السبت، 29 أكتوبر 2011

ندَّاهة الكتابة نصوص مجهولة فى إبداع يوسف إدريس د. عبير سلامة ج1



1- بداية

قد يبدو الكلام فى تاريخ الأدب، في ظل فكر نقدي غالب يكرس للعناية بأدبية النصوص مستقلة عن سياقها التاريخي، اختلافًا منهجيًا مثيرًا للتساؤل عن منطقه، لكن المنطق كامن فى النجاح الراهن لدراسات التكوين الأدبي، حيث المعرفة التاريخية بالأدب، والعوامل الظرفية التى أسهمت فى تكوينه، لا تصرف النظر عن حقيقته المستقرة فى نصوصه، بل تضيف إليها أبعادا جديدة تمنح - معها - معرفة أكبر بالظاهرة الأدبية وقوانين تغيرها وازدهارها.
تعيد دراسات التكوين الأدبي الحياة للمؤلف، تحديدا من زاوية قدرته الإبداعية، بالإجابة على سؤال: كيف تمكن من إنتاج عمله؟ يحتاج السؤال إلى أكثر من الطبعة النهائية للإجابة عليه، يحتاج "ما قبل" النص من: خطط أولية، مسودات، ملاحظات رسائل، وتصحيحات التجارب الطباعية. يحتاج كذلك "ما بعد" النص من طبعات لاحقة منقحة، وردود المؤلف على النقد.
ويفوق هدف هذه الدراسات معرفة كيف كتب مؤلف ما نصه، فالمعرفة مقدمة ضرورية لقراءة إبداعه كله وفهمه بمنهج مركب، منهج تاريخي/ اجتماعي/ نفسي/ بنيوي/ تفكيكي أكثر وعدا بالنتائج الجديدة عن الرموز النصية ومرجعياتها التي تصنع مجتمع النصوص، سواء كانت لكاتب واحد أو بضعة كتاب، إذ في الحالين يحرك الهدف فكر نقدى لا يقتل المؤلف، ولا يغيب وجوده ودوره - من ثمَ - فى العملية الإبداعية.
تبدو الحاجة إلى مثل هذه الدراسات مُلحةً عند اكتشاف نصوص مجهولة بالنسبة لكثير من قراء كاتب مشهور، إما لأنها مسودات لم تنشر، وإما لأنها نشرت فى دوريات مختلفة ولم يقيدها الكاتب فى كتاب قبل رحيله.
ولا شك فى أن اكتشافًا مثل هذا يعد فرصة نادرة أمام النقاد والباحثين لدراسة إبداع الكاتب دراسة أشمل، ولمراجعة كثير من الأحكام النقدية التى تأسست على ما كان يظن أنه أعماله الكاملة، إضافة إلى ما فى عملية إسقاط الكاتب بعض نتاجه - أو إخفائه - من دلالة كبيرة على مراحل تطوره الفنى، نقده لنفسه أو تقييمه لإبداعه، وخصائص العملية الإبداعية عنده بجميع أركانها.
تيسر لى الوقوع على اكتشاف من هذا النوع فى الإبداع القصصى ليوسف إدريس (1927-1991) إبان مشاركة فى احتفالية نقدية أقيمت على مدى شهر ونصف فى ورشة الزيتون الإبداعية بالقاهرة، وأهديت إلى روحه فى ذكرى مرور عشر سنوات على رحيله، وكان المشرف على الورشة الشاعر شعبان يوسف قد نشر مقالة فى أخبار الأدب جاءت فيها إشارة مقتضبة إلى وجود إحدى عشرة قصة مجهولة، واحتمال أن تكون هذه القصص فى مجلة البوليس([1]).
ورأيت أن العثور على هذه القصص وإعداد قراءة لها سيكون - فى الليلة الختامية للاحتفالية - مفاجأة نقدية تفوق الموازنة بين قصة (النداهة) لسليمان فياض ونداهة يوسف إدريس.
لكننى لم أعثر على القصص فى المجلدات الموجودة بدار الكتب من مجلة البوليس، فرجعت إلى الببليوجرافيا التى أعدها كربر شويك لأعمال إدريس([2])، والببليوجرافيا المنشورة فى مجلة أدب ونقد([3])، وبفضل الإشارات القيمة فيهما توصلت إلى إحدى عشرة قصة نشرت فى دوريات مختلفة، ولم يلحقها يوسف إدريس بأية مجموعة من مجموعاته القصصية.
وأسفرت هذه الرحلة البحثية عن اكتشاف نمط معقد من أنماط إدارة الموهبة الأدبية، نمط تبناه يوسف إدريس- وربما ابتدعه- بالتصرف فى قصصه وتعديلها بعد نشرها فى دوريات أو كتب. ويثير هذا الاكتشاف عدة تساؤلات، أهمها:
ما مدى أحقية الكاتب فى تغيير نص أدبى قدمه بإرادته للتلقى العام وأصبح بالفعل بين أيدى الناس؟! وماذا يفعل الناقد أمام نصين لقصة واحدة؟! هل يعتمد على الأول منهما باعتباره الأصل والأقرب بالتالى إلى الفنية العفوية؟! أم يكتفي بالنص المعدل باعتباره أكثر نضجًا وتعبيرًا عن اكتمال رؤية الكاتب؟! أم يعتبر النص الأول- مثلما اخترت فى هذا الكتاب- مسودة منشورة/ وثيقة لدراسة التكوين الأدبي؟!
يوجد امتداد تاريخى لقضية اختلاف النصوص الأدبية فيما يعرف بمدرسة عبيد الشعر أو حوليات الشعر، حيث كان الشاعر يعكف على قصيدته حولا كاملاً تعديلاً وتجويدًا، ولربما نشر التلاميذ الرواة إحدى الصور غير النهائية للنص، أو ألقاها الشاعر نفسه فى مجلس أدبى لاستكشاف ردود الأفعال بصددها.
غير أن هذه القضية لم تلق لدينا العناية النقدية الكافية فيما خارج إطار الشعر، وفى الشعر نفسه لا يعدو الأمر الإشارات الإلماحية أو التأملية لقيام بعض الشعراء – كالسياب وإبراهيم ناجى وأدونيس - بتعديل أبيات وقصائد عند نشرها للمرة الثانية فى ديوان.
أما فى القصة فالأشهر هو التعديلات النوعية التى يحول بها الكاتب القصة القصيرة إلى رواية، مثلما فعل إبراهيم أصلان بقصة (مالك الحزين)، وصنع الله إبراهيم بقصة (اللجنة) ويحيى الطاهر عبد الله بقصتى (الطوق والأسورة) و(تصاوير من الماء والتراب والشمس).
لكن تعديلات يوسف إدريس «نمط»  وحدها، وتثير الحيرة حقًا إذا أردنا التماس مبرراتها، وما التعرض لكيفية ظهورها فى إبداعه الآن سوى محاولة لتأمل آلية التعديل فى العملية الإبداعية عنده، واستخلاص دوافعها ثم قيمتها بالنسبة لأدبية النصوص.
مرّ عقد كامل على رحيل يوسف إدريس، ومن المحتمل ألا تعرف دوافعه النهائية لهذا الأسلوب فى إدارة موهبته، لكنه بغير شك «حالة» إبداعية متفردة، بتأثيره العميق فى مجرى القصة المصرية والحياة الثقافية على مدى نصف قرن، وبما تثيره أعماله كلها من قضايا وتساؤلات، فلعل دراسة جانب من تكوينه الأدبي، في هذا الكتاب، خطوة على طريق تأمل إبداعه كله بوعى جديد.





2- مفيستو والتزام الكتابة.

يكشف تأمل السيرة الذاتية للمبدعين فى مجالات متعددة اشتراكهم فى خصائص نفسية تتفق كثيرا مع مفهوم الشخصية السوية فى علم النفس، كالتوافق مع العالم، الرضاء عن تناقضات النفس بين القوة والضعف، والقدرة على التمرد والتجاوز. ولا يتعارض ذلك مع معاناتهم بدرجات متفاوتة من القلق والاكتئاب والخوف والإعجاب بالذات، وهذا ما يدعو إلى إعادة النظر فى مفهوم الصحة النفسية لدى هؤلاء المبدعين، إذ رغم أن بعض السمات الخاصة بهم تضعهم أحيانا ضمن المضطربين نفسيًا، تؤهلهم قدراتهم الإبداعية لتقليب الوعى العام وإضاءته فى أى مجتمع، وقيادة الإنسانية من ثمً نحو التقدم والارتقاء([4]).
وفى احتفال أقامه الأدباء والنقاد فى منزل عبد الله الطوخي ليوسف إدريس بمناسبة حصوله على وسام الجمهورية - قال الناقد محمود أمين العالم عن إدريس:
«إن بداخله مفيستو، شيطان فاوست المتعطش دائما للمعرفة، ولكن يوسف ليس مثل فاوست، وإن أخذ منه القلق الذى يبرر تفاوت النظرة إلى يوسف إدريس بين الغضب والحب»([5])
كان يوسف إدريس مبدعا موهوبا، وكغيره من المبدعين فى الفنون والآداب تميز بمستوى مرتفع من الحساسية الوجدانية والتلقائية والاكتفاء الذاتى([6]).
وفى الوقت نفسه كان شخصية بركانية مثيرة للحيرة والاستفزاز، يعلو صوته الداخلى فوق صوت المجتمع الثقافى حوله، وقد يبالغ فى تقدير حجم دوره، فيسيء إدارة موهبته، ويبددها كتابة على عدة أنواع أدبية، وصراعا على قضايا مختلفة، مثل: نزاع الأجيال الأدبية، وقوله إن جيله هو آخر الأجيال الخلاقة، مما أثار ردود أفعال غاضبة، ومعركته مع وزير الثقافة محمد عبد الحميد رضوان، وتفجرت بسبب الطريقة التى طرح بها المشكلات الثقافية فى مقال (أهمية أن نتثقف يا ناس)([7]) ومعركته ضد منتجى المسرح والسينما والفنانين، بسبب عدم تقديرهم لحقوق المؤلف وتعاملهم مع النصوص الأدبية كما لو كانت بدون صاحب.([8])
تساءل الكاتب محمد يوسف القعيد عن المسئول عن اغتيال يوسف إدريس للمرة الثانية([9]) بسبب أن اهتمام المجتمع الثقافى بالذكرى العاشرة لرحيله كان فاترا، ولا يليق برائد القصة المصرية الذى ملأ الدنيا وشغل الناس لما يزيد على أربعين سنة. ولا نستطيع تجاهل نصيب يوسف إدريس نفسه من المسئولية عن اغتياله - إن كان ثمّ اغتيال - فبعد عشر سنوات على رحيله ما زال أكثر معاصريه من كتاب القصة يشعرون بالمرارة من محاولته - خاصة فى العشر سنوات الأخيرة من عمره - مصادرة دورهم([10])، واتجاه أكثر النقاد لحشدهم تحت ظلال شجرته باعتبارهم أتباعا له خرجوا من تحت عباءته([11]).
كما لا نستطيع تجاهل أن بعضا من الغضب على يوسف إدريس يمكن إرجاعه إلى المشاعر الطبيعية المعهودة بين المتعاصرين فى المجال الواحد، من غيرة وتنافس وتحديات مختلفة.
لكن، بغض النظر عن هذه الالتباسات العاطفية التى تحيط بصورة أى فنان فى قمته، يمكن القول إنه بفضل يوسف إدريس أصبح ممكنا أن ندرك طبيعة النوع القصصى فى مصر، ومراحله التطورية، بداية مما أطلق عليها مرحلة فجر القصة المصرية أو المدرسة الحديثة([12]). ثم المرحلة التالية، السابقة ليوسف إدريس مباشرة([13]).
كانت المرحلة الأولى تعريفية بالقصة القصيرة، بوصفها نوعا أدبيا متميزا عما انتشر من قبل فى صورة مقامات ومحاورات وصور قصصية لدى بعض الأدباء، كالمويلحي وعبد الله النديم، وحافظ إبراهيم فى ليالى سطيح. وقد دفع هؤلاء الرواد بالقصة إلى الحياة الأدبية معتمدين غالبا على الترجمة أو التمصير للأعمال الأجنبية، وأشهرها فى ذلك الوقت أعمال تشيكوف وموباسان. واتسمت القصص بالتناول العاطفى من الخارج للمشكلات الاجتماعية، وباعتساف الحوادث من أجل غايات غير فنية، وبإعلاء الغايات الأخلاقية.
أما المرحلة الثانية فيمكن القول إنها كانت خطوة طيبة فى اتجاه تأصيل النوع القصصى، إذ حاول أدباؤها التخلص من رومانتيكية المرحلة السابقة بالاقتراب الواعى من بعض القضايا الملحة فى العصر، كالإصلاح الاجتماعى والحرية، لكنهم لم يفلحوا تماما فى التخلى عن التأثيرات التشيكوفية والموباسانية، فظلت قصصهم غريبة عن الواقع.
وجاء يوسف إدريس، فجأة، فى أواخر الأربعينيات من خارج الوسط الأدبى، بأداء طازج مختلف، وتصور خاص للقصة أخذ يتضح شيئا فشيئا، وتبرز معالمه نظريا بوصفه خطا موازيا للروح الاجتماعية الناهضة، أثناء بحثها عن مفهوم محدد للذات المصرية فى مرحلة تاريخية قلقة ومتغيرة.
«حين قرأت ألف ليلة وليلة، وهى فى رأينا لا تعتبر من التراث القديم، وجدتها قريبة جدا إلى نفسى، لأنها فى رأيى تعبر عن التراث الشعبى القديم، والتراث الشعبى باستمرار حى وحساس ومعبر أكثر من ذلك الأدب الإرادى الرسمى الذى كان ينشئه الكتاب يبتغون به هدفا أو آخر. ولقد أفادنى هذا التراث الشعبى المكتوب والمروى أكثر من غيره وكان هو مصدر استفادتى الأول»([14])
أول ما يبحث عنه من يطمح لممارسة الإبداع هو التراث الخاص بالشكل الذى تخيره للتعبير، ولما بدأ يوسف إدريس كان طموحه كتابة قصة مصرية، وكان عليه - لعدم وجود تراث لهذه القصة - أن يلتقط من معايشته للشعب بكل فئاته طريقة كلامهم، قصهم وحوارهم، وتعبيرهم عن أنفسهم، ثم يختزن ذلك كله وغيره ليستوحى منه تعبيره الخاص عن تصوره للقصة.
وليس فى تحديده للقصة بالمصرية ما يعنى تأكيدا أنه - خلافا لما كان ينفيه بإصرار شديد - اطلع أولا على التراث القصصى العالمى، إذ كانت صورة هذه القصص فى الساحة المحلية كافية لمعرفة ملامح الأصل، ولا يعنى أيضا أن الانغلاق بالتعبير عن المحلية وحدها كان غايته، فقد أراد التوسل بالمصرية لتجسيد الإنسانية الشاملة، ولكشف وجهة نظر الشخصية المصرية فى القيم الإنسانية عامة.([15])
لم يكن غريبا لذلك أن تبدو الرؤية الفكرية فى بعض قصصه مناقضة لمتطلبات المرحلة التاريخية التى انتمى إليها، ودافع عنها بإخلاص، ولا أن يبدو الغموض على مستوى التطبيق محيطا بتصوره للقصة، وللكتابة عموما.
تبرز هنا قيمة أحاديث الكاتب الصحفية، ومشاركاته بالرأى فى تحقيقات أو استفتاءات حول القضايا الأدبية، فهى تكشف عن تصوراته لذاته والآخرين، والحياة بصفة عامة، وللكتابة ودوره الاجتماعى الذى يؤديه من خلالها بصفة خاصة. شريطة أن نضع فى الاعتبار المدى الزمنى الذى طرحت فيه هذه التصورات، وحقيقة أن الإنسان كائن زمنى متقلب ما دام حيا، وأن تناقضاته ما هى إلا ضرورات اقتضتها طبيعة فهمه وميوله الفكرية والنفسية فى مرحلة بعينها من سلَم نضجه. فإذا تأملنا تصور يوسف إدريس للكتابة سنجد جملة أفكار متزامنة جديرة بالتأمل، بداية من تفسيره لمعنى الإبداع ودوافعه ووظيفته، حتى وصفه لمراحل العملية الإبداعية.
ما الذى يصنع المبدع؟! يقول إدريس: «كنت أؤمن أن الظروف هى التى تخلق الموهبة أو الطاقة. ولكنى بدأت أؤمن شيئا فشيئا أن للوراثة دورا أخطر، وأن تجمع عناصر وراثية معينة عبر الأجيال دائما ما تنتهى بشخص تلتقى عنده هذه العوامل الوراثية، وتفجر فيه نبع الطاقة».([16])
كانت طفولته تعسة وصباه كفاحاً من أجل التعلم، ثم كان شبابه «موهوبا للحركة الوطنية، لا وقت فيه لسعادات الشباب الصغيرة، ولا للحب».
ومن العمل الوطنى إلى الكتابة، المهمة الأكثر مشقة «السعادة كانت قليلة جدا فى حياتى. حتى ما يسمى النجاح لا أستطيع تذوقه. ولذلك فمعجزة أن أظل محتفظا بطاقتى على الحب، رغم كل ما ذقته من مرارات. معجزة أن أهب نفسى لإسعاد الإنسان أنا الذى حرمت من السعادة. لقد كان مفروضا أن أتحول إلى عدو للمجتمع أو خارج على القانون».([17])
لا تشكل الظروف الاجتماعية وحدها القدرات الإبداعية، وكذلك كل ما لا حيلة للمرء فى جلبه أو دفعه، كمولده من أبوين بعينهما، وكونه محلا لاجتماع مورثات متميزة، وهدفا لقوة وجودية ملهمة، أو قوى نفسية عقلية مضطربة. ربما لذلك آثر فريق من العلماء تفسير الإبداع «بوصفه المحصلة الختامية لقدرات الفرد العقلية ودوافعه النفسية وسماته الشخصية والعوامل البيئية الاجتماعية والمادية التى ينتمى إليها».([18])
أى أنه ظاهرة إنسانية مركبة يختلف تفسيرها حسب اختلاف المرجعيات الثقافية للمفسر، ومن كانت مرجعيته علمية كيوسف إدريس سيرجح فى النهاية الوراثة.
يرتبط الإبداع - أيا كان منشؤه - بالقدرة على تجاوز الظروف الاجتماعية المحبطة، تجاوز المعتاد المستقر وعدم الاستسلام له أو التوافق معه، فالإبداع فى جوهره «لا ينشد أقل من تغيير العالم بصورة من الصور»([19]) مهما كان المجال الذى يعمل المبدع فيه، فهذه الرغبة سمة مميزة لأية عبقرية، وهى أصل الفجوة بين الذات والعالم، أو البشر الذين يعيش المبدع بينهم. لكن الانفصال بين الأنا والمجتمع، الرغبات والواقع، ليس هو الباعث للفعل الإبداعى، إنه كامن فى ماهيته، مثل كمون تناقضات المبدع وتعايش روحه معها.
الإبداع / الكتابة عند إدريس تعبير عفوى عن الذات والحرية الفردية، تعبير لا علاقة له بالمجتمع ولا يقصد به إلى التأثير فى غيره.. «أنا لا أكتب لكى أبسط أحدا بما فيهم القراء أنفسهم، أنا بكتب لأنى بحب الكتابة فقط، ولا أحس أن أحدا غيرى فى العالم يكتب بطريقة تمنعنى أنا أن أكتب ما أريد».([20])
الدافع للكتابة هنا هو الدافع المطلق للفن، والكتابة استجابة لجوهره، وتلبية فى الوقت نفسه لنداء مبهم صادر من الأعماق.
ولا يعنى ذلك نفى إدريس للعلاقة بين الفن والمجتمع، لأنه يعبر عن تصوره لهذه العلاقة بمفهومين مختلفين، فعنده أن الكتابة صراع مع المجتمع، صراع مع قيوده ومحرماته.. «نحن محاصرون بعدد كبير جدا من التابوهات «الممنوعات» ليست فقط التابوهات السياسية، ولكن أيضا التابوهات الاجتماعية، دينية، أخلاقية، تربوية»([21])
يمكن أن نضيف إلى قائمة إدريس: التابوهات الأدبية التى تضجر منها وكسرها، كالتابوه اللغوى الذى اخترقه بذلك الاستخدام الخاص للعامية، حتى فى كلامه العادى، والتابوه النوعى بين القصة والمسرحية، عندما كان يحوّل بعض قصصه إلى مسرحيات، والتابوه التعبيرى بين الرمز والمباشرة، وهذا الأخير تحديدا كان يلح عليه لا لأسباب فنية، لكن للفرار من الحصار المفروض على الكاتب فى العالم العربى.
يحيل هذا المفهوم إلى الذات، برغم صلته بالمجتمع، فالكاتب يبدو فى مواجهة العالم والمجتمع كشخصية مأسوية تصارع قوة أكبر منها، على العكس من المفهوم التالى..«الكتابة عندى توهج وحضور آنى ومعاناة وهى تولد فى لحظة صدامية مع الواقع وتستهدف تغييره إلى الأرقى والأكثر حرية وتقدما».([22])
الصراع مع المجتمع يأخذ بعدًا آخر، فبعد أن كان حربا فى سبيل التعبير عن حرية الذات واستقلالها، يصبح حربا من أجل تغيير الواقع، الوظيفة التعبيرية للكتابة تتحول إلى وظيفة إصلاحية تربوية.. «من المفروض أن تكون الكتابة عن أناس غير أسوياء، لتجعل من القابلين للفساد أناسا أسوياء، هذه هى الوظيفة الحقيقية للكتابة».([23])
على الكاتب هنا أن يكون مصلحا اجتماعيا، ومروجا لأفكار سياسية ومذاهب، وهو مفهوم يتفق مع فكر إدريس المتعلق بمرحلة اجتماعية مضت وتغير ما كان سائدا من أفكارها، ومع ذلك فالمفهوم لا يتسق حتى بمقاييس تلك المرحلة، لأن هذه الوظيفة الخطيرة تستلزم شيئا من التفكير والتدبير لأدائها على نحو يفى بالغاية الإصلاحية.
ولا يعنى ذلك أن يتحول الأمر إلى صناعة كتابة
أو«
صناعة كنافة» كما يتهكم يوسف إدريس على من يكتبون - بنظام وآلية - رواية كل عام تتحول إلى التليفزيون والسينما. إذ ما فضل الكاتب الملتزم إذا كانت الكتابة منحة باطنية، وقوة مجهولة مهيمنة؟!
وكيف يصلح هذا الكاتب المجتمع بما لا يدرى عنه شيئا قبل اكتماله، أو استقباله كغيره من المتلقين؟!
«فيه جهاز فى مكان ما من مخى هو الذى يحل لى كل المشاكل، ألاقى المشكلة محلولة والقصة مكتوبة وخلاص، لذلك أنا لا فخر لى ولا يد فيما كتبت، ولا أكتب عن تفكير إطلاقا، أو عن تدبير بمعنى أصح».([24])
المفارقة فى كتابة يوسف إدريس عن كتابته أنه يصف آلية إبداعية تعارض الوظيفة التى يقترحها للإبداع، إنه يرفض تشويه الفن بتحويله إلى نشاط ميكانيكى ونتاج متكرر، ويعبر دور الكاتب كما يصوره عن العبقرية الفنية العفوية، وهذه أكبر من أن يحتويها اتجاه فنى أو مذهب سياسى، لكنه بالنسبة إلى حجم الغاية الاجتماعية التى كان يطمح إليها دور شديد السلبية، ولا يتفق أبدا مع استهداف التغيير من وجهة نظر أى فكر سياسى.
الوعى بالحياة، الذات والمجتمع، سابق لعملية الإبداع، قابع فى خلفيتها دون أن يكون وحده باعثا لها ومحركا لمراحلها. وبديهى أن الوعى بالحياة وقتى متغير، لا يكتمل إلا باكتمال الحياة نفسها، وكذلك القيم التى توجه حياة الإنسان. وقد وافق تشكل القيم الأدبية عند يوسف إدريس درجة وعيه بالحياة، بل إنه كان يقيس مقدار حيويته بمدى تطور قيمه، وتغيرها عما اكتشفه الأقدمون، القيم الثابتة بنظره تعطل الحياة «إنما قيم الحياة فى الواقع هى معادلة صعبة تحاول أن تحدث الانسجام بين حركة الحياة الحالية وقوة الحياة الدافعة».([25])
وعيه المتغير إذن هو ما كان يحدد له تلقائيا قيمه الأدبية، وهذه تحدد له دوره ودور الأدب، فلا عجب إن اختلفت من حديث إلى آخر طبيعة الدور. 
تتم العملية الإبداعية عند يوسف إدريس وفقا لآلية غير إرادية، فهى «نوع من التحقيق اللاإرادى للذات»، وبقدر عمق الرغبة غير الإرادية فى تحقيق الذات تكون خصوبة الإنتاج الإبداعى.
وتبدأ تجربته الإبداعية عادة من فكرة واضحة، لكنها غير مثيرة للحماسة بدرجة تدعوه لكتابتها فى الحال، ثم يجدها بلا مقدمات «فجأة، وبعد خمس سنوات مثلا وربما أكثر، وقد أخذت تلح إلحاحا لا مفر من الرضوخ لها وكتابتها».
وينفى إدريس أن يكون لهذه المرحلة عنده علاقة بما يطلق عليه فى علم النفس «الحمل بالفكرة»، إنما لها علاقة فى رأيه.. «بما هو أكثر عمقا من هذا، وهو استجابة الكائن منا لعوامل التحقيق الحيوى للذات، حتى ولو لم يرد».([26]) ومن هنا يحيط بالعملية الإبداعية غموض يجعلها فى نظره سرا من أسرار الحياة.
المرحلة التالية من مراحل التجربة عنده هى مرحلة تقييد الفكرة فى شكل، وهنا أيضا يمضى بلا إرادة، أشكال التعبير هى التى تختاره، فإذا اختارته وشعر.. «بإمكانياتها المسرحية تجيء مسرحا، أو بإمكانياتها المقروءة تجيء قصة أو رواية». ويحترز إدريس بقوله إن ذلك لا يعنى كون النبع واحدا، ففى كل عمل كان يشعر أنه يكتشف له نبعا خاصا فى داخله، ويغترف منه مرة واحدة.([27])
لكنه عدَل بعض قصصه وحولها إلى مسرحيات([28])، ولا تفسير لذلك سوى نقيض احترازه، أى إن النبع كان واحدا وأنه اغترف منه مرات، بل أعاد استخدام ما اغترفه فى عدة أشكال. إضافة إلى ما فى عملية الاستدراك بالتعديل والتحويل من دلالة على خطأ الإحساس بإمكانات الفكرة من جانب، وتشويه بذرتها، من جانب آخر، بإجهاضها قبل تمام مرحلتها الجنينية.
النص الأدبى وجود معنوى مبهم يشرق بغتة فى الوعى، ويبدو غالبا على هيئة فكرة يسارع الكاتب إلى تسجيلها، أو يتركها فى الذاكرة حتى ينتقى لها فيما بعد صورة تتجسد فيها ونوعا، ثم تبدأ المعاناة الحقيقية عند الكتابة، نتيجة الرغبة فى تثبيت الفكرة الأولى والصورة التى تجسدها والنوع، فى حين أن صياغة الكاتب للنص تتحرك باستمرار من كلمات وجمل إلى فقرات، وهذه كلها لها تأثيرات متفرقة تناوشه «فلا تعود الفكرة التى انطلق منها الكاتب هى الفكرة التى تتراءى من عمله حين يتم».([29])
يصبح النص عند انتهاء كتابته وجودا ماديا مستقلا بشخصية متميزة، فإذا قام الكاتب بتعديل شيء من عناصره - قبل نشره - ينشأ وجود مادى آخر، ثم يتدافع الوجودان فيزيح اللاحق منهما السابق، لينمو جنين الفكرة فى كل صورة معدلة نموا طبيعيا يعتمد على نقد الكاتب لنفسه.
أما بعد النشر فالوجود المعدل يجاور الأصل ولا يشجبه، وقد تتراكم النصوص متشابهة بلا إضافة أصيلة، وتصعب الثقة فى أن النقد الذاتى هو سبب التعديل، كما أن تحولات الفكرة ستظهر داخل النص نفسه، ومن هنا تنبع أهمية دراسة التعديلات، سواء التعديلات الكبرى بإعادة كتابة فقرات كاملة، والحذف والإضافة، أو التعديلات البسيطة بإحلال كلمة محل أخرى والتصرف فى التراكيب.
والقاعدة، كما يقول د. شكرى عياد، أن التعديل البسيط - ويعنى به ما دون إعادة كتابة النص كاملا - يسيء إلى العمل ولا يحسنه.. «لأن بُعد الكاتب عن الفكرة التى صدر عنها العمل يجعله غير مسيطر على ذلك التوتر بين الفكرة واللغة، الذى هو روح العمل الأدبى».([30])
لكن يبدو أن إبداع يوسف إدريس يشبهه فى ميله إلى تقويض القواعد، فتعديلاته البسيطة أيضا فى صالح النص، وتحسنه بتصويب اللغة وترقية الأسلوب وإحكام البناء.
قيل عن يوسف إدريس إنه كان يبذل جهدا شديدا فى كتابة قصصه، ويفكر تفكيرا عميقا فى بنائها الفنى وأسلوبها، ومع ذلك فكثرة المتشابهات البنائية فى عالمه القصصى واضحة، والرؤى القديمة والأفكار تعود للظهور فى النصوص بعد سنوات، مما يجعل بعضها يبدو كنص واحد أخضعه لتعديل كبير بإعادة كتابته كاملا.
وأول ما تثيره ملاحظة كتلك هو الشك فيما قيل، ثم الثقة فى أنه لم يكن يراجع منجزه الإبداعى، كأى كاتب يريد ألا يكرر نفسه، غير أن تناظر الأبنية الأدبية فى نتاج كاتب واحد لا يخلو من قيمة، كالكشف عن فلسفته فى الحياة والفن، وعن استمرار آليات الضعف - أو القوة - فى موهبته، وتحولات الأفكار بين النصوص المتشابهة، مثلما يتضح فى قصص: القبور.. اليد الكبيرة.. الرحلة.
قصة (القبور) من قصص إدريس المجهولة، وهى القصة الثانية التى نشرها فى جريدة المصرى بعد قصة (نظرة)([31]) وتشبهها فى القصر الشديد، ومثلها أيضا تلتقط لحظة متوترة تؤول إلى اكتشاف ما، وتصف حدثا عاديا يتجاوزه السارد إلى ما فى أعماقه من خبرة إنسانية.
والأب المفتقد بلوعة مؤثرة فى هذه القصة سيعاود الظهور فى قصة (ما أبشع هذا) ونشرها إدريس فى جريدة الجمهورية([32]) ثم أعاد نشرها فى مجموعة (حادثة شرف) بعد أن غير عنوانها إلى (اليد الكبيرة).
وقيل عن هذه القصة الأخيرة إن إدريس كتبها قبل وفاة أبيه فى سنة 1956، ولم ينشرها لشعوره بالحرج من موضوعها.([33]) لكنه نشر قصة (القبور) التى تتناول الموضوع نفسه، مما يعنى أن فكرة «موت الأب»  عنده كانت تتجاوز حدودها الطبيعية إلى دلالة أرحب بلغت قمة نضجها بعد أكثر من ربع قرن فى قصة (الرحلة 1970).
الموقف فى (القبور) بسيط، ومركز تماما حول جزئية زيارة الابن - الذى يعيش بعيدا عن القرية - لقبر أبيه، وتستوعب (اليد الكبيرة) هذا الموقف كاملا، ثم تضيف إليه توسعة زمنية بالبدء من لحظة وصول الابن إلى محطة القرية، وتشغيل الذاكرة على كل ما يراه فى طريقه.
«وكانت الجبانة هناك تطل قبورها من بين البيوت. وكم كنا مغفلين! فهاهى القبور أمامى وحولى.. قبور فقيرة مهدمة لا شيء يرعب فيها ولا يخيف. ترى ما سبب الفزع الذى كنا نحسه ونحن صغار حين نلمح الجبانة من بعيد؟ ترى أين قبر جدتى وأين قبر عمى وخالى؟ إن القبور مهدمة كلها ومبعثرة لا تكاد تفرق بين أحدها والآخر، وكل ما يميزها جريدة عند أولها وجريدة عند آخرها.. جريدة جافة قديمة قد تآكلت أوراقها واستحالت إلى نسل.
جبت المكان بناظرى فلم أجد أحدا، لا ريب أنهم كانوا قد غادروا الجبانة وعادوا إلى البيت، ولم أجد عناء كبيرا فى العثور على القبر فقد كنت لا أزال أذكر أنه قرب شجرة الكافور، وها هى شجرة الكافور. لا بد أن هذا هو القبر.. ووقفت أمامه. كان الأسمنت لا يزال أخضر، ولم يكن البناء جيدا وأثر «المحارة» واضح، ومن الأمام لافتة مركبة كتب عليها: المرحوم.. وقرأت اسم أبى. وعدت أنظر حولى.. القبور مهدمة، وأشجار الكافور طويلة وحيدة جرداء، والشمس خنقها العصر الضيق، والغربان تتناحر عن بعد، وسوادها كثير. أبى هنا إذن تحت هذا القبر! كل هذه الكمية من الحجارة والتراب والأسمنت فوقه وهو الذى كان لا يحتمل إغلاق نافذة الحجرة ساعة».([34])
تخير يوسف إدريس الجملة قبل الأخيرة فى القصة لتكون العنوان الأول لها (ما أبشع هذا!)، وكان تعديل العنوان إلى (اليد الكبيرة) خطوة أولى لتنمية فكرة قصة (القبور) بتجاوز الإنشائية العاطفية ومشاعر الفقد فيها، إلى خبرية وصفية لوجود الأب وسلطته الروحية فى حياة أبنائه فى النص الثانى، ثم إلى مجازية رمزية تفتقد - فى قصة الرحلة - مظاهر محددة، بل تشمل التجربة كلها، وتختفى وراء حجاب من الغرابة والثقل الكابوسي.
يخاطب سارد قصة (الرحلة) فى نهايتها أباه قائلا: «لا مفر، إما حياتى أو موتك، لابد أن تنتهى أنت لأبدأ أنا»([35]) ثم يتخلص من جثته فى العربة / الحرية، ويغادره سعيدا مستريحا، لأنه يستنشق هواء نقيا ليست فيه أبدا «تلك الرائحة الملعونة الغالية» رائحة أبيه.  
ربط جميع من تناولوا (الرحلة) نقديا الرمز فيها بشخصية الرئيس جمال عبد الناصر، وهى قصة نبوءية مبهرة، ليس لأن عبد الناصر مات بالفعل بعدها بعدة أشهر فحسب، لكن لأن محاولة التخلص من رائحته بدأت بعد موته واستمرت إلى اليوم، دون يأس ممن يحاولون، ودون أن تتبدد الرائحة الغالية.
وسواء كان الموت المتخيل لعبد الناصر تكئة لتصفية حساب الرحلة الروحية ليوسف إدريس مع القائد، أو كانت الرائحة المنتشرة سخرية من الوجود الكلى الطاغى للزعيم، أو كانت الجثة هى حالة مصر بعد هزيمة 1967، فإن القصة الولود تسمح بأن نضيف تفسيرا يرى الأب الميت فيها رمزا لسلطة الأنظمة الذهنية العرفية للماضى على الحاضر المتغير، أنظمة صلبة يخلخلها التطور بشدة ولا تنهار، بل تبقى قائدة للفكر رغم ما تكشف من فسادها، وعدم ضرورتها لاستمرار المجتمع وتماسكه.
مر المجتمع المصرى فى فترة النشاط الإبداعى ليوسف إدريس - الخمسينيات والستينيات - بمنحنى تغير حاد، اجتماعيا وسياسيا، مما قاد إلى بزوغ حركة رفض لجميع الأطر الموروثة التى تحاول الإيهام بديمومتها وهى فى الحقيقة مؤقتة قابلة للزوال، فقط لو تمت مواجهتها باختراق الهالة القدسية المزيفة التى تتخفى بها، وبقهر التعلق العاطفى غير المؤيد من ثقة العقل.
وفتنت هذه الفكرة على ما يبدو إدريس، فعاودته على فترات فى كثير من القصص، لكن أفضل ظهور لها كان فى (الرحلة)، وفى قصة (الخدعة) التى نفى إدريس فى حديث شخصى أن يكون قد قصد برأس الجمل فيها الرئيس جمال عبد الناصر، فهذا المعنى واضح مباشر وجزئى، فى حين أنه استهدف التعبير عن قضية شاملة، هى..
«قضية الصور والأخيلة والمثل التى فقدت مضمونها، أو لم تعد تؤدى وظائفها، ومع ذلك فهى تلازم الناس بصورة قهرية متزايدة، لقد اعتادها الناس بحيث لم يعد فى مقدورهم تصور الحياة دونها، على الرغم من أنها تفسد عليهم حياتهم».([36])
إن الاستدعاءات التاريخية والاجتماعية التى تقوم بها كلمة «جمل» توجه الدلالة تلقائيا إلى تلك التقاليد الجاهلية التى ترافقنا ليل نهار فى جميع أنشطة حياتنا، ومع ذلك لا نخضعها لحظة للمراجعة والتفكير فى جدواها.
يتوقف إدريس فى أحاديثه عادة عند مرحلة تحديد شكل الفكرة فى العملية الإبداعية، فلا يتعرض بوضوح لمرحلة كتابة النص نفسه وتقييمه الشخصى له، أما مرحلة التلقى فقد كانت مزعجة له باستمرار، سواء كان المتلقى قارئا عاديا
أو ناقدا، ونادرا ما كان يرضيه رأى فى كتابته..
«عندما يستحوذ على اهتمامى عمل أو شكل من الشكلين المختلفين - يقصد المسرح والقصة - فإنه يكتبنى وليس أنا الذى أكتبه، فمتعتى به أثناء كتابته مثل متعة القارئ وربما تزيد، فأنا لا أعرف أثناء إبداعى للعمل الفنى شكله النهائى فهو رحلة اكتشاف بكر بالنسبة لى».([37])
رحلة الاكتشاف الدائمة، الريادة، التجريب المستمر، كلها معان تحيل إلى الابتداء الذى لا ينبغى نقد صاحبه بتقليدية، أو محاسبته على النقص والتقصير، فالمكتشف لا يمكن أن نقيم عمله بالنسبة إلى سابقين، من أجل هذا كان إدريس ينفر من النقد ويرفضه، ويصطدم دائما مع النقاد، إلى حد سبهم واتهامهم بأنهم يعملون مخبرين لصالح وزارة الداخلية.([38])
ولا عجب من ذلك الصدام، ما دام أكثر نقاده كانوا يبحثون فى إبداعه عن معايير للحكم بالجودة أو الرداءة، وقواعد علمية راسخة وملزمة «يجب» أن يطبقها هو والجميع.
لكن القصة عند يوسف إدريس.. «مهما كان موضوعها هى قصة، فتذوقوها فقط، ولا تحللوها إلى عناصرها الأولية فتقتلوها، تذوقوها كفن لا كعلم».([39])
قال هذا تعليقا على تحقيق قامت به فى أواخر الخمسينيات مجلة البوليس، لمعرفة رأى بعض القراء فى قصصه، وكان مما قالوه تبريرا لإعجابهم الشديد بفنه، إنه:
·  يتقن رسم الشخصيات.
·  كاتب واقعى يمكن أن تشعر بشخصياته تلفح وجهك لفرط واقعيتها.
·  يتفهم واقع المجتمع ويعبر عنه بكل تناقضاته.
·  يجعل شخصياته نماذج إنسانية لا محلية.
·  يعبر عن مشاعر الطبقات الكادحة. 
ينم أكثر هذه التبريرات الفنية عن نمط كلاسيكى فى تلقى الأدب، نمط ينظر للنصوص الأدبية بوصفها معلولات لعلل فى نفس المبدع أو المجتمع، ربما لذلك قال إدريس إنه حزين بسبب آراء القراء وطلب أن يتذوقوا القصة باعتبارها فنا، ليعبر بذلك عن مفهوم رومانسى لمصطلح «الذوق»، حيث الذوق معادل للخيال والعبقرية، والنقد لون من الإبداع.
كان إدريس على يساريته ذا مزاج فردى شديد الرومانتيكية، فكثيرا ما صرح بأن الخيال ليس وهما، وأن الحقيقة ليست ثابتة، وأنهما يتبادلان المواقع بحيث لا يوجد فرق بينهما، وعليه يمكن النظر إلى عملية الكتابة / الخيال عنده بوصفها معادلة لعملية العيش / الواقع، وهما معا تعنيان فى مفهومه الثورة، أى القدرة على التغيير والذوبان فى المجموع.
لكنه فى أعماقه لم يكن إصلاحيا بقدر الحماسة التى كان يبديها، فموقفه «الثابت»  فى الكتابة والحياة هو.. «التعاطف الشديد مع أى جهد لجعلها أكثر إنسانية، وأكثر استحقاقا لأن نحياها»([40])
من أجل ذلك اهتم بالتغيير فى وعى الفرد ومشاعره أكثر من اهتمامه بالتغيير الجماعى، ولم يصل تفكيره بالناس إلى حد أن يراهم جماعات أو كتل كما يفعل الساسة.
إن تصوره للكتابة متحرر بلا حدود، وهو نفسه كان كاتبا متحررا بطبعه، يساريا تقدميا - كما أعلن مرارا - مع الشعب وضد الظلم والقهر والتخلف، ومع إعلاء القيم الإنسانية.. «من الصعب أن يكون هناك كاتب يوصف بأنه كاتب يمينى، الفنان الخالق لا يمكن أن يكون يمينيا إلا فى أواخر حياته، وفى هذه الحالة لا يصبح من اليمين الرجعى، بل يكون يمينيا دسما».([41])
إذا تجاوزنا عن فكرة اليمين «الدسم»  التى قد تكون دفاعا غير مباشر ضد ما كان يؤخذ على إدريس من تراجعات فكرية، وارتكان إلى السلطة السياسية بعد تجربة اعتقاله فى أغسطس 1954 - سنجد أنه بتحديده لمفهوم الكاتب التقدمى كان ماكرا فى التعبير عما التزم به من مواقف فكرية فى حياته وفى أدبه. غير أن ميوله الأيديولوجية المقبولة بمقاييس عصرها ليست بذات أهمية، ولا هى السبب فى كونه قابلا للقراءة فى عصرنا هذا، رغم اختلاف المقاييس إلى مستوى النقيض.
اهتم يوسف إدريس بالعلاقات البشرية المعبرة عن روح الإنسان، بقدر ما اهتم بتعقب الشقاء الجماعى الناتج عن تعسفية مادية تحيل البشر إلى مخلوقات تعيسة لمجتمع خلقوه بأنفسهم، ليست لهم حياة روحية مستقلة عنه ولا قدرة على تجاوزه. عنايته بالطبقة لم تكن ضرورية إلا بالقدر الذى يبرز فعالية دور الإنسان فيها، أو جنايتها عليه.
من الواضح أنه كان ضد استرقاق الفلاحين، ومع الحرية بكل صورها البارزة فى قصصه، لكن ذلك لم يكن قضيته الرئيسية، ولا التحريض على التغيير كان غايته الوحيدة، إنما النفاذ إلى عمق بصيرة الفلاحين ورؤية عالمهم بعيونهم، والتعاطف النبيل مع بؤسهم. وقد تجلت عبقريته فى قدرته على هذا التواصل الروحى بخياله مع ذوات فردية بائسة، لكن هذه القدرة لم تجعل قصصه كراسات سياسية، ولا يستطيع أحد إنكار اختلاف إبداعه عما يمكن أن يكتبه أى سياسى من الذين يرون العدالة الاجتماعية غاية فى حد ذاتها.
تعلق يوسف إدريس فى الخمسينيات بالنشاط السياسى من دون أن يكون سياسيا ملتزما بتنظيم حزبى أو نظام أيديولوجى، ليس لأنه نفى ذلك صراحة حين قال: «الشيوعية تهمة لا أنفيها وشرف لا أدعيه، لأننى لم أكن من الشيوعيين العاملين فى يوم من الأيام، وإن كنت متعاطفا تعاطفا كبيرا جدا مع اليسار العالمى واليسار العربى واليسار المصرى، واعتبر نفسى يساريا مش بمعناه السياسى، إنما بمعناه التطويرى للحياة، لأنى اعتبر أن انضمام الواحد لليمين هو عرقلة لتقدم الحياة، بينما انضمامه لليسار هو مساعدة لتقدمه»([42])، بل لأن هذا النوع من الالتزام الصارم يتعارض بشدة مع طبيعة تكوين المبدع الحقيقى، الطبيعة القلقة التى تنفر من أية قيود والتزامات.
ومن هنا يمكن أن نحيل كثيرا من الانتقادات السلبية التى وجهت ليوسف إدريس إلى ذلك المنظور الضيق الذى حاول حبس المبدع المارد فى زجاجة الأيديولوجية، تلك الزجاجة التى انطلق منها متمردا، منذ نشر أولى قصصه (أنشودة الغرباء)([43]) وظل بعدها يواصل الانطلاق والخروج من الأطر المختلفة والزجاجات، إلى أن تمكن من الخروج الكبير فى أغسطس 1991، بعد غيبوبة دامت لما يقرب من ثلاثة أشهر، وبعد أن ترك لنا كما وفيرا من القصص متفاوتة القيمة جمعه - عدا إحدى عشرة قصة - فى ثلاث عشرة مجموعة، الأولى (أرخص ليالى 1954) والأخيرة (العتب على النظر 1987).





(1)      رسالة إلى يوسف إدريس، جريدة أخبار الأدب، 5 أغسطس 2001.
(2)      الإبداع القصصى عند يوسف إدريس، ترجمة رفعت سلام، دار شهدى للنشر، القاهرة، 1987.
(3)      عدد (34)، ديسمبر 1987.
(4)      انظر: د. إبراهيم عيد، الموهبة والإبداع، دار المعارف، سلسلة اقرأ، عدد 659، 2000، ص 97: 117.
(5)      مجلة روز اليوسف، 31 يناير 1966.
(6)   من النتائج التى توصلت إليها الدراسات النفسية الخاصة بالتفكير الإبداعى وعلاقته بسمات الشخصية ارتفاع مستوى السمات المذكورة عند المبدعين فى الفنون والآداب عن المبدعين فى المجالات الأخرى. انظر: د.مصطفى سويف، دراسات نفسية فى الفن، مطبوعات القاهرة، فبراير 1983، ص 76.
(7)      جريدة الأهرام، 12 يوليو 1974.
(8)      انظر: صلاح حافظ، شكرا يا يوسف، روز اليوسف، 22 فبراير 1971.
(9)      انظر: يسرى حسان، يوسف إدريس كأنه لم يمر من هنا، جريدة المساء، 13 أغسطس 2001.
(10) من ذلك مثلا وصف يوسف إدريس نفسه بأنه فى الحركة الأدبية كالشمس المنيرة وكل الآخرين أقمار تستمد نورها منه، وقوله إنه بلا أستاذ، وإنه الذى قدم عبد الله الطوخي وفاروق منيب وسكينة فؤاد وصبرى موسى إلى الحياة الأدبية.
(11) انظر: سليمان فياض، أوهام الحلقة المفقودة وتزييف التاريخ الأدبى، مجلة الهلال،= =أكتوبر 1986. ويهاجم فيه - بمرارة واضحة وغضب - تقرير القصة القصيرة الوارد بمجلد الفنون والآداب من المسح الاجتماعى الشامل للمجتمع المصرى 1952: 1980، حيث أطلق كاتبه د. صبرى حافظ على (سليمان فياض، صبرى موسى، عبد الغفار مكاوى، عبد الله الطوخي، فاروق خورشيد، محمد أبو المعاطي أبو النجا، محمد كمال محمد) تسمية الحلقة المفقودة، والجيل الضائع، ورأى أن كل قيمة هذا الجيل فى أنه رسخ طريقة الكتابة الإدريسية الواقعية.
وانظر أيضا: شهادات أدبية عن يوسف إدريس لمجموعة من الكتاب فى مجلة أدب ونقد، عدد 34 ديسمبر 1987.
(12)  وضمت عيسى عبيد وشحاتة عبيد، د. حسين فوزى، طاهر لاشين، محمد تيمور، ومحمود تيمور فى بداياته التقليدية وكذلك يحى حقى.
(13)    ويندرج فيها: محمود تيمور ويحى حقى، فى أعمالهم التجديدية، وعبد الرحمن الخميسي، عبد الرحمن الشرقاوي، سعد مكاوى، ونجيب محفوظ فى مجموعة همس الجنون.
(14)  جزء من حوار مع نبيل فرج، مواقف ثقافية، مكتبة الأنجلو المصرية،1980،ص469.
(15)  السابق، ص 471.
(16)  السابق، ص 463.
(17)  السابق، ص 464.
(18)  الموهبة والإبداع، ص 34.
(19)  د. شكرى محمد عياد، دائرة الإبداع «مقدمة فى أصول النقد» دار إلياس العصرية، القاهرة، 1986، ص 108.
(20)  انظر: رشاد كامل، اعترافات مثيرة فى الغرفة رقم 619، مجلة صباح الخير، 16 يوليو1981، ص 10 وما بعدها.
(21)  السابق، نفسه.
(22)  جزء من حوار مع عبد الرحمن أبو عوف، حوار مع هؤلاء، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتاب الثقافة الجديدة، العدد الثانى، أكتوبر 1990، ص 82.
(23)  اعترافات مثيرة، سابق ص 10.
(24)  السابق، نفسه.
(25)  مواقف ثقافية، ص 465.
(26)  السابق، ص 466.
(27)  السابق، ص 467.
(28)  من القصص التى حولها إلى مسرحيات:
- جمهورية فرحات ونشرت للمرة الأولى فى روز اليوسف عدد 17 مايو 1954، وبعد عامين حولها إلى مسرحية بالعنوان نفسه، ونشرها مع مسرحية ملك القطن، الكتاب الذهبى، يناير 1956.
- قصة (فوق حدود العقل) ونشرت للمرة الأولى فى جريدة الجمهورية 14 يناير 1961، ثم نشرت فى مجموعة (لغة الآى آى) 1965، ثم حولها إلى مسرحية بعنوان (المهزلة الأرضية) 1965.
- قصة (هى) ونشرت فى مجلة المجلة 1970 ثم حولها إلى مسرحية بعنوان (الجنس الثالث) عالم الكتب، القاهرة 1971.
(29)  دائرة الإبداع، ص 60.
(30)  السابق، نفسه.
(31)  ونشرت فى 1 يناير 1953.
(32)  عدد 8 يناير 1958.
(33)  انظر: د. ناجى نجيب، الحلم والحياة فى صحبة يوسف إدريس، دار الهلال، نوفمبر 1985، ص 11.
(34)    قصة اليد الكبيرة، مجموعة حادثة شرف، ط 3 دار مصر للطباعة، د.ت، ص60، 61.
(35)  مجموعة بيت من لحم، دار مصر للطباعة، القاهرة، د. ت، ص 72.
(36)  الحلم والحياة فى صحبة يوسف إدريس، ص 34.
(37)  حوار مع هؤلاء، ص 84.
(38)  اعترافات مثيرة، ص 13.
(39)  مجلة البوليس، 12 يوليو 1959، ص 11.
(40)  مواقف ثقافية، ص 466.
(41)  انظر: يوسف إدريس يحاكم كل الناس، بقلم المحرر، روز اليوسف، 29 يوليو 1974، ص 57.
(42)  مجلة صباح الخير، سابق، ص 13.
(43)  مجلة القصة، 5 مارس 1950.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق