نص المستحيلان
نشر يوسف إدريس فى مجلة الكاتب مايو 1964 نصا بعنوان (المستحيلان) بدا مكتملا إلى حد ما ومستقلا، رغم أن العنوان مسبوق بكلمة رواية، دون تحديد رقم الجزء أو ترتيب نشره، ودون أن تسبقه فى المجلة، أو تليه، أجزاء أخرى من الرواية نفسها، وجاء نص (المستحيلان) فى ببليوجرافيا أعمال إدريس فى باب القصص القصيرة المنشورة فى دوريات، ولم يشر أحد إلى كونه نشر فى مجموعة، وهو لم ينشر حقا، وليس قصة، بل هو جزء من رواية (البيضاء) التى نشرها إدريس مسلسلة فى جريدة الجمهورية فى سنة 1959، وفى كتاب فى بيروت سنة 1970، وكان قد كتبها - كما قال فى المقدمة - فى سنة 1955.
يشكك بعض النقاد فى تاريخ كتابة (البيضاء)، ويرى فاروق عبد القادر أن يوسف إدريس اختلقه بسبب "أزمة ضمير" تعرض لها نتيجة نشره للرواية([1])، فهى - من جانب - التنازل الذى قدمه حتى لا يعود مرة أخرى إلى السجن. وكان قد اعتقل فى أغسطس 1954 لقيامه بنقد اتفاقية الجلاء، وأفرج عنه فى سبتمبر 1955 مع بعض الأفراد من تنظيم (حدتو) بعد أن تصور صلاح سالم - وزير الإرشاد فى ذلك الوقت - إمكانية الاستفادة منهم فى إقناع الحزب الشيوعى السودانى بدعم فكرة الاتحاد.([2])
و(البيضاء) من جانب آخر - وفقا لعبد القادر - بما عرضته من صورة سلبية للشيوعيين تبرير لحملة الفتك بهم، التى بدأت بعدما تلمس النظام خطر الوحدة بين التنظيمات الشيوعية الكبرى فى سنة 1958 فى "الحزب الشيوعى الموحد" خصوصا بعد الصدام العنيف مع عبد الكريم قاسم، وقيامه بإعدام بعض الضباط القوميين القريبين من الأجهزة السياسية فى الجمهورية العربية المتحدة.
وقد حاول إدريس أن يكون واسطة بين الشيوعيين والسلطة بترتيبه اللقاء الشهير بين محمود أمين العالم - ممثل اللجنة المركزية للحزب الموحد - وأنور السادات الذى عرض أن يحل الشيوعيون تنظيماتهم، ويدخلوا أفرادا فى هيئة الاتحاد القومى، فرفض "العالم"، وعرض بدوره أن يدخلوا الاتحاد بوصفهم كيانا تنظيميا مستقلا بعد الاتفاق على برنامج عمل موحد. وفشل اللقاء لتفتح فى ليلة رأس السنة - 1959 - أبواب المعتقلات أمام جميع التقدميين والوطنيين مستقلين ومعارضين.([3])
لكننى أميل إلى عزل الرواية عن هذا الظرف التاريخى، بل وإلى نفى صلتها به، ففى تقديرى أن يوسف إدريس كتبها بالفعل فى سنة 1955، لأن صورة الشيوعيين فيها لا يمكن أن تكون تبريرا لحملة الاعتقالات، ولأن إدريس لم يصل فى علاقته بالسلطة إلى حد التواطؤ، وأخيرا - والأهم - لأن من يرغب فى توجيه الرأى العام، وجهة محددة بصدد واقعة سياسية، معتمدا على نص أدبى - لا يقوم بنشر هذا النص مسلسلا على حلقات، إذا لم تقرأ إحداها ضاع التأثير، أو ضعف على أقل تقدير.
كتب إدريس البيضاء، إذن، فى سنة 1955، وليس فى الأمر "أزمة ضمير"، لقد أحجم عن نشرها عقب كتابتها بسبب طابع السيرة الذاتية المسيطر عليها، ولم يقدم على ذلك بعد أربع سنوات إلا عندما ضغطوا عليه فى جريدة الجمهورية لنشرها مسلسلة بعد أن بدأت جريدة الأهرام نشر رواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ على حلقات([4])، ثم أوقف نشرها لأن الصحيفة عرضت حلقاتها عرضا غير لائق ينم عن عدم ترحيب بإكمالها.
لقد حافظ إدريس، غالبا، على استقلال موهبته ونقاء أدبه من شعارات الأيديولوجية، وردود الأفعال الانفعالية المرتبطة بها بفجاجة ودعائية، ربما ليس لحرصه على ذلك أو كونه تعمده، إنما لأن رؤاه الأيديولوجية نفسها كانت غامضة، وملتبسة وراء ركام من المواقف المتعارضة والمتغيرات. وكان الالتباس خيرا لإبداعه، فقد تغيرت الرؤى والتوجهات، وظل الإبداع النقى من تأثيراتها باقيا حتى الآن.
رأس المثلث الرمادى
نشرت قصة (المثلث الرمادي) للمرة الأولى فى مجلة روز اليوسف عدد 3 نوفمبر 1958، ثم غير يوسف إدريس عنوانها إلى (الرأس) وأخضع نصها لتعديلات كثيرة، لينشرها فى مجموعة (حادثة شرف) الصادرة فى بيروت 1958، ثم أعاد نشرها فى مجموعة (العسكرى الأسود) التى صدرت فى القاهرة 1962([5])، وأهم تعديل فى القصة هو ما لحق نهايتها، إذ ينتهى نص (المثلث الرمادي) بما يلى:
"وتملكنى العجب وأخذت أراقب القافلة من مكانى لعل شيئاً يحدث ولكن لم يحدث شئ. كل ما حدث أن خاطراً واتانى وجعلنى أخوض فى ماء المصرف وأنقذ بقية الرغيف من الغرق ومن أفواه الأسماك، وما لبثت أن لحقت بالقافلة ورحت أكرر المحاولة مع السمكة الجديدة التى أصبحت فى المقدمة.. وبعد محاولات ومحاولات حدث نفس ما حدث للأولى، فتخلت السمكة عن مكانها ودارت حول لقمة الخبز تقضم منها هى ومن اتبعها من أسماك الصفوف الأخيرة، واضطربت القافلة مرة أخرى، ولكن سمكة جديدة لم تلبث أن اندفعت وأصبحت فى المقدمة ولم تلبث بقية الصفوف أن تبعتها وظلت تتبعها والقافلة قد عادت إلى سيرها وراحت تمضى بحماس إلى غايتها التى لا يعرفها أحد بنفس سرعتها المنتظمة التى لا تزيد ولا تنقص.
ولم ألبث أنا الآخر أن نقضت يدى من المحاولات وعدت أهيم فى الحقول الواسعة الساكنة من جديد بحثاً عن عش غراب أو بيض يمام".([6])
* * *
وينتهى نص (الرأس) بما يلى:
"وتملكنى العجب، ومن مكانى أخذت أراقب القافلة عل شيئاً يحدث، ولكن أبداً ما حدث شئ، كل ما فى الأمر أن السمكة بعد أن شبعت نهشاً من الرغيف استدارت مسرعة وكأنما تنبهت لتخلفها، وبكل قواها اندفعت ناحية القافلة حتى وصلت إلى الصف الأول، ولكن السمكة الأخرى كانت هناك، وبانتفاضة من زعانفها جزعت السمكة المتخمة وعادت تحاول أن تجد لها مكاناً فى الصف الثانى ولكن الثانى طردها إلى الثالث، والثالث إلى الرابع وهكذا إلى أن وصلت إلى حيث السمك المتلكئ فى نهاية الصفوف، ذلك الذى يسير، وبين الحين والحين ينتهز الفرصة ليقضم قضمة من النبات النامى على الجانبين ويعود إلى مكانه فى المؤخرة.
وواتانى خاطر جديد، ووجدت نفسى أخوض ماء المصرف اللاسع، وأنقذ بقية الرغيف من الغرق ومن أفواه أسماك الصفوف الخلفية، وما لبثت أن لحقت بالقافلة ورحت أكرر المحاولة مع السمكة الجديدة التى أصبحت فى المقدمة.
وبعد محاولات ومحاولات حدث نفس ما حدث للأولى، فتخلت السمكة عن مكانها ودارت حول لقمة الخبز تقضم منها، وأيضاً اضطربت القافلة، ولكن سمكة جديدة لم تلبث أن اندفعت وأصبحت فى المقدمة ولم تلبث بقية الصفوف أن تبعتها وظلت تتبعها، والقافلة قد عادت إلى سيرها وراحت تمضى بحماس إلى غايتها التى لا يعرفها أحد بنفس سرعتها المنتظمة التى لا تزيد ولا تنقص.
ولم ألبث أنا الآخر أن نفضت يدى من المحاولات، ومن جديد عدت أهيم فى الحقول الواسعة الساكنة بحثاً عن عش غراب أو بيض يمام.
ولكنى رحت أفعل هذا وقد ذهب عنى إنطلاقى الأول، بنفس ملولة، وحزن خفى لا أعرف سببه يقبض روحى".([7])
* * *
تفيد النهاية الأولى توحد أفراد جماعة السمك، وفهمهم لاختلاف الترتيب فى الصفوف، باعتبار الاختلاف ضرورة لوجود نظام الجماعة وتمايزه عن غيره من النظم، فلا فرق من ثم بين مقدمة الصفوف وأى صف وراءها، لذلك اندفعت سمكة جديدة لتكمل النقص بتلقائية، وذابت السمكة الأولى بهدوء فى الجماعة واستسلام، مثلما يدل على ذلك اختفاء ذكرها فى النص، وبروز ذكر القافلة التى مضت إلى غايتها بسرعة منتظمة وحماسة.
أما النهاية الثانية فتفيد تغير فهم اختلاف الترتيب، باعتباره علامة على القيمة والمكانة فى الجماعة، ومن هنا لم تستسلم السمكة التى قادها طمعها إلى فقد مكانتها، وحاولت العودة، لكن السمكة الجديدة قاومتها بعنف، كما قاومها أفراد الصفوف التالية، فظلت تطرد وتتراجع حتى وجدت موقعاً فى مؤخرة تسع أمثالها من المتلكئين.
ستمضى الجماعة هنا أيضاً بسرعة منتظمة وحماسة إلى الغاية المجهولة، لكن فترات التوقف والفوضى سوف تتكرر والحرب بين أفراد الصفوف ستزداد، طمعا فى المكاسب الفردية المحدودة، مما يجعل الجماعة كلها مهددة دائماً من الداخل والخارج معاً.
وهذا هو سبب فتور انطلاق السارد وحزنه الخفى فى الجملة البارعة التى أضافها إدريس عند كتابة القصة للمرة الثانية.كان السارد - بحلم العثور على قافلة السمك - يبحث عن مكانة اجتماعية، وفى النهاية أصابه الملل واليأس، غير أن السبب يختلف فى النصين.
فى (المثلث الرمادي) عرف أن الجميع متساوون، وأن اختلاف الموقع فى النظام العام لا قيمة له، لأن دور الكل حفظ وجود الجماعة، ودفع حركة تقدمها. لكنه فى (الرأس) عرف أن الجماعة مفككة، وأن الأدوار متعددة، لتعلقها بمصالح الأفراد. عرف أنه إذا أراد مكانة ما فعليه ألا يصدق الأساطير الساذجة، وألا ينتظر الحظ والمصادفة، بل يستعد بقوة مادية، وقوة نفسية تصمد للحرب الشرسة التى سيخوضها بالتأكيد، حتى يصل إلى المقدمة، وحتى يدافع عن بقائه فيها.
ما العلاقة بين حلم الصبى وقافلة السمك؟! قبل أن يكتب يوسف إدريس نص (المثلث الرمادى) لم تكن هناك أية علاقة بين هذين الطرفين، وما الجمع بينهما فى لحظة بعينها سوى سر من أهم أسرار موهبته النادرة، وقدرته العجيبة على تقريب المتباعدات والربط بينها. أما اختلاف نص القصة، فيتعلق بإحدى خصائص العملية الإبداعية لديه، حيث تكتب القصة فى جلسة واحدة، سواء طالت أم قصرت، فإذا راجعها أو "بّيضها" جاءت قصة مختلفة.
"لازلت لا أفهم لماذا كنت شغوفا أيامها بالخروج إلى الحقول الواسعة والسير على شواطئ الترع أو البحث عن بيض اليمام والغربان فى عز الظهر. ربما كان السبب أنى كنت أمر بفترة الاضطراب التى تصاحبنا فى مرحلة البلوغ والمراهقة التى تدفعنا أحيانا لان نفعل أشياء لانفهمها ولايمكن تفسيرها.
كنت أدع البلدة راقدة تئن وتنبهت من حر الظهيرة … وأناسها يغطون فى نوم القيالة المتقطع وأخرج إلى الغيط ومعى غذائي، ويبهرنى ذلك العالم النباتى الواسع بسكونه ورهبته وغموضه. وكنت أظل أمشى وأنا أستمتع وحدى بالشمس الحارة وأتأمل على مهل تلك الساعات القليلة التى يسكن فيها كل شئ، حتى أوراق الشجر تكف عن الحفيف، والعمق فى الحقل يتوقف، والنبات يتحجر ساجياً خاشعاً لا حراك به، بل حتى الماء فى الترعة تجده يكاد يكف هو الآخر عن السريان. وأنا وسط هذا كله الوحيد الذى يتبرد ويتحرك دون أن يزجرنى زاجر أو يحد من حريتى إنسان، وأعظم ما كان يمتعنى هو رائحة الظهر، رائحة الأرض الظمأى حين يرويها الماء الفاتر فتمتصه ويتكون الطين والبواخ ويصبح للظهر رائحة الأرض الشاربة، وكأنها رائحة الحياة حين تدب فى التراب … لا زلت لا أعرف لماذا كنت شغوفا بهذا الخروج الشاذ، ولكن لولاة ما عثرت أبداً على رأس السمك التى ظللت حيناً طويلاً من الدهر أحلم بها وأتمناها.. وأنا من المغرمين بالسمك، السمك الحى، ذلك الحيوان المبطط المستطيل الغريب ذى العيون البارزة العارية الخالية من الجفون والحركة الشيطانية التى لا تهدأ.. وكلما رأيته حياً يجرى فى الماء، أو يتزفلط فى اليد حال خروجه منها أو عالقاً بالسناره يقفز ويتنطط ويتلوى لست أدرى كلما رأيته هكذا أعجب من الحياة التى قد تتجسد أحياناً على هيئة سمك يتحرك وينتفض ويتلوى ويدافع عن حريته إلى آخر رمق حتى ولو أضطره الأمر إلى استعمال حرابه وكهربته….
وطبعاً كانت لنا ونحن صغار أساطيرنا الكثيرة حول السمك، أساطير كنا نسمعها وأساطير كنا نشترك فى صنعها عن السمكة الجنية والقرموط المسخوط، والحيتان الكبيرة التى تحيا فى البحور الواسعة الغريقة والتى تبلغ من الضخامة إلى حد أن توجد فوقها جزر ينبت فيها الزرع ويحيا عليها الناس، ثم كيف تغوص تلك الحيتان أحياناً وتغوص معها الجزر ويغرق الناس. ولكننا - حتى ونحن صغار - كنا لا نصدق هذه الأساطير. كنا فقط نؤمن بحكاية رأس السمك إيمانا عميقاً لا يتزعزع إلا بين الحين والحين كانت ترد إلينا أنباء من القرى المجاورة عن ر جال عثروا على رؤوس أسماك وأنهم اصطادوها وباعوها وأصبحوا بثمنها من أغنى الأغنياء، ورأس السمك هذه ليست رأس سمكة واحدة، ولكنها تعبير يستعمل كناية عن قافلة ضخمة من السمك، إلا يبدوا أن هناك أنواعا بعينها من الأسماك تحيا على هيئة جماعات تجوب المياه فى قوافل ضخمة، والسعيد هو من يعثر على قافلة منها ويصطادها فالسمك الناتج عنها يكاد يملأ عدة زكائب تباع بمئات الجنيهات...
وفى ذلك اليوم كنت قد خرجت إلى الغيطان فى الظهر كالعادة وقد أخذت غذائى معى وكنت أسير على جسر المصرف الكبير الذى يستعمل لتخزين المياه الناتجة عن تصفية حقول الأرز، وكان المصرف يكاد يكون ممتلئاً إلى حافته بالماء، وماء هذا النوع من المصارف يكون قد فقد الكثير من طميه وأصبح رائقاً كالماء المقطر لولا بعض اصفرار يشوبه، ولولا إحساسك أنه ماء آمن راكد وكأنه ماء مريض أو حامض تجزع إذا رأيته ويلسع الجروح التى فى قدمك إذا فكرت فى وضعها فيه. كنت سائراً أقلقل كتل الطمى الناتجة عن تطهير المصرف واقذفها فيه فتحدث ضجات مكبوتة، وكأنها صرخة الماء حين يتألم. كنت ماشياً أغنى وأصفق وأتمنى فى قرارة نفسى أن أكون سعيد الحظ وأعثر على عش غراب أو يمام حين لمحت ذلك المثلث الرمادى يتحرك فى المصرف تجاهي. ولم أكن أبداً أتصور أن ذلك المثلث يمكن أن يكون رأس السمك التى طالما حلمت - كأى صغير - بالعثور عليها وأصطادها وحدى ومفاجأة أهلى وأهل بلدنا بها، لم أكن أتصور هذا لان الأسماك لا تفضل مياه المصارف. ولا يوجد فيها إلا الطحالب الصغيرة التى تسبح على السطح. ولكننى حقيقة فوجئت حين أمعنت النظر فى المثلث المقبل نحوى فوجدته قافلة سمك حقيقية. ومن هول الفرصة تلفت حولى لأصرخ أو أستغيث فى الناس، ولكننى وجدت الدنيا فاضية وكأن الناس جميعاً ماتوا ووجدت السكون الذى طالما أحببته يعم الكون، السكون الذى لا يقطعه إلا أزيز الدنيا حين لا تجد شيئاً تحمله إلا أن تئز ذلك الأزيز المتصل الطويل …
وجريت هنا وهناك، ورأيت القافلة من أمام ومن خلف وكدت أحاول خوض الماء، وضحكت ضحكات هستيرية ولكن فى الثوانى التالية كنت قد أدركت أن لا فائدة ترجى من صيد راس السمك فليس معى شئ من أدوات الصيد والمصرف غريق ولا أحد هناك يستطيع مساعدتى. وعلى هذا وجدت فرحتى واضطرابى تذوب كلها إلى نوع من الخيبة المتأملة. وقنعت من الغنيمة بالتفرج عليها. ولم تكن الفرجة بالأمر الصعب فالماء رائق، والقافلة تسير بسرعة ولكنى أستطيع ملاحقة سيرها. ومرة أخرى خاب أملى فلم أجد أن راس السمك مكونة من ملايين الأسماك ذات الحجم الهائل كما كنت أتصور. كانت عبارة عن بضع مئات من الأسماك الصغيرة أكبرها فى حجم الكف تكون عدة صفوف. النصف الأول مكون من سمكة واحدة والثانى سمكتين وهكذا. ومع صغرها فقد كان منظرها رائعاً. فالأسماك كانت متشابهة تشابه بيض الدجاج ذى الحجم الواحد لا تستطيع أن تفرق بين الواحدة والأخرى. وصفوفها كانت منتظمة. والأسماك ظهرها من أعلى رمادى مخضر وبطنها من أسفل أبيض يميل إلى الاحمرار وزعانفها دقيقة صغيرة شفافة تلمحها تعمل فى سرعة قصوى وبلا توقف وكأنها عشرات الألوف من مجاديف نيلونية التكوين تعمل على نفس الوقت بينما القافلة كالأسطول الصغير الماضى فى سرعة منتظمة ولا تزيد ولا تنقص وفى اتجاه واحد لا ينحرف يميناً أو يساراً وكأنها كتيبة منقادة فى مهمة مجهولة لا يعرف سرها أحد.
كنت أتتفرج مبهور الأنفاس مما أرى وكأنى أشاهد إحدى معجزات الكون أو أحد أسرار الوجود التى لا يطلع عليها إنسان وحرام أن يطلع عليها إنسان. وكنت مستعداً لمتابعة القافلة فى سيرها إلى آخر الدنيا مع أنى لم اكن اعرف من أين جاءت والى أين هى ذاهبة وماذا جعلها تسير فى ذلك المصرف بالذات. وفطنت إلى نفسى بعد برهة فوجدتنى أمشى فوق الجسر بمنتهى الحذر حتى لا تسقط أقدامى طوبا يخيف القافلة أو يعكر من صفو نظامها الغريب المذهل، عدت إلى نفسى فوجدتنى أفكر فى أمر محير. فأنا أعرف كما يعرف الناس كلهم أن السمك حيوان شديد الخوف، ما يكاد يلمح ظلا أو يرى ضوءا أو يسمع خرفشة ماء حتى يفزع ويغوص فوراً إلى الأعماق أو يدس نفسه فى الطين. وكنت قد لاحظت أن ظلى طوال الوقت يسقط على القافلة ومع هذا لم تفزع أسماكها ولم تشتت، بل ظلت تمضى وكأنها لاتلحظنى أو تلحظنى ولا تخاف منى أو من ظلى وكأن السمك هو الآخر يحس بالونس إذا وجد فى جماعة، حتى بدأت أخاف أنا منها … وقل هى عفرتة الصبية ورغبتهم فى بعث الفوضى فى أى شئ منتظم، أو على الأقل لأثبت وجودى، أو كرد فعل للخوف الذى بدأ يعترينى، الدافع غير مهم، المهم أننى وجدت نفسى التقط فجأة طوبة صغيرة والقيها فى وسط القافلة لأرى ما يحدث. وحدث ما توقعته فقد اضطربت الأسماك التى فى وسط القافلة، وخافت بعض منها وطارت، ولكن وربما لأن السمكة التى على راس القافلة ظلت ماضية فى طريقها لا تميل ولا تضطرب وجدت اسماك القافلة التى فى الوسط تعود سريعا من رحلة خوفها وتنظيم صفوفها وتعود القافلة إلى ماضيها وكأن شيئا ما يحدث.
وغافلتنى تلك السمكة التى فى المقدمة والتى هى ماضية فى طريقها لا تلين ولا تخاف ولا تميل، من أين جاءها كل ذلك الحماس، وكيف هى سائرة هكذا كالقائد الحكيم الذى يعرف تماما مقصده والطريق إليه؟
ولماذا هى القائدة بالذات وكيف وقع اختيار السمك عليها لتقود وهل لها مميزات معينة رشحتها لتلك المكانة؟
رحت أراقبها بدقة وأحصى عليها حركاتها وسكناتها على أمل أن أجد فيها شيئاً لا يوجد فى بقية الأسماك.، ولكنى لم أجد شيئا من هذا. كان لها نفس الحجم ونفس اللون والتكوين، ونفس الفم الدقيق الذى لا ينى عن ابتلاع الماء وضايقتنى تلك السمكة إلى درجة أنى بدأت أحار بها حربا غير عاديه، فغذائى كان معى كما قلت وكان فيه رغيف، وكنت قد لاحظت أن القافلة ماضيه فى مياه المصرف لا يعوقها عالق وأسماكها لا تأكل ولا تلتفت إلى الحشائش المنبتة على الجانبين وكأنها صائمة،كل ما فى الأمر أن بعض الأسماك الموجودة فى المصارف الأخيرة كانت تتلكأ أحيانا تقضم قضمه من نبات ولكنها لاتلبث أن ترد بسرعة إلى صفوفها.. وكنت أعرف أن السمك يحب الخبز، وكنت طبعاً لا أتوقع أى نجاح لخطتى خاصة بالنسبة للسمكة التى فى المقدمة ولكنى قلت فى نفسى أحاول. وهكذا قطعت لقمه من الرغيف وقذفت بها أمام القافلة.. ووصلت السمكة إلى القمة ومرت بجوارها وتجاوزتها وكأنها لا تراها.. ولم أيأس. وقطعت قطعه أخرى وقذفتها وأيضا لم تعرها السمكة أى التفات.. ولا أذكر كم لقمه قطعتها وألقيتها هكذا ولكن فى ذات مرة قضمت السمكة قضمة صغيرة من إحداها دون أن تحييد عن طريقها. وفرحت، وقطعت قطعه أكبر من الرغيف، وقذفتها أمام القافلة بمسافة لتكون قد (باشت) حين تصلها السمكة، وفعلا حين وصلتها قضمت منها قضمه، ثم عادت وقضمت منها مره أخرى ولكنها فعلت هذا على عجل ولم تلبث أن عادت إلى مكانها على رأس القافلة بسرعة. وبلغ بى الحماس أشده فرميت باقى الرغيف، وما كاد يمتص الماء، ويبدأ فى الغوص حتى كانت القافلة قد وصلته وحين لمحته السمكة نتشت منه قضمة، ثم ما لبثت أن تخلفت عن مكانها وأخذت تدور حول الرغيف وتقضم وكأنها استمرأت طعمه.. وتوقعت حينئذ أن يحدث ما أردته من زمن طويل فيضطرب نظام القافلة وتتبعثر أسماكها وتتفرق، وفعلا حدث اضطراب قليل، تحركت القافلة برهة بغير السمكة التى فى المقدمة ولكنها بعد مسافة قصيرة توقفت ومضت عشرات
آلاف زعانفها الصغيرة تلمع فى الماء الدافق بينهما صفوف السمك لا تتحرك. ولكن هذا لم يدم إلا برهة خاطفه إذ سرعان ما وجدت سمكة من الصف الثانى نندفع وتصبح فى المقدمة ثم تتبعها بقيه الصفوف.. ولم تلبث القافلة أن عادت إلى سيرها المتحمس.
وتملكنى العجب وأخذت أراقب القافلة ممن مكانى لعل شئ يحدث. ولكن لم يحدث شئ. كل ما حدث أن خاطرا أتانى وجعلنى أخوض فى ماء المصرف وأنقذ بقيه الرغيف من الغرق ومن أفواه بقية الأسماك، وما لبثت أن لحقت بالقافلة ورحت أكرر المحاولة مع السمكة الجديدة التى أصبحت فى المقدمة..
وبعد محاولات ومحاولات حدث نفس ما حدث للأول، فتخلت السمكة عن مكانها ودارت حول لقمة الخبز تقضم منها هى ومن أتبعها من أسماك الصفوف الأخيرة، واضطربت القافلة مرة أخرى، ولكن سمكه أخرى لم تلبث أن اندفعت وأصبحت فى المقدمة ولم تلبث بقية الصفوف أن تبعتها والقافلة قد عادت إلى سيرها وراحت تمضى بحماس إلى غايتها التى لا يعرفها أحد بنفس سرعتها المنتظمة التى لا تزيد ولا تنقص. ولم البث أنا الآخر أن نفضت يدى من المحاولات وعدت أهيم فى الحقول الواسعة الساكنة من جديد بحثا عن عش غراب
أو بيض يمام".
أو بيض يمام".
4- موهبة النظير فى القصص المجهولة.
ترك يوسف إدريس متفرقات من قصصه، دون نشرها فى مجموعة، برغم أن بعضها لا يقل جودة عن قصص بداياته، كنظرة والنداهة، وبعضها لا يزيد ضعفا عن القصص التى أوردها فى أواخر مجموعاته، مثل (حكاية مصرية جدا) و(سيف يد)([9]). مما يدفع ظن كونه استثناها جميعا لاعتقاده أن مستواها الفنى ضعيف، كما يوحى بذلك حديث الكاتب سليمان فياض عن رفض يوسف إدريس تذكيره بهن، وقوله له "سأقتلك إن جبت لهم سيرة"([10]). ويؤكد هذا التهديد إدراك إدريس لوجود ما يجب أن يخفيه فى هذه القصص، ربما لدلالته الواضحة على مشكلة فى استخدامه اللغة أو تأثره بآخرين.
تقبل كثير من المهتمين بأدب يوسف إدريس استخداماته اللغوية الإشكالية بوصفها ثورة على القطيعة المفروضة بين الأدب وتذوق الشعب له، وتحمسوا بطرق عدة ودرجات متفاوتة لهذه الثورة التى جعلت "مصرنة" القصة سقف طموحها، لكن الحماسة مهما كانت خلفياتها لن تخفى وجود مشكلة حقيقية فى لغة إدريس، وتسفر هذه المشكلة عن وجهها كاملا فيما تم حصره فى هذا الكتاب - بين علامات تنصيص - من قصصه المعدلة والمجهولة، ومن مقالاته وأحاديثه الصحفية، إذ لا يقتصر الأمر على الأخطاء النحوية والإملائية، بل يتجاوزها إلى الأخطاء الأسلوبية فى الصياغة والتصوير.
ولا يتعلق السبب بمستوى تمكنه من اللغة فحسب، إنما يتعلق أيضا بخاصية ذهنية فى مراحل العملية الإبداعية عنده، فخياله الإبداعى نفسه كان خيالا شفاهيا شعبيا، والعقبة التى كان عليه مواجهتها دائما أن التقاليد الأدبية تفرض كتابة مقننة بمواصفات مختلفة، وبدلا من تعديل خاصية الخيال، تحايل إدريس على التقاليد بمكر، فدون - وفقا للمعروف عنه - قصصه باللغة الشفاهية، كما يمكن أن تقص على جماعة من الناس فى مجلس شعبى، ثم ترجمها إلى الفصحى المقننة.([11]) ولأن الترجمة تحتاج إلى إتقان اللغتين ثم التوفيق التعبيرى بينهما، بدا يوسف إدريس بدعوته الحارة للقصة المصرية كمن يرسم لنفسه على الأرض خطا رفيعا، ثم يمشى بصعوبة مترنحا عليه.
أشار إدريس أحيانا إلى نسيانه قصصا كتبها، وتذكره لها بالعثور عليها مصادفة أو لأن صديقا ذكره بها،([12]) وأرجح الظن أنه كان يتذكر هذه القصص، لكن بصورة غير دقيقة، تكاد تشبه النسيان، ولعله توهم قيامه بتغييرها وإعادة نشرها، كما فعل مع غيرها، وخشى أن يظهر من أسرار كتابته ما كان حريصا على إخفائه، وربما احتفظ بها رصيدا لأيام تالية ينشرها باعتبارها إنتاجا حديثا، كما فعل بقصتى: صح والبطل حين ضمهما لمجموعة (اقتلها) الصادرة سنة 1982، من دون الإشارة إلى أن الأولى نشرت فى جريدة المساء عدد 6 أكتوبر 1956، والأخرى نشرت فى مجموعة (البطل) سنة 1957، وهى المجموعة التى قام فيما بعد بتوزيع قصصها على المجموعات التالية.([13])
قبل البدء فى هذه الدراسة حصرت عددا كبيرا من عناوين القصص التى لم تنشر فى مجموعات يوسف إدريس، ثم تناقص العدد بعد تصوير القصص نفسها من الدوريات التى نشرت فيها للمرة الأولى، إذ اكتشفت أن بعضها عناوين مختلفة لنصوص معدلة، مثلما مر فى الفصل السابق.
وبذلك يبلغ عدد القصص المجهولة فى إبداع إدريس إحدى عشرة قصة، المتاح منها حتى الآن تسع قصص، إذ لم أستطع رؤية مصدر القصتين الأخريين، نظرا لضياع أعداد بعض الشهور من جريدة المصرى، الموجودة بدار الكتب. أما قصة (أول الطريق) المنسوبة ليوسف إدريس فهى لمحمد يسرى أحمد،([14]) وبالمثل قصة (الوباء) المنسوبة له وهى ليوسف الشارونى([15])،وليس ثمة وجود لقصة (رجل) التى نسبت له.([16])
قال يوسف إدريس. مقدما إلى قراء جريدة الجمهورية قصة (كاميليا) لمحمد يسرى أحمد: "محمد يسرى أحمد اسم ليس غريبا على قراء القصة والمهتمين بها، فمنذ عشر سنوات، وحين كانت الحركة الأدبية الحالية جنينا لا يزال يبحث لنفسه عن ملامح على صفحات مجلة القصة والنداء والرسالة وقصص للجميع.. كان محمد يسرى احمد من نجوم هذه الحركة اللامعة وأستاذ قصتها الأول. وما أثار الدهشة انه بعد نضج هذه الحركة واكتمالها ووصولها إلى القمة تلفت الناس فلم يجدوا لمحمد يسرى احمد أثرا، ووجدوا مكانه شاغرا أين هو، وماذا يفعل، ولماذا كف عن الكتابة؟
أسئلة لم يكن أحد يستطيع الإجابة عليها. كنت وحدى – تقريبا – اعرف الجواب، واعرف أن قصة صعود يسرى واختفائه تكون فى حد ذاتها دراما جيلنا الحالى وتجسدها، لقد كانت كتابة القصة هى سبب تعارفنا، ثم أهم أسباب صداقتنا الوطيدة بعد هذا. وكان ليسرى فى تلك العلاقة دور المعلم والموجه والصديق. هو الذى عرفنى بعالم الفن الغامض الرهيب الرحيب، هو الذى اكتشف فى نفسى وقدمنى إليها، وهو أول من ثار على حين غيرت الطريقة وأصبحت نفسى.. وكان لابد أن نختلف وكف هو عن الكتابة، وواصلتها أنا لسوء حظى".([17])
يبلغ عدد القصص التى نشرها محمد يسرى أحمد - حسب ما أعلمه حتى الآن - سبع عشرة قصة، أولاها (غابت الشمس) فى صحيفة النداء 9 سبتمبر 1948، ونشرت مرة أخرى فى مجلة القصة 20 يوليه 1954، وكان آخر ما نشره قصة (كاميليا) فى صحيفة الجمهورية 9 أبريل
1960([18])، وله مسرحية واحدة بعنوان (بلا أمس) فى مجلة القصة (عدد 20 مارس 1950).
1960([18])، وله مسرحية واحدة بعنوان (بلا أمس) فى مجلة القصة (عدد 20 مارس 1950).
ذكر يوسف إدريس ما لقيه من تشجيع المجموعة الأدبية التى نشأ كاتباً بينها، يسرى أحمد وصلاح حافظ وحسن فؤاد وغيرهم، وبرغم التشجيع نظر إلى هذه المجموعة - كما يقول- بحذر مخافة أن يفقد ذاته بين أفرادها، وبحرص شديد على أن يقدم لهم شيئاً جديداً.([19]) ثم اعتبر قصة (أرخص ليالى) بداية الطريق إلى رحلة استكشافه الخاص، وما سبقها تمارين على الكتابة، وهو ما يبرر التشابه بين قصصه الأولى وقصص يسرى أحمد، كما يفسر - بجدارة - إحجامه عن إعادة نشر بعض القصص التى نشرت للمرة الأولى بعد (أرخص ليالى)، فبعيداً عن احتمال كتابتها فى مرحلة التدريب، تكشف هذه القصص عن مأزق العقل المبدع فى مواجهة طغيان موهبة النظير، استراتيجية صموده فى وجه مرجعيته الأدبية، وفشله النسبى فى الصمود.
ستظل الذات الجمالية المتفوقة مفتونة بنكرانها أى شكل من أشكال التأثر، ما دامت تتصور أنه يجعل المتأثر أقل أصالة، بالرغم من أن التأثر يسهم أحياناً فى أن يصبح المتأثر أكثر تميزاً، وإن لم يكن أرفع مستوى، ومن هنا تبرز أهمية دراسة دورة الحياة الأدبية للمبدع، والسياق الذى تكونت فيه، فبهذه الدراسة تتكشف سبل الصراع مع الكتابة، والكفاح التسابقى لاستنقاذ الفردية من الذوبان فى مجموع السلف والمعاصرين.
القصص المجهولة([20]).
م | القصة | الدورية | تاريخ النشر |
1 | أنشودة الغرباء | مجلة القصة | 5 مارس 1950 |
2 | لعنة الجبل | مجلة روز اليوسف | 4 أبريل 1950 |
3 | نهاية الطريق | مجلة القصة | 20 مايو 1950 |
4 | قط ضال | مجلة القصة | 5 أكتوبر 1950 |
5 | القبور | جريدة المصرى | 22 فبراير 1953 |
6 | العنكبوت الأحمر | جريدة المصرى | 8 مارس 1953 |
7 | عصابة الفلاسفة | جريدة المصرى | 30 يونيو 1953 |
8 | تلميذ طب | مجلة روز اليوسف | 15 مارس 1954 |
9 | مجرد يوم | جريدة الجمهورية | 30 أغسطس 1957 |
10 | الكابوس | مجلة بناء الوطن | يونيو 1963 |
11 | قصة مصرية جدا | مجلة الهلال | يوليو 1965 |
"الليلة من ليالى الشتاء... ليلة عجوز شمطاء. البرد يكاد يمتص كل ما على وجه البسيطة، برد قارس كئيب تفوح منه رائحة الفناء، وتهب نسائمه فتلفح الوجوه التى أنهكها سعى النهار واحتواها ظلام الليل فتهرب منها الدماء مخلفة وراءها صفرة تقشعر لها الجلود المنهكة...
لم يسع (المعلم) عمر إلا أن يقفل باب (القهوة) ليمنع النسائم التى اعتصرها البرد والظلام أن تدلف إلى المكان ولكنه عاد ليفتحه قليلا عله يلتقط هاربا من جحيم البرودة. ثم تربع على أريكته ومضى يتأمل (زبائنه) بعينه نصف المغمضة وقد استقرت خلف إطار عتيق من الأهداب، وبوجهه الأسمر تلك السمرة التى لا يفصلها عن السواد إلا غلالة شفافة، وبملامحه التى يصبغها طابع من الغموض.. غموض قد تخف وطأته فتلمح فيه اشمئزازا من حياته.. وقد يزداد غموضا فلا يفصله عن سمرته إلا غلالة شفافة.. لم يكن يزيد عن الخمسين ولكن تجاعيد وجهه كانت تنطق بأن ثمة أحداثا هائلة قد عبثت بكيانه... عبثت (بجاويش) المطافيء الذى كانت أشرطته وسلطته مضرب الأمثال فجعلته يغتصب امرأة دخل عليها من نافذتها ذات يوم وقد اشتعلت النار فى دارها فوجدها تكاد تكون عارية.. ثم يستقر بعد سنين السجن العجاف فى هذا الجحر...
كنا نرهبه ونخشاه، فالحياة التى قضاها خلف القضبان كانت تضفى عليه هيبة وكأننا حين ننظر إليه نرى وراء طلعته المتهالكة السجن الرطيب.
وجلسنا نحن.. نحن الغرباء فى دنيا الناس.. نحن الهاربون من ضجة الحياة وصخب البشر، نحن الذين رأينا الناس يندفعون فى موكب الحياة المجنون وكأنهم قطرات الرذاذ قد تحولت إلى تيار ماجن دافق ينخر فى صلب الوجود.. آثرنا أن نركن إلى الشاطيء وأن نحتمى بمرفئنا الهاديء وكأننا قوقع نهر أشفق عليها الموج فدفعها فى حنان وتؤدة إلى شاطئه... أهو جبن منا..؟ أم عجز عن أن نتدافع بالمناكب سمه ما شئت، وسمنا ما شئت فنحن لا يهمنا رأى البشر المتخبط فى مجراه. يكفينا أننا اعتزلنا ما اصطلح الخلق على تسميته بالحياة، وما نسميه نحن تناحر النفوس وقد تحولت من فراشات ترفرف فى سمو إلى عش للزنابير أهاجها يوم قائظ فمضت تلدغ من تشاء ومن لا تشاء. وما نسميه تضارب العقول وقد عز عليها أن تسير إلى الأبد فى مجراها السليم فمضت تتصارع فى جشع، وتتلوى فى أنانية. وما نسميه تحجر القلوب وكأنها قبيلة من أكلة البشر، لم تجد ما يقيم أودها فراحت تتربص بنفسها.. الأخ يلعق دماء أخيه، والأم تتخير لنفسها غذاء دسما من بين أطفالها. نحن أهل الشاطئ.. اخترنا هذا الحصن - وما هو بحصن - واجتذبنا صاحب المكان فهو، وإن كان ليس منا إلا أنه كان يقف فى مكانه من تيار الحياة لا يريم، وإذا تحرك فلينقض على هذا أو يعرقل ذاك أو يتراجع فى خطى يائسة معاندا التيار. التيار الضخم الجبار. وكأنما كانت وقفته أو انقضاضه سكون وسط هذا الجو المشحون بالحركة والجنون، فلما تراكم الناس خلفه يدفعونه، ويرغمونه على المسير آثر أن ينزوى على الشاطيء، وأن ينفض يده من المعركة، وأن يحنى رأسه للعاصفة، لا عن فكرة تدفعه إلى التسليم ولا عن عقيدة تلح عليه فى الانطواء، وإنما عن جبن، وعن عجز.
كان لنا نعم الملجأ، وحين عثرنا عليه ونحن تائهون بين رمال الشاطيء تلقفناه تلقف الملهوف، واتخذنا تلك القهوة المتداعية مركزا لنا ومقرا، فهى بصاحبها و(صبيه) أحمد الفتى الذى لم يتجاوز العشرين بوجهه الصبوح وشعره المشعث فى فوضى محببة، ولذعاته عن طربوش (المعلم) عمر هو يهمس بها لنا فترتفع قهقهتنا فى ضحك صاف حبيب. كانت هاته جميعا ما حبب إلينا المكان وربطنا إليه برباط لا تنفصم عراه.
ومضيت أتطلع إلى الباقين من الرفقاء - إلى الغرباء المتظللين بهدوء الشاطيء وسكونه. كان الجالس على يمينى (الأسطى) حنفى بجثته الضخمة وشاربه المفتول فهو محدثنا اللبق خاصة حين يداعب شاربه وهو يروى لنا مغامراته التى يعتز بها فى قيادة السيارات والتى انتهت بساق من ساقيه ذهبت مع تيار الحياة الدافق وكانت حنجرته الجوفاء البارزة من عنقه تضفى رنة جيبة تمده بسلاح قوى للتأثير على سامعيه. كنت أعرف أنه كثيرا ما يخلط الواقع بما يتمتع به من خيال خصب ولكن ذلك لم يمنعنا من الإعجاب بخياله قدر إعجابنا بحقيقة أفعاله.
وهذا إبراهيم.. أو أبو خليل كما كنا نناديه دائما حتى اندثر لفظ إبراهيم فأصبح ينافس الحذاء القديم الذى يرتديه وجلبابه الذى تناثرت فيه الرقع، ومعطفه الأصفر العتيق، وعمامته التى حال لونها من كثرة ما حملت من أقذار.. ومع ذلك فقد كان قريبا إلى نفوسنا جميعا. كان يتكلم فنصمت مصيخين، ففى صوته رنة حزينة عميقة تأمرك بالإنصات. كان كلامه كنغمات ناى قديم تنساب فى ليلة ظلماء... أو كانبثاق دمعة من دموعه يذرفها على (أمينة) التى أضاع من أجلها عشرة فدادين ثم أفاق من غفوته ليجد نفسه فقاعة دفع بها الموج إلى الشاطىء حيث لا أمينة ولا فدادين..
أما حسن بك فقد كان مكتئبا هذا المساء. أهو جيبه قد عمر مرة أخرى بالنقود... هذه عادته كلما انتفخت حافظته. إنه ذو ثروة يسيل لها اللعاب، ولكنه يحاول دائما أن يهرب من ماله ومن الطرق التى يحاول بها البشر أن يستدرجوه بها لاستثمار أمواله فيأتى إلينا.. ضاربا عرض الحائط بطرقهم وبماله وبالتيار وما يزخر به من متدافعين.
والتفت إلى الشيخ شبراوى فوجدته يلوك فى فمه شيئا وأمامه قدح القهوة (السادة) فابتسمت. كان إماما وخطيبا فى أحد المساجد غير أن نفسه التى تسعى وراء المجهول أبت أن تتلقفها عيون المصلين الخاشعين باحترام قد يرتفع إلى مرتبة التقديس.. أبت أن يكون رائدا للجموع وهو أدرى بما فى قلوبهم من ظلمات وبما فى قلبه هو من ظلمات قد تكون أشد حلكة، فلاذ بنا فرارا من نفسه ومن الجموع...
أما أنا.. حقا من أنا.. أنا غريب حتى عن نفسى فلا تسلنى من أنا، يكفيك أنى واحد من الغرباء.
* * *
كنا جلوسا فى تلك الليلة وقد اكتمل جمعنا ومضينا ننهل من الدخان الأزرق.. يدخل صدورنا ويتصاعد مختلطا بدمائنا إلى عقولنا فننسى.. ننسى أننا عشنا يوما فى هذا التيار وأننا كنا يوما بين المتدافعين. إننا ننظر إلى حلقات الدخان وقد تصاعدت من جوفنا وملأت المكان فنلمح خلالها بقايا ما يوم كان يحتوينا الخضم الهائل.. بقايا البغض والحقد الذى يترسب فى أعماق مواكب النمل التى ما كان يهمها من دنياها غير لقمة العيش وجرعة الماء. إننا ننظر من شاطئنا إلى معركة الوجود كما نظر (نيرون) يوما إلى حريقه فتهمس الغبطة فى نفوسنا: دعوهم فى صراعهم.. دعوا الذئاب تعوى، والقطيع يصرخ، والأفاعى تلدغ، والكلاب تنبح، والبوم ينعق، والصقور تنهش. دعوهم فى حياتهم يعمهون.
وتأخذ النشوة الشيخ شبراوى مما اجتذبه فى صدره ولاكه فى فمه فينطلق فى الغناء.. ولم يكن صوته حلوا ولم يكن كذلك قبيحا، وإنما كان قويا وأحسسنا أنه يغنى لنا.. بأنه يستمد ألحانه من دقات قلوبنا ومن أطياف الهدوء والسكون التى تحلق فوق رؤوسنا يدفعنا الإعجاب به بل ويدفع بأبى خليل الهاديء الرزين إلى أن يفك عمامته ويحيط بها وسطه ويرقص ونصفق نحن، ثم يستخفنا الطرب فنردد مع الشيخ شبراوى أغانيه الذى يسره ما بعثه فينا من نشوة، وما أثاره فينا من مرح فيمسك بعمامته ويقذف بها فى الهواء ثم.. ثم حدث شيء مفاجيء غادر بعثر الغرباء.. التأم جمعنا.. الجمع الغريب مرة أخرى ولكن.. فى فناء السجن هذه المرة.
ما للجمع يسوده غموض حائر متطفل؟ وما لأهل الشاطيء قد استكنت ألسنتهم فى أفواههم؟ وما لنبع الهدوء الساحر الذى كان يسيل من وجوههم ينقلب غبرة يشع منها الوجوم؟
لم يكن السر عميقا فى خفائه، بل كان واضحا وضوح أشعة الشمس الغاربة الحمراء وكأنها أنفاسها اللاهثة حين تحتضر وهى تطل عليهم من بين القضبان.
كأن مواكب النمل قد ضاقت بهم وعز عليهم ما ينعمون به وحدهم، فأخذت القواقع من سلام الشاطيء وأثقلتها بالقيود ثم أرسلتها إلى الأعماق... إلى ما خلف معركة الوجود.. إلى حيث لا يشعرون بدبيب المواكب وهى تمضى فوقهم. وكان دخانهم الزرق هو السبب!
لم يجرؤ واحد منا على أن يلوث قدسية ما نحن فيه من سكون. إنه الانتقال المفاجيء من الشاطيء الساكن إلى ضيق الأعماق... إنه الليل حين يقبل - أول ما يقبل - على الإنسان الأول، وقد قضى يومه فى نور بهيج. إنها الأشجان حين لا يحلو لها أن تداعب خيالنا إلا فى ظلمة الليل.
أهناك رباط ما بين الأشجان والظلام؟ أم أن الإنسان حين يضيع بصره فى حلكة المساء يرتد إلى نفسه باحثا منقبا، فلا يجد إلا أشجانه التى تلوذ بأعماقه، ولا يلمح بارقة لأفراحه، فهى كالعطر الثمين تنعشه ساعة ما، ثم تمضى ولا تخلف وراءها أثرا..؟
إنه الليل والظلام والأشجان هى ما تثير فينا الوجوم، وتدفعنا إلى السكون. غير أن ثمة شيئا ما جعلنا ننسى أنفسنا ونصيخ السمع إليه. كان أبو خليل ينقر على (عكاز) "الأسطى" حنفى، ووجهه هاديء لا ينم عن شيء. هى الأحداث ترتفع وكأنها الجبال الشامخات وتنخفض وكأنها أعمق الوديان. ووجهه لا يتبدل فالابتسامة التى يخيل إليك أنها سوف تحتل وجهه ومع ذلك لا تفشيها ملامحه هى هى غير أن لحيته قد طالت وزاد سوادها وكأنها طلاء فنان عربيد قد أحاط بوجهه. كان ينقر وكأن نقراته رعدة تمر بيده فيخفيها بتحريك أنامله، ولكنها ما لبثت أن اتخذت طابعا نعرفه جميعا. طابعا يعرف الطريق إلى قلوبنا فيسلكه حينما يشاء ليجدها تنتظره وترحب به...
وانفجر الجمع الغريب.. رقص الشيخ شبراوى وصفق حسن بك وقهقه المعلم عمر، وتمايل (الأسطى) حنفى وانطلقنا فى غناء مرح صاخب.
إنها الأعماق حقا... ولكننا غرباء بعيدون عن صراع القطيع وحريق الرغبات...!
* * *
نحن الهاربون من الحياة نحيا الحياة التى وإن كان يمجها المتزاحمون، ويحتقرها المتصارعون النهمون.. وإنما هى حياتنا.. نحن أحرار فيها نحياها فى الشاطيء الهاديء الساكن أو فى القاع المظلم الرطيب".
(12) انظر: هامش قصة أكبر الكبائر، مجموعة (بيت من لحم)، وتصدير (قصة منسية) مجلة الهلال، فبراير 1965. وانظر أيضا مقاله (بلد تغطيه بعقلة إصبعك) فى مجلة الدوحة، أبريل 1979، ص 38، حيث قال إدريس إن " مارسيل " الملحق الثقافى الهولندى بالقاهرة - وكان يعد رسالة دكتوراه عن الخط الاجتماعى فى أدب يوسف إدريس - اكتشف قصة لإدريس كتبها فى عام 1973 قبل الحرب بسبعة أشهر ونشرت فى عدد مجلة الآداب الخاص بالقصة العربية، لكنه نسيها فلم يضمها إلى أية مجموعة، مما يرجح أن قصة البراءة نشرت فى أبريل 1973، وأن النسيان أدرك إدريس فى الملاحظة التى سجلها فى هامش القصة بمجموعة أنا سلطان قانون الوجود.
(13) أرفق إدريس قصة (البراءة) فى مجموعة (أنا سلطان قانون الوجود) بحاشية، يقرر فيها أنها " كتبت ونشرت لأول مرة فى مجلة الآداب (العدد الخاص بالقصة القصيرة) فى يونيه 1972 "، ولم يكرر مثل هذه الحاشية مع أية قصة أخرى فى المجموعة، برغم ضرورة ذلك مع الجميع، خاصة ما نشر فى تاريخ سابق، مثل: أنا سلطان قانون الوجود (الأهرام 24 يناير 1971) وسيف يد (الأهرام 10 سبتمبر 1971)
(20) أثبتُ متون القصص المجهولة فيما يلى كما وردت فى الأصول المنشورة بها، بأخطائها كلها، معتبرة إياها مسودات قصص. مع ملاحظة أنه توجد نصوص أخرى مجهولة تماما فى إبداع يوسف إدريس منها ما أشار فى بعض أحاديثه إلى أنه يكتبها، مثل: مسرحية (شلة الغد). انظر: حديثه مع رشاد كامل، سابق. ومنها ما يتردد - بين أصدقائه - أنه كتبه قبل مرضه الأخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق