3- تعديل أزمات الثعلب.
بدأ يوسف إدريس فى أوائل الخمسينيات تقريبا ينشر قصصه فى الدوريات الثقافية العامة، كمجلتىّ القصة وروز اليوسف، وبعد ثلاثة أعوام ظل فيها مجهولا تنبه لموهبته الأديب عبد الرحمن الخميسى، فتحمس لها، وفتح له صفحات جريدة المصرى، وكان مشرفا على القسم الثقافى فيها، فنشر فيها خلال عام 1953 كله بعضا من أفضل قصصه التى ضمها بعد ذلك لمجموعة (أرخص ليالى)([1]) ثم واصل الكتابة فى أشكال أدبية متنوعة على مدى أربعة عقود، تخللتها أزمة توقف اضطرارى عن الإبداع فى عقد السبعينيات كله تقريبا، ومما يلاحظ فى مجموعتين متميزتين نُشرتا قبل هذا التوقف، (لغة الآى آى 1965) و(بيت من لحم 1971) أنه كان حريصا على إلحاق القصص بتواريخ كتابتها، ثم توقف بداية من 1981، لأنه أخذ يعتمد على رصيده القديم، بإعادة الإنتاج أو إعادة التقديم.
تصاب أية قدرة إبداعية بالتراجع إذا بلغت ذراها التطورية، فبعد النضج عادة يبدأ الانهيار، ويأخذ فى الكتابة أشكالا عدة، أشهرها تكرار المنجز القديم، والدوران فى دائرة ضيقة من الأفكار والأساليب، لذلك يراجع المبدع الحصيف منجزه كل حين، ليفتح له نوافذ جديدة، تحرك هواء قدرته وتنقذها من الركود والموات. ولعل تأرجح أشكال الكتابة عند يوسف إدريس بين القصة والرواية والمسرحية والمقالة كان محاولة فى هذا الاتجاه، محاولة أشرفت على اليأس فى السنوات الأخيرة من عمره، نتيجة جزعه من ضعف قدرته على إضافة الجديد لمنجزه فى الأشكال الثلاثة الأولى، وعدم قدرته على الاكتفاء بشكل المقالة.
وقد دفعه العناد إلى الدخول فى كثير من الجدل حول قيمة مغامراته التجريبية فى القصة المقالة التى يكتبها، مع تكثيف هجومه على الكتاب الآخرين،([2]) وطعن الواقع الثقافى كل فترة بمدية جديدة.
كان هذا هو الجانب الظاهر من الأزمة العنيفة، أما الجانب الخفى، والمؤلم حقا، فهو اضطراره إلى إعادة نشر قصصه القديمة بعد تعديلها على نحو ما، ولو بتغيير العنوان، لإثبات الحضور فى دفتر القصة المصرية.
كانت مرحلة كتابة النص نفسه، وتقويمه بالتقييم الذاتى له - مرحلة مفقودة من إفادات يوسف إدريس الكثيرة عن تجربة الكتابة الإبداعية، وهى مرحلة مفقودة عادة فى أحاديث كثير من المبدعين، وينظر لها بعضهم باعتبارها من أسرار «المهنة» وشأنا شخصيا، خاصة إذا ارتبطت بطقوس غريبة ربما لا ينظر المتلقى لها بتقدير. لذلك يندر أن يحتفظ المبدعون بمسودات أعمالهم، والأكثر ندرة أن يقوموا بنشرها، إشفاقا على أنفسهم من نتائج الدراسة النفسية، والنقدية المقارنة بين أصول الأعمال وصورها النهائية.
يقوم الكاتب - أى كاتب - عادة بعد الانتهاء من تنفيذ أفكاره إلى صورة مادية محسوسة بعملية نقد ذاتى، وتقييم لما تحقق من تصوراته يرتبط غالبا بتعديل وتغيير، وتتعلق هذه العملية بمضمون أفكاره ذاتها من حيث قيمتها واكتمالها ومناسبتها للظرف البيئى والزمنى الذى تطرح فيه، وقد تتعلق بالشكل الفنى الذى اختاره الكاتب من حيث دقته فى التعبير عما يحتويه، واتساقه وجماله.
وتمثل عملية النقد والتقييم لبعض المبدعين هوسا دائما يرافقهم حتى يخرج النص من بين أيديهم إلى متلقيه، ولدى هؤلاء يكون النشر سبيل الخلاص الوحيد من القلق، لكن يندر أن نجد مبدعا يمارسها بعد نشر العمل، خاصة إذا لم تتضمن إضافة فنية ذات قيمة واضحة،([3]) أو كانت الإضافات مما يوجد عادة فى المسودات، وهنا لا مفر من التعامل مع أصول القصص المعدلة بوصفها مسودات منشورة، ثم دراسة التعديلات لاكتشاف آثارها على النص، ودلالتها على آلية العملية الإبداعية.
منذ وقت مبكر جدا كان يوسف إدريس يغير عناوين بعض قصصه، حين ينشرها للمرة الثانية فى مجموعة، وقد تكون قصة (فراق) أولى القصص المنشورة التى أجرى عليها تعديلا، لتصبح (المكنة) فى مجموعة (أرخص ليالي).، وتليها قصة (الحالة الرابعة)، لكن النص المعدل احتاج إلى تسع سنوات ليظهر بعنوان (الزحف) فى مجلة بناء الوطن. ثم توالت بعد ذلك القصص المعدلة، والمنشورة لأكثر من مرة فى أكثر من دورية، وأحيانا فى الدورية نفسها بعد أشهر
أو سنوات.
أو سنوات.
وفيما يلى جدول القصص المعدلة:
عنوان القصة | فى دورية | تاريخ النشر للمرة الأولى | العنوان المعدل | فى مجموعة | تاريخ نشرها |
الحالة الرابعة | المصرى | 8 مايو 1953 | الزحف | مجلة بناء الوطن | مايو 1962 |
فراق | المصرى | 26 مايو 1953 | المكنة | أرخص ليالى | 1954 |
إدمان | المصرى | 6 سبتمبر 1953 | مظلوم | أرخص ليالى | 1954 |
الليل | روزاليوسف | 8 فبراير 1954 | فى الليل | أرخص ليالى | 1954 |
لحن الغروب | الهدف | أغسطس 1956 | مارش الغروب | أليس كذلك | 1957 |
وجه جديد | الجمهورية | 9فبراير 1957 | الوجه الآخر | أليس كذلك | 1957 |
قبر السلطان | الجمهورية | 19، 20، 26 مارس 1958 | سره البائع | حادثة شرف | 1958 |
المثلث الرمادى | روزاليوسف | 3نوفمبر 1958 | الرأس | العسكرى الأسود | 1962 |
ما أبشع هذا | الجمهورية | 8 يناير 1958 | اليد الكبيرة | حادثة شرف | 1958 |
آخر من يعلم | الجمهورية | 18نوفمبر1960 | الستارة | آخر الدنيا | 1961 |
لعبة البيت | م.آخر الدنيا | 19961 | الخناقة الأولى | مجلة حواء | 3 فبراير 1979 |
فوق حدود العقل | الجمهورية | 14 يناير 1961 | الدم القاتل | مجلة بناء الوطن | يناير 1963 |
قصة منسية([4]) | الهلال | فبراير 1965 | الورقة بعشرة | لغة الآى أى | 1965 |
عند تقاطع الطريق | روزاليوسف | 15فبراير1965 | صاحب مصر | لغة الآى أى | 1965 |
بالذمة والأمانة | الكاتب | 1965 | سورة البقرة | بيت من لحم | 1971 |
القديسة حنونة | الجمهورية | 4 يناير 1968 | جيوكندا مصرية | أنا سلطان قانون الوجود | 1981 |
حلقات النحاس الناعمة | الأهرام | 23 مايو 1969 | دستوريا سيدة | النداهة | 1969 |
العملية | الأهرام | 25يوليو 1969 | العملية الكبرى | النداهة | 1969 |
الرجل والنملة | الدوحة | مايو 1980 | عن الرجل والنملة | أنا سلطان قانون الوجود | 1981 |
نشر يوسف إدريس قصة (فوق حدود العقل) فى جريدة الجمهورية عدد 14 يناير 1961، ثم قام بتعديل نصها وتغيير عنوانها إلى (الدم القاتل) ونشرها فى مجلة بناء الوطن([5]) عدد يناير 1963، والتعديلات فيها بسيطة جدا لا تتجاوز إضافة تعبير «بحكم العادة» وإضافة الاستطراد التالى: «إنهم فى الخارج ينفقون ملايين الدولارات والروبلات ليقيموا عقلا صناعيا يؤدى وظيفة واحدة من عشرات آلاف الوظائف التى يؤديها أى عقل بشرى، ويعتبروه معجزة.. وكم من معجزات لدينا تضيع».
ولم يكن نشر القصة فى كتاب بمستطيع أن يبدد قلق إدريس بشأنها، ليكف عن تعديلها وإعادة استخدامها، فقد غير عنوان قصة (لعبة البيت) المنشورة فى مجموعة (آخر الدنيا) 1961، إلى (الخناقة الأولى) ونشرها فى مجلة حواء عدد 3فبراير 1979.
وتكرر هذا الشكل من التعديل، مع قصة (الحالة الرابعة) ونشرت للمرة الأولى فى جريدة المصرى عدد 8 مايو 1953، ثم نشرت فى مجموعة (أليس كذلك) فى سنة 1957، ثم قام إدريس بتهذيب النص المنشور فى الكتاب بتعديلات محدودة كتغيير تعبير «كله ماشى» إلى «كله سيان» وحذف اسم مطعم «الإكسلسيور» والاكتفاء باسم «جروبى»، أو كتابة اسم مجلة «المرأة» بحروف أجنبية، مع تغيير العنوان إلى (الزحف) ونشرها فى مجلة بناء الوطن عدد مايو 1962([6]).
لم يقتصر ولع إدريس بالتغيير على القصص المفردة، بل تعداها إلى المجموعات، حيث قام بتغيير عنوان مجموعة (النداهة) التى نشرت فى سلسلة روايات الهلال بالقاهرة فى سبتمبر 1969. إلى (مسحوق الهمس) ونشرها بدون قصة (ما خفى أعظم) فى دار الطليعة ببيروت، فبراير 1970.
وقام بتغيير عنوان مجموعة (أليس كذلك) التى نشرت عن طريق مركز كتب الشرق الأوسط بالقاهرة فى يوليو 1957، فجعله (قاع المدينة) ونشرها المركز نفسه بالعنوان الجديد، وكذلك دار الكاتب العربى فى القاهرة (بدون تاريخ).
تختلف مجموعة (أليس كذلك) التى نشرتها دار مصر للطباعة (تاريخ ايداع1985) عن مجموعة (قاع المدينة) المنشورة أيضا من الدار نفسها (تاريخ إيداع 1986) مما يعنى وجود عنوانين لمجموعة واحدة، وأربع مصفوفات مختلفة لمحتواها من القصص، على النحو التالى:
1 - مصفوفة (أليس كذلك 1957):
هى.. هى لعبة، الجرح، أليس كذلك، الحالة الرابعة، المحفظة، مارش الغروب، التمرين الأول، الناس، قاع المدينة.([7])
2 - مصفوفة (قاع المدينة - بدون تاريخ):
وهى المصفوفة المعدلة التى نشرها مركز كتب الشرق الأوسط، ويتفق بعض ما فيها من قصص مع ما فى المصفوفة الأولى، ومن المحتمل أن تكون فيها قصص أخرى مختلفة.
3 - مصفوفة ( أليس كذلك 1985):
الكنز، الحالة الرابعة، المحفظة، الناس، المستحيل، الوجه الآخر، داوود، مارش الغروب، ليلة صيف، أليس كذلك، التمرين الأول.
4 - مصفوفة (قاع المدينة 1986):
هى.. هى لعبة، أبو الهول، الجرح، قاع المدينة.
قد يبدو أن ذلك التعديل من حق الكاتب ما دام يمارسه على نصوصه، وما دام المجتمع الثقافى يطالبه دائما بالجديد، ويقبل ما يقدمه دون تدقيق، لكن النص إن نشر يصبح ملكا لقارئ استقبله فى هيئة معينة، وانفعل به سلبا أو إيجابا وفقا لهذه الهيئة، وحين يقوم الكاتب بتغييره وإعادة طرحه بوصفه نتاجا مختلفا يربك المتلقى، ويفرض عليه نتائج مشكلة شخصية مع الكتابة.
والضرر الأكبر هو ما سيلحق الكاتب نفسه حين يهدد ثقة المتلقى بكتابته، ويثير لديه السؤال عما يضمن عدم اتجاه هذه الخفة إلى نتاج الآخرين، أليس من الجائز أن يعمد الكاتب إلى إعادة إنتاج الأفكار الجاهزة، اعتمادا على موهبته فى صقل المعانى وتطوير التشكيل؟!
السؤال محاولة للإحاطة بالاحتمالات، ومقدمة لفحص دافع لا يستهان به يرتبط بشكل العلاقة المتوترة بين إدريس والنقاد، إذ يبدو جانب من تعديلاته كأنه دفوع نفسية متعجلة ضد المقاربات النقدية التى كانت تفترض نضوب معين إبداعه، أو تعلن نهايته ووجوب توقفه عن الكتابة، وقد تأسى لحاله إلى حد الدعوة للصلاة من أجله.([8])
وأكثر هذه المقاربات تأثيرا على إدريس، كما أفترض، هو الإشارة إلى تشابه بعض قصصه مع قصص أجنبية بأسلوب لا يخلو من الإيحاء بعدم أصالة إبداعه، وتكذيب تصريحاته بأنه لم يقرأ القصص العالمى قبل ممارسة الكتابة.
التعديل فى هذه الحالة مراوغة لإخفاء التشابه، بعد أن اكتشفه ناقد أو نبهه صديق إليه، والمراوغة تتنوع، فقد يعدل النص نوعيا كتحويل القصة القصيرة إلى مسرحية (جمهورية فرحات)، أو يعيد كتابته مرة أخرى (أكبر الكبائر، وأكان لابد يا لى لى أن تضيئى النور)، وقد يكتفى بتغيير العنوان، مثلما فعل فى قصة مارش الغروب التى تشبه قصة (شقاء) لتشيخوف، أو قصة الرأس وتشبه قصة (بحر كورتز) لجون شتاينبك.([9])
ربما يدفعنا الخضوع لهذا التوجه فى النظر لقصص إدريس إلى مقارنة قصة (أرخص ليالي) بقصة (الطفل) لألبرتو مورافيا، حيث يولد الأطفال لأن الزوجين لا يملكان ما يذهبان به إلى السينما فى المساء، أو مقارنة قصة (بيت من لحم) بمسرحية لوركا (بيت برناردا ألبا) وتتبع الفرق بين ملامح شخصية القس الأسبانى والشيخ المصرى، أو فحص دلالة قتل برناردا للقس فى النهاية الغربية وتواطؤ الأم فى النهاية العربية.
المقارنة جائزة، بل مفيدة وشائقة، لكنها تحتاج لفروض منظمة وإجراءات تفوق الإشارات غير المحققة، ونتيجتها فى صف المبدع المتأثر بغيره، إذا تجاوز الأصل بإضافة تعيد ترتيب علاقاته الداخلية، فتفجر منه دلالات مختلفة.
سندرك جدارة هذا الدافع - للتعديل - بالاعتبار لو تذكرنا فكرة الطموح لكتابة «قصة مصرية»، طموح يحى حقى فى المرحلة الأولى من إبداعه، من قبل يوسف إدريس، وطموح يحى الطاهر عبد الله، من بعده، ونستطيع أن ندرك ما يعنيه إدريس بهذه «المصرية» إذا تأملنا جميع القصص التى سبقها تحديد «قصة مصرية» عند نشرها فى دوريات، مثل قصة (مجرد يوم) و(إدمان)، والقصص التى دخلت فى تركيب عنوانها كلمة مصرية، مثل (حكاية مصرية جدا، وقصة مصرية جدا).
وسنخرج من هذا بأن الصلة بين إبداع إدريس والإبداع العالمى هى نفسها الصلة الغامضة بين حنونة والجيوكاندا، فى قصة (جيوكندا مصرية)، تجاور ظاهرى للإقرار بالشبه، ثم تجاوز رحب يجول فى أعماق الوعى المحلى للإمساك بالجوهر الإنسانى للمصرية، بفضائله وسلبياته معا.
لا يكفى دافع التمويه على التأثر إذن، ليفسر وحده عملية التعديل، ولا ينبغى إغفال الدافع المادى وراء التعديل وإعادة النشر، لكن التقدير العام - والشخصى - لقيمة إبداع يوسف إدريس يستوجب ألا نخوض فيه، خاصة مع كفاية الدوافع الفنية المعبرة عن خصائص جوهرية فى العملية الإبداعية عنده، وما وراء الدوافع من محركات نفسية ترتبط بقلق المبدع، وعدم اطمئنانه إلى استكمال عمله لمقوماته الفنية، وأخيرا خوفه على موهبته إلى حد أن يشبه فى سلوكه الثعلب، فيواجه المشكلة الواحدة بحلول متعددة، وأحيانا - من ريبته وحذره المبالغ فيه - يرتب مخارج حقيقية لأزمات وهمية، أو يضع حلولا عاجلة لمشاكل افتراضية لم تحدث بعد.
تتراوح التعديلات التى قام بها إدريس عند إعادة نشر إحدى قصصه بين تغيير العنوان وحده، كما فى قصة (عند تقاطع الطريق) التى أصبحت (صاحب مصر)، وتغيير العنوان والنص نفسه غالبا، كما فى قصص: لحن الغروب، بالذمة والأمانة، آخر من يعلم، الليل، إدمان، قصة منسية، حلقات النحاس الناعمة، القديسة حنونة.
التعديلات فى قصة (لحن الغروب) عدا تغيير العنوان إلى (مارش الغروب)طفيفة، وكلها من قبيل التغييرات اللغوية والأسلوبية، كاستبدال كلمة «لحية» بذقن، و«الأوزة المذعورة» بالأوز المذعور، أو تغيير جملة «شبحه يذوب فى الليل حتى يختفى تماما، وأصبح لا يسمع سوى همس النحاس إلى النحاس» لتصبح «يذوب شبحه فى الليل حتى يختفى تماما، ولا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس».
وبالمثل تبدو التعديلات فى قصة (بالذمة والأمانة) التى أصبح عنوانها (سورة البقرة) - تصحيفا طباعيا، صححه إدريس عند إعادة نشر القصة فى كتاب، مثل استخدام كلمات: مدغوم، نقص، سخنة، فى نص (سورة البقرة) بدلا من كلمات: مضغوم، نقض، سخية، فى نص (بالذمة والأمانة).
وتكثر فى قصة (آخر من يعلم) - بعد تعديل عنوانها إلى «الستارة» - التعديلات الأسلوبية بالحذف والإضافة والتبديل، مثل تعديل جملة: «فتعرف بالضبط متى تضحك من نكته، وتعرف أيضا متى تضحك عليه» إلى: «فتعرف متى تضحكه ومتى تضحك عليه». أو جملة: «وكان لابد أن يجد الحل» إلى: «ورغم هذا كله فقد كان مصرا على أن يجد الحل».
ويبدو بعض المحذوف من نص (الستارة) تعديلا جيدا لغرض التكثيف مثل حذف ما بين القوسين فيما يلى:
- «أهمها بلا جدال (أنها أصبحت تستطيع النظر إلى الجيران ومتابعة) ما يدور فى شققهم»
- «النقاش الذى دار بينه وبين صاحبها (إلى درجة التعنت والشتائم، ورفعه) درجة أخرى»
- «ويلمح حرقة الصدق فى (كلام زوجته وهى تؤكد له إنها بريئة وأن شيئا مما دار بخلده لم يحدث،) كلام كان الزوج فى حاجة إليه».
وفى بعض الأحيان يبدو التعديل الخاص بجمل جريئة اضطراريا، فرضه تحرير الدورية على يوسف إدريس، لتناسب القصة حدود النشر العام، لذلك ربما يثبت النص الكامل عند النشر فى كتاب. ويتفق هذا الغرض نوعا ما مع طبيعة التعديلات فى قصتى (الليل) و(الإدمان).
فى نص (الليل) وتحول العنوان فى مجموعة (أرخص ليالى) إلى (فى الليل) نجد عدا التصحيحات اللغوية والتغيرات الأسلوبية المعتادة حذفا لكلمة «أفيون» وحذفا آخر لخطاب «عوف» لله بقوله: «يارب لا اعتراض ولا مانع.. إنما أدنته شايف»
أما قصة (إدمان) وأصبح عنوانها (مظلوم) فحذف منها ما بعد قول الممرض «عبد السلام»: «الحته اهه يابيه.. الراجل نزلها.. دى تطلع قرشين»، وهو ما يلى:
«فرد الأومباشى:
- قرشين إيه؟! أقطع دراعى إن مازادت عن ربع وقية خروبتين
وهز العسكرى رأسه هزة خبير وقال:
- لا.. وحته حلوه.. باين عليها غباره يابوى».
قد يكون الحذف هنا مناسبا لنص فى دورية عامة، لها حساباتها الأخلاقية، وتوازناتها مع القوى المختلفة فى المجتمع، لكنه غير مناسب لأدبية القصة نفسها فقد خفف من سطوع الدلالة التى أرادها «إدريس» بعنوان (مظلوم) فالقصة تبدأ بالربط بين ذكر الطبيب «عبد المجيد» وذكر «الحشيش» مع الإشارة إلى ريادته فى مجال إدمانه وتاريخه الحافل معه.
الضابط يقول للطبيب:
«يا أخى حاجة تعكنن بصحيح.. وإحنا كنا قاعدين حتة قعدة فى روف واحد نعرفه فى مصر الجديدة. والليلادى كان لنا صاحب لسه جاى معمر من فلسطين.. وحليت القعدة.. وأم كلثوم كانت بتغنى هلت ليالى القمر.. ولسه يدوبك بنبدى والواحد بدا ينتعش ويحس (انه صح تماما)([10]) إلا والمخبر جاينى ومعاه أمر التفتيش.. اعمل إيه؟.. رحت قاطع القعدة وقايم معاه.. الله يلعن أبو دى عيشه!.. بذمتك مش حاجة تعكنن؟»
والرجل القصير ذو الخدود الغائرة يصيح بين الطرفين: «مظلوم يا ناس.. والله مظلوم». وهو مظلوم بالفعل مادام «عبد المجيد» المدمن طبيبا، ومادام الضابط المدمن المستهتر فى موقعه، أى ما دامت المناصب تحمى الجانحين، وما دام الفقير مقدورا عليه.
يشير هذا النمط من التعديل الاضطرارى إلى أن استجابة إدريس للنقد الخارجى كانت كبيرة جدا فى بداياته، ثم بدأت تتقلص مع علو مكانته وشهرته، حتى أوشكت أن تنعدم فى السنوات الأخيرة من عمره، كما يفهم من حكاية د. جابر عصفور فى الاحتفال الذى أقامه المجلس الأعلى للثقافة (1999) بيوسف إدريس، عن كونه وجد مشقة شديدة - هو والدكتور عبدالقادر القط رئيس تحرير مجلة إبداع - لإقناع إدريس بحذف الأوصاف الجنسية الفجة فى قصة (العتب على النظر).
كتب يوسف إدريس فى سنة 1957 قصة قصيرة ونسيها، ثم تذكرها فى سنة 1965 ونشرها بعنوان (قصة منسية) فى مجلة الهلال عدد فبراير 1965، وأعاد نشرها فى الهلال أيضا عدد يوليو 1977 بعنوان (من المخلصة جدا) وقد قام إضافة إلى تغيير العنوان بحذف كلمات وجمل وفقرات كاملة، بلغت صفحة فى نص (من المخلصة جدا) ثم نشر النص المعدل فى مجموعة (لغة الآى آى 1965) بعنوان (الورقة بعشرة) مع الحاقة بتاريخ كتابته فى يناير 1957، وأخيرا استقرت القصة بالعنوان الأخير فى مجموعة (العتب على النظر 1987).
وفيما يلى آخر نص للقصة مع الإشارة فى الهامش إلى ما فيه من تعديل بالنسبة إلى النص الأصلى فى (قصة منسية) وهو نموذج لتعديل غير تام، يقتطع من نسيج القصة ولا يضيف إليها سوى بعض الضبط اللغوى والأسلوبى.
الورقة بعشرة
«كان صلاح زوجا، وكانت له ابتسامة، ليست كالابتسامات الحية تولد طفلة طازجة وتتفتح فجأة على الوجه ثم تزول، ابتسامة كانت لا تظهر ولا تختفى ولا تولد أو تموت، ولكنها محنطة على وجهه كالمومياء... وكانت بالضبط تعبر عن حياته فهو الآخر يحيا كالمومياء المحنطة، أو على الأقل كان هذا رأيه فى نفسه، فهو زوج، وهو كمعظم الأزواج ساخط على الزواج، يحس أن حياته المملة الرتيبة تقتله تميت فيه الحياة بالتدريج.
ولهذا كانت أمانيه...([11])
وهز رأسه وحسرات كثيرة تتبعثر من فمه ومن قلبه. مستحيل. كيف يحتفل بعيد زواجه من "روحية" وكيف يهديها شيئا هى التى لم تفكر فى إهدائه إلا الكلمات السامة المنتقاة، والسخطات التى لا رحمة فيها ولا عاطفة؟!
وهكذا لم تطل حسراته، فقد أعاد العشرة جنيهات إلى الخزانة وأغلق أدراجه. وكان موعد الانصراف قد حان، فأخذ طريقه إلى الباب، والشارع، ومن ثم إلى البيت وهو يحس بمغص حاد ينتاب قلبه، ومرارة تملأ نفسه، وكأنه ذاهب لقضاء بقية اليوم فى السجن المؤبد الذى عليه أن يقضى بقية عمره فيه!
ولكنه طوال الطريق كان يفكر فى الورقة ذات العشرة جنيهات، والإهداء الذى كتبه عليها ويقول لنفسه: نعم... لابد أن هناك حياة أخرى... حياة مليئة بالهدايا، والحفلات، والبسمات. ومع أنه كان فاقد الأمل فى حياته تلك وزوجته، إلا أنه لم يمنع نفسه من تمنى شيء... أن تكون "روحية" قد تذكرت المناسبة وأعدت له مفاجأة، أو على الأقل استعدت لتحتفل بالعيد.
غير أن المفاجأة التى كانت تنتظره، أنه لم يفاجأ بجديد!.. فما إن فتح الباب حتى طالعه صراخ الأولاد، وحتى طالعته "روحية نفسها واقفة فى وسط الصالة، وشعرها واقف أيضا، وهى تحاول أن تضرب ابنه الأصغر، والولد يصرخ، وهى تصرخ، والجدران تهتز وتستغيث، والأبواب تتخبط، ورائحة القلى والطبيخ تتصاعد كالغازات السامة والمدرة لليأس والكآبة، والأطفال يتعلقون برجليه ويتعثر فى أرجلهم، وألف مشكلة وكارثة ومطالبة لابد تنتظره!
إنها خانقة، تلك الحياة، وتلك الزوجة، ألا تعرف ما هو اليوم؟ أجل، اليوم، اليوم يوم عشرة، واللبان لم يأخذ نقوده، وبائع الثلج والأولاد جننونى ولا شيء آخر؟ لا شيء إلا الهم والغم والدروس التى يجب ان تأخذها بنتك قبل الامتحان لتنجح. إنه يكرهها.. إنه لم يعد يشتهيها، ولا حتى صديقة يأنس إليها. ما الذى يربطه بها وكل ما بينهما حرب مستعرة مستمرة وخلاف يتجدد فى كل ثانية. كل يوم يفكر عشر مرات فى طلاقها أو الانتحار، وكل يوم لا يطلقها، ولا ينتحر. وكل يوم يفكر فى حياة جديدة وزواج جديد، وكل يوم لا ينفذ حرفا واحدا من القرارات الحازمة الباترة التى اتخذها! كل يوم يفكر حتى فى خيانتها، وكل يوم لا يخونها. ما الذى يربطه بها، حتى الأولاد، إنه يكرههم من أجلها، ويكرهها أكثر من أجلهم، ومع هذا لا يتركهم جميعا و(يهج)، ولا يتركونه، ما الذى يبقى هذه العائلة السخيفة متماسكة، وكل ما فيها يتنافر مع كل ما فيها. الخلاف البسيط يؤدى إلى نقار، والنقار إلى شجار، ثم يتطور الأمر ويغادر المنزل غاضبا، وحين يصل السلالم تخرج له الزوجة، وتقطع الشجار وتقول:
- إياك تنسى تشترى البزازة؟
ويخرج وهو مصمم على ألا يعود بله أن يشترى البزازة. ولكنه ما إن يلمح أجزخانة حتى يتوقف، ثم يتصور خيبة أملها حين يعود بلا بزازة فيدخل ويشتريها. لماذا يشتريها؟ ولماذا وكل ما بينهما حرب يراعى شعورها، وتراعى أحيانا شعوره؟.. ما كنه تلك العلاقة الغريبة التى تجمعهما. لماذا يستسلم لتلك الحياة، لماذا لا يبدأ حياة جديدة، لماذا لا يبدؤها فورا والآن؟
ولكنه لم يبدأ شيئا أبدا، فقد دخل كالعادة وحل بعض المشكلات وعقد بعضها وتبودلت بضع زغرات وتلميحات وشتائم، وتغدى، وكالعادة نام. وحين استيقظ بعد الظهر كان قد نسى كل شيء عن 10 مايو وعيد زواجه، والعشرة جنيهات وكلماته المكتوبة فوقها بخط أنيق.
***
ومرت الأيام وهو لا يحس بمرورها، فمن يوم أن تزوج لم يعد يحس بالزمن، وكأنما فقد ذاكرته حتى أنه لا يذكر ماهية نفسه قبل الزواج وكأنما وعى فوجد نفسه زوجا!.. مرت الأيام وهو دائب الإحساس أنه يذوب ويذوب، ويفقد ذاته ونفسه، حتى فوجيء ذات يوم بشيء استغرب له جدا.
كان يفحص مبلغا واردا إلى البنك، وإذا به يعثر على ورقة من ذات العشرة جنيهات مكتوب على دائرتها البيضاء: "إلى زوجتى العزيزة... بمناسبة عيد زواجنا الخامس". ولم يكن الخط خطه.
واحتجز الورقة وظل يقرؤها ويضحك من أعماقه. كان أحدهم لا ريب قد ساقت إليه الصدف الورقة التى كتب عليه الإهداء فظن أن أزواجا صالحين يهدون زوجاتهم أوراقا كتلك فى أعياد زواجهم، ففعل مثلهم، وكانت النتيجة هذه الورقة.
ظل يضحك ويلعن الزوج المغفل الذى صدق النكتة. وبعد أن انقشعت موجات ضحكه أحس بشيء قليل من الندم، فقد أدرك أنه بطريقة أو بأخرى قد خدع ذلك الزوج، وأنه قطعا مسئول إلى حد ما عن تلك الخدعة الجديدة.
* * *
غير أنه بمرور الأيام تضاعف ضحكه وتضاعف تأنيبه لنفسه، فقد تبين أنه لم يضحك على زوج واحد فقط، ولكنه خدع كثيرين، فقد وجد إهداءات كثيرة مكتوبة على أوراق بنكنوت من ذوات العشرة والخمسة، ولم يعد يستطيع كتمان الأمر على زملائه فأطلعهم على الأوراق وحكى لهم القصة وهو لا يتمالك نفسه. وطبعا ضحك الزملاء كثيرا، وتبادلوا الضربات على الأكتاف، وقال أحدهم إن أعظم زوجة فى العالم لا تساوى قرش صاغ واحد فما بالك بعشرة أو خمسة جنيهات؟!
وأصبحت المسألة مصدرا لا ينضب للضحك فما يكاد يرد إلى صلاح ورقة عليها إهداء حتى يشير بالورقة إلى زملائه من بعيد وكأنما يقول: وآدى مغفل جديد!..
ولكن عدد المغفلين كثر بشكل أفقد المسألة ما كانت تثيره من ضحكات، بل كثر بشكل أزعج "صلاح" نفسه، لقد قرأ يوما إهداء وكان موجها من زوجة إلى زوجها. وأصبح تأنيب الضمير على الخدعة التى ابتكرها لا يكفى. أصبح لابد من التفكير، ما هى حكاية هؤلاء الناس؟ وهل هى مجرد محاكاة لما فعله، أو لابد أن فى المسألة سرا خطيرا لا يدريه؟
وكان عليه لكى يكتشف السر، إن كان هناك سر، أن يجرب... وبهرته الفكرة، وأحس لها بحماس([12]).
* * *
كان يوم 10 مايو قد اقترب، وعام جديد قد أضيف إلى عمر زواجه، فلماذا لا يفعلها ويجرب؟ أجل، فليجربها فى عشرة جنيهات. ولكن تفكيره ما إن حوم حول الرقم حتى هبط حماسه فى التو.. عشرة جنيهات؟ إنها تكاد تبلغ ثلث مرتبه أو نصفه. إذا كان لابد من التجربة فليجربها فى جنيه مثلا. ولكن، أيصح أن يهدى زوجته جنيها واحدا فى عيد زواجها. المسألة حتى من الناحية الشكلية محرجة، ولكنه إذا نظر إليها من الناحية الأخرى فإنه لا يمكنه أن يهديها عشرة جنيهات مرة واحدة، فهو لا يهدى زوجته، إنه يهدى غريمه. فلتكن خمسة إذن، تكفى خمسة... إنها كافية جدا.
وهكذا جاء يوم 10 مايو، وجاءت الساعة الثامنة منه، "وصلاح" عائد إلى البيت وفى جيبه الورقة والإهداء على دائرتها البيضاء حبره لم يجف بعد، وكل ما يحسه هو الفرحة لأنه مقبل، فى حياة قاتلة الملل، على تجربة جديدة، وحب استطلاعه يكاد يطل من عينيه، إذ ترى ماذا ستفعل "روحية"؟ وهل يغمى عليها.
* * *
وكالعادة فتح الباب، وواجهه سوق روض الفرج المعتاد، وبعد أن تم الغداء والحساب والعتاب، ناداها على حدة فى غرفة النوم، ومع هذا أصر ابنه المتوسط على عدم مغادرة الحجرة وأمسك بروب أمه واستمات عليه. وظل "صلاح" يتعثر نصف ساعة فى كلمات لا معنى لها، ثم أخرج الورقة ذات الخمسة جنيهات، ووضع الدائرة البيضاء أمام عينيها لترى الإهداء.
وبدأت الصدمة واضحة على ملامحها، وظلت واقفة فى مكانها لا تتحرك. كان لسانها أول ما تحرك فيها، وأول ما فعله اللسان أن فتح له محضرا طويلا عريضا. وراحت تسأله وتضيق عليه الخناق لتعرف من أين جاء بالخمسة جنيهات وميزانيته كلها تعرفها بالمليم والصلدى.. وقال لها إنه استلفها لتخصم على شهرين من مرتبه. ومعنى هذا أن ينقص إيرادهم فى الشهرين القادمين. وهكذا شبت النار، وبعد لحظات قصار أصبح الحديث اتهامات متبادلة، وشتائم وتهديدات، وإيمانات مغلظة، خرج على أثرها "صلاح" من الحجرة غاضبا لاعنا تاركا الجنيهات الخمسة تنعى من أهداها.
وجلس فى الصالة يغلى وينفخ.. لا فائدة على الإطلاق. إنها حرب لا هوادة فيها. إنه عسكرى فى جيش وليس زوجا فى بيت، إنه لا عمل له إلا الدفاع عن نفسه، والحرب أذابته وهدته وأتت عليه، حتى العسكرى يحظى بهدنة وراحة، أما هو فمعركته لا تتوقف.
وبينما هو يغلى وينفخ، كان عقله يعمل ويحلم. أجل، لابد أن هناك حياة غير تلك، حياة رحبة، لا قتال فيها ولا خناق ولا ملل، حياة مليئة بالبريق وبالرائع الجديد ولا ينقصها سوى الجريء الذى ينهى حياته وجبنه، وينطلق إليها. وبوغت حقا حين رأى "روحية" قد خرجت من حجرة النوم، ووقفت قبالته على بابها لا تتحرك والورقة فى يدها. ورمقها وهو يلعنها([13]).
لم تضع وأنها على أية حال باقية فى البيت. ولكيلا يلعنها - فقد أصبح يضايقه حتى أن يلعنها - حول وجهه عنها. غير أنها سألته وهى واقفة من بعيد إن كان (ويحلم، أجل، لابد أن هناك حياة غير تلك، حياة)([14]) جادا حقا فى كلامه وإهدائه. وطبعا زفر ولم يجب. ولكنها ظلت تلاحقه بالسؤال، ولأنه يعرف أنها إن صممت على شيء فلابد أن تعرفه ولو فرقعت مرارته وحطمت رأسه، فلكى يخلص منها قال لها:
- أيوه ياستى هدية بحق وحقيق.. بمناسبة عيد الزفت زواجنا!
وفوجئ حين وجدها تنخرط فجأة... لا ليس فجأة فقد حدثت فى وجهها تغييرات متوالية مضحكة وانقباضات وانبساطات وتجعيدات، ثم انخرطت فى بكاء ضاحك. تضحك وتبكى، وتضحك، وشعرها منكوش، وروبها مفتوح، والولد لا يغادر مكانه بين ساقيها...
وأخيرا قالت له إنها قد أعدت له هدية هى الأخرى. إيه ياستى. وناولته الورقة. وتحت إهدائه وجدها قد كتبت: إلى زوجى العزيز([15]) المحب بمناسبة قراننا... من المخلصة جدا زوجتك.
وفرت الدموع فى الحال من عينيه. لا لأن ما كتبته كان غريبا ولكن لأنه صدر منها وبخطها. ما أروع كلماتها. إلى زوجى العزيز الغالى، حتى أن([16]) أخطاءها الإملائية حتى إمضاءها، حتى طريقتها الساذجة فى التعبير عن نفسها، ولو كانت أجمل امرأة فى العالم هى التى كتبت له هذا لما بدا أروع من كلمات "روحية"، روحية ذات الخرابيش والصوت الحاد اللافح، إنه شيء لا يحتمل، أبدا لا يحتمل.
وأخذها على كتفه وقبلها. واحمر وجهها جدا وهى تقبله، ربما كانت هى أولى قبلاتها له. وربت على كتفها وربتت على ظهره، وبكيا، وتعانقا وكما يضيء البرق فجأة تزاحمت الخواطر فى عقله. إن حياته معها كره فى كره وخلاف فى خلاف ومواقع إثر مواقع هذا صحيح، ليلة أن صفعها مثلا وخربشته بأظافرها وتدشدش طقم الشاى، ليلة أن اختلفا حول اسم "تامر" ليلة أن اصطدمت بالمرحومة أمه، ألف ليلة وليلة من الألم القاسى الممض. العجيب أنه لا يحس شيئا من هذا الآن، وكأن الألم فى حينه يصبح ذكرى بعد حينه فكل ما يحسه الآن أنه كان شابا وأنها كانت صغيرة وأنهما كانا طائشين، وما أعذب الطيش حين تمضى أيامه ويصبح مجرد لحظات تستعاد. إن الخلاف ينفر ولكن العجيب أن خلافاتهما كانت تقربهما أكثر. والخلاف يقولون إنه يخرب البيوت والخلاف عمر بيته، فقد كان لهما حجرة واحدة والآن عندهما ثلاث، ولم يكن هناك أولاد، والآن لهما أربعة. وحين تزوجها لم يكن معه إلا التوجيهية والآن معه البكالوريوس، وهى تزوجته وهى مدللة لا تعرف سوى قلى البيض وتخطيط الحواجب والآن بشهادته أمهر خياطة وطباخة، وكانت بالكاد لا تقرأ إلا "حواء"([17]) وهى الآن تناقشه فى السياسة وتبزه، تلك التى يعتبر نفسه ضليعا فيها.
ألف خاطر عن له، لو كان قد تزوج مطيعة لا ترفض له رغبة أو طلبا لما تحرك من مكانه وموضعه ولما تحركت هى الأخرى. إنه مغفل. أيكون ما يعيش فيه هو سعادة الواقع وهو لا يدرى. إنه كان يفكر دائما كأحد طرفى الخلاف ولكنه أبدا لم يفكر كزوج لابد له من زوجة ولا تتم سعادتهما إلا معا، ولا يسعد الشخصان معا إلا إذا اقتربا، ولأنهما إنسانان وشخصيتان فإنهما إذا اقتربا احتكا واختلفا ونتج عن احتكاكهما موجات من الرضا والغضب والسخط والألفة والحب والكره.
أتكون هذه الموجات هى نفسها السعادة التى طال سمعه عنها. أتكون كالشرر لا يحدث إلا إذا طرق الحديد بالحديد والحجر بالحجر. تلك المرأة التى يضمها بين يديه الآن، رفيقة العمر، التى صاحبته لحظة بلحظة وساعة بساعة، لابد أنها كانت تقاسى مثله وكانت تكرهه مثلما يكرهها، وتحملته مثلما تحملها، وكل ذلك قد مضى، ويمضى، ويصبح ذكريات أهم ما فيها أنها مرت وطعمها الآن من طعم العمر المولى ألذ وأطيب وأمتع طعم. إنها الآن بين يديه ضعيفة، مستسلمة، قد أسعدتها هديته البسيطة إلى درجة البكاء والنشوة.
ألف خاطر وخاطر، وعاطفة قوية مبهمة تتفجر فى نفسه، وإعزاز غريب مفاجيء لروحية يكتشف أنه يملأ صدره. أيكون كل ما كان بينهما من خلاف وتعنت وكره هو الحب، الحب الأكبر. أكان من حمقه يحلم بالحياة السعيدة الأخرى والحياة الأخرى هو فيها، ويفكر فى الهجرة إلى دنيا جديدة وهو يغمض عينيه عن دنيا الحقيقة الجديدة([18]) ويقول إن إنهاء حياته الخاملة تلك فى حاجة إلى شجاعة. والشجاعة هى أن يتقبل حياته هذه ويؤمن أن "روحية" زوجته والأولاد والبيت بيته وهو دعامته والمسئول عنه.
ألف خاطر وخاطر، وهما واقفان، بين دهشة الأولاد، متعانقان وكأنهما كانا غائبين لعشر سنوات مضت، وكل هذا بغلطة، بلفتة، بنكتة، بكلمات قليلة على ورقة.
* * *
ولم تكف أوراق البنكنوت ذات الإهداءات عن الورود لصلاح، مكتوبة على أوراق من فئة العشرة والخمسة والجنيه والخمسين قرشا فى بعض الأحيان. وكلما قرأ "صلاح" الإهداء وتأمل اللحظة التى لابد سبقته واللحظة التى أعقبته، كانت سعادة غامرة تملأ جوانحه، وكأنه اخترع اختراعا للسعادة البشرية أو اكتشافا، ولفرط سعادته باكتشافه حاول ذات يوم أن يبدأ فى عد الأوراق ذات الإهداءات ليعرف كم من السعادات تسبب فيها وأحدثها.
ولا يزال "صلاح" إلى الآن يعد، ويبدو أنه لن يتوصل أبدا إلى معرفة الرقم الصحيح، فالأوراق لم تكف أبدا عن الورود!».
*** *** ***
غلب على تعديلات يوسف إدريس أن تكون تصحيحات لغوية ومفاضلات أسلوبية، ومر أنها قد تبدو أحيانا تدخلات نشر كان يتقبلها مرغما، ويكشف تأمل بعض هذه التعديلات عن كون دافعها فنيا فى المقام الأول، مثلما يتضح من النظر فى قصتى (حلقات النحاس الناعمة) و(القديسة حنونة).
أشار «كربر شويك» إلى الشبه الواضح بين قصة (حلقات النحاس الناعمة) التى غير إدريس عنوانها إلى (دستور يا سيدة) - وقصة (كان طفلا فصار شابا) لمحمد تيمور([19]) وهما متشابهتان بالفعل، لكن دلالة التعديلات تفوق محاولة التمويه على التأثر بقصة تيمور أو تقليدها، ولننظر فى الإضافات - فحسب - التى أضافها إدريس إلى نص (دستور يا سيدة):
- «تغمره وتغسل وجنتيه وتلعق أجفانه، ولفرط رغبتها تستعذب طعم الدموع».
- «قريبا من رأس السلم المؤدى إلى شقة السطوح حيث يقطنون، انزلقت يده التى تسندها وتحتضنها. متحسسة الظهر.. يد اكتسبت - بطول الاحتكاك - بعض الجرأة»
- «وتضمه وكأنما لتعيده إلى حيث يجب أن يكون، إلى بطنها وذاتها»
- "لكن جوع الجلد إلى الجلد، جوع الضلوع إلى الضلوع، وظمأ الفم إلى الفم، والسيقان لتلتف حول السيقان، كان هو الذى كل مرة ينتصر، ويقهر".
- "فجأة يثور فيه الشاب فيحتوى الرقبة ويقبلها قبلات شابة محمومة. وبحسم تهمس:
- عيب أنا زى أمك.. أنا.. ولادى أكبر منك.. أنا جدة والله..
فلتكونى جدة أو جنية فالمهم أنك الآن أمامى أنثى. وأنا الذكر حتى ولو كنت أمى نفسها وأوصلتنى إلى هذه الدرجة فلا تتوقعى أبدا أن تجدى فى الابن".
- "ظمآن إلى المرأة من زمن.. أما أو أنثى. لم يعد يكفيه أن يطوقها أو يرقد ساكنا فى حضنها وإنما يقترب منها بكل ما يستطيعه من اندفاع كى ينتمى إليها كما يذوب فيها ويتلاشى وكأنه الكوكب يعود بعد طول دوران إلى أمه النجم".
إن الإضافات كلها - وفى القصة تعديلات كثيرة بالحذف وإعادة الصياغة - تصب فى مجرى المغزى الجنسى، وإعلاء الدافع الغريزى بين الفتى والسيدة، بعدما كانت القصة تتجه نحو إبراز الدافع التعويضى لفقدان الأم، وهى بهذا المعنى تكاد أن تكون كتابة أخرى لقصة (القديسة حنونة).
نشر يوسف إدريس قصة (القديسة حنونة) فى الجمهورية عدد 14 يناير 1968، ثم قام بتعديلها ونشرها بعنوان (جيوكندا مصرية) فى الأهرام عدد 8 مارس 1974. وليس السبب فى التعديل، كما رأى الناقد فاروق عبد القادر، هو الرغبة فى إحكام السيطرة على القصة التى تخترق تابوها دينيا هو العلاقة بين مسلم ومسيحية([20]). لأن إدريس تناول الفكرة نفسها بجرأة أشد فى رواية (الحرام)، إضافة إلى أن ما قام به من تعديل لم يتطرق إلى صلب الفكرة للتخفيف من أثرها، بل على العكس تماما، أراد بما أضافه للقصة من فقرات شعرية السرد وبالغة العذوبة أن يزيد تأثير الموقف الخارق الذى حدث بين المراهقين، فقد اقتصر فى النص الأول على القبلات، ولما "أدرك" محمد، واحتضن حنونة، حضر الأب. أما فى (جيوكندا مصرية) فالموقف الغريزى مكتمل رغم اختلافهما فى العقيدة، كأنه أراد أن يقول إن قانون الروح أقوى من العقيدة ذاتها، وأبقى من وصاية المجتمع.
لم تخفف التعديلات فى نص (القديسة حنونة) من ظهور العقدة الأوديبية فى القصة، بداية من صورة الأم الحاضرة الغائبة، والأم البديلة حنونة، ثم صورة الأمومة المشرقة فى "العذراء" وهى تحتضن الطفل الجميل عيسى بسعادة وحنان، وأخيرا صورة الأب الضعيف "جسديا"، بفقدان الساق عند والد محمد، والتهابات العين عند والد حنونة. وبالمثل صورة المعلم الشيخ مصطفى وسيقانه الرفيعة كأعواد الكبريت، لذلك كان "الفحل" الوحيد فى القصة زوج حنونة، الصعيدى الضخم، والشره الشهوانى ذو الشارب الأسود الكثيف.
لم يكن "محمد" فى البداية منتبها لدوافعه الغريزية، تنتابه الحيرة لتتبعه "حنونة" كظلها، هل هى "محاولات أكثر لإدراكه أشياء أخرى عن هذا الدين" أم استسلام لفتنتها التى "تحيل كل ما تصنعه إلى حدث براق ممتع رقيق مثير"؟! وتواجه العلاقة البريئة بفروق اجتماعية وحدود معقدة: هو ولد وهى بنت، هو مسلم وهى مسيحية، هو ابن مهندس الطلمبات، وهى ابنة كبير الأسطوات، وأخيرا - ودائما - كلام الناس الكثير رغم أنهم فى هذا المكان النائى قليلون.
بدأ الخطر يواجه العلاقة من قبل "الأم"، أم محمد، فقد شكت للأب، والأب خاضع لها منذ قطعت ساقه، وكأن الساق المفقودة انتقلت للأم فزادتها قوة وسيطرة وعصبية. وما يجذب محمد إلى حنونة شيء غير إرادى، غريزى كالجوع والعطش، ومكان اللقاء بينهما عند "الهدار" البئر العميقة
أو البئر "الأم" التى تصب فيها مياه المصارف الكبرى، وتأخذ عنها الطلمبات الماء لترفعه إلى مستوى منسوب البحر، البئر التى يهدر فيها الماء، ويصنع دوائر مخيفة يمكن أن تبلع الرجل فلا يبين له أثر.
أو البئر "الأم" التى تصب فيها مياه المصارف الكبرى، وتأخذ عنها الطلمبات الماء لترفعه إلى مستوى منسوب البحر، البئر التى يهدر فيها الماء، ويصنع دوائر مخيفة يمكن أن تبلع الرجل فلا يبين له أثر.
يوجد فى القصة مشهد ساحر يختزل دلالتها كاملة، وهو مشهد حنونة كما تبدو من النافذة فى ضوء الشمس. الشمس رمز لمنبع حرارة الرغبة، وفى وقت العصر هدأت حرارتها لتصبح "مجرد مصباح أصفر رقيق يضيء الشباك" وغرفة حنونة. اللون الأصفر يوحى عادة بالمرض والضعف، وهو هنا ممثل للرغبة، ووجه حنونة "شمس أخرى، شمس منكفئة الجبهة، مختبئة".
كانت "حنونة" فى البداية مصبا لحرارة الرغبة الغامضة، الحرارة التى كانت كحرارة الضوء تكاد ألا تحس، ثم أصبحت شمسا، أى مصدرا لحرارة الغريزة عند "محمد" دون أن يدرك هو ذلك، لكنها أدركته، لذلك كانت منكفئة الجبهة، صامتة، واجمة، فهى فى أعماقها مضطربة من اكتشاف دافعها، وتشعر بالخجل منه.
حتى هذه اللحظة كان "محمد" يتحرك تجاهها بدافع غريزى طفولى، لهذا كانت صورتها "بالضبط صورة العدرة، العدرة مريم" لقد تحركت الارتباطات القيمية فى وصف "حنونة" حول صفات البراءة والنقاء والعذرية والأمومة، كما تجلت فى المثال التاريخى للأم. ثم برز التغير الدافعى بوضوح تام من خلال المقابلة بين تشبيه"محمد" لحنونة بالعذراء فى المشهد الحاضر وفى مشهد آخر فى الذاكرة.
كان "محمد" فى المشهد القديم مفتونا بصورة "العذراء" وهى تحتضن ابنها "عيسى" وكانت رغبته آنذاك أن يرتد طفلا بين أحضان "حنونة"، لتسعد هى به سعادة "العذراء" بعيسى، ويسعد بها سعادة "عيسى" بأمه. لكن المشهد الراهن يختلف، فلم يكن فى ذهنه أن يرتد طفلا تحتضنه "حنونة" بل أن يحتضنها هو بحنان ورفق حتى يحتويها تماما، وحتى تتحقق الرغبة الملحة - وهى رغبة متكررة عند كثير من شخصيات يوسف إدريس - فى أن يصغرها ويدخله "بطريقة ما" فى صدره لإسكات الإحساس المستمر بالرغبة "فى الاقتراب منها والالتصاق الدائم بها".
وانزاحت الغمامة التى كانت تحجب العيون عن الرؤية وانتابتهما معا.. "حمى التعرف المجنون والاستحواذ والمتعة والاكتشاف".. عذراء وعذرى تحولا إلى امرأة ورجل فى لحظة صاخبة بنشوة المعرفة، ثم هدأ كل شىء.. "كأنما الماء فى الهدار بهدوء شديد بطؤت حركته، وضحلت حفرته، وآب إلى سكون".
وجاء "الأب" فى لحظة الخجل، الأب.. "الطويل الرفيع ذى العينين المتعبتين دائما" فى مواجهة استخذاء "محمد" وانتظاره العقاب. وجاء العقاب سريعا، وتم ترميزه أيضا بإضافة قضبان الحديد على مشهد وقوف "حنونة" فى قلب مربع النافذة الأصفر.
تصلح القصة لقراءات متعددة، قد تختلف معها وجهات النظر، لكنها تظل فى الجميع لؤلؤة بعقد إدريس، إذا تجاوزنا عن اضطراب السرد أحيانا، والخلط فى اسم الفتاة بين حنونة وعفيفة، معتبرين ذلك، وغيره من أخطاء لغوية وأسلوبية، مما يرد عادة فى أية مسودة، ومفترضين احتمال اكتمالها لو كانت محاولة إدريس لكتابتها مرة أخرى قد تكررت قبل رحيله.
وفيما يلى نص (القديسة حنونة) مع رصد الاختلافات بينه وبين نص (جيوكندا مصرية) وثبت كلمتى: حذف وإضافة فى موضعهما، ليعنى ما عداهما: إعادة صياغة.
(2) يتخذ هذا الهجوم غالبا شكلا معبرا عن حقيقة أزمته، كأن يستنكر قدرتهم المنظمة على الكتابة.. "إنى لأكاد أحسد إلى درجة البكاء هؤلاء الزملاء الكتاب الذين يكتبون كل يوم كل يوم وعن كل وأى قضية من السياسة إلى القصة إلى العلم إلى المذكرات إلى الحب إلى الأمومة إلى..إلى.. إلى أى شيء. كيف بالله يكتبون؟ ولماذا أجد القلم فى يدهم سهلا ودرجة الانفعال 37 لا تنخفض ولا تزيد، وضغط الدم لا يعلو ولا ينخفض... إلخ"
نص يموت الزمار، الأهرام، 17، 18 أبريل 1981. ونشر أيضا فى مجموعة (اقتلها)، 1982، وانظر أيضا حديثه فى مجلة صباح الخير.
(6) جاء فى ببليوجرافيا مجلة أدب ونقد أن قصة (الحالة الرابعة) قد أعيد نشرها فى مجموعة (أرخص ليالى) وليس ذلك صحيحا، على الأقل فى طبعة دار مصر، هذا وغيره مما لا يمكن خلوص أى عمل معلوماتى منه يشير إلى حاجة أعمال يوسف إدريس إلى ببليوجرافيا أخرى تستكمل المجهود الكبير الذى تم فى الببليوجرافيتين السابقتين، ولعل الببليوجرافيا الملحقة بهذا الكتاب تكون أكثر دقة ودلالة على حركة قصصه بين الكتب والدوريات.
(11) حذف من (قصة منسية) ما يلى "وأحلامه تدور حول شىء واحد، معجزة تحدث وتغير من هذه الحياة البليدة الممضة التى يحياها، أجل. ما أروع أن يبدأ الإنسان حياة جديدة، رحبة واسعة متغيرة، فيها مغامرة، فيها روح، فيها وسامة. حياة تستحق أن يعيشها الإنسان.
وفى ذلك اليوم كان قد انتهى من عمله قبل أن يحل موعد الانصراف من البنك الذى يعمل صرافا به، كان جالسا والأوراق المالية تحيط به من كل جانب، أوراق كثيرة تعد بعشرات الألوف، يفكر فى تلك الحياة الأخرى التى يحلم بها، والتى لابد موجودة فى مكان ما فوق سطح الأرض، ليس على الإنسان إلا أن يكون فقط جريئا وينهى حياته الخاملة تلك ويهرب إليها. =
=وأمامه تماما كانت ورقة جديدة من فئة العشرة جنيهات، ورقة خارجة لتوها من المطبعة، ظل يتأملها ويغمغم لنفسه: نعم، كل ما أريده حياة جديدة كهذه الورقة، حياتى أصبحت كورقة نقد بالية ممزقة يرفض أن يقبلها أى بنك وأن يحياها أى رجل.
وأمسك بالورقة. عشرة جنيهات! إنه يكره هذا الرقم. فاليوم هو 10 مايو. وهو يكره 10 مايو هذا كره العمى. إنه اليوم الذى ارتكب فيه أبشع خطأ فى حياته وتزوج. ترى كم عاما بالضبط مضت على زواجه. إنه لا يذكر ولا يريد أن يذكر، تكفيه ذكرى ذلك اليوم المشئوم. لماذا لم يمرض يومها أو أصيب بحادث، لماذا ظل صحيحا معافى، بكل قواه العقلية حتى وضع يده فى يد نسيبه وقال له المأذون: زوجتكما على سنة الله ورسوله. لماذا لم يصنع الصواب ويقول: طلقتكما.
اليوم 10 مايو. أكل الزوجات مثل زوجته؟ أكلهن على هذا الطراز؟! مستحيل لابد هناك زوجات أخريات. نساء فاتنات رائعات، لا يتحدثن إلا همسا، ولا يرفضن طلبا، ولا تأتى سيرة المتاعب على أفواههن أبدا. لماذا لم يتزوج واحدة منهن. ما كان أجمل هذا. اليوم أيضا كان يصبح يوم الاحتفال بزواجه. وقطعا كان سيحتفل بزواجه , ولابد كان سينتقى لزوجته هدية ويفاجئها بها. أو يدللها أكثر ويجعلها هى تنتقى الهدية، وكل ما عليه أن يفعله هو أن يمسك بورقة من ذات الجنيهات العشرة كهذه، ويكتب على الدائرة البيضاء فيها: هدية إلى زوجتى العزيزة بمناسبة عيد زواجنا التاسع.
والذى حدث أن صلاح كان قد أخرج القلم، وكتب الإهداء بخط أنيق على الورقة ذات العشرة جنيهات التى أمامه. وما إن فعل حتى أفاق لنفسه، ومضى يتأمل ما فعل. كان خطه أنيقا فعلا، وكانت كلمة زوجتى المكتوبة لها سحر خاص ورونق".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق