بعد الضجة التى أثارها مقتل غرباوى، والتى انتهت بترقيته؟
أنه يوغل فى الأمر فلا يرى فيما حدث ما مكر صفو الهناء الذى كان يمنى به نفسه إذا ما تحققت العلامة واستطاع أن يرد الصفعة.. أن يرد الإهانة التى لم يغتفرها قط. أن الأحداث مرت بعدها فى تسلسلها الرهيب، وفى وقع كوقع حذائه الثقيل، وهو يجوب (عنابر) السجن. غمرت فرحة الظفر ونشوة الانتقام شعبان فتى القرية القابعة فى أقصى الصعيد وسرت لها القبضة القوية وابتهج بها العود الممتلئ ويزداد توغلا فى الأمر فيلمح نفسه مرة ثانية، الفتى القروى البرئ بين أهله وخلافه..وحزمة القصب التى تسربت من يده ى ساعة خوف وجبن ويقارن بين ماضيه وبين حاضره اليوم وقد اصبح الحارس الذى أجرم..
ذبذبات النفوس العفنة الذى ماتت روحه وخرب ضميره.كان يقف وراء الطابور الذى تخلف عن ركب الحياة ويلمح نظراتهم التى يختلط فيها الخوف بكثير من الجرم وهى تنصب عليه هو.. هو مبعث الخوف وحارس الإجرام، أو يشاهدهم وهم يرفعون أيديهم التى أنهكتها الأثقال،وهدها وزن ما يحملون ثم يهوون بفؤسهم على الصخر الجامد ويسمع خلال ذلك حديثهم الخائف الخافت عنه.. عن عزرائيل هذه الطغمة من الأشرار!
أو يرنو إليهم عند عودتهم إلى الحجر الذى خرجوا منه فى باكورة الصباح، وقد انحدرت الشمس خلف الصخر الشاهق وكأنهم نقمة الجبل يبصقها فى وجه الإنسانية.
كان يرى ويسمع ويفهم، وهم لا يرون ولا يسمعون ولايفهمون.. أنه واحد منهم.. واحد من الأشرار.. حشرة من حشرات الوجوه الذى يزخر بها السجن. أنه يسمع شيئا ما ى نفسه يهمس به: مكانك بين هؤلاء.. وقفتك بين هذا الطابور لأخلفه.. يدك لذلك القيد الثقيل وليست لهذا السلاح.
والقبضة القوية والعود الفارع يزأران به.. يا جبان.. أنت تحرس هذه الطغمة؟ هذه الأجساد التى حقت عليها اللعنة ومع ذلك فهم أسمى منك.. هم أجل شأنا، لنهم اقترفوا ما اقترفوا ثم تقبلوا ما كان ينتظرهم، وضمهم هذا المكان هذا الحصن الضخم، يكفرون فيه، وينظرون إليك كأنك السيد الجبار.. أنت الجبان الهارب.
ولكن شتان بينهم وبينه.. وهو ينزع جسده انتزاعا من (الليمان) ليذهب إلى بيته.. إلى امرأته وابنته فيشعر بوحشة كئيبة وكيف لا وهو ينظر إليهما بقلب لم يعد قلب زوج أو أب.. بل قلب ذاق حلاوة الدماء..
هو عالق فى الفضاء الكبير بعد أن اندفع يهوى من السماء التى كان يعيش فيها، وبعد أن أصبح غير شعبان الذى لا يستطيع أن يذبح دجاجة أو يردى بومة - ويلمح الوادى العميق من عليائه وقد اكتظ بلعنات الجبل ونقماته ويرى البسمة، والهمسة، والذئاب الجائعة حين تبتسم. ويرتد إلى نفسه فيجد شعبان الذى يعوى وحده، والحارس الذى يكفر فى صومعة عن جبنه. ويكتشف عقله فجأة الحقيقة التى لا تحتاج إلى دليل: أنهم أسعد منه!..هذه الأجساد التى حق عليها القصاص هذه الطغمة من الأشرار..اهنأ بالحياة منه!.. لأنه نبذ السماء وأبى أن يدخل القفص مع الداخلين.. فلا هو بالذى هوى إلى الحضيض ولا هو بالذى يستطيع أن يحلق مرة أخرى فى السماء!..
تسللت أشعه الفجر الباهتة إلى الغرفة فبدأ ضوء المصباح الغازى كصفرة الجبل وقد انعكست على وجه شعبان وصبغت نظرته القاسية العميقة بطابع حائر مجنون. وبدت على ضوء الشعاع الباهت (بهية)امرأته وقد انتحت ركنا واسترسلت فى نحيب مكتوم، وخيل إليه أنه يلمح شبحا يشبه (غرباوي) إلى حد بعيد يكفكف دموعها ثم ينثنى ليطبع قبلة على وجهها وقد رقدت فى براءة الأطهار. غرباوى يكفكف دموع امرأته؟ غرباوى الذى وصفته بالجسد الضخم والوجه الأحمر والشارب المفتول؟ غرباوى الذى قابله فى شارعهم، وانتحبت لمقتله!؟
نعم هو يكفكف دموع امرأته الكومة الراقدة فى ركن الغرفة تنتحب وكأنها البومة القابعة هناك على الشجرة لقد صرع عملاقا بإصبعه هذا العقير الغليظ أولا يستطيع أن يحطم البومة بيديه!؟
وارتفعت فى سكون الليل أصوات ثاقبة تنعق مع بشائر الصبح. كانت أصوات حراس السجن وهم يتبادلون النداء، وقفزت إلى ذهنه أصوات الذئاب حين تعوى وقد جذبتها رائحة الدماء، وشعر بجسده يتسرب بين ناظريه لينضم إلى الأجساد المشدودة بعضها إلى بعض بالقيد الأصم الأبكم، وبروحه تهوى لتستقر مع غيرها من أرواح الزنادقة فى الوادى العميق. وشدد الضغط على شفتيه، تقلصت قبضته وطاف بخياله (غرباوي) وقد خر من فوق الجبل كدمعة آثمة من دموع الزمان.. ثم مضى بخطى ثابتة مصرة إلى الركن الذى لونه ضوء الفجر الشاحب بلون الفناء.. حيث الكومة الراقدة تنتحب فى سكون!!».([3])


نهاية الطريق ([4])

«رحت أتطلع إلى الطريق الطويل خافق القلب مبهور الأنفاس. كان كأنما قد اقتطع من جنات النعيم: الأشجار الضخمة الوارفة تحرسه وتباركه بظلالها وكأنها شياطين ضخمة استأنسها بهدوئه وسلامه فأتت تحن إليه بل وانقلبت عطوفة ودودة تحنو عليه فى رفق ولين. وكان الهواء يهب ناعما رقيقا فيداعب الشياطين الضخمة، ويهمس فى حنان إلى الطريق الطويل وهنا وهناك انتشرت المزارع الخضراء الواسعة.. يتمايل زرعها مع النسيم، وتخطر أزهارها فوق بساط الريح، وتتثنى أعوادها على خطى الأزهار وتمايل الزروع.
وسرت... سعيدا مهفهفا كالأزهار، ناعم الفؤاد كالنسيم، مرتاح الخاطر كالشياطين الراقدة على جانبى الطريق، سرت وكأننى عود من الأعواد يدب على الطريق... عود فيه حياة الربيع وخضرة آذار... فنسيت الأحراش الوعرة، نسيت الرجفة والضعف التى أفلتتها قواى حينما عانيت الوحدة بعيدا.. بعيدا فى الأدغال. كنت أرى هذا السبيل المعبد أمامى وعلى مرمى البصر منى طيلة هذا الضلال فى الأحراش ولكنى حسبته سرابا خادعا أو زوالا خطر لعينى التى أنهكها طول التحديق. وما كان أحكمنى حينما عن لى أن أتحقق من السراب، وأقبض بيدى على الزوال - إن كان هناك زوال. وحينما اقتربت واقتربت لم أشعر بنفسى إلا وأنا فى وسطه ساعيا جهدى للمضى فيه وقد سحرتنى أشجاره ونسائمه وأزهاره، وزروعه.
فسرت... سرت وكأنى أحيا بهذا السير، وأعيش من هذا السعى، وأطرح حياتى على هدوء الطريق حتى رأيت إنسانا بائسا بعثرت إنسانيته الأقدار يركن إلى جذع من الجذوع الضخمة. كان بائسا كالشجرة الهزيلة تنبت فى بيداء جدبة... وكان مريضا كأنه المرض نفسه قد انتابته نوبة يتيمة من العافية... وكان جائعا وكأنه ما تناول طعاما بعدما وضعته أمه على حافة الطريق الطويل وكان فى نظرته معنى عميق حزين... كأنه يود أن يقول.. أعطونى يا رفاق حتى أدب معكم فى الطريق.. أنا الذى ضل فى زحمتكم وصرع تحت أرجلكم القاسية. وعز على أن يعكر صفو هذه اللوحة العاطرة ذلك المريض البائس الذى لا يمد يده إلى مال أو طعام بقدر ما يمدها إلى إنسانية... قليل من الإنسانية التى أضاعها منه الفارون. فقاسمته إنسانيتى ومالى وطعامى.
ثم ابتلعنى الدرب الساحر وكنت كلما أوغلت فى السير تتقاطر على وفود القادمين... كلهم مثلى يسرع إلى الزوال الذى أفتقده... وكلهم مثلى مبهور الأنفاس مما يراه... وكلهم مثلى يسعى جهده للمضى فيه وقد سحرته أشجاره ونسائمه وزروعه. ولمحت فى زحمة الخلق صديقى... صديقى الذى سرنى أنه قد عثر مثلى على الجنة التى أنا فيها.. فناديته فلم يسمع وصرخت فيه فضاعت صرختى فى الضجة التى تثيرها الأرجل الساعية والأفواه المهمهمة. فأسرعت خطاى حتى بلغته بعد لأى وبعد أن رمقنى هذا بنظرة عاتبة لنى سبقته ورمانى ذاك بأخرى ملتهبة لأنى كتفى قد حف بكتفه. وسعد صديقى بلقائى وخيل إلينا أننا لسنا فى صحوة بل فى حلم غريب... ولكنه لم يكن حلما وإنما كان حقيقة راضية كهذا النسيم، وصدقا مطمئنا كالجذوع الضخمة القابعة فى سكون، غير أن سعادتنا لم تدم طويلا... والبهجة التى عشنا فيها مضت عنا ساخرة شامتة، إذ سرعان ما فرقتنا الأكتاف المتدافعة، وأبعدتنا الأرجل الثقيلة الساعية. وتلفت حولى فإذا بى وحيد مرة أخرى ليس معى إلا الطريق والناس ولا تظللنى إلا السماء العميقة الصافية.
وانطلقت ردحا مع المنطلقين حتى خيل إلى أنى مثلهم لا أبغى إلا الانطلاق ولا شيء غيره.. حتى الزهور والأعواد والزروع والسماء والأشجار بدأت أراها وكأنها قد تلاشت من أمامى فلم أعد أرى إلا السبيل وقد استقام ولم أعد ألمح إلا الناس وقد اندفعوا فى سيرهم الحثيث.
غير أن واحدا من هؤلاء قد استرعى انتباهى بجسده الفارع المكتنز، وبشرته التى ما طالعتها الشمس إلا بيضاء ناصعة، وبطنه وقد تكور وبرز، وملابسه الثمينة الأنيقة، ونظرته التى يفيض منها الرضا ويسيل النعيم. وكان بين الفينة والأخرى يحرك يده فيشع - فى ضوء الشمس - ما قد أحاط بمعصمه وأصابعه من ذهب... يشع بنور وهاج يخطف أبصار الكثير من الدابين. تمنيت أن أكون هذا السيد الفارع... وحتى تمنيت أن تكون لى بطنه المتكورة البارزة... ولكن تلاشت أمانى معه حين حجبته عنى الأكتاف المتلاصقة والرجل الثقيلة الساعية. وشيئا فشيئا.. بدأت خواطرى تتحول واهتمامى يتركز على البحر المتلاطم الأمواج الذى يزحف فوق الطريق.. وبدأت أتلهى عن السير بالنظر إلى هذا والتطلع إلى ذاك. كنت كالذى يجبر على السير فى جنازة لا تهمه وهو أدرى بما ستنتهى إليه... وبما سينتهى إليه كل المشيعون فراح يرمق الخلق الغفير. ولمحت بين الأرجل الثقيلة ساقين جميلتين... ساقين كأنهما الرحيق الدافيء... ولكنهما تسعيان أيضا... مع ساقين أخريين ثقيلتين هذه المرة.
زوج وزوجة اندمج جسداهما ومضيا معا يحفهما الماضون.. رأيت السعادة تتبادلها عيونهما، والبسمة تفتر عن ثغريهما معا. وكأنها ثغر واحد وبسمة واحدة.. وكانت الزوجة تحمل طفلا. ثمرة جميلة من ثمار البسمات السعيدة... كان يناضل مناضلة العاجز الصغير وأبواه يتقبلان مشاكسته البريئة فى غبطة وهناء، ويجازيانه عليها بقبلات خاطفة عذبة..
وشعرت أن شيئا فى نفسى ينبض.. شيئا فى نفسى تنطلق فيه الحياة بعد موت بارد. شعرت برغبة يحركها منظر الأسرة السعيدة أمامى... الرغبة التى ماتت قبل أن توجد فى نفسى... ثم هاهى ذى تريد الحياة.. تريد أن تجعل منى زوجا كهذا الزوج، وأبا كهذا الأب بل حتى تدفعنى بعيدا... فى غياهب الماضى لأرى نفسى طفلا كهذا الطفل. وتآمرت على عقلى السعادة التى تدور بين الوجوه السعيدة والرغبة التى أحياها صدق ما يدور أمامى.. فأغمضت عينى وأنا أتصنع الإغفاء لأترك للخدر اللذيذ أن يعترينى وأنا أشهد الصراع بين الرغبة التى طال عليها الموت والعقل الذى طالت به الحياة. ولكن عندما فتحت عينى ووجدت المورد الحى الذى كان يغذى رغبتى قد نضب معينه باختفاء أصحابه رحت أضيق مرة أخرى بالقيد الغليظ الذى ربطت إليه... رحت أضيق بعقلى... عقلى الذى قتل الرغبة قبل أن تستنشق النور ولم يكن موتها هو كل شيء بل كانت الشمعة المضيئة التى أنارها جسدى حدادا عليها كافية لأن ترينى الوحدة التى تلفنى وتلف أمثالى فى الطريق.. الوحدة التى ما شعرت بها قط لأننى كنت أعيش داخل نفسى... كانت حياتى كلها بملاذها وأتراحها داخل الحصن الحصين... داخل جسدى.. وما كنت أتخيل قطرة واحدة من قطرات السعادة أريدها ولا تكون فى القلعة الزاخرة بكل شيء. فلما عرفت على ضوء الشمعة الضئيل أن هناك روافد تجرى بالسعادة وتتلوى بالأمل خارج نفسى أدركت الخدعة الكبرى: أنى وحيد... وحيد محاصر فى قلعة عتيقة بالية. عزت على وحدتى، وعزت على نفسى، واعترانى - وأنا الذى بدأت الطريق سعيدا مهفهفا - حزن غامر، وأشحت بوجهى عن كثير من آيات السعادة... من آيات الحب والحنان التى كانت تجرى أمامى. ورحت بدافع لا شعورى أركز نظراتى على الوحيدين من أمثالى فراعنى شيخ مهيب وقور قد ابيض شعر رأسه، وجار البياض على لحيته، وبصمت السنون على وجهه بأصابعها الطويلة القاسية فتركته مجعدا ولكن فى جلال... مغضنا ولكن فى وقار. وكان يحمل مسبحة لم تشذ عن وقاره، وراح يحرك يديه الكليلتين فى بطء وتثاقل وهو يتمتم بينه وبين نفسه بما لم أكن أسمعه أو منعنى من الإصغاء إليه ضجة الساعين. وقادنى شعورى بانى وحيد إلى قرار ليس لى منه مهرب... إن الشيخ وحيد أيضا ولكنه عجوز... نفسى أنا أو نفوس الوحيدين من أمثالى وقد قاربت نهايتها... بقايا أرواحها الطيبة وتراتيلها الخالدة فى قلاع نفسها البالية. وتوسمت فى بسمته القانعة سعادتى - وسعادتهم - حين يمضى بها العمر وتتكاثر عليها الأيام... ولكن... خطواتى الفتية كانت أقوى من أن يحتملها خطوه الواهن، وسرعان ما تركته ورائى... وحيدا كما ألفيته، وكأننى أنفض عنى كبرى وعجزى ونهايتى.
وشيئا فشيئا بدأت دائرة بصرى تتسع وتشمل الطريق وما حوله وكأننى أريد أن أجد عزاء عن وحدتى، ومهربا منها. وتخطت عيناى الأشجار الضخمة، وعبرت المزارع التى على جانبى الطريق، وراحت تناضل الأفق... وانتهى النضال إلى شبح لنهر يكاد يكون قريبا. وعجبت كيف لم أره قبل ذلك. ولكن عجبى زال حينما عرفت أن الطريق وما فيه ومن فيه كان مستحوذا على لبى ولب ما فيه من جموع. وترددت هنيهة بين الطريق وبين.. الشبح الواهى للنهر. ولم يطل ترددى، إذ سرعان ما وجدت نفسى، أندفع فى طريق النهر، متجها إلى الأفق باحثا وراء المجهول. وتركت الناس يمضون، والأكتاف تتدافع، والأرجل الثقيلة تسعى واخترقت المزارع الخضراء، ووقفت أرقب النهر فسحرتنى مياهه... المياه الشفافة الملساء وكأنها أنفاس حور العين... وغرقت فى خضم من أفكار كانت متضاربة متشابكة ولكنها ما لبثت أن صفيت وشفت حتى دانت أنفاس حور العين. ثم بدأت نظراتى تتردد فى شيء يشبه الرهبة بين النهر وشاطئيه، وعجبت حينما رأيت هنا وهناك قوما يطرحون شباكهم وآخرين يمتطون زوارقهم وفريقا ثالثا قنع بشص قد أمسك به..
كانوا يصيدون، وكانوا منهمكين فى صيدهم وقد استغرقهم نهرهم فلم يعبأوا بما حولهم أو كانوا يعتبرون أن لا شيء حولهم. بل هم فى بسماتهم الهنيئة حين تخرج شباكهم وقد اكتظت بالأمل الموعود... أو العبسة الساخطة حين يجذب الواحد منهم شصه فلا يعلق به عالق... هم فى صبرهم على كل ذلك وأناتهم يخضعون لراع كبير يبسط جناحيه عليهم وعلى النهر... يخضعون للهدوء.
وبرمت نفسى مرة بهؤلاء. هؤلاء الذين تركوا الأكتاف والأرجل ثم جاءوا هنا يقضون الأحقاب فى انتظار الأمل.. ويحدقون فى النهر ويجترون مياهه.. ثم يخضعون لهذا الراعى البغيض... راعى الهدوء. ولكن نفسى التى تسعى دائما وراء المجهول أبت إلا أن تقف على أمر هؤلاء الصائدين فى الماء الشفاف فتركت موقفى وانتهيت إلى واحد منهم قد جلس إلى الشاطيء ثم أرخى لشصه العنان. وأقرأته السلام، ولكنه كان مستغرقا فى شصه وفى الصيد الثمين الذى بدأ يداعب طعمه، فظللت واقفا بجانبه... أرقب الأمل الموعود. وجذب شصه فخرج الأمل... أمل نابض حى وانتهزت الفرحة التى غمرته وأقرأته السلام مرة أخرى فابتسم لى مجيبا ثم قال: من أنت؟ فقلت: أنا قد كنت - إلى ساعة مضت - إنسانا يزحف فى الطريق مع الزاحفين.
فابتسم مرة أخرى وقال: وماذا جاء بك؟ فقلت:
- دائرة بصرى حين اتسعت فرأيت النهر، وحين اتسعت مرة أخرى فرأيتك ورأيت الصائدين.
- وهل أعجبك النهر ومن على جانبيه؟
- لا ولكنهم يثيرون فى نفسى شيئا.
- يثيرون ماذا؟
- أأقول الهدوء؟... لست أدرى.
- إذن دعنا لسؤال سهل: أكان إعجابك بالنهر أكثر أم بالطريق؟
- بالطريق طبعا لأنى سرت فيه واستنفدت ما فيه من لذة... وكذلك ما فيه من ألم.
- ولكنك لم تعرف النهر بعد؟
- أظننى قد عرفته.
- لا يا صديقى... بل خيل إليك أنك عرفته.
- وما الفارق؟!
- هو الفرق بين القمة والسهول... بين صفحة المياه والأعماق.
- ولكن ماء النهر صاف شفاف... وأنا أرى أعماقه.
- أو يخيل إليك أنك ترى قراره.
- أليس ما أرى هو القرار إذن؟
- ليس له من قرار يا صديقى الطيب!
- إنك تتهمنى بالخيال فى نظرتى.. وأنا بدورى أتهمك بالتعمق أكثر من اللازم فى نظرتك. أنا أرى القرار واضحا وأنت تراه عميقا.. عميقا إلى حد العدم.
- ومن منا تظنه المصيب؟
- الحقيقة هى المصيبة دائما.
- وأين الحقيقة؟
- أو تهمك؟
فابتسم ولم يجب، ولكنها كانت تهمنى أنا.. كان يهمنى أن أثبت لهذا المسفسط الذى جلس على حافة النهر خائفا مرتعشا من أعماقه. أثبت أنى أكثر منه خبرة - وقد قطعت الطريق الطويل - فاعتزمت أمرا.. أن أخوض النهر وأقف على قراره، ثم أرسل بضحكة متشفية للجالس الخائف. وخلعت ملابسى، وذهل صاحبى حين قذفت بنفسى إلى الماء الصافى الشفاف. ومددت رجلى بأقصى ما أستطيع لتعثر على القرار.. وعثرت عليه. ولكنه كان أيضا.. من الماء الشفاف ورحت أهوى.. أهوى إلى الأعماق ولكننى هويت وهويت حتى ضاق صدرى وأنا لا أحس بقرار.. بأى قرار.
وتزعزعت الحياة فى جسدى ولكننى تشبثت بالحياة التى كانت تعوى فى جسدى عواء الذئاب أنهكها طول الجوع والظلام ورحت أناضل لأفر من الأعماق.. لأفر من حتفى. أخيرا عثرت على الشاطيء بعد أن رأيت أن موتى كان أقرب إلى من هذا القرار، ولكن كنت قد شريت برغمى - ماء كثيرا من ماء النهر وارتديت ملابسى ورحت ألعن المجهول، نفسى التى تسعى دائما وراء شيء كاد يرينى حتفى وهو الجالس الآن يرمقنى بابتسامة محيرة ولكن فيها كثيرا من الرثاء.
وأدرت ظهرى للنهر والصائدين والأفق البعيد واتجهت إلى الطريق الذى غادرته فى ساعة تردد ملعونة هى الأخرى.وساعتها شعرت بإحساس عجيب جديد. شعرت بطارق مجهول يدلف إلى قلعتى الحصينة من ظلام الأعماق.أيكون مبعثه الماء الصافى الذى شربته برغمى؟!
* * *

  رحت أتطلع إلى الطريق الطويل خافق القلب مبهور الأنفاس.. كان كأنما قد قد من الجحيم وصنعت أحجاره من قلوب الزنادقة.. وكان لا ينمو على جانبيه إلا القتاد والشوك. وكان الجو باردا برود الموت، تصفر فيه الرياح بأنغام بشعة مقبضة. وترامت هنا وهناك صحراء جافة قاحلة، لا زهر فيها ولا زرع ولا أعواد فيها ولا براعم.. وإنما ذرات من الرمال والغبار ترقد فى سكون كأنها العدم، وإذا حركتها الرياح المصفرة فإنما تقلب أشلاء ميتة نتنة، وخيل إلى أنى ضللت السبيل، ولكننى رميت ببصرى بعيدا فلم أجد طريقا غير هذا الطريق.. ولا حياة فى تلك البقعة غير ما أمامى من معالم الحياة.
أهذا هو الطريق الذى بدأت به رحلتى؟ أيكون قد أسكرنى الماء الذى شربته برغمى؟
ومع ما شعرت به من تغير مفاجيء طاغ، سرت حزينا كاسف البال كالقتاد، ميت الفؤاد كذرات العدم، جامد الخاطر كالحجارة التى صنع منها الطريق.. سرت وكأننى نغم بشع مقبض من أنغام الرياح بل سرت كأننى أفنى فى الطريق. ورأيت إنسانا يرقد على كومة من القتاد.. كان يمد يده فى سؤال، وفى أعماقه كانت ترقد أشياء وأشياء. كلن يختفى فى ملابسه الرثة ووراء طلعته جسد قوى، ولم يكن جائعا ولا مريضا.. بل فى نظرته معنى.. معنى قاسيا متحجرا.. المعنى الذى يدفع بالجراثيم إلى جسد السليم فتعيش على حسابه وتطعم من دمه لتصنع لها هى حياة فيها موته. كان يود أن يقول أيتها الخنازير القذرة ألا ترون يدى الممدودة؟.. أما كفاكم أنى أصطنع الضعف والجوع والفقر لتهبونى القوة والطعام والمال!
ومر بجانبى إنسان آخر.. رأى البائس وقد ركن إلى جذع شجرة فمد يده وأعطاه شيئا وهو حريص على أن يرى يده كل المارين ليدركوا أنه إنسان يستثيره أمثال هؤلاء من البائسين. فرمقه هذا بنظرة تقول:
ما أغفلك!... وما أبرعنى!
وابتسمت للمسرحية الحقيقية التى دارت بين السائل والمسئول ثم ابتلعنى الدرب.. وكنت كلما أوغلت فى السير تتقاطر على وفود القادمين.. كلهم مثلى يسعى للزوال الذى أفتقده.. كلهم مثلما كنت يبذل جهده للمضى فيه وقد سرته أشجاره ونسائمه وزروعه ولمحت فى زحمة الخلق صديقى.. فناضلت حتى أمسكت بذراعه.. وهممت بأن أقول له شيئا ولكن نظرته جمدت الكلمات على شفتى. إذ من وراء البسمة التى طلى بها وجهه طالعنى لهيب ما يختزنه فى جعبته العميقة واستطعت أن أرى فى اللهيب ضيقه وتبرمه. استطعت أن أعرف ما كان يود أن يقوله لولا البسمة التى أسرعت إلى وجهه.. كان يود أن يقول: لم تضايقنى يا هذا... لم تقتطع منى وقتا كان الأولى أن أنفقه فى السعى الحثيث.. أنا ضيق بك وبصداقتك وما عرفتك إلا لأنى احتجت إليك يوما.. وقد انقضت حاجتى منك فما حاجتى إليك. وشعرت أنه يود أن يقطع يدى.. يدى التى كانت تؤلم ذراعه حينذاك. فتركت ذراعه.. وأنا أسرع الخطى حتى لا أقرأ الكثير فى أعماقه.. فقد اكتفيت بشرر اللهب فما حاجتى إلى النار.
واصطدمت فى إسراعى بالسيد الفارع المكتنز فابتسم لى معتذرا.. وعجبت كيف تنقلب اللعنات التى يصبها من جوفه بسمات على وجهه بمثل هذه السهولة وتلك السرعة ولكن عجبى زال حين راحت نظراتى تعبث بما يحتويه بين ضلوعه.. تعبث بالقذارة الحديثة فى هذه المباءة المظلمة.. تعبث بشعور الغبطة والبهجة التى تكومت فى ركن من أركانه.. الغبطة والبهجة لأنه استطاع اليوم أن يأخذ اللقمة التى كانت فى طريقها إلى بطن خاو من بطون عبيده.. ليحيلها إلى الملابس الثمينة والذهب الذى يحيط بمعصمه وأصابعه.. ثم يرمق القطيع الذى يمضى حوله وتناديهم خواطره: تعالوا وانظروا إلى أنا السيد الذى يرتدى الغالى ولم تصافح بشرته الشمس.. تعالوا اركعوا تحت أقدامى ثم ارفعونى على أعناقكم حتى يرانى سيدا من لم يرانى.. ويركع تحت أقدامى من مر غير آبه بحذائى.
فنظرت إليه - غير راكع - ثم إلى حذائه ولم أشعر بفارق كبير فى النظر إليهما. وانطلقت.

* * *
سرت حتى لمحت بين الأرجل الثقيلة ساقين ناعمتين تقولان أترى أيها الأبله جمالى؟.. ألا تأتى لتزيد فتنتى اشتعالا. وبجانبها ساقان أخريان ثقيلتان هذه المرة تقولان: ارجع أيها الأبله.. لقد كلفتنى الأرجل الناعمة كثيرا أو.. تعالى إن كنت حقا ممتليء الجيوب.. زوج وزوجة قد تلاصقا ومضيا مع الساعين.. وما كان أوسع ما بينهما من هوة وإن تقاربت وجوههما وتشابكت أيديهما. الزوجة ترمق بعلها شذرا وتتمنى لو مات حتى تظفر بثروته.. وتصبح الحرة الطليقة التى تمرح كيفما تشاء.. وتنظر بعينها أنى تريد.. بدلا من الومضات الخاطفة التى ترمق بها الشباب الفائر من الغادين. والزوج يتساءل: أحقا هذا الذى تحملينه هو ابنى.. أم ابن شريكى الذى أرسلتك إليه - لأمر ما - فى ليلة ظلماء.حتى الطفل الصغير كان يشاكس ويناضل عله يستطيع أن يتخلص من الذراع التى التفت حوله، والقبلات الكاذبة التى كان يغمره بها أبوه والتى كانت فى حقيقتها تئن كم سترهقنى أيها الشقى.. وكم ستكلفنى أيها النموس... وهل أستطيع أن أفيد منك ما أدفعه الآن لك؟ واللثمات الخادعة التى كانت تغدقها عليه أمه وتتمتم: حسنا يا صغيرى.. الآن لن يستطيع أبوك أن يطلقنى!
مسرحية أخرى ما سمع حوارها سواى، وما انفطر لها سواى فأنا أرى ممثليها ينطلقون جنبا إلى جنب، ويدا فى يد، يضيعون فى زحمة الخلق. وتطلعت أجتلى نهاية لهذا الطريق القفر فطالعنى شيخ بيضت شعره السنون وغضنت وجهه الأيام يحمل مسبحة ويحركها وهو يتمتم بينه وبين نفسه بصوت لم يسمعه أحد سواه. وسواى أنا الذى رويت من ماء النهر: ما كان أغفلنى إذ ضيعت زهرة شبابى صالحا وقورا. وما كان أحمقنى حين تتقاطر اللذات من حولى فأزور عنها إلى مسبحتى ومحرابى.. وأنا اليوم عاجز حتى عن التسبيح، عشت أيامى وكأنى لم أعش.. مر شبابى وكأنه لم يمر. أيتها الأيام ردى على أمسى لأعيشه.. ردى على ماضى لأخلقه من جديد كما أشاء. وحملقت فى الرجل.. فى سعادتى حين تمضى بها الأيام. ورمقنى هو بنظرة.. نظرة رأيت خيالها ينعكس على أغوار عقله العجوز. ثم يتضاءل الخيال وتحل مكانه رغبة ملحة: أن يكون له مثل شبابى.. ويد قوية مثل يدى... وماض عربيد كماضى القريب. ورمقته بآخر ذرة من الاحتقار لدى وهو يمضى والجموع تفرد له مكانا لينا بينها وتمد يدها لتساعد ضعفه وقدمه.
* * *
ورحت أقرأ الناس ككتاب مفتوح فرأيت كلهم السائل الجشع والمحسن المنافق والصديق اللدود، والسيد المتعجرف. والزوجة العابثة والزوج الوصولى، والطفل البريء والشيخ الذى هو أبعد ما يكون عن الوقار. وشعرت بنفسى أرتفع وأرتفع.. وطاف بذهنى خاطر جارف.. أننى عملاق عرفت القرار.. قرار الخلق الذى يحفل بالمباءات، واستطعت أن أنبذ النظرة المغمضة التى ما ترى إلا ما طفح على الوجوه، وما تبصقه الشفاه، وما تخدع به العيون. نعم إننى مارد وسط هذه الأقزام.. أمد يدى فأخرج نفوسهم من أجداثها وأتلهى بالنظر إليها. أبصق على قذارتها، وأبتسم لطهرها ثم قد تدفعنى الرحمة أن أمد أصابعى فأرفع بعض القذى الذى علق بالنفوس.
إننى مارد نعم.. ولكننى مارد بائس.. مارد يعرف عن الأقزام كل شيء.. يعرف ضعفها وطيبتها إن كانت لها طيبة، ثم قذارتها أيضا ولكن أحدا منهم لن يستطيع أن يرفع بصره إلى وجهى ويرى نفسى، وكيف تستطيع الأغنام أن تقرأ ما يدور فى خلد راعيها. إنها لا ترى إلا عصاه.. ولا تعرف إلا نداءه.. ولا تلمح إلا يده.. يده التى لا تمد دائما إلا لخيرها. لخير القطيع. ولكنهم لا يعرفون، وكيف كما قلت - تستطيع الأغنام أن ترى وجه الراعى ونفسه. أما النظرة التى رمقه بها صائده... النظرة التى فيها كثيرا من الرثاء لأنه لم يكن إلا قزم مارد من هذه الأقزام حقا.. ولكنه فى نفسه قزم سخر منه عملاق آخر.. عملاق يمسك بالمشعل وقد أدلى به فى النهر الشفاف.
برمت نفسى بالقطيع والأقزام على حين مضيت إلى المجهول الذى ساقتنى إليه تلك النفس فى ساعة تردد. بل كأن المارد الذى أخذ يكبر وشيكا بين ضلوعى عليه أن يكون أميرا فى مملكة الأقزام.. وهو نفسه كاد أن يغرق فى النهر الصافى فأبت عليه عملقته إلا أن يكون أميرا عن جدارة واستحقاق. واختفيت تحت قبة الأفق.
* * *
وقفت أرقب المياه الشفافة وعجبت حين لم أجد لها قرارا.. ووجدت أن القرار الذى تخيلته فى ساعة ما، لم يكن إلا قرار نفسى أنا وقد حسبته قاع النهر.. وتفتحت عينى على الحقيقة التى ضاعت منى طويلا.. أنى كنت انظر إلى الناس الماضين فى الطريق قبل أن أشرب برغمى من ماء هذا النهر - كنت انظر إليهم فيقف قرار نفسى حائلا بينى وبين أعماقهم.. كنت أرى فى كل منهم نفسى حين تسأل نفسى حين تخون ونفسى حين تصادق وحين تتزوج وحين تكبر وحين تسود كانت نفسى تحتل على كل فكرى. وتوجه نظرتى إلى ما تراه.. وليس إلى ما أريد أن أراه كانت تحجب عنى الحقيقة بسعادة مصطنعة ورضاء متكلف. كانت تريد ألا أتزحزح عن القلعة التى صنعتها لى.. كانت تريد أن أرى كل شيء ولكن من خلال أبراجها المرتفعة. حيث لا أرى شيئا. حيث لا أرى إلا ما ترسمه الخيالات، وكانت خيالاتى صنيعة نفسى. خيالات نفسى التى جعلت منى قزما فى يوم من الأيام.
وقفت أشاهد المياه. وأرى أبراج القلعة الحصينة والقمقم التى خيل إلى أنى كنت أسجن فيها نفسى ولم يكن فى الحقيقة إلا سجنى أنا. وقفت أرى الأبراج تغوص فى الماء الذى لا قرار له.. وكأنها قطعة من الحجر الجامد الذى صنع منه الطريق. ولم أشاهد بعد ذلك شيئا. لأنى أصبحت حرا، أرى كل شيء أنى أشاء وقتما يحلو لى. وهناك على الشاطيء جلس صاحبى وقد وضع الشص بجانبه وأغرق فى الشرود. تركته ينطلق فى شروده، وينصرف حتى عن نهره وشصه وأخيرا بدا لى أن عقله قد قفل راجعا إليه. عقله الذى لا يدعه يرى إلا ما يترى أمامه. ولمحنى من بعيد، وابتسم بل قهقه! ولأول مرة فى حياتى أرى أعماق إنسان تقهقه مع وجهه الضاحك. وابتدرنى قائلا:
- إيه.. هل أعجبتك الرحلة؟
- نعم.. ولا..!
- كيف؟
- نعم.. لأنى هناك قد استطعت أن أنفذ إلى ما وراء الطريق وإلى ما وراء ما فيه من دابين. ولا.. لأننى برمت مما رأيته.. بل خجلت من نفسى لنفاذة.
- ولم؟
- ألا تذكر إذن ابتسامتك الراثية لضعفى وغرورى؟
- ولماذا عدت يا صديقى الطيب؟
- لأنى رأيت ما فعلت بى جرعة واحدة من مياه النهر فعرفت أن لا حياة لى إلا به ولا حياة لى إلا بجوار العمالقة أمثالك.
- لكنى لست عملاقا.! ولماذا أكون؟!
- ألم تذهب إلى الطريق مرة؟
وابتسم صاحبى مرة أخرى وهو يقول
- نعم يا صديقى.. ذهبت مرات.. بل كل من تراه من الصائدين لا عمل لهم إلا الغدو والرواح بين النهر والطريق.. كلهم كانوا مثلك باحثين وراء الأفق.. ثم شربوا من ماء النهر فأعجبهم الرحيق.. وأدلوا بشباكهم إلى الماء فأخرجت اللآليء.. نعم هم الذين يستخرجون ما حواه النهر من كنوز ثم يبيعونها إلى الماضين فى الطريق.
- لو كان الأمر كما تقول لأصبح كل ماض فى الطريق صائدا ومتاجرا.
- ولكنك نسيت شيئا يا صديقى الطيب.. ليسوا كلهم ممن يتطلعون وراء الأفق وترتفع أنظارهم عن الطريق. وتتسع دائرة بصرهم لتشمل النهر وما فيه من كنوز، نحن الذين نستخرج الدرر وهم عن مخبئها غافلون.. ثم نبيعهم إياها.
- وماذا تقبضون؟
- إننا لا نقبض شيئا.. إننا نوفى دينا.. إننا نبيعهم اللآليء لنشترى أنفسنا.. نعطى الطريق كل ما نستخرجه من نفائس لنفتدى به عقولنا من الأسر الذى ربطها إليه.
- ومن الرابح من هذه الصفقة؟
- الطريق.. طبعا.. إنه يفقد بضعة من الأرجل الكثيرة الساعية وقلة من الأكتاف العديدة المتدافعة.. يفقد كل ذلك ليحوى كنوزا لا يفنيها طوله، ولا تبليها أحجاره الجامدة الصما.
- وماذا تربحون أنتم؟
- ألا تزال تفكر بعقلية الأقزام.. أيها العملاق الصغير؟
ولم أجبه، بل تحولت أبحث عن شص.. أى شص ومددت قلمى فى نهر الحكمة ذى المياه الشفافة الصافية.. عله يخرج شيئا.. بدرة لا تبلى على الطريق، ويكبر لها المارد الصغير ولم أعد أفكر فى أعماق نهر الحكمة، فلقد عرفتها... ومن من المردة أو الأقزام لا يعرف الموت؟! ولا يعرف أعمق أعماق الحكمة؟! كلهم يعرفونه.. وكلهم يصلون إلى القرار.. كلهم يصيرون أحكم الحكماء ولكن.. بعد أن يكونوا هم أنفسهم قد استقروا فى القاع. قاع الموت».


قط ضال([5])

«تلفت إبراهيم يمينه ويسره فوجد الشارع الطويل حاليا من المارة وقد تناثرت على جوانبه المصابيح تلقى بضوئها الذى أنهكه الظلام إلى الأرصفة التى تأخذ نصيبها من الراحة بعدما حلت من أرجل المارة.. وثمة نسمة من الهواء الخفيف سلمت من الأفواه الظامئة إلى النسيم فى النهار فأخذت قطوف بشوارع القاهرة المعتمة ولما اطمأن إلى خلو الطريق أرسل بصره اليها.. الى الحقيبة القابعة هناك بجانب الحائط وكأنها تتحداه بوجودها انه لا يحلم فهذه هى أمامه بلونها الأسود الداكن وأقفالها التى تلمع فى النور الشاحب اجل الحقيقة التى عاش أحقابا ينتظرها.
أممكن أن يحدث هذا بمثل تلك السهولة وهذه البساطة؟ أمكن أن تكون خيالات أيام كثيرة قد تجمعت حقيقة لا شك فيها... حقيقة ذات لون داكن وأقفال لامعة؟ هى التى رسم لها فى مخيلته آلاف الأحجام والألوان تنتظره الآن مضيئة تماما كعمود النور الذى يرسل اليها بضوئه الكليل. ولم تحل سيول الأفكار التى أخذت تتدفق على مخيلته من أركان الظلام بينه وبين الانقضاض على الحقيبة وأخذها تحت إبطه ولكنه فطن إلى أنها ظاهرة فى يده للعيان، فأخذها تحت سترته واحتواها كما يحتوى الأب ابنا ضالا عثر عليه بعد طول فراق ومضى يدفع بأصابعها المرتجفة لتحسها وليطمئن نفسه بوجودها فى حوزته.ثم اندفع إلى منعطف جانبى؟ ظلم وقد روعه الضوء الشاحب الذى كان ينير الشارع ومد يده مرة أخرى إلى جيبه فوجد كل النقود التى كانت معه قد تكومت فى ورقة من ذات الخمسة والعشرين قرشا فنظر إلى السماء وكأنه يشكرها ومضى وقت خيل إليه انه قد طال وهو واقف وحده فى الظلام... وحده ومعه الحقيبة ولكنه ما لبث أن تهلل وجهه بشرا حين لمح نورا ينبعث من بعيد فترك مكانه ووقف فى منتصف الطريق، وأشار إلى عربة قادمة ثم همس للسائق وهو يدلف إلى جوفها الجيزة ولم يطمئن حتى بعدان ركب العربة وظل يحدق فى السائق طويلا ثم فى "صبيه" الجالس بجانبه فى سكون، محاولا أن يستشف فى سلوكهما بريب، ولكن شيئا مما دار فى حده لم يحدث واستطاع أخيرا أن يتكيء. بظهره على المسند ويضع رجلا فوق الأخرى ثم يخرج السيجارة "الهليود" اليتيمة من جيبه ويشعلها من سائق العربة، ويجذب منها أنفاسا تكاد تأتى عليها ثم يسمح لعينيه ان تنساب نظراتهما من نافذة العربة لتصافحا البنايات التى يخيم عليها صمت الليل وارتد بصره إلى المرآة التى بجانب السائق وجعل يتفرس فيها مليا عله يتبين من يتبعه لكنه وجد الطريق يخفت نوره شيئا فشيئا لينتهى بعيدا..... بعيد فى ظلام دامس.. ظلام كأنه الماضى الذى خرج منه إلى نور الحاضر انه يلمح صباحا تتحرك فى الظلام.. أهم قوم يتبعونه أم أنها أشباح الماضى عز عليها أن يتركها تموت فى ظلام العدم فراحت تطارده وتذكره بوجودها.
أشباح الماضى...؟ انه يذكرها... يذكر ماضيه الذى يموت فى هاته الثوانى الخالدات يذكر الفتى الريفى الساذج الذى هبط القاهرة منذ أربع سنوات ليغزوها مسلحا بشهادة التوجيهية وبعشرة جنيهات أعطاها له أبوه وهو يحذره من النشالين، يذكر ذلك ويذكر كيف هالته أبنية الجامعة الضخمة وساعتها العملاقة ولم تدق الرهبة فى قلبه لا... ثم تأخذ بلبه أبنية الجامعة فقط عند دقات ساعتها لاغير إنما كل ما وقعت عليه عينه فى هذه المدينة الكبيرة قد أطار لبه.... البنايات الشاهقة التى كان يخطئ دائما فى عهد طوابقها.. والعربات الفارهة التى تعرف بجانبه فتمرق عيناه وراءها وتروح تدور حولها وتختلس النظرات إلى داخلها فيبتسم رائيها حين يقارن بينها وبين عربة "الأسطى" أبو العينين جارهم فى البلدة. ثم الملابس الأنيقة التى كان يرتديها زملاؤه الأرستقراطيون فى كليته، والمقارنات التى كانوا يعقدونها بين أربطة رقابهم...فهذه من إيطاليا وتلك من أمريكا وثالثة أرسلت لصاحبها من فرنسا وتستمر المقارنات معقودة، هابطة من رباط الرقبة.. إلى القميص والبلوفر.. "كلها تنافس الأخرى فى كرم المحتد وعلو المقام.. كليهما تنطق بان ثمة وراء هذا كله.. شئ ضخم كبير...ثم يوم ان تكرم زميله الشرقى واستصحبه إلى الأوبرج" ورأى هناك... رأى؟!.. انه لم ير شيئا وانما نقله حلم جميل لى فردوس لم يكن يحلم به أبوه القروى الطيب ولا أجداده القرويون جميعا.. وحينما كان يقرأ الصحف والمجلات، ويرى فيها صور الحفلات الصاخبة ويشم من بين سطورها رائحة الطعام والشراب، ويسمع خلال كلماتها رنين الذهب الذى بعثر مختلطا برنين الضحكات التى أطلقت... حينئذ يلقى بالصحيفة جانبا ويصنع من السطور والرنين والضحكات مأدبة حافلة... نعم...نعم أنه يذكر ذلك كله، ويذكر كيف بهرته المدينة فراح يستجدى لحظات يقضيها فى التطلع إلى الأضواء كان يتملق زميله الثرى ليأخذه معه فى عربته حتى ميدان الجيزة ويشعر وهو بجانبه أن ثمة يد سحرية قد مسته فيمد يده خلسة ليعبث "بولاعة" العربة أو يتحسس "الفيتيس" الأنيق.. و..يوم أن ذهب يستكشف عمارة الإيموبليا و... كيف تاه فى جنباتها حتى اهتدى إلى المصعد طوع إرادته مساعدا به وهابطا حتى يفطن إليه "البواب" فيطرده شر طرده ثم.... يوم أن حدثته نفسه أن يجلس فى شرفة "الكونتننتال" ويطلب قدحا من الشاى ثم ينظر إلى المارة فيشعر أنه لم يعد من مواكب الرائحين والقادمين وإنما سيد يحتل مائدة من موائد الفندق العتيد.. ثم يجئ وقت الحساب ويدرك فى اللحظة الرهبة أن كل ما معه ينقص عن ثمن القدح بضعة قروش... كان يتمسح فى المدينة كالقط الجائع الضال... عليها يدفعها الحنان أن تلقى إليه بعظمة ولكن المدينة لم تحوى فى أعماقها ذرة واحدة من الحنان، ولم تلقى إليه بالعظام التى ينتظرها وإنما ألقت إليه بشيء أصلب من العظام.. ألقت إليه بالحقيقة المرة الجامدة عرف أنه هو إبراهيم بن الشيخ عبد البارى شئ والمدينة بصخبها وضجيجها شئ آخر... دنيا أخرى لا يحيا فيها إلا أمثال زميله الفتى المترف و(شلة) الأرستقراطيين فى كليته.. عرف أن الستة جنيهات التى يرسلها له أبوه فى أوائل كل شهر وهو يرسل معها آخر زفرة من زفرات الضيق والحاجة... هذه الستة جنيهات شمعة ضئيلة تبدو فى الظلام إذا خرج بها إلى الأضواء...أضواء القاهرة الفنية المترفة. أن الغرفة المتواضعة التى يقطنها فى الجيزة وحلته اليتيمة وقميصه الذى ينام عليه ليبدو ناعما أملس فى الصباح، ورباط عنقه الذى اشتراه بخمسة قروش من بائع متجول وجوربيه الممزقين وحذائه ذو النصف (نعل) و.... الطعمية، والفول والخيار... هذه كلها أشواك ناشزة تلف الحقيقة الجامدة التى قذفته بها المدينة الكبيرة... كان عليه أن يدرك هذه الحقائق يوما ما والذى يحز فى نفسه أنه لم يدرك قبل هذا أن ما يعيش فيه هو هذه الحقائق التى يتبينها الآن مبهور الأنفاس وكأنها مارد عملاق يبرز إليه فجأة من غياهب الظلام والحقيقة أنه كان يعيش مع المارد جنبا إلى جنب ويدا فى يد. وعز عليه حينئذ وبعد أن أدرك هول اليد التى فى يده وبشاعة المارد الذى كان يعيش بجانبه... عز عليه أن تكون الأضواء حوله من كل جانب وهو غارق وحده فى الظلام... المدينة من حوله تموج الذهب والتعليم والترف وهو يعيش داخلها حقا ولكنه محاط بسياج سميك من فقره وضآلته.... سياج سميك ولكنه شفاف يستطيع أن يرى خلاله الذهب حين يبرق، والترف حين يرمقه بنظرة شامتة ساخرة...
الأسوار شامخة من حوله والمدينة يراها تحيا خلال الأسوار فتقتله حياتها رويدا رويدا... تقتله حياتها وهو قابع داخل الأسوار الصماء. يقتله ذهبها وهو منكفئ على نفسه كالمحكوم بإعدامه ينتظر المصير المحتوم آلاف الأسئلة سددها إلى نفسه كنضال حادة، ولم يفعل هو اكثر من أن يدير النضال ليحطم بها الأسوار ورأى نفسه بعد ذلك ينساب خلالها خفيفا، مرجا طروبا... انساب من الفجوة بأجنحة من الخيال، وذوب سمكها بحرارة الأحلام وكان يسيرا عليه بعد ذلك أن يعيش فى القاهرة الحية النابضة شهورا طويلة بخياله وأحلامه كان ينام فى حجرته، وعلى سريره المتهالك، ويسرح بخياله بعيدا عن سريره وحجرته... إلى قاعة نوم أنيقة.. تماما كتلك التى يشاهدها على الشاشة فى بيوت الأغنياء. ويأكل (الفول المدمس) ورائحة الشواء تنساب فى حذر لذيذ لتداعب أحلامه وينظر إلى حلته اليتيمة وحذائه وجوربيه فتختفى الصورة من بين ناظريه فتأخذ مكانها خزانة كبيرة عامرة بعشرات الحلل والقمصان والأحذية وأربطة العنق الهابطة لتوها من باريس..... وكان يسترق الخطى فى الصباح إلى كليته.... وحفيف الهواء يحمل إليه أنشودة حبيبة يعزفها محرك العربة الأنيقة التى يخيل إليه انه يمتطيها ولكن...سرعان مامج هذه الأحلام وضاف بالحياة المزدوجة التى يحياها، ووجدان أجنحة الأحلام أن كانت قد استطاعت حقا أن تحمله بعيدا عن السور السميك لتزف به فوق المدينة الكبيرة فلم يكن فى استطاعتها أن تهبط به إلى المدينة حيث يحيا حياة السادة والقصور، وبدا له أن يبحث عن السر الذى يجعله معلقا فى القضاء.. عن القوة الخفيفة التى تبقيه مطرودا منبوذا عن الأضواء وجاء الجواب يسيرا لينا، سهلا: المال....النقود الكثيرة وما كان ايسر على عقله الذى تشبثت به أجنحة الخيال أن يحل المشكلة ما كان ايسر عيه أن يحف المدينة الكبيرة بضباب كثيف، ولا يبقى أمامه إلا أكوام المال...وتمضى الأيام والليالى وليس أمامه إلا نافورة ضخمة من الذهب يقذفها جوف الأرض وهناك فى ركن بعيد من أركان عقله..ركن لم تستطع أجنحة الخيال أن تصل إليه يدور السؤال الخالد.
إن المال لا تنفجر عنه الأرض أبدا ولا تقذفه السماء فأنى لك به.. ويتلقف خياله السؤال فيحل المشكلة فى سهولة ويسر ويرد على الركن البعيد فى سخرية عاصفة.
مالنا وللذهب الذى يتفجر من الأرض.. ألا تستطيع أن تعثر على المال فى الطريق مثلا ألا تستطيع أن تكون كالآلاف الذين سبقوك فعثروا على نقود فى الظلام.. فى منعطف جانبى من الشارع الطويل وهكذا عاش كان يلد له أن يذهب إلى سينما "ستراند" ثم يخرج بعد انتهاء العرض فى الواحدة مساء وينظر إلى الطريق بثغر باسم ويسير..يسير حتى يصل إلى مسكنه فى الجيزة.. يمضى وهو يحملق فى كل منعطف وينظر فى كل زقاق وهو بين هذا وذاك يستنجد بخياله يخلق من حادثة عثوره على النقود قصة فصدقها خلايا عقله، ويقلب وجوه النظر حائرا بين الخيال الجامع والخلايا الجامدة. وينتهى الصراع بين خياله وعقله إلى حقيبة.. حقيبة يعثر عليها ذات مساء فى منعطف من المنعطفات الكثيرة التى يذخر بها الطريق الذى يملكه من "السينما" حتى مسكنه فى الجيزة.. وجاء اليوم الذى تركزت فيه حياته كلها فى تلك الحقيبة العامرة بالنقود والتى سيعثر عليها ذات مساء، دقائق حياته كلها كانت مشغولة بالتفكير فيها.. فى لونها.. فيما تحتويه وهل ستكون أوراقا من فئة العشرة جنيهات أو الخمسين جنيها أما قيمة ما ستحتويه فقد كان هذا مثار جدل كبير بين خياله الجامع وخلاياه الجامدة فهى قد ترتفع أحيانا إلى قيم يأبى عقله تصديقها، وتنخفض أحيانا كثيرة إلى قيم يأبى خياله أن يوافق عليها أما الليلة.. وارتفع صوت السائق يجذبه فى قوة وعنف وهو يقول
وصلنا يا أستاذ..
ونزل إبراهيم من العربة واخرج من جيبه الورقة ذات الخمسة والعشرين قرشا وأعطاها للسائق وعندما حاول هذا أن يعطيه الباقى أشار إليه عرفها من زميله الثرى قائلا احتفظ به... وخفق قلبه بشعور جارف حين ودعه السائق بقوله.
ربنا يخليك يا سعادة البيه
ودلف إلى المنزل المظلم الذى اعتاد أن يدلف إليه كل ليله متعبا محطما.. أما الليلة فانه شخص آخر...سيد يحمل تحت إبطه الحقيبة التى ما صدقت خلايا عقله الجامدة أنه قد يعثر عليها أبدا واستقر فى حجرته واعلى الباب المفتوح من الداخل جر سريره المتهالك ووضعه خلف الباب، وبيد ترتجف بالانفعال حطم أقفال الحقيبة ورفع عطاءها، وحملق داخلها غير مصدق، ثم اغلق عينيه وفتحها من جديد لتستقر على: رزم ضخمة من الأوراق الحمراء.. كلها من فئة المائة جنيه آلاف الجنيهات تبتسم له من مرقدها فى أعماق الحقيبة تجمع الناس حول إبراهيم وأخذت الحلقة من الأجساد المتلاصقة تضيق والأفواه تردد الهمسات وكلها تتجه نحوه وتومئ إليه وتسرب إليه بين الأجساد المتلاصقة شعور جوف بالخوف الذى ما أن وصل إلى عقله حتى تردد بين جوانبه بشعور جديد.. شعور الفريسة الخائفة واندفع إبراهيم يشق الصفوف ثم انطلق يجرى... ويسرع بكل ما أوتى من قوة بعيدا عن الناس ونظرا خلفه فوجدا الحلقة قد نحلت وتحولت إلى طابور الأرجل اللاهفة التى تتابعه فى عناد وإصرار. وكما راحت أنفاسه تتلاحق وهو يلهث راحة هو يجتر الحوادث السريعة التى مرت به والتى كان نهايتها هذا المشهد الفريد.. متعهد الفريسة تطاردها الجموع انه لا يذكر للان انه قد قدما ورقة من فئة المائة جنيه إلى عم محمود البقال ليفكها وبعد ذلك لا شئ.. إلا إذا اعتبر به عم محمود وتلقفته إذن المارة فى الطريق فتجمعت من اجله شيئا يذكر. ولكنه الآن يعتبر الأمر يستحق الذكر بل ويستحق الهرب إذ لا ريب كل هؤلاء الذين يجرون خلفه يسعون وراء الورقة الحمراء التى فى يده... والورقة ذات المائة جنيه والتى عنده منها مئات ترقد تحت حاشية سريره المتهالك. نعم الأمر جدير بالهرب... فإنه لا يهرب من الناس الذين خلفه فقط وإنما من حياته كلها... من حياته التى قضاها قطا جائعا ضالا... يهرب إلى آفاق كان يطرقها هو وحده ووديان كان هو أول من يضع فيها قدمه. ظل يجرى وهو قابض على الورقة... قابض عليها بقوة وعنف وكلما تلفت خلفه فوجد الجموع تزحف ساعية إليه شدد الضغط على قبضته ولم يلحظ إبراهيم فى إسراعه العربة الأنيقة الفارهة التى برزت من المنعطف الجانبى فجأة لأنه تكوم أمامها جثة لا حراك بها ثم تراخت أصابعه وانفلتت من راحته ورقة حمراء... ورقة (يانصيب)».


القبور([6])

«كانت أشجار الكافور طويلة متباعدة وحيدة، وأوراقها تخرفش وتوشوش بنغم مبهم غامض وكان الطريق الذى أتى منه مهجورا كعادته، والناس يسلكون غيره من الطرق، والأطفال يخافونه وينسجون حوله أقاصيص الغيلان وقصور الجن، وأمامه كانت تتبعثر المقابر متقاربة متلاصقة فى سكون أمين صادق، وعدم لا رجعة منه، وهناك على قبوة الشيخ أبى المعاطى الذى لا يؤمه أحد، وقف غراب أسود ينعق فى إلحاح. وعلى بعد خطوات منه كان أبوه يرقد فى قبره وفوقه أحجار وأزمان.
وراح فى شيء ممزوج من الوحشة والخوف يحدق فى بياض القبر، ويقرأ الكلمات التى نقشتها يد فنان القرية فى سذاجة وبلا تزويق. وقرأ الكلمات مرارا، ومع كل حرف كان يستعيد عاما قضاه فى بحبوحة أبيه، ويذرف عقله الذكريات.
كان الرجل طيبا.. عبقريا فى طيبته، والبسمة دائما تضيء وجهه الأسمر المرح، وتنير الطريق أمام الناس إلى إنسانيته. وسبح فى سيال طويل من الذكريات. ولكنه لم يبلغ منتهاه فقد شعر بعاصفة من الشوق تجتاحه.. الشوق إلى ضحكة أبيه العريضة الخالية من الهم، والشوق إلى كل دقيقة عاشها معه. ولم يستطع المقاومة، وارتمى على القبر وطوق جذعه المستدير بذراعه وبكى. وكان وهو يبكى كأنما يعتصر حياته فى دموعه فلا يبقى فيها إلا قشر تافه جاف. وذكرته الدموع وهى تنحدر على وجهه بعرق أبيه، والصيف، وإقباله الباسم عليه، ويديه القويتين حين يضمه وكان حينئذ يقبله ويتحسس ما جاء به إليه فيقبله مرة أخرى. كان كلما تذكر الصيف، وكلما تذكر الشتاء بكى وبكى حتى يخيل إليه أن الدنيا تتسلل من أمامه حاملة كل ما لها وما عليها، تاركة إياهما وحيدين متعانقين!
وعى عما يشغله عن البكاء. كذلك راح يخطط بإصبعه رغما عنه فى تراب الجبانة الذى أمرضته شمس العصر والإنسان حين يبكى يبحث دون
الصفراء الشاحبة.([7])
وبدأت إصبعه تتعثر فى قطع العظام وتستخرج بقايا شعر آدمى، وتصطدم بالأسنان البشرية التى ابتلعها الرماد. وشغله خاطر جعله يكف عن البكاء تماما.. فهو يستطيع أن يقسم أن هذه العظام ليست لأبيه، فأبوه يرقد من زمن تحت هذا الطين، ولكن.. غدا.. أو بعد غد.. من يدرى؟
ألن تبعثر عظامه وتطفو أسنانه هكذا فوق الأرض؟ وما يدريه أنه لن يستحيل غدا إلى هذا التراب أو هذه الكومة؟ ودار السؤال فى رأسه دورات، وفى كل مرة تزداد حيرته، وتظلم الحدائق([8]) أمامه، وتبعد، حتى بدأ يشك فى القبر الذى يعانقه حين يتأمل فى صوت مرتجف لكنه مسموع:
- حقيقة.. ما الذى أعانقه؟
وجاءه الجواب شاحبا عليلا ميت الروح كشمس العصر..إنه يعانق قبرا من تراب فوق كومة من تراب!
وعز عليه أن تفقده هذه الحقيقة البسيطة كل ما بقى له من أبيه، فسأل نفسه مرة أخرى ليفحمها إفحاما
- وأين قبر أبى إذن؟
ومن بين طيات نفسه برز له خاطر عجيب، فقد أدرك أن أباه هناك.. فى عقله.. فى تلافيف مخه، حيث يستقر القبر الذى يضم حياته ومماته وكل السنين التى قضاها تحت أجنحته. وأما القبور التى تتبعثر أمامه فهى نواتيء جوفاء من أرضنا السمراء.
وعاد إلى القرية فى ذلك اليوم بحقيقة هائلة جديدة».


تلميذ طب([9])

«كنت من الطلبة الذين أتاح لهم الحظ الالتحاق بكلية الطب.. لقد تخيلت عندما ارتديت المعطف الأبيض وأمسكت بمبضع التشريح الخاص بالضفادع والحشرات فى السنة الإعدادية أننى أعبث بمبضعى فى جثث الآدميين وأن مهارتى فى عملية بطن الضفدعة بالمقص لا تقل عن مهارة الدكتور نجيب مقار فى استئصال كلية أحد الآدميين، وكنت أزهو بلقب دكتور الذى يخلعه على الناس مجاملة ابتداء من بواب العمارة إلى بنت الجيران التى كنت أختال أمامها بالبالطو الناصع البياض والحقيبة الجلدية الأنيقة..تشبها بكبار الأطباء والسيجارة مثبتة فى ركن من فمى لكى تكتمل كل معالم "الدكترة".. فكانت النتيجة أن تعلمت التدخين وما زلت أدخن بإدمان وإن كنت أنصح الناس بالإقلاع عن هذه العادة الضارة!
وبعد انتهاء السنة الإعدادية بدأنا الدراسة الطبية الحقيقية.. فكنا نشرح جثث الموتى المحفوظة فى الفورمالين، وكنت أتوهم أننى سأقوم باكتشافات هامة فى علم التشريح.. فكلما شرحت جثة توقعت أننى سأجد شيئا جديدا لم يعرفه الأوائل، كأن أكتشف أن للإنسان قلبين لا قلبا واحدا كما هو مبين فى الكتب!
وكم كان سرورى عندما أعفر يدى بالبودرة استعدادا للبس "الجوانتى" الخاص بالعمليات الذى كان يستعمله بعضنا حرصا على أيدينا الرقيقة من التلوث، ولكننى امتنعت عن لبس القفاز بعدما وجدت زميلة لى - وهى طبيبة الآن - فى منتهى الأناقة والرقة تستعمل يديها المجردتين فى التشريح ولا تستنكف من أن تأكل بعدها "ساندويتش" فى المشرحة بدلا من ضياع الوقت فى الذهاب إلى الخارج.. بينما كان لى زميل آخر يحتفظ فى جيبه بزجاجة "بارفان" يقربها من أنفه من آن لآخر حينما لا يتحمل رائحة المشرحة النفاذة.
أما الفرحة الكبرى ففى السنة الثالثة.. عندما اشتريت سماعة حرصت على أن أضعها فى الجيب الداخلى للجاكتة بطريقة خاصة تظهر منها جزءا، فيعرف من لا يعرف أننى طالب فى الطب!
ولا أنسى يوم كشفت على مريض فى المستشفى طلب منى فحصه أمام أستاذنا الطبيب الكبير وزملائى الطلبة فقد تصنعت الرزانة وحرصت على أن أبدو فى مظهر جاد، وأشعلت سيجارة وأخذت فى فحصه الذى استغرق منى وقتا طويلا وأنا أريد أن أعرف بالضبط علته وأخذت السيجارة تتراقص بين شفتى، وأخيرا فشلت فشلا ذريعا فى تشخيص الحالة فلم أسلم من تريقة الأستاذ وزملائى الأشقياء الذى قال لى أحدهم "عظيم قوى يا دكتور، إيه ده كله، ما تكونشى شفت الحالة دى قبل كده".
وعند ركوبنا فى الترام كنا نتباهى بالحديث عن المرضى الذين فحصناهم هذا اليوم ونكثر متعمدين من استعمال الألفاظ اللاتينية الخاصة بأسماء الأمراض وخاصة إذا كان من بين ركاب الترام حسناء لم تلاحظ وجود السماعات فى جيوبنا فنجذب انتباهها بهذا الحديث، لعل وعسى!
وفى السنة الرابعة هبط زهونا وغرورنا عندما وجدنا زملاءنا فى المدرسة الثانوية ممن التحقوا بكليات الحقوق أو الآداب أو غيرها تخرجوا وأصبحوا محامين ومدرسين ومآمير ضرائب ومدرسين وصحفيين.. ونحن ما زلنا فى مرحلة الدراسة نأخذ مصروفا من أهلنا!
ولم يقبل بعضنا هذا الوضع فاشتغل البعض كمخبرين والبعض الآخر فى أقسام الدعاية ببعض شركات الأدوية بمرتبات بسيطة رمزية.. تغطى مصاريفنا الخاصة على الأقل.
وقد حدث فصل طريف فى هذه السنة، ذهبت مع الحكيمة وممرضة إلى حالة ولادة عندما كنا نتمرن على هذا فى منزل رجل متواضع. ولما انتهت السيدة من الوضع بالسلامة فوجئت بهذا الرجل يضع فى يدى ورقة مالية من فئة العشرة قروش، فلما رفضت قال لى لا والله ده حق الدخان وأصررت على الرفض، فما كان منه إلا أن حلف على بالطلاق، وكادت تحدث مشادة لولا أننى تذرعت بالحيلة فأخذتها منه ثم أعطيتها لأحد أطفاله وأنا نازل، ونزلت مسرعا حتى لا يلحقنى ويحدث ما لا تحمد عقباه.
واقترب ميعاد الامتحان النهائى، وظفر السعداء منا بالنجاح.. وفجأة تحطمت الآمال الكبار التى كانت تراودنا عند بدء التحاقنا بالكلية.. فقد كنا نحلم بأن يفتح كل منا عيادة خاصة تدر عليه الذهب.. وفى ظرف سنة لابد أن يكون صاحب عزبة وعربة كاديلاك على الأقل! ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه وانحصرت الآمال الآن بعد التخرج فى العمل كأطباء امتياز فى مستشفى قصر العينى بمرتب لا يتجاوز عشرة جنيهات.. مع العمل ليل نهار.. ولكنها فرصة العمر للتمرين فى هذا المستشفى الكبير تحت إشراف الأساتذة الكبار.
وعندما كنت طالبا كنت أنقم على النظم الموجودة والروتين البالى العتيق الذى يشل حركة الطبيب ويضعه فى إطار محكم يمنعه من تأدية واجبه الإنسانى المفروض عليه.. وعندما تحققت أمنيتى وعينت كطبيب امتياز حاولت تنفيذ الإصلاحات التى كانت تملأ رأسى والمشروعات الكبيرة التى كنت أفكر فيها.. ولكننى فشلت فى تحطيم العراقيل والأغلال.. وكدت أقدم إلى مجلس تأديب جزاء لى على المناداة بآرائى بصراحة أمام رؤسائى!
كنت مكلفا بالكشف على مائتى مريض فى ظرف
3 ساعات أو 4 ساعات على الأكثر، وبعملية حساب بسيطة تجد أن مدة الكشف على المريض وكتابة الدواء له لا تتجاوز الدقيقة الواحدة، فلو أن عينى أوتيتا قوة أشعة اكس لمعرفة موطن الداء لما تمكنت من علاج هذا العدد الكبير..! وصيدلية المستشفى دائما عاجزة عن صرف الأدوية اللازمة لعلاج المرضى - خاصة مرضى العيادة الخارجية - ولا يوجد فيها بكثرة إلا أمزجة الحديد والزرنيخ والرواند والصودا!
وعلى باب المستشفى أرى بعينى باعة الزجاجات الفارغة الذين يبيعونها لمن ليس معهم زجاجة لصرف دواء مركب، هذه الزجاجات مزرعة للميكروبات والجراثيم، وكل من يأخذ دواء مقويا من الصيدلية ويضعه فى هذه الزجاجة يأخذ معه دوسنتاريا فوق البيعة!
ونقلت إلى مستشفى بأحد مراكز الوجه القبلى.. وللمرة الأولى فى حياتى أترك القاهرة حيث قضيت أغلب سنى عمرى إلى الريف. وكانت مفاجأة غير سارة بالنسبة لى إن شئت الصدق، فقد انتقلت إلى جو غريب عنى.. لا أصدقاء ولا أقارب ولا زملاء قدامى، وكنت متهيبا باديء الأمر هذه الحياة فلا أماكن للتسلية، ودار السينما الوحيدة تعرض أفلاما مصرية مضت عليها عدة سنوات، فكان لابد لى من مجابهة الأمر الواقع والتسليم بلا قيد ولا شرط أمام أفلامنا المصرية والإنصات مرغما إلى برامج الإذاعة العتيدة. ولا يفوتنى أن أذكر أن أواصر الصداقة فى الريف أقوى منها فى المدن، الناس هناك أكثر إخلاصا وأقل طمعا، وكنا نحن الموظفين فى هذا المركز نكون شبه عائلة كبيرة مما خفف عنى بعض الشيء ألم فراق القاهرة.
وكانت كل معلوماتى عن مراكز الصعيد قبل سفرى إليها نقلا عن الصحف والمجلات.. فوجدت أن ما قرأته ما هو إلا صورة مصغرة لما يلاقيه ريفنا المسكين من إهمال جعله على هذه الصورة المزرية من الفقر والجهل والمرض، ليس هناك ساحة رياضية يجتمع فيها الأطفال أو الشبان، أو ناد رياضى يذهب إليه الموظفون والتجار وأهل البلدة، فالناس فى الريف فريقان: فريق يقتل وقته فى لعب "البوكر" و"الكونكان".. وكم من مآسى تحدث على هذه الموائد الخضراء.. فموظف يخسر مرتبه أول الشهر، وفريق يجتمع فى منزل أحدهم أو فى بار متواضع لاحتساء الخمر الرخيصة وتبادل النكات المبتذلة، وفريق ثالث يذهب لتدخين الحشيش! وفى هذا الجو المملوء بالدخان الأزرق المعطر يحاولون التهرب من الواقع والعيش فى دنيا الأوهام، وفريق رابع - وهو أقلهم اندفاعا فى التيار الآثم - يجتمع فى المقاهى للعب الطاولة.
وذهبت للمستشفى فوجدت الحكيمباشى - طبيب أول - فى أجازة مرضية ولم يكن هناك طبيب امتياز أو أخصائى أمراض باطنة، فكان على طبيب ثانى المستشفى وعلى شخصى الضعيف القيام بالعمل وتحمل العبء وحدنا ما دامت وزارة الصحة لم تكلف نفسها انتداب طبيب للعمل معنا. وكم من أيام قضيتها فى المستشفى أعمل ليل نهار!.. وأقسى يوم مر بى هو ثانى يوم استلامى العمل فقد نشبت معركة من معارك الصعيد المعروفة التى تحدث لأتفه سبب، وكانت نتيجتها إصابة ثلاثين رجلا بإصابات خطرة.. فقضيت الليل بأكمله فى عمل "تربنة" للمصابين بارتجاج فى المخ وقمت بتفصيل جاكتات وبنطلونات جبس للمصابين بكسور أو شروخ فى العظام، حتى فكرت فى منافسة "مسيو ديليا" الترزى المعروف وفتح محل ترزى لتفصيل الشاش بدلا من الصوف بعد هذا الحادث!
وفى الصباح كان على أن أقوم بعملى المعتاد فى المستشفى وأنا شبه نائم وفى حالة شديدة من الإرهاق والتعب - ولقد لاقيت الأمرين من المرضى - ومعذرة لأهل الصعيد الكرام - فإنك تبذل مجهودا كبيرا قبل إقناع المريض بحقيقة حاله وبوجوب الاستماع إلى الإرشادات وخاصة عدم تناول الأغذية التى تضره!..
وكم كان يؤلمنى أن أفحص مريضا بالمستشفى تبدو معالم الفقر واضحة جلية عليه فأكتب له دواء أنا أعلم أنه لا يسبب له الشفاء الكامل لأن الدواء اللازم له غير موجود بصيدلية المستشفى فماذا أفعل؟ وأنا أعلم أنه عاجز عن شرائه من الخارج، بل أحيانا أصف له نظاما غذائيا خاصا - إذا كان مصابا بأنيميا (ضعف عام) وأنا واثق تمام الثقة أنه لا يكاد يجد ما يسد رمقه - وأحيانا يلجأ الطبيب إلى إعطاء أمثال هؤلاء المرضى ممن يلمس عدم قدرتهم على شراء الدواء اللازم لهم.. يلجأ إلى إعطائهم بعض العينات المجانية التى تقدمها شركات الأدوية للأطباء، وأحيانا إذا كان الطبيب ذا قلب كبير وتسمح له إمكانيته فإنه يدفع له من جيبه ثمن الدواء - واعترف أن هذا نادرا ما يحدث ليس فقط لأن الأطباء ليسوا جميعا من أصحاب القلوب الرحيمة كما قد يظن البعض، ولكن لأكثر من سبب أهمها ضيق ذات اليد.. فالطبيب لا يمكنه أن يعطى ثمن الدواء للمائة مريض الذين يحضرون له يوميا فى المستشفى وكلهم فقراء.. فإن من يحضر للمستشفى الحكومى غالبا فقير وإلا لذهب لعيادة الطبيب الخاصة، ولذلك فلا يجد الطبيب ما يفعله إلا أن يعطى للمريض دواء يخفف عنه المرض ويطلب له الشفاء من الله!..
وقد لمست فى هذا المستشفى كافة الأخطاء التى وجدتها بقصر العينى، ولكننى وجدت أنه من السهل على أن أعمل على تلافيها، ولكن هناك عيوب لا يد للطبيب فيها ولا يمكن إلا أن يقف مكتوف الأيدى أمامها ويطلب من الوزارة أن تسد هذا النقص، وهو عدم توفر المعدات الطبية فى هذا المستشفى، فلا توجد به أجهزة أشعة ولا معامل تحليل فنية كاملة مما لا يساعد الطبيب على القيام بواجبه على أتم وجه ويضع أمامه الصعوبات والعراقيل وكل الغرم يقع دائما على المريض المسكين، ومن الأمثلة الصارخة على قلة الاستعدادات انقطاع التيار الكهربائى أثناء إجراء عملية جراحية عاجلة ليلا وعدم وجود دينامو (مولد كهربائى) لكى يمد المستشفى بالتيار فى هذه الظروف الخاصة مما قد يسبب وفاة المريض، وتخيل عملية جراحية تجرى لمريض على ضوء الشموع الشاعرى الجميل أو على ضوء "كلوب" تستغرق إضاءته خمسة دقائق على الأقل،
وأدعو...([10]) للمريض بالرحمة ولآله بالصبر والسلوان.
وهناك فى الريف حلاقو الصحة! الذين يزاولون مهنة الطب بدون ترخيص وهم فئة أنادى بقوة بالقضاء عليها ومنعها من هذا العمل (لا لأنها تنافسنا!) ولكن لأنها السبب فى عدد كبير من الوفيات.
فقد أضحكنى أثناء وجودى بعد الظهر فى صيدلية بالبلدة أن تقدم رجل فقير بورقة كتب عليها دواء مركب باللغة العربية وبصورة تثير الضحك والغيظ فى نفس الوقت.. فالخط لا يكاد يقرأ لرداءته ويكشف عن جهل صاحبه والمقادير غير مناسبة والجرعات خاطئة فسألت الصيدلى عما إذا كان يعرف كاتب هذه الروشتة، فقال لى إنه فلان حلاق الصحة فى قرية تبع المركز، فطلبت منه عدم صرف هذا الدواء لأن هذه التذكرة غير قانونية، ولكنه احتج بأنه سيفقد بهذا زبونا دسما، فهو يأخذ منه كل شهر أدوية وحقنا بمبلغ كبير يعالج بها مرضاه الخصوصيين غير المرضى الذين يرسلهم له بهذه الروشتات!..
وقال لى: إنه إذا لم يصرف الدواء لهذا المريض فستصرفها له الصيدلية الأخرى.. وأضع هذه القصة أمام السيد المحترم نقيب الصيادلة!!..».([11])


مجرد يوم([12])

«يوم ظهور النتيجة ليس مجرد يوم آخر فى حياة الكلية، فالكلية لا يشملها فى العادة هدوء كهذا الهدوء، هدوء مريب جاثم على صدر الفناء، هدوء تقطعه ضجات قليلة صغيرة تتصاعد هنا وهناك. وأحيانا تنبثق نافورات ضحك عصبى مكبوت لا يخلو من رعب، ومحمد واقف، يزيح الشمس عن عينيه وهى تسطع بقوة ويتأمل الطلبة بقمصانهم وبنطلوناتهم ويتحرك من جماعة لجماعة، ولكل جماعة أخبار عن النتيجة وتخمينات.. وكلها ترج القلب، يتحرك وهو يحس لكل شيء فى ذلك اليوم بالذات طعما مغايرا، مبانى الكلية تبدو صارمة مدهشة، والجدران قد استطالت وراحت ترقب الطلبة فى توجس وشك، والشجرات القليلة أوراقها مدلاة فى صمت خاشع كأنما قد مسها هول اليوم.. وبوفيه الكلية يبدو كالبيت الكبير المهمل المهجور، وجرسونه واقف ويده فى جيب الفوطة وكأنما هو الآخر ينتظر نتيجة امتحان.
كل شيء يشمله الحذر والترقب والأدب، وكل طالب رغم الجماعة التى يحدثها وتحادثه يحس أنه وحيد ضال فى صحراء خاصة به. إذا تكلم واحد لا يسمعه الآخرون ولا يسمع نفسه، ومحمد مثل الآخرين وحيد، ومثلهم استيقظ من الصباح الباكر، ودللته أمه كثيرا وهى تربت على كتفه وتمسح الغبار العالق بنطلونه، وتتوصى به وهى تعد له الإفطار. وقال له أبوه فى لهجة فيها كل مرح الأبوة. إن شاء الله ناجح يا أستاذ محمد. وأخته الصغيرة المريضة بالأنفلونزا هبت من الفراش كالمذعورة وجرت إليه قبل أن يخرج ولفت أيديها حول عنقه وقالت له: إذا نجحت ح تجيبلى ايه؟ وهو ينصت لهم مثلما ينصت الآن لزملائه، وكأن عقله قد انفصل عنه وراح يعمل لحسابه الخاص.
ومع اقتراب الظهر ارتفعت أهمية موظفى الكلية، وبدأوا يكسون وجوههم بأقنعة ديبلوماسية وابتسامات مدروسة بعناية حتى لا تدل على شيء، والذى يعرف موظفا انتحى به ركنا، ويهز الموظف رأسه، ويهز الطالب رأسه، ويترقب الجميع نتيجة المحاولة التى يدركون مقدما أن لا فائدة منها، ويزداد توتر الأعصاب وتنشأ تجمعات فجائية ليس لها داع، وتنصت الآذان إلى أدق الهمهمات، وينفجر طالب بقهقهة لا معنى لها، ويتماسك اثنان ثم يسرعان بتبادل كلمات الاعتذار، وطالبة من شدة الاضطراب تردد فى سرها: يا أمه القمر ع الباب. ثم فجأة تظهر الكتلة البنية الضخمة ذات الطربوش الأحمر الفاقع، فجأة يفيق الطلبة فيجدون حسن أفندى المكلف بالنتيجة بينهم يريد أن يصل إلى الحائط ليعلقها، وفى الحال تحيطه كومة بشرية هائلة تبتلعه وتشل حركته مئات الحناجر التى تهتف باسمه ومئات الأيدى التى تلوح وترعد طالبة منه أن يقرأها ليعرفها الجميع فى وقت واحد، ثم لا يلبث حسن أفندى نفسه أن يرتفع من وسط الكومة وكأنما يرفعه زمبرك خفى، وتطل ابتسامته واسعة عجوزة بنية فيها حنان أب سمين ويقول: "كلكم بإذن الله ناجحين" ويمسح الرجل عرقه، ويمسح طربوشه، وببطء كثير يخرج نظارته، وبصوت واهن يقرأ الأسماء الأولى، ويرتفع ضجيج صغير، فيبرز له ضجيج أكبر ويسكته، ويحل السكون التام. سكون لا تسمعه الآذان، فألف قلب قد تحولت إلى ألف طبلة، وألف طبلة تقول ناجح ناجح لابد لابد، وألف تقول ساقط ساقط لابد لابد، وألف ريق جف، وألف لسان تخشب على كلمة يارب يارب يارب، وكل شيء فى الأجساد قد تحول إلى آذان، الأعين تسمع، وحبات العرق تسمع، والركب المصطكة تسمع، وحسن أفندى العجوز يلهث ويقرأ، وتخرج الأسماء من حنجرته ملفوفة بلكنة صعيدية غريبة وكأنها أسماء طلبة آخرين فى بلاد أخرى. ومحمد لم يعد محمد، تحول كله إلى حواس مطروقة مدببة، تلتقط الأسماء من فم حسن أفندى حتى قبل أن تصبح الأسماء كلمات، وتلتقطها وتسقطها فى عقله التائه، ويدور بها العقل كما تدور الدوامة، ثم يطفو الاسم فى النهاية على سطح وعيه ليدرك محمد أنه جار كان فى المدرج ونجح، أو أنه صديق هوى فى علم، أو لابد أنه زميل من الذين يركبون معه الترام.
وعلى حين بغتة يدق قلبه دقة واحدة ضخمة، ثم يتوقف عن الدق وكأنها آخر دقة، فها هو الرجل قد وصل إلى حرف الميم. ويكف عن التنفس فى الحال، ويحبس الهواء فى صدره، ويخيل إليه أنه ظل عاما لا يتنفس. ثم يعود يلهث، فعم حسن كان قد انتقل من أسماء محمد إلى أسماء محمود، دون أن ينطق اسمه. سقطت؟! مش معقول؟! هكذا راح يتمتم بالكلمات، بوعى وبلا وعى، وبدم مندفع إلى الرأس فى تيار أهوج يلهب عنقه ويظلم عينيه، ويضغط مخه وينفخه حتى ليكاد يتمزق.
وفى ذهول وضع يده فى جيبه ثم أخرج المنديل، وأعاده إلى الجيب مرة أخرى دون أن يمسح قطرة واحدة من العرق الكثير الصغير المحبب الذى كساه حتى أحس بنقاطه تسيل فى أخدود ظهره. وبذهول أكثر راح يتلفت ويحدق فى حسن أفندى ليسمع، فلا يسمع ولا يفهم.
وأعجب شيء أنه لم يثر ولم يفاجأ بل أحس وكأن جزءا صغيرا من عقله قد انفصل ووقف على حرف رأسه وراح يبتسم ويسخر وينخزه بمنقار طويل غريب ويقول: هه.. مش قلتلك، هه مش قلتلك ح تسقط.. مش قلتلك.
وأبدا لم يكن فى حلم من الأحلام الكثيرة التى سمع فيها النتيجة بأذنيه ورأى حسن أفندى وهو يقرأها رأى العين. وحين عاد إلى نفسه. كان لا يزال فى الكلية لم يغادرها، وكانت رؤوس الطلبة الكثيرين المتزاحمين قد خف سوادها، وتخلخلت، وتفرقت شللا، وتفرقت مصائر، وأصبح هناك حديث تتقاذفه الشلل، عملت إيه يا فلان، فيخجل الناجح وفقط يقول: الحمد لله. وعملت إيه يا فلان، ويفتعل الساقط ابتسامة بطل ويقول: طبينا. والناجح أكثر اضطرابا من الساقط، والساقط غير مصدق، والناجح غير مصدق. والتوتر الذى ساد الأعصاب منذ الصباح قد تحول إلى رجفة. سجائر ترتجف من بعض الشفاه، وشفاه ترتجف بلا سجائر، ونظارات سوداء قد وضعت فوق عيون محمرة، وعيون قد نزعت عنها نظاراتها البيضاء فبدت كبيرة منتفخة واسعة كلها بكاء وليس فيها دمعة واحدة.. وبعد ساعة كان محمد يغادر الكلية وكان فى عجب من حالة المبالاة التامة التى استولت عليه. قبل ظهور النتيجة بأيام كان يخيل إليه أنه لو سقط، لا قدر الله، لهد الكلية، وشنق نفسه، وأشعل النار فى القاهرة مثلا. فلماذا لم يعد يبالى الآن؟ لماذا هو بارد كلوح الثلج،، كالفيل البليد المستسلم لمروضه ولمصيره بلا أى احتجاج ولسان حاله يقول: خلاص، سقطت سقطت، واللى يحصل يحصل. ومع هذا لم يفته أن يلحظ ما يدور حوله، ولم تفته أبدا مشاهد الناجحين.. يلتقى الناجح بالناجح فيندفع الاثنان فى عناق صاخب مبالغ فيه، وتنطلق منهما ضحكات هستيرية تصل إلى عنان السماء، ويتضاربان ويتقافزان فى الهواء، وكلمة (نجحنا) تندفع من فيهما لها ألف شكل ولون وطريقة تطن كالصواريخ الملونة التى تطلق فى الكرنفال.
وكلما رأى محمد هذا تمنى لو كان فى استطاعته أن يصغر ويصغر حتى يختفى من الوجود. وباحتراس كثير مضى يسرع ليغادر منطقة الكلية حتى لا يلتقى بأحد، وحتى لا يسأله واحد عما فعله، كان يريد أن يدعه العالم لنفسه، ليحاسبها الحساب العسير ولا يستطيع أن يلم نفسه ويحاسبها، فقد تشتت إلى نفوس: أحيانا كنت تلعب، ولكن هناك كثيرين لعبوا ونجحوا، أحيانا كنت تهمل، ولكن لم يسقط كل من أهمل، لابد أنك غبى، ولكنك كنت دائما تنجح، يمكن سوء الحظ، ولكن سوء الحظ هو حجة البليد، يمكن الأستاذ كان قاسى، ولماذا يقسو عليه الأستاذ وحده، أنت تستأهل السقوط، أبدا أنت أحق واحد بالنجاح، فكيف ينجح حافظ وتسقط أنت، وكيف تتساوى مع عبد الفتاح الأسمر.
وبصعوبة شديدة أسكت هواجسه وأصر على إسكاتها حتى أحس بالسكون التام يستتب داخل نفسه، سكون كالذى يستتب فى بيت الميت بعد أن ينتهى المأتم. ولا يدرى بالضبط هل ركب الترام أم الأتوبيس أم سار على قدميه، كل ما يدريه أن إحساسا جديدا قد بدأ يطرق نفسه، الخجل، خجل لا يدرى مصدره ولا الداعى إليه فالناس السائرون فى الشارع لا يعرفون، ولكنه هو يعرف.. ويخجل، وكأنما الإنسان جزءان، جزء يحيا وجزء آخر يتفرج على الأول ويراقبه ويفرح له إذا فاز ويخجل منه إذا فشل. والخجل الذى اعتراه كان عميقا عنيدا إلى الدرجة التى أصبح فيها يخجل من كل الناس. من سائق الأتوبيس الذى يأخذ (الملف) بحنكة، من بائع الجرائد الذى ينطلق صوته عاليا مليئا بالانتصار، حتى من الطفل السائر بجوار أمه يجرى ويضحك، ضحكة صافية لم يسقط صاحبها فى امتحان، ولم يفشل. كل شيء فى الدنيا يتحرك، وكل شيء ناجح. الترام ناجح، والطيار الذى تدوى طائرته فى السماء ناجح، والناس الجالسون على المقاهى يضحكون ويشربون السجائر فى نهم ويخرجون دخانها فى تلذذ، كل هؤلاء ناجحون وهو وحده الفاشل، هو وحده الساقط. ويحاول أن يقول لنفسه إن كثيرين غيره سقطوا، ولكن نفسه لا تهضم قوله أبدا ولا تحسه، وكأن الإنسان إذا نجح أحس أنه مجرد ناجح من ناجحين، ولكنه إذا فشل أحس أنه الساقط وحده.
ولا يدرى محمد إلى أين قادته قدماه، كل ما يدريه أنه يريد أن يختفى، يريد أن يذهب بعيدا بعيدا إلى أبعد ما يستطيع، يركب القطار مثلا ويظل راكبا إلى أن تنتهى نقوده ثم يواصل الاختفاء سيرا على الأقدام، أو يلقى بنفسه فى النيل لا لينتحر، ولكن فقط ليختفى عن أعين الناس وحتى النيل حين وقف على شاطئه بدا وكأنه يسخر منه، فقد كان كبيرا واسعا تتدفق مياهه فى قوة وثقة والمراكب يحملها فوق صدره بلا أى عناء، والكبارى تعبره دون أن تجرؤ على ملامسته لأنها تخشاه، حتى النيل كان هو الآخر ناجحا مجرد التحديق فى مياهه يملؤه بالخجل.
وأيضا لا يدرى كيف أخذ التذكرة ودخل السينما، كل ما أحس أنه يستعذب الظلام، الظلام الحنون الرقيق الذى لا يجعله يرى ما حوله ولا يرى نفسه، ولا يخجل، وليس مهما حتى أن يرى الفيلم، فالفيلم مهما طال لابد له نهاية ماذا يصنع بعدها، قد يظل تائها من شارع إلى شارع، وقد يصادفه صديق، وقد يجلس على قهوة وقد يفكر فى الانتحار وقد يؤنب نفسه ويسخر من فكرته قد يفعل هذا كله ولكنه لابد سيعود فى النهاية إلى بيتهم. يعود ليواجه أباه جالسا كعادته يدخن وذراعاه تهتزان من الضغط وهو ينقب فى جريدة المساء وينظر إلى الساعة قلقا عليه وعلى تأخيره وعلى النتيجة، يعود ليواجه أمه جالسة تدعو له، أمه التى كانت فخورة وهى تدلله فى الصباح وكلها ثقة فى ابنها النابغة، وأخوته الصغار الذين يرون فيه بطلا يمكن هزيمته ومثلا أعلى يحتذى ماذا تراهم يقولون وماذا هو قائل لهم والعائلة كلها ترقب الباب الآن وتستعجل اللحظة التى يعود فيها، اللحظة التى تتطلع إليه فيها عيون حبيبته عزيزة ملؤها اللهفة والأمل، اللحظة التى تنسى أباه كل ما لاقاه ويلاقيه من هزائم وتقطع أمه فيها حزنها الذى لا ينقطع وتكاد تزغرد، لحظة النجاح للأسرة المدشدشة بالغم والهزائم. هل يكذب هل يقول إنه نجح. هل يلعنهم جميعا ويهرب. هل يبكى، ينكفيء على صدر أمه ويظل يبكى ويبكى كالولايا حتى يموت. كيف تواتيه الشجاعة لاطفاء أمل الأسرة الغلبانة فيه، أملهم الذى يضيء وجوههم منذ أن غادرهم فى الصباح. هل يطفئه بزفرة بليدة خافتة يقول فيها: أنا سقطت. لماذا سقطت؟! لقد ذاكرت وتعبت وسهرت الليل وكل خلية من جسدى اعتصرت نفسها معى وهى تجيب وتمتحن فلماذا سقطت لماذا؟ لماذا لا أنجح. لماذا لا تحدث معجزة وأنجح. يكتشف الأستاذ مثلا أنه سها وأعطانى نمر غيره، ويكتشف السهو وأنجح أو يعرف رئيس الجمهورية مثلا بكارثتى فيصدر مرسوما بتعديل النتيجة وإنجاحى، أو تقابلنى ابنة العميد وتحبنى ويعقد أبوها مجلس الكلية للنظر فى أمرى. لماذا لا يحدث شيء خارق للعادة ينجحنى وأقضى الصيف أجرى وأضحك وأحب وأعوم ومن أول يوم من العام القادم أقف مع شلة الناجحين المنقولين نتحدث وكأننا كبرنا أعواما عن علوم السنة القادمة ونتبادل الإشاعات عن طبائع أساتذتنا وأخلاقهم.
ولكن الفيلم ينتهى والصالة تخرج ويخرج هو أيضا دون أن تحدث المعجزة ودون أن ينجح يخرج يديه من جيوب بنطلونه ورأسه مائل على صدره ولولا الناس الذين يتبعونه ما تحرك يخرج فإذا اليوم يوم النتيجة لا يزال موجودا لم ينته ولا يريد أن ينتهى ويبدو أنه لن ينتهى أبدا.
وفى البيت حدث كل شيء كما توقعه تماما. وكما يتوقع وجد نفسه يقول لهم النتيجة فى قحة وجرأة وبلا مبالاة وكأنه يقولها لأغراب وكأنه يقولها ليغيظهم أو لينتقم منهم أو ليسلطهم على نفسه وأسخف ما حدث أن أحدا لم يهنه لم يشتمه أبوه ولا دقت أمه على صدرها ولعنته وأسخف من هذا أنهم تقبلوا الأمر فى برود ودون أن ينقلب البيت إلى مأتم.
لماذا لم يرنه أبوه قلما لماذا لم يطردوه خارج البيت، لماذا لم يجرؤ أحد على إهانته حتى يجد مبررا على الأقل للإشفاق على نفسه، وحتى يستطيع أن يقول: أنا مظلوم. ولماذا لم يدعه أبوه فى حاله وما فائدة أن يقول:
- معلهشى يابنى، عملت اللى عليك ولا يهمك إن شاء الله السنة الجاية تنجح قوم، قوم خدلك دش وروق دمك.
دش! أبدا. إنهم لا يعرفون ما بنفسه، ولا يستطيعون أبدا أن يدركوا معنى أن ينجح الطالب ولا معنى أن يسقط. وهو لا يريد المواساة ولا يريد الشفقة ولكنه يريد أن ينتهى اليوم، اليوم الذى لا يريد أن ينتهى. وكل العائلة سلمت بسقوطه إلا أخته الصغيرة قالت له: جبت لى إيه عشان نجحت.
ولم يرد عليها، وحين أعادت السؤال قال لها: أنا سقطت.
وحاولت أن تطوقه بذراعيها القصيرتين وهى تقول أبدا. أنت نجحت بس بتضحك على. وحين قال لها بفروغ بال: وحياتك يا حبيبتى سقطت. ازدرت عنه وكادت تبكى وهى تقول: يبقى سقطت عشان ما تجيبليش حاجة. ونامت غاضبة ولم تصفح عنه.
وظل يتأملها طويلا ثم غادر الغرفة وخلع ملابسه وأوى إلى فراشه. وحين أراح جسده المنهك فوق الفراش أحس بكل شيء وكأنما يحس به لأول مرة أحس بالحقيقة كئيبة وواضحة ومجردة، الامتحان انتهى فالنتيجة التى ترقبها طويلا ظهرت وسقط.. كل شيء قد انتهى. ولم ينم.
ظل جنب أيمن يسلمه إلى جنب أيسر وصدغ يتعب وصدغ يستريح وعشرات الآلاف من أحداث العام الذى مضى تتجسد له ويعيشها ويحادث أشخاصها وثمة غصة، غصة حقيقية يحسها مطبقة على زوره لا تريد أن تغادره. ووجد نفسه يترك الفراش أخيرا فى شبه ثورة وعلى أطراف أصابعه دخل الحجرة التى ترقد فيها أخته وبيد مرتعشة بالاتصال أمسك يدها، كانت الحرارة قد غادرتها والحمى انتهت وكل ما أحست قطرات عرق صغيرة تغمر جسدها كله.
وبصدر مفتوح غادر الحجرة إلى الشرفة. الشرفة التى طالما تفنن وهو يضع فيها طرابيزة المذاكرة ويفرض السكون المطبق على أمه وأخوته والتى كان يغازل منها أحيانا البت سميحة.
كانت شعشعة الفجر تملأ الأفق وكان يوم النتيجة قد انتهى، والليلة كذلك قد تضاءلت وانكمشت وتحولت إلى قطرات ندى هى آخر آثار ذلك اليوم.
وبدا كل شيء لناظريه طازجا ومريحا وحين هبت عليه ضجة الصباح الباكر الهادرة التى تتصاعد من جوف المدينة لحظتها فقط أحس بشيء قليل من الراحة أجل. كل شيء قد انتهى ولكن هاهو يوم آخر يجيء وهاهم الناس يستيقظون من جديد ويبدأون من جديد ويحاولون من جديد وحتما لن يسقط أبدا بعد هذه المرة».


(1)            مجلة روز اليوسف، 4 أبريل 1950.
(2)            محو فى الأصل.
(3)            وقع إدريس هذه القصة باسمه الثلاثى: يوسف إدريس على.
(4)            مجلة القصة، 20 مايو 1950.
(5)            مجلة القصة، 5 أكتوبر 1950.
(6)            جريدة المصرى، 22 فبراير 1953.
(7)      كذا فى النص المنشور بالجريدة ويبدو واضحا ما حدث من اضطراب فى الجمع، فصحة الفقرة " كذلك راح يخطط بإصبعه رغما عنه فى تراب الجبانة الذى أمرضته شمس العصر الصفراء الشاحبة. والإنسان حين يبكى يبحث دون وعى عما يشغله عن البكاء. "
(8)            الكلمة فى الأصل أقرب للحدائق، لكنها قد تكون الجبانة.
(9)            مجلة روز اليوسف، 15 مارس 1954.
(10)        محو فى الأصل.
(11)        وقع يوسف إدريس على هذا النص - فى نهايته - بالحروف الأولى من اسمه.
(12)        جريدة الجمهورية، 30 أغسطس 1957.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق