«ليسمح لى الأستاذ توفيق الحكيم. ولم لا وهو الفنان الكبير الذى استباح لنفسه أن يجعل من زيد وعمرو، وكل من يخطر على باله أبطالا لقصص ومسرحيات ليسمح لى أن أستعيره بطلا لهذه القصة، إذ يعلم الله إنى قلبت فى ذاكرتى وفى دفاترى الجديدة والقديمة فلم أجد غيره يصلح بطلا لها. لقد تصورت أنه صحا من نومه فى الأسبوع الماضى وهو يكاد يختنق على أثر كابوس مخيف كان جالسا كعادته فى صالة فندق شبرد، ودقت الساعة التاسعة ولم يبق على ميعاد انصرافه لكى ينام كعادته مبكرا إلا نصف ساعة لا بأس فى قضائها يحملق فى الغادين والرائحين والسائحات والسائحين ورواد هذا الفندق العالمى الغريب عساه يرى فى وجه إحداهن مشكلة تثير الفكر ويسرح لها الوجدان أو يلمح بين عجوز وشابه موقفا دراميا بقليل من التصرف والخيال والتخمين يصبح نواة "لبيجماليون" أخرى أو "براكسا" من نوع جديد.
وهو جالس هكذا أيضا إذا بأحد معارفه يطب عليه فجأة. سلام عليكم. سلام ورحمة الله وهو السلام ينفع.. بالحضن يا توفيق بك بالحضن والله زمان فينك يا أخى وفين الأيام، كل هذا وهما واقفان ووجدها توفيق الحكيم بايخة قليلا، اتفضل. فقعد الرجل، وما كاد يجلس، ودون انتظار "لتصفيق" توفيق الحكيم صفق هو وجاء الجرسون. هات سباتس وقهوة. ذهب الجرسون وعلى غير العادة فى غمضة عين رجع حالا بالكازوزة والقهوة. وما كاد الرجل يرتشف بضع رشفات من الكوب المثلج حتى تهللت أساريره فجأة وكأنه رأى بعينيه ليلة القدر فقد رأى صديقا له مقبلا. وبالحضن أيضا قام أخذه واتفضل يا أخى وقعد الرجل.. تشرب إيه؟.. وسكى بالصودا.. وضايق الأستاذ توفيق هذا الطلب السخيف ولكن الرجل على اية حال ليس صديقه، وليس بالتالى مسئولاً عن مزاجه وتصرفاته. وجاء الويسكى وما كاد الرجل يمصمص بشفتيه فى أعقاب أول رشفة حتى طب رجل آخر لم يعرف توفيق الحكيم المكان صديقا للقادم الأول أم هو صديق الثانى. وما كاد يجلس حتى كان الجرسون فوق رأس المائدة إدينى سندوتش فراخ ولندى وروزبيف واثنين جبنه رومى وبعدين قهوة وما كاد أول سندوتش ينتهى حتى جاء آخر سلم وصفق وطلب. وخامس وسادس وعاشر القعدة تكبر وتكبر والأستاذ توفيق يشرق ويغرب ويتحدث بحماسته المعهودة عن الأدب والفن النيابة وآرائه فى أعضاء المجمع اللغوى، ولكن ولكن رغم حماسته الشديدة فالحقيقة أن أهم ما كان يشغل باله فى ذلك الوقت هو الكوب الزجاجى الفارغ الذى يضع فيه الجرسون ورق الحساب، إذا كان الكوب قريبا جدا منه وكلما تضخم عدد القادمين كان ورق الحساب يتضخم هم الآخر وكانت دقات قلب الأستاذ توفيق تزداد فصحيح أنه عارف تماما أنه لن يدفع من هذا الحساب كله شيئاً اللهم إلا كازوزة القادم الأول ولكن وجود هذه الكومة الرهيبة من الأوراق قريبة منه خطر على أية حال أو هو على الأقل وضع غير مريح وعلى هذا فطوال الحديث عن الأدب والفن كان الأستاذ توفيق مشغولا بزحزحة الكوب بعينه أحيانا وبدفعات خفيفة غير ملحوظة من عصاه مرة أخرى دفعات تبدو دائما كأنها صدفة حتى أصبحت المسافة بينهم مأمونة أى بالقدر الذى لايسمح لابرد جرسون ان يأتى ويقف على رأسه ساعة الحساب ولكن ساعة الحساب جاءت وجاء الجرسون الخواجة بسمنته وسترته البيضاء المترهلة وهلهيليته الاجريكية المعهودة ودونا عن الحاضرين أخطار الأستاذ توفيق ليقول له الحساب والله لخسن خلاص خ نمسوا دلوكتى.
وحين وجد الأستاذ توفيق ان الجميع مشغولين عن الجرسون بالحديث الدائر فيما بينهم أشار للرجل ان يتحلى ببعض الذوق والدم وان ينتظر بعض الوقت فالدنيا لا تطير ورفع الجرسون كتفيه فى تسليم غير مقتنع وانسحب الى الركن غير بعيد أبدا ووقف يتطلع إلى الجلسة الى ساعته ويرفع أكتافه أحيانا ينفخ بصوت مزعج كمواء الخنازير والى ان حل سكون ما قبل ان ينتهى كان الجرسون كان غرس نفسه بصعوبة بينهم الخساب أصلنا خلاص ماسين ولم ينتظر إجابة أو الإشارة مد يده وتناول الأوراق الموضوعة فى الكوب الفارغ ومضى يحسب كمسه وكمسه أسرة. ستين ونص مائة وواحد تلتمية ربعمية واتنين وتسعة وعسرة يبقى كله خمسمية واسرين.
بدا الرقم مزعجا ومهولا للأستاذ توفيق حتى وهو لن يشارك فيه إلا بأقل القليل ولكنه حين وزعه بعملية حسابية طائرة على الحاضرين ووجد ان الشخص سينوبه حوالى الخمسين قرشا هدأ جرمه بعض الشيء وأدار عينيه فى وجوه الحاضرين. ولكنه لم يجد وجوههم انزعاجا ولا احتفالا كبيرا بكمية الحساب أو ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا واقفا بعد ان انتهى من جمعه وإضافاته مسندا الأوراق فوق قمة كرشه، فى حالة انتظار مؤدب وان كان واضحا انه أدب صناعى لا اثر للطبيعة فيه.
وكان مفروضا طبعا ان يبدأ الجالسون يتحركون، وان يمد كل منهم يده فى جيبه ويصر على الحساب كله مقسما باغلظ الإيمان، أو حتى على أقل القليل يصر على دفع حسابه هو على الطريقة الإنجليزية مثلا.. ولكن، وهذا هو العجب، لم يتحرك منهم أحد، أو يتنحنح أو يبدى اقل بادرة تدل على ان فى نيته ان يدفع الحساب أو يمد يده الى جيبه بأى حال ولو حتى لاستخراج منديل
الأستاذ توفيق هو الآخر، سرح وسهم، وانتابه ذلك الذهول الفنى الحاد الذى ينتابه فى بعض المناسبات وليس أنسب من هذه المناسبة للذهول الفنى الحاد. وهكذا راح يلعب عصاه ذات اليمين وذات اليسار، ويحدق فى وجوه الحاضرين وكأنه يحدق فى اللاشئ واللانهاية واللامعقول، أو يقول كلمة، من رابع المستحيل.
بل حدث ما هو أكثر. الجرسون اللعين تسمر أمام الأستاذ وأبى أن يتلحلح، ومضى يدعى مسح الترابيزة الممسوحة مرارا، وبركن عينه يختص توفيق الحكيم بنظراته الجرسونية المعروفة التى معناها بالعربى الفصيح: أيدك بقى على الحساب.
وهكذا، من هذه النظرات الجرسونية، ومن جمود نظرات الآخرين ومن أشياء مجهولة كثيرة رانت على الجو أدرك توفيق الحكيم كنه الفاجعة. انه مطالب بدفع هذا الحساب كله، سواء أراد أم لم يرد هو الذى ينتابه الأرق وتأنيب الضمير إذا اخطأ وعزم على صديق فى مكتبه بفنجال قهوة ودفع لفراش مجلس الفنون قرشين ثمنا له.
وانتابه غيظ جامح لا قبل له به لقد كان مستعدا ان يدفع ثمن قهوته مثلا أو حتى لو احتاج الأمر ان يدفع ثمن المشروب الأخر الذى طلبه ذلك القادم الأول، القادم الذى لا يذكر الآن أبدا انه يعرفه أو قابله أو كانت له به صلة. أما ان يتحمل حساب أناس لا يعرفهم ولن يعرفهم وليس به ادنى رغبة أو حاجة لمعرفتهم لمجرد انهم جلسوا فى المكان الذى يجلس فيه، فشئ يفجر الدم فى الشرايين.. لقد كان فى الطريق الى الخروج حين توافدوا ولم يقعد معهم أكثر من عشر دقائق، أيدفع فى سبيلها خمسة جنيهات "إسرين" قرشا فى حين أنه لم يطلب لأى منهم شيئا، هم الذين طلبوا بأنفسهم ولأنفسهم، فما ذنبه هو وأية ساعة نحس تلك التى جعلته يطأ بقدميه عتبة شبرد فى تلك الليلاء.
اغتاظ الأستاذ توفيق الحكيم جدا. وأحس بالحنق يكتم أنفاسه حتى كاد يصرخ بأعلى صوته ومن هول ما يحس به: والله مانا دافع واللى معاكم اعملوه ولكنه آثر الحسنى والتروى، واعتقد أنه قابل الأمر بتشاؤم سريع لا مبرر له واعتقد أنه لأنه يخاف دائما من عفريت الحساب سيطلع له، فى حين أنه لابد ان يتحرك أى واحد منهم أن آجلا أو عاجلا أو يتحركوا كلهم ويمدوا أيديهم إلى جيوبهم وينتهى الموقف نهاية متفائلة سعيدة ولا يصبح هناك محل لما تصوره من مأساة.
ولكن المشهد طال وزاد عن حده، والجرسون واقف أمامه مباشرة، والجالسون ينظرون فيما حولهم بهبل واستعباط يتجاهلون وجوده كلية لإحساسهم أنه مطالب وحده بالدفع، ويقينه التام من أن شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث، حتى لو شنقوه لن يدفع أبدا مثل ذلك الحساب.
والوضع هكذا يطول، ويمتد ويبقى لا حل له، ولا بادرة بحل، ومع هذا فهو مستمر، وكأن ثمة قوة كونية غير منظورة قد أوقفت الزمن عند هذه اللحظة الحرجة وأبت أن تحركه قيد أنملة.. وبدأ الأستاذ توفيق يختنق، أحس بالغيظ القاهر الشديد يضع أيد قاسية حديدية تلتف حول عنقه وتمضى تضغط وتضغط وهو عاجز تماما عن مقامتها أو الكف عن الغيظ، الجرسون أمامه بعينيه المطالبتين فى إلحاح اصبح وقحا مصرا خارج عن حدود الأدب والجالسون متشاغلون والزمن ثابت لا يتحرك.
والموقف يتأزم، وهو يختنق ويتفصد جسده عرقا ويختنق، ويتأزم وينتفض محاولا أن يقف أو يجرى أو يتحرك، وقوى كأنها نفس القوى الكونية تبقيه فى مكانه وتشله تماما عن إبداء أى حركة، وأخيرا جدا وبما يشبه المعجزة الشديدة الصعوبة وجد نفسه يرى، وكأن ما رآه ظلاما لا أثر فيه لشبرد أو الجرسون أو الجالسون، والأهم من هذا لا حساب بالمرة فيه.
وحين أوقد النور وجد نفسه فوق فراشه فى حجرة النوم، ولكنه أبدا لم يطمئن إلا بعد أن قام وتحرك، أشعل النور وأطفأه مرات ليتأكد أن ما حدث لم يحدث أبدا، وأنه كان حلما بل كان كابوسا مخيفا لا يدرى سببه ولا علة مجيئه على تلك الصورة الخانقة.
وحين أدرك دون ادنى شك انه كان حقيقة مجرد كابوس أحس براحة حقيقية متصاعدة من أعماق صدره وانتابه فرح غامر وكأنه أخذ البراءة لتوه أو نجا من حادث خطير.
وحتى لا يتكرر الكابوس استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. وقرأ آية الكرسى، وغير الجنب الذى كان ينام عليه، وعدل من وضع المخدة حتى تريح رأسه، ثم ابتسم ابتسامة سعادة غامرة ونشوة. وفى براءة الأطفال نام».
«صعدت راكبة جديدة إلى عربة الأتوبيس من باب الدرجة الأولى ولم تكن الصاعدة من راكبات الدرجة الأولى. فكانت ترتدى جلبابا أسود طويلا، وتلفع طفلا على كتفيها بينما طفلها الاخر مستميت على ذيلها استماتة من لو تركه لمات فى الحال. صعدت المرأة، وظلت تزق وتنزق، وتندفع وتدفع، بينما طفلها راكب الكتف يصرخ، وطفلها ماسك الثوب يسبها ويلعنها ويبكى حتى بلغت منتصف الدرجة الأولى ثم لم تستطع بعد هذا حراكا. والعادة جرت أن ركاب الدرجة الأولى لا يكادون يضبطون واقعة كهذه حتى تتنبه فيهم غريزة الكمسارية الطبقية فيتطوع أكثر من واحد منهم بقوله: دى درجة أولى يا ست. خشى جوه. وقد تكون غريزة كهذه قد تنبهت عند أكثر من واحد منهم، ولكن الحق يقال لم ينطق أحد بشيء مما دار بخاطره. وطبعا لم يكن هذا لأن الراكبة الصاعدة جميلة أو ذات سمنة ومؤهلات أخرى، لا شيء من هذا أبدا. كل ما كان يميزها عن غيرها من مرتديات السواد ولافعات الأطفال أن أنفها - دونا عن بقية وجهها - كان أحمر شديد الحمرة، هكذا لله فى لله، وكأنها ولدت به. لم تكن جميلة ليصرفوا النظر عن تنبيهها، ولكن ربما صرفوا النظر لأنهم عذروها حين وجدوها حائرة بولديها، وربما أحسوا أنها ليست فى حاجة إلى تنبيه وأدركوا من تلقاء أنفسهم أنها مضطربة وشاعرة بالذنب لوجودها فى درجة غير درجتها. أو لعل السبب أنهم تركوا تنبيهها إلى الكمسارى الحقيقى حين يجيء. وجاء الكمسارى. أو بالأصح نفد الكمسارى فجأة من بين أجساد الركاب المتلاحمة وكأنه السهم الموجه، مع أنه كان سمينا وأصلع ويرتدى بيريه. ربما خفة دمه هى التى سهلت عليه مأمورية اختراقه كتل الركاب، إذ كان واضحا أنه من الصنف اللى واحدة والتانية ويدخل معك فى قافية لا أول لها ولا آخر. ولكن ملامحه كانت تنطق بأنه فى تلك اللحظة ليس على استعداد للدخول فى أى هزل، كان فى منتهى القرف وروحه بلغت، أو حالا ستبلغ، الحلقوم. وما كاد الرجل - بعد رحلة الدرجة الثانية الخطرة - يلتقط أنفاسه ويلم نفسه ويدق على لوحته الخشبية بقلمه ويبدأ فى مهمته حتى تنبه إلى وجود المرأة..
والعجيب أنه لم يفتح لها كالعادة محضرا ويأمرها قبل أى شيء بمغادرة الدرجة الأولى فى الحال. لم يفعل شيئا من هذا. دق على اللوحة مرة أخرى وقال: تذاكر. وتوجه بالكلمة إلى المرأة دون غيرها من الركاب، بل قبل أى من الركاب. وكأنما هى الأخرى كانت تتوقع هذا، إذ قبل أن يكرر النداء كانت قد فردت كفها اليمنى ومدتها إليه. ودون أن يلتقط الكمسارى ما فى يدها أو يتفحصه عرف أنه نصف قرش، وعرف أنها تريد تذكرة درجة ثانية، وعرف أيضا أن لابد من قرش كامل لقطع التذكرة. عرف كل هذا فى لمحة عبقرية خاطفة وكذلك عرفه ركاب الدرجة الأولى. بل المرأة هى الأخرى عرفته. وقبل أن يتكلم أحد قالت بلهجة صادقة ليس فيها شائبة كذب واحدة: والنبى يا خويا ما معايا غيره. ولوى ركاب الدرجة الأولى جميعا أعناقهم ضيقا، واستعدوا لجدل عنيف سخيف آخر سوف يبدأ حالا، وضجة أخرى لن تلبث أن تتصاعد، ولابد أن الأمر لن ينتهى إلا فى قسم شرطة.
ولوى الكمسارى رقبته اشمئناطا كالمحاضر الذى فلق رأسه طوال اليوم، بل طوال العمر، يعيد نفس الدرس، وقال بهدوء ما قبل العاصفة: يا ستى عايزين تعريفة كمان.
وقال هذا ورفع الصفارة فى اتجاه فمه استعدادا لوقف العربة.. وحسما لأى نقاش قد ينشب. أما المرأة فلم تلو عنقها ولم تجادل ولم تحاور، بل حتى لم تنظر هنا وهناك أو استعرضت ركاب الدرجة الأولى الأفندية وانتقت أحدهم. ببساطة جدا مدت كفها المفتوحة بالنصف قرش إلى الأفندى الواقف بجوارها، من سكات، ودون أن تتكلم أو تطلب، وفى ملامحها ثقة ما بعدها ثقة، أنه لن يخذلها وكأنها تعرفه من سنين، وكأنها ركبت العربة معه. ثقة لا يفترض الإنسان وجودها إلا فى قريب أو صديق. ثقة لا يدرى أحد كيف تنشأ ولا من أين تجيء. ومن سكات أيضا، وبلا أى استنكار، وكأنه فعلا قريب أو صديق مد الرجل أصابعه فى جيب سترته البيضاء "الشاركسكين" وأخرج نصف قرش، ووضعه بكل أدب فى الكف المفتوحة الممدودة. وبكل ثبات انتقلت الكف من قرب الأفندى إلى قرب الكمسارى. وخفض الكمسارى الصفارة وتناول القرش ولم تقف العربة».([3])
5 - نداهة الكتابة.
تستمد قصص إدريس قابليتها المستمرة للفهم والتأويل من طبيعة العلاقات القائمة بين عناصر النصوص نفسها، وما تشير إليه هذه العلاقات من قيم إنسانية، إذ يوجد فى كل قصة منها عناصر أساسية يشترك جميع القراء فى إدراكها، وتحتوى فى الوقت نفسه على عناصر أخرى صالحة للتصرف فيها وإعادة تنظيمها، حتى تتسق مع توجهاتهم الفكرية الخاصة وأرصدتهم المعرفية، من أجل ذلك اختلفت القراءات النقدية لها إلى حد التناقض، وساد من هذه القراءات النمط الذاتى، إما بسعيه إلى تأكيد معرفة سابقة، لا الحصول على أخرى جديدة تنتمى للنص ذاته، وإما بنظامه القرائى المفكك الذى يقتصر على جزئيات، مما قاد إلى اشتباك مزعج مع النقاد من جانب، وعدم استفادة إدريس بالنقد من جانب آخر.
تناول بعض النقاد قصص إدريس من مدخل الشبه بينها وبين قصص غربية أو مسرحيات وسير ذاتية، كالدكتور سيد حامد النساج حين ربط بين المضمون التقدمى فى قصة (جمهورية فرحات) وموضوع "نيو هارمونى" للمفكر الإنجليزى روبرت أوين، ورأى أن إدريس "تأثر بالتجربة الواقعية العملية التى قام بها أحد أعلام الفكر الاشتراكى، وحاول أن ينقل تلك التجربة لتطبيقها على الواقع المصرى حسبما تقتضيه الظروف الخاصة بهذا المجتمع"([4])
ولم يكن دافع د. النساج لهذا الربط سوى تعزيز اختياره لأن تكون قصص إدريس، حتى عام 1961، النموذج الأعلى لما أطلق عليه اتجاه الواقعية الشمولية، وحكمه بأن هذه القصص "تكشف عن إيمان بالتطور والتقدم، بأن القوى المادية هى التى تتحكم فى حركة التاريخ، وهى التى تؤدى إلى الصراع بين الأفراد والجماعات".([5])
لكن محاولة الربط سقطت مع نتيجتها، والحكم المستخلص منها بالضرورة، لقول الناقد "ولما كان التاريخ الحقيقى لهذه القصة هو 1956 فإنها تدل دلالة قاطعة على دور هذا الفنان فى المجتمع، فقد استشرف المجتمع الأمثل والنظام الأكثر تقدما الذى يجب أن يكون".([6])
فبعيدا عن الخطأ المعرفى فى تاريخ نشر القصة،([7]) تؤكد هذه المحاولة عبث التعرض للمشابهات بين النصوص المختلفة لغة بدون دراسة علمية مقارنة، لأن نتيجتها - مهما خلصت النيات وحسنت - ليست فى صالح المبدع، نظرا لتأويل المتلقى العادى للخطاب النقدى الذى يضع جميع أنواع المشابهات فى سلة واحدة، واعتباره الإشارة إلى التشابه - تلقائيا - سرقة أدبية أو تقليدا، حتى لو قرر الناقد فى حالة إدريس أنه "لم يكن ناقلا عن شتاينبك ولا مقلدا لشيخوف وإنما صدرت رؤيته وأشكاله الفنية عن موقفه الخاص من تناقضات واقعه".([8])
تنوعت استعارات يوسف إدريس، التى أقر بها، من شكل المنجز القصصى العالمى، فالعصر يتغير وكذلك القراء، ولابد أن.. "نخلق لهم مادة الفن من صميم ذلك العصر بكل ما يحفل به من متناقضات وعنف ولا معقول وعبث.. إنما علينا أن نطوع هذا جميعه ليتحول من الغاية التى يقصد إليها الفنان الأوروبى بهذه الأعمال إلى وسيلة لدينا لكى ننقل إلى القاريء بأعمق ما يكون وبأحدث ما نستطيع إحساسنا التقدمى المنتمى الجديد".([9])
كان التغير المستمر فى الشكل الفنى لدى إدريس إذن معادلا لعملية التغيير فى العالم وفى المجتمع المصرى، كأنه أراد أن يجعل إبداعه فى مستوى ممارسة الإنسان المصرى لقدره الاجتماعى.
أما الموضوع فقد كان الواقع المحلى أخصب من أن يضن به على الأدباء، وهو قد دأب على استعارة الأفكار الشعبية من المنجز المصرى فى الحكاية والمثل والنكتة، ثم الانطلاق بها إلى مدى أكثر بُعدا وعمقا بحيث تبدو عنده مهذبة أصيلة ومبتكرة من جانب، وشديدة الدلالة على تصوره الخاص للقصة من جانب آخر.
كان قلق التأثر مركزيا فى وعى إدريس، وكافح القلق بابتكار رؤى تنقيحية تنحرف بطرق مختلفة عن رؤى الآخرين، لكن أهم هذه الطرق ما يدعوه "هارولد بلوم" التكامل التضادى والسمو المضاد.([10]) ويمكن اعتبار تأثر يوسف إدريس بمحمد يسرى أحمد الأكثر أهمية، نظرا لوقوعه فى الفترة التكوينية، وسنلحظ التأثر أولا على مستوى العناوين، فليسرى أحمد قصص: حياة النمل، مارد الأعماق، شاطئ الغرباء، أول الطريق، وطابور خامس.
ولإدريس قصص: الرجل والنملة، المارد، أنشودة الغرباء، نهاية الطريق، والطابور.([11])
فإذا تأملنا النصوص نفسها سنجد التشابه بينها ينحو إلى أن يكون - لدى إدريس - انحرافا يهدف إلى استكمال شروط قصص يسرى أحمد بشكل تضادى وداخل سياق مختلف.
ولدت اللحظة القصصية فى قصتى (شاطئ الغرباء) و(أنشودة الغرباء)، على سبيل المثال، فى إطار واحد، هو إطار الجماعة المغيبة العقل بإرادتها، إما جهلاً بغاية وجودها، وإما يأساً من تلك الغاية.
ثم تقود التفاصيل المختلفة فى القصتين إلى نهاية واحدة، هى التحام السارد بجماعة الغرباء، غير أن نهاية إدريس تمثل التكامل المضاد لنهاية يسرى، فسارد الأخير ينتبه إلى زيف ما يحيط به، فيخرج من الحانة إلى الطريق، حيث غرباء لا يرون منه سوى آدمية تلتقى بآدميتهم فى عالم إنسانى رحب لا يعترف بالغربة..
"خيل إلى أننى فرد فى أسرة كبيرة، شئ ما فى تلك العجلة الهائلة التى تدور وتدور منذ الأزل لتحقق بوجودى معنى كبيراً ضخماً"
لكن سارد إدريس يتشبث بالزيف، ويظل هارباً مع جماعته بين أوهام السعادة التى تمنحها المخدرات، حتى بعدما ألقى القبض عليهم جميعاً.. "وانفجر الجمع الغريب.. رقص الشيخ شبراوى وصفق حسن بك وقهقه المعلم عمر، وتمايل الأسطى حنفى وانطلقنا فى غناء مرح صاخب. إنها الأعماق حقاً.. ولكننا غرباء بعيدون عن صراع القطيع وحريق الرغبات".
جد يوسف إدريس – حسب ملاحظة مهمة للدكتور سيد النساج – فى اقتناص مكانة يسرى أحمد واستراق دوره، ثم تجاوز فنه بكثير.([12]) نستطيع أن نعتبر الاقتناص – والاستراق – حركة "باتجاه سمو نقيض وشخصانى".([13])
يمثل السمو المضاد ردة فعل على سمو النظير المكافئ، فالمبدع اللاحق فى أثناء فراره من تحجيم موهبته قد يفتح ذاته على مصراعيها أمام ما يراه قوة فى كتابة الآخر، مع إيمانه بأنها قوة لا تنتمى إلى أحد بعينه، بل إلى مدار كينونة تقع خارج الجميع، لذلك يوطد علاقة كتابته بالكتابة الأخرى، هادفاً فى الحقيقة إلى إزاحة فرادة النظير بفرادته.
توجد علاقة قوية بين قصص إدريس المجهولة وقصص محمد يسرى أحمد، المجهولة أيضا لانقطاعه عن الكتابة منذ الستينيات، وتصلح قصة (قط ضال) لإدريس شاهداً على تلك العلاقة بقصص يسرى عموما، وخصوصا بقصة (طابور خامس).
الموضوع فى القصتين حال النفس البشرية حين تصبح دمية فى يد الفقر، والشخصية فى كل قصة شاب ريفى يعيش فى القاهرة، للدراسة فى (قط ضال)، وللعمل فى (طابور خامس)، تبهر الاثنين أضواء المدينة ورفاهية بعض أهلها، ويسيطر عليهما الشعور بالذل والضآلة، فلا يجدان مخرجاً سوى الخيال الخادع.
استسلمت الشخصيتان للفقر وهو يلهو بإنسانيتهما، مما أدى إلى الانفصال عن الجماعة الخاصة وعدم الشعور بشقائها، وعمق يسرى أحمد هذه النتيجة، بأن جعل الشعور المتوهم بالعزة والثراء يحرض الشخصية على البطش بالفقراء وإذلالهم، ثم تأتى النهاية المشرقة بتغير الوعى وإدراك الشاب أنه والفقراء من نبات شقاء واحد، وأن أوهامه خدعته حتى أصبح خائناً يفتك بإخوته كأى حاقد فى طابور خامس ملعون. أما إدريس فقد أراد لقصته نهاية مضادة، فجعل استفحال الوهم يقضى على الشخصية، لكن رؤيته التنقيحية لم تمنحه سمواً مغايراً، بل أكدت ارتباط نصه بمرجعيته فى قصة يسرى أحمد المنشورة فى الصفحات التالية.
«سبعة جنيهات ونصف كانت ترقد فى جيبه فى ذلك المساء أبية، شامخة، مترفعة وللمرة الألف، عاد يمد يده الفلقة المرتعشة يتحسس بها الورق اللامع المسحور، ثم تمتم هامساً: "حقاً يا لها من ثروة!".
وفى القاهرة الكبيرة، التى استذلت أدميته وأصرت على أن تتجاهله طوال هذه السنين العجاف، والتى تشمخ فيها أربعون مئذنة نحو السماء وكأنها تسخر من ذلة الجحور التى لا تكاد قممها تصافح أرض الطريق، والتى يعيش هو فى واحدة منها.. كان من المستحيل على كيانه كله أن يدع هذه الهمسة تضيع منه رخيصة، ككل شئ فى حياته مع ذرات الظلام التى كانت قد بدأت تنعقد فوق الطرقات.
لقد تلقفت كتفاه الهمسة وكانت الأيام قد أحنتهما فوق مكتب حقير ضال فى ركن شركة من هذه الشركات التى تتناثر فى أرجاء المدينة... تلقفتها فى حنين الغريب إلى أوطان قديمة ضائعة، فاستقامتها عندئذ فى تحد وثقة وكبرياء.. ثم أحست بها قدماه أيضاً نفس الأقدام التى اعتادت أن تطوف به فى ذلة المكدود المحروم على أبواب الحياة المغلقة فى وجهه دائماً، فمضت فى هذه اللحظة تقرع أرض الطريق فى قوة وعزم وتشف.. وكان على عينيه هى الأخرى أن تمسكها قبل أن تضيع إلى الأبد بعد ذلك، ففعلت وبها فرحة العارى بجلباب ممزق، ومضت تسكبها على كل ما حولها من موائد النور وولائم اللذة، وصفوف المنازل الشاهقة المنتصبة كأشباح الأساطير، فى نظرات تنبض بألف أمل، وتلتمع بألف لون وتتقاتل فى شعاعاتها أسراب من الجن الطائش الأرعن الذى اعتاد دائماً أن يسكن أحلام المحرومين.
شئ واحد هو الذى مضى فى وسط هذه العزة كلها يسدل على هنائه ستاراً داكناً دقيقاً.. كان يستطيع حقاً أن يكون فى جيبه فى تلك اللحظة عشرة جنيهات.. العشرة كلها التى جاد عليه بها السيد الكبير مدير الشركة فى هذا الصباح لا لشئ إلا أن ابنته الغالية المترفة قد تزوجت بالأمس من تافه بليد مترف مثلها، وكأنما كان هذا الزواج فى حاجة إلى أن تساق من أجله الدعوات إلى قمم السماء، فمضى الأب السمين المكتنز الذى اعتاد أن يشترى بذهبه كل شئ، يشتريها هى الأخرى رخيصة سهلة من الأفواه الجائعة المكدودة.. أفواه سبعة وعشرين محروماً يعملون عنده، وكان كل الذى دفعه هو العشرة جنيهات العريضة اللامعة لكل منهم!.
عشرة جنيهات!. أجل.. وكنه آثر أن يقتطع منها جنيهين ونصف إلى أمه التى تعيش فى القرية، والتى تمنت أن تنالها منه منذ ثلاث سنوات طوال.. وكان هو يعلم أنها تريدها لتصلح بها حائط القبر الذى يرقد فيه أبيه بعد أن هدمته الأمطار، ولكنه كان دائماً، وفى مطلع كل شهر يتعلل أمامها بأن الجنيهات التسعة التى تلقيها إليه الحياة مبللة بالعرق والدموع، لم تكن لتسمح له، وفى وسط هذه المدينة التى تمضى فيها الحياة كوحش جائع نهم، بأن يفكر طويلاً فى الموتى، والعظام البيضاء العارية، وجدار الطين التعس كحظه والذى ترجمه شياطين الأرض أو خرافه السماء.
لم تكن الحياة حقاً لتسمح له بأن يقف ولو للحطة واحدة يقارن فيها حظوظ الأحياء بحظوظ الموتى.. أو ليدرك أنه تعس مستباح، أكثر تعاسة حتى من العظام المستباحة العارية.. وكان السعى وراء لقمة العيش قد أحال مجرد التفكير فى أى شئ إلى نوع من الترف الذى لا يقدر عليه.. ولكنه الليلة، وفى جيبه هذه الثروة كلها، أحس بالقدرة على أن يفكر كالسادة ويتفلسف كالآلهة ويقارن بين نفسه وبين حائط القبر المهدم وأن يتمنى أيضاً لو كان قد استطاع أن يستبقى لنفسه ما أرسله لأمه ليحيا به، ولو لليلة واحدة، آدمياً، سيداً فى المدينة الصاخبة المجنونة.
وأشرف فى النهاية على الميدان الكبير الذى اعتاد أن يذرعه كل مساء فى عودته إلى جحره البعيد المتهالك.. ووقف على حافته، وفى أعماقه السخط والثورة والوجيعة، ينتظر مرور رتل من السيارات اللامعة ليعبر الطريق، وعندئذ لم يدر لماذا امتدت يده فى حركة شامتة سريعة تتحسس جيبه المنتفخ.. ربما لأنه أحس للحظة خاطفة بأن الفرصة لم تفلت بعد وأنه، بهذه الجنيهات التى تضئ ظلام جيبه، ليس غريباً هذه المرة على إشراقة الدفء التى تسطع فى مصابيح الميدان القوية المتوهجة، أو هتاف الحياة وهو يبدو على الوجوه المرحة ويختلط بدفء السيقان الناعمة التى تمضى من حوله كالحلم، وأنه يستطيع حقاً أن يستحم فى كل هذا النور، وأن يعتصر كل هذه السيقان، وأن يعيش سيداً يشترى الدعوات هو الآخر لأبيه الميت تماماً كما يشتريها السادة من هذه النفايات الآدمية العائشة على جانب الطريق تتسول حياتها الرخيصة السوداء..
وأثقله هذا الإحساس فمضى يقطع الطريق متمايلاً كثمل عربيد..
وعبر الطريق..
وطالعه الشحاذ المسكين الذى يعرفه منذ سنوات واقفاً فى ركنه المعهود، فلم يتردد.. كان كأنما يريد أن ينتقم من عدو مجهول.. وأحس وهو يضع قرشاً فى يده، ويتلقى دعاءه الخافت، وكأنه قد استحال إلى عملاق ضخم يجلس مع مدير شركته إلى مائدة واحدة حول كؤوس الشراب، وأنه قد رفع كأسه ليقرعه بكأس السيد الكبير هامساً به وهما يبدأن الشراب: "هيا.. فى صحة العبيد".
ثلاث ساعات من الليل قد مضت بعد ذلك فى ضحكة طويلة ساخرة راثية، وهى ترقب الذليل المكدود – الحطام الذى أقبل من الظلام، من فوق مكتب ضائع فى ركن شركة ما – وقد بهره الضوء فأغفى ليفسح الطريق لمولد سيد جديد ثمل.. لمحروم موتور يمضى بفكرة واحدة حاقدة: أن يعيش سيداً، يشترى الدعوات ويغزو المدينة، وينسج من أعماق الآدميين، من كل صعلوك لا يملك ما يملكه هو... عرشاً يجلس عليه ويصيح من فوقه فقره وقدره وكل الظلام الذى ينتظره فى الغد عندما تذوب جنيهاته المعدودة ويعود من جديد إلى حظه القديم المكفهر..
أجل، ضحك الليل طويلاً بعد ذلك، وهو يرقب المتطفل على موائد السادة يشترى صفقة العز الأولى بخمسة قروش كاملة دفعها فى سخاء متعجرف للظهر الذليل الذى انحنى فوق حذائه القديم الباهت يمسح عنه الوحل والتراب.. ضحك الليل، وفغر فاه مساح الأحذية المسكين الذى تلقى القروش السخية فى دهشة وعجب، بينما مضى هو، من فوق المقعد الدائر المرتفع يطالع فى المرآة المعلقة أمامه وجهه القديم وبه يقف، المرآة، خاتماً مبهوراً يراجع نفسه قبل أن يخطو إلى المسرح للمرة الأولى.
وفوق خشبة المسرح الصاخب الممتد، نسى سريعاً أمر الحذاء القديم الذى أضحى لامعاً مصقولاً، وذلك الأجر السخى الذى جاد به على رفيق مكدود لابد أنه قد جرب الجوع واكتوى به مثلما جربه هو تماماً واكتوى به لأيام طويلة، ولم يعد يذكر غير شئ واحد أحس معه بنشوة دافقة وإحساس طاغ عجيب: لقد أستذل بذهبه، ولعشرة دقائق مثلاً، وجود آدمى مثله.. رجلاً ما يمثل حياة بأكملها ودنيا صاخبة تعمر بالنبضات والعلائق والآمال وهى تتوقف عند أقدامه تنفض الأقذار عن حذائه، وكأنما لتحمل عنه سواد ذلته هو، وهو منحنى كل صباح، وبيده قطعة من قماش مبلل فوق نفس ذلك الحذاء الرخيص يحاول بها عبثاً أن يسكب على ظلامه ولو شعاعاً باهتاً من النور.
وكان إحساساً ساخناً ملتهباً.. تفتحت له نفسه وهى تخفق وتضطرب كخفاش جائع عرف لذة الدم على شفتيه لأول مرة فمضى بعد ذلك يستزيد من الضحايا، ويفتش عنها فى كل مكان، إحساساً مشى به بعد ذلك وكأنه فى خدر حلم عاصف إلى المطعم الفاخر الذى يغرق فى النور، وإلى المقعد المريح فى عربة سائق عجوز، وإلى المرقص الدافئ المعطر الذى تئن فيه موسيقى ناعمة مترفة هى الأخرى، بل وإلى كل سوق فى المدينة تعمر باللذة وبالعبيد.. وبالعزة التى يمكن أن تشترى بالثمن التافه القليل.. من هناك. من فوق المقاعد اللينة. وتحت نفس الضوء الذى يسطع على الوجوه وقد أثقلت الترف والدعة، يجلس إليها جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف، وهو الذى اعتاد أن يرقبها من مكانه كل صباح فى خوف واستكانة وقد نسج العنكبوت المخيم على مكتبه الصغير بينه وبينها ستاراً أسوداً كئيباً.
ورويداً رويداً خيل إليه أنه فى كرنفال بهيج، وأنه يلبس ثياب الملوك، ونسى من جديد حذاءه القديم، ومعطفه البالى الرخيص، واستثاره العدو المجهول الرابض بين جوانحه، فمضى فى خدره يأم ويصيح فى وجه خادم المطعم العجوز، وسائق العربة المتعب المكدود، وساقى الحانة العابس الذليل، وهو ينثر عليهم جميعاً ذهبه فى سخاء حانق موتور، وكأنه يتحداهم به، ويهمس فى وجوههم بتيه مستفزاً وكأنه يقول: "سيد سليط متعجرف. ولكن ما الذى تستطيعونه؟ أن ترفضوا هذه القروش. لقمة العيش التى أجود بها عليكم.. وعلى أطفالكم المساكين.." وكان هو يعلم تماماً أنهم لن يستطيعوا شيئاً.
ومضت حافظة نقوده تضمر وتتخاذل وتنكمش، بينما راح إحساس القوة والبطش والعزة ينمو فى أعماقه مع كل خطوة، وينتفخ بين جنبيه مع كل صيحة يرسلها، ويتكور ضاغطاً على كل شئ فى جمجمته وكأنه كرة من مطاط رقيق تنفخ فيها أنفاس شيطان نزق مفتون.
وتلقفته مركبة "الأتوبيس" فى النهاية، وقد فرغت حافظة نقوده تماماً إلا من ذلك القرش الواحد الذى أدخره من هوس الليلة الطويلة ليحمله إلى منزله البعيد المظلم سعيداً.. وراضياً وسيداً كبيراً!. ونظر حوله.. وجال بعينيه فى المركبة المزدحمة الصاخبة، وخيل إليه عندئذ أن جميع من حوله إنما ينظرون إليه فى تربص وتنمر، ويتآمرون عليه، ويسعون بمعنى وجودهم إلى جواره بعرقهم وتبغهم وصياحهم وأجسادهم المترنحة المتعبة، إلى الهبوط به من فوق القمة العالية التى أشرف عليها الليلة.. إلى سرقة كنزه الثمين الذى أنفق فى الحصول عليه سبعة جنيهات ونصف. فانكمش فى مكانه وكالنعامة المذعورة أغلق عينيه، ومضى يفر من واقعه الذى راح يتمايل كرقص الجن كلما اهتزت من تحته المركبة الصدئة القديمة، ومن رائحة العرق والتبغ التى تطوف حوله فى إصرار شعاع من الشمس يطرقان جفنه نائم يأبى أن يستجيب ليقظة الحياة من طرقعة "الكمسارى" وهو يضرب بقلمه القصير قطعة الخشب التى بيده ويخطو فى جهد ومشقة يطلب القروش، ويلعن معها حظه وقدره.
يفر من كل هذا إلى الأجواء المعذبة المشحونة التى عاشها منذ ساعات والتى كان عليه فى تلك اللحظة أن يدافع عنها ضد هؤلاء الغزاه، وأن يحنو عليها فى خوف ولهفة وكأنه بخيل يحنو على ثروة العمر كله.
وهكذا راح من جديد يستعرض أحداث الليلة كالقائد المنتصر ويجتر سويعات المتعة التى عاشها ويقف طويلاً عند كل مشهد حتى الأخير منها.
مشهد الساقى الذى تقدم إليه فى الحانة ليقبض الحساب فأسقط أمامه عمداً قطعة من الفضة وقد استبدت به رغبة شهية حمراء فى أن يرى الساقى وهو يركع عند أقدامه يفتش تحت المائدة عن الفضة.. فضته هو؟ ولذله أن يستعيد إحساسه فى تلك اللحظة وهو ينظر طويلاً بعد ذلك إلى الساقى وقد رفع إليه وجهه مكسواً بالعرق وفى يده القطعة الفضية يقدمها إليه بعد أن عثر عليها.. ثم هو يهمس به فى النهاية وفى صوته أنفة متسلطة آمرة: "خذها.. إنها لك" بالرغم من أنها كانت آخر ما فى جيبه من نقود.
ولكنه كان سعيداً.. راضياً.. وسيداً كبيراً.. وكان من الممكن أن تستطرد به الأفكار، وتوغل فى فراره لولا أن عادت الصدفة فردته إلى الزحام الغارق فيه عند ما وقع بصره فجأة على فتاة كانت قد صعدت إلى المركبة فى تلك اللحظة وقد مضت تندس فى الزحام وتحاول أن تجد مكاناً بين الجموع المتراصة.. كانت فتاة شاحبة جميلة ذابلة، وكان التعب والإرهاق يتنفس فى عينيها وينساب منهما فى نظرات متكسرة فاترة.. ولم يكن هو فى حاجة إلى وقت طويل ليدرك من تكون من ملابسها الرخيصة، وأظافرها التى غاب الطلاء عن أطرافها ومن حقيبة يدها القديمة الكالحة.
وعنفت به نفسه وكأنها تثب فى وحشية سريعة منقضة على فأر مستضعف مقهور... همست: "هيا.. إنها لن تكون غير عاملة فى إحدى المحال التجارية.. واحدة كخادم المطعم أو ساقى الحانة.. وصيد ثمين تستطيع أن تتوج به بضاعة العز الذى تفتش عنه فى جنون ولهفة.
وكانت همسة جريئة واضحة أحس معها بالدم يتدفق فى عروقه كلسان من لهب.. حقاً كيف نسى فى سعيه الطويل صفقة المرأة التى يمكن أن يشتريها لليلة كاملة.. الجسد الآدمى، بكل إنسانيته وكرامته وكبريائه، وهو يسترخى أمامه على الفراش مستسلماً، واهناً، منكسراً، وقد استحال فى يده إلى قبضة من تراب رخيص يبعثرها هو كما يشاء وعاد ينظر إلى الفتاه فى كبرياء جشع وهو يتخيل وجوده فوق نفس القمة التى يجلس عليها مدير الشركة الذى لم تخل ساعة واحدة من حياته من امرأة يشتريها ويلهو بها أو يساومها، وبدأ له الأمر سهلاً جداً، وأوغل به الخيال الشرس فراح يرسم للمسكينة اللاهثة صاحبة اليد الخشنة والحقيبة التى ذهب العرق بلونها، كل خطوة الصورة التى يشتهيها: أنها من ذلك الصنف الذى يخرج إلى الطرقات ساعياً وراء لقمة العيش تملأ بها فم أب متقاعد سكير، وأخت تبصق دماً من صدر أنهكته العلة وحطمه الجوع، وأخ متبطل عاطل يدور كالقدر المريض على أبواب الحياة المغلقة، وأنها فى وسط كل هذا الموج الصاخب الكافر فلن تستطيع أن ترفض دعوة سيد مثله – وابتسم فى ثقة وكبرياء فى مقابل القروش التى يمكن أن يدفعها لها لتحمل بها إلى السفينة الغارقة بعضاً من الخمر والقوت والحياة.
كانت الصورة داكنة سوداء وهتفت لها نفسه وهى تصفق مجنونة ثملة: أجل.. يجب أن تكون هى كل هذا، لتكون أنت السيد الذى يجلس فوق القمة يملك الناس ويهب الحياة بينما عزفت عنها، رانية مشفقة، الأحداث التى توالت بعد ذلك فى سرعة مضطرة وكأنما لتضع حداً ما لليلة المهووس الثمل..
لقد اهتزت المركبة فى تلك اللحظة فى عنف مفاجئ فصدمت يده بجبينه الخاوى وبالحقيقة الواحدة التى لم يستطع خياله أن يقهرها أبداً، وأغرقته من جديد فى طوفان من حقد ملتهب حقيقى هذه المرة على أمه التى حرمته من بعض جنيهاته، وعلى حائط القبر المتهدم والعظام البيضاء التى سلبته فى خسة وأنانية نفس المبلغ الذى كان يمكن أن يشترى به صفقة كهذه، وأيقظت اللعنات على أطراف أعصابه المتوترة للحظة قصيرة من قبل أن تعود فتضعه وجهاً للوجه أمام المعركة الأخرى التى أثارها فى نفس الوقت اهتزاز المركبة بين نفس الفتاة وبين رجل أخر كان يقف إلى جوارها.
كانت معركة قصيرة تافهة من تلك الآلاف التى تحدث كل يوم ولكنها مع هذا كله كانت كافية حقاً لأن ترسم نهاية الليلة.. كان الرجل قد اصطدم بالفتاة عندما اهتزت المركبة فصاحب به فى صوت أثقله الرق والإنهاك تلومه وترده، وكأنما إستثارته كلماتها فأجابها صائحاً هو الأخر ساخطاً متنمراً. ولم تلبث الألسنة التى أرهقها الصمت أن تقاسمت الأمر بعد ذلك، ومضت تلوكه معقبة ناقدة وكلها تسخر بالفتاة بإحتجاجها الواهن المتعب بينما صاح صوت ثاب رفيع من أقصى المركبة يتهكم قائلاً:
ماذا؟ وهل اضطرها أحد إلى هذا الزحام؟ لماذا لا تستأجر السيدة المترفة عربة خاصة مادامت تخاف على نفسها إلى هذا الحد!.
وأعقب الصوت ضحكة طويلة ساخرة.. ضحكة لم تنسكب فحسب على ملابسها الرخيصة وحقيبتها الباهتة ويدها الخشنة التى غاب الطلاء عن أطراف أظافرها، بل ومضت أيضاً تتلوى كالخنجر المسموم لتصل إلى أحشاء الثمل الذى كان يحيا فوق القمة منذ لحظات، ولتهبط به إلى القاع إلى الظلام الذى جاء منه.. إلى صورة المكتب الحقير الضال الذى خيل إليه عبثاً أنه يستطيع أن يفر منه ولو لليلة واحدة.
كانت الكلمات المتهكمة والضحكة الساخرة الطويلة هما نفس الكلمات ونفس الضحكة اللتان اعتاد أن يسمعهما كلما وجد فى نفسه من الشجاعة ما يسمح له بأن يتذمر من عمله الشاق الطويل فى ذلة واستجداء لمدير شركته طالباً منه أن يزيد أجره ولو قروشاً قليلة.. نعم كأن السمين المكتنز يقول له عندئذ وهو يضحك نفس الضحكة الملعونة: "وما الذى يضطرك إلى هذا العمل. لماذا لا تغادرنا، إذا لم يعجبك، إلى مزرعتك الواسعة الخصيبة حيث تستطيع أن تستريح تماماً؟".
وكان هو يسكت.. تماماً كما سكتت الفتاة فى تلك اللحظة وأحس بنفسه عندئذ تتضاءل وتدق.. وبكرة المطاط الرقيقة التى كانت قد انتفخت بالبطش والعزة منذ ساعات قلائل وهى تنفجر وتتبدد وتستحيل إلى مزق من كبرياء تافه رخيص.. وبروحه وهى تهوى إلى أعماق الظلام كفراشة محتضرة.. ورفع وجهه.
وفى عينيه رجاء واستغفار وابتهال إلى وجه الفتاة الذى كان القهر والخجل قد كساه طابعاً مرتعشاً باهتاً، وقد أدرك أنهما هو وهى من نبات شقاء واحد.. من نفس قافلة الأفواه الجائعة التى تسعى فوق الشوك لتلتقط لقمة العيش من على أطراف حراب مسمومة حاقدة.. لا.. ليس هو وهى فحسب وإنما هو وهى وخادم المطعم أيضاً، وماسح الأحذية وسائق العربة، وساقى الحانة الكل حبات تافهة ينتظمها نفس الخيط الأسود، والكل دمى صماء يلهو بها نفس الوحش المجنون: الجوع... وهو. ما الذى صنعه فى تلك الليلة؟ العزة القوة، السيارة لشد ما خدعته نفسه وأوهامه أنه لم يكن فى وسط هذا الهوس أكثر من فرد فى طابور خامس ملعون.. خائن أغراه السيد الكبير بحفنة من القروش ليعود إلى قبيلته.. إلى نفس عشيرته الوادعة المسالمة. وقد لبس جلد النمر الحاقد ومضى يفتك ويشرب الدم!
وعاد يتصور السبعة والعشرين جائعاً الذين انطلقوا الليلة فى المدينة مثلما انطلق وفى محافظهم نفس الجنيهات العشرة التى جاد بها عليهم السمين المكتنز.. والخراب الذى يمكن أن يكونوا قد أشاعوه بين أكواخ القبيلة الصابرة.. وباقى الطابور الملعون الآلاف من أمثاله وأمثالهم وهم يفتكون بأخوتهم.. بمثل هذه الفتاة وبمثل هذه الظهور الراكعة المستجدية التى التقى بها فى كل مكان فأحس بالضيق والأسى والإشفاق.. وود لو لم، ينل هذه الجنيهات أبداً، أو يلتقى بهذه الفتاة التى هبطت به فى أخر الليل من القمم إلى السفح لتريه الخراب الذى صنعه، والدم الذى سفكه.. وأحس بالحقد عليها، وعلى نفسه، وعلى الدنيا كلها. ووقفت المركبة لتهبط منها الفتاة ثم استأنفت سيرها من جديد.
ومن النافذة الضيقة راح يرقبها وهى تخطو فى الشارع المظلم الطويل وقد بدأ شئ من الهدوء والسكينة يتسلل إلى أعماقه.. فقد كان يعلم أنه فى أخر هذا الشارع سوف يضئ حتماً مصباح كبير ينثر الضوء والفرحة.. والعزة التى لن تشترى بالثمن التافه القليل».
*** *** ***
يتعلق مفتاح كتابة يوسف إدريس فى رأييّ بكيفية تناوله للإنسان، ويبدو فى ساحة عريضة من عالمه القصصى يائسا من المجتمع القديم، فارا منه إلى "يوتوبيات" تستعصى على التحقيق، لأنها تتطلب بشرا كاملين بلا سيئات، والفرد عنده ناقص، بإرادته أحيانا، ورغما عنه فى أكثر الأحيان. إنه ناقم، ساخط على عالمه، مختلف معه على الدوام، حالم يؤمن بإمكانية التغيير، لكنه لا يثور، ينتظر الأقدار والمصادفات كى تتولى الفعل نيابة عنه، وقد يعجز عن الانتظار، فيقبع مستسلما ببلادة عجيبة لعذاب ليس له نظير.
إنسان إدريس يتخلى عن رداء البطل ليرتدى ذاته، إنه لا يكافح من أجل الأشياء، من أجل أن يوجد نظاما بديلا لنظام، بل يكافح ليفر من فلك الطاعة وموت الشهداء إلى نفسه محاولا استنقاذها من فراغ الكون، غير أن محاولة الفرار تورطه أكثر فى النظام. ويعنى هذا أن إدريس حرص على تتبع تفرد الإنسان وخصوصية وجوده، لكن حرصه آل إلى غاية تذويب الفرد فى الجماعة، وهذه هى القيمة التى يكشف البحث فى أكثر إبداع يوسف إدريس عن بروزها بنحو دال على التباس فكره الواقعى ووعيه الاجتماعى بحس رومانتيكى متوهج.
نستطيع لإجراء هذا البحث أن نعتمد على قراءة رائعته (النداهة)، إذ فيها من العمق والكفاية الأدبية ما يبرر هذا الاعتماد، وهى أبلغ دليل على أن ما يخلد الكاتب ليس فكره، إنما قدرته على استحضار روح إنسان ورائحته، مع الموازنة بينها وبين قصة (النداهة) لسليمان فياض.
برغم ازدحام العالم القصصى عند يوسف إدريس بعشرات الشخصيات المتميزة إلى حد كونها نماذج أدبية وإنسانية متفردة، وبرغم عشرات المواقف والأحداث - نجد المعطيات الفكرية والدلالية فى هذا العالم محدودة، ويمكن حصر أهمها فى لحظة معرفية تتضمن استيقاظا مفاجئا للوعى، استيقاظا يستدعى تغييرا ما، قد يحدث فى الحال، وقد يحدث بعد سنوات، لكنه فى كل الحالات يحدث ليكون ما بعده مغايرا تماما لما قبله، والإنسان غير الإنسان، لذلك ينهض قانون هذه اللحظة دائما على المقابلة بين عناصر متباعدة، مختلفة أو متنافرة، ونتيجة التفاعل الصاخب بينها هى بروز التماثل الجوهرى الذى يضم الشتات المختلف.
يتمثل هذا المعطى فى قصة النداهة التى تبدأ بمفتتح - مثل كثير من مفتتحات قصص يوسف إدريس - شديد البساطة والقيادة للموضوع بلا إرباك للمتلقى، برغم الابتداء من ذروة الموقف القصصى.
القصة محكية بضمير الغائب، مما يفترض رؤية خارجية للشخصيات ومنظورا موضوعيا، لكن الداخل الباطن ليس محجوبا عنا، وواقعيته عميقة تتسع لما لا يحس.
لا يقود المنطق السببي رغبات "فتحية"، ولا يبعد الوصف الخارجى لمجال حركتها عن أعماق اللحظة المحورية التى ستغير اتجاه حياتها. وفى الوقت نفسه تبدو الجزئيات والتفاصيل وحدات ضرورية فى صورة كلية لحياة غير فردية، نموذج مقتطع من حياة جمعية تعارض قيمها الريفية قيم المجتمع الحضرى الذى ترغب فى مظاهره، وترفض فى الوقت نفسه جوهره المحرك لتلك المظاهر.
لا يدين إدريس شخصياته، وموقفه منها هو الدليل على رومانتيكيته، فالمادى يرى الناس أطهارا أو ملعونين، أما الرومانتيكى فلا يجعل قارئه يفقد تعاطفه مع الشخصيات بل يتسامح مع أخطائها مقدرا ما فى بشريتها من ضعف فطرى. إن الحياة التى وصفت ليست شقاء كلها، ففيها لحظات فرح وجمال، بل لذة حتى فى أحلك المواقف، وهذا ما يجعلها حياة "حية" إن جاز التعبير، لا حياة مصنوعة بخيال سقيم.
لم ترفض فتحية الحتمية الميتافيزيقية، وما كان ذلك بمقدورها لو أرادته، لكنها مارست إنسانيتها، وتمردت على قدرها الاجتماعى بالفرار مما ينتظرها على يد حامد - أو الجماعة فى القرية - إلى قدر آخر قد يكون أشد سوءا، إذ يوحى انخراطها فى الزحام، فى نهاية القصة، بأنها فضلت أن تكون واحدة من القطيع، لا أن تكون نفسها، وفى ذلك الاختيار تشويه لروحها، لأنه سيجعلها تستسلم لاتساع المسافة بين حالها وآمالها، ويفقدها الرغبة فى الخلاص.
النداهة كلمة سحرية تحيل بمجرد ذكرها إلى يوسف إدريس وعالمه القصصى المتفرد بعبقرية الدلالة، سواء فى الرؤية أوالتشكيل. ربما لذلك لم يجرؤ أديب على استعارة هذه الكلمة لاستخدامها مفردة عنوانا لنص إبداعى، لأنها من المسكوكات اللغوية البارعة التى انتقلت من المحكى الشفاهى، الغرائبى الشعبى، إلى المحكى الكتابى، وتنتمى أدبيا إلى إدريس، بالرغم من أنه ليس الناقل ولم يكتشفها ابتداء، إنما سبقه إليها سليمان فياض. فقد نشر إدريس قصة (النداهة) فى مجلة روز اليوسف فى
15 يناير 1968، ثم أعاد نشرها فى مجموعة النداهة فى سنة 1969، أى بعد عشر سنوات من نشر سليمان فياض قصة بعنوان النداهة فى مجلة البوليس.([15])
15 يناير 1968، ثم أعاد نشرها فى مجموعة النداهة فى سنة 1969، أى بعد عشر سنوات من نشر سليمان فياض قصة بعنوان النداهة فى مجلة البوليس.([15])
بدأ سليمان فياض كيوسف إدريس ينشر قصصه فى الخمسينيات، وليس الأخير بالذى يجهل المتميزين فى مجاله، إضافة إلى أن إدريس كان يعرف مجلة البوليس، إن لم يكن لأنها مجلة اجتماعية وثقافية متميزة فى ذلك الوقت، فلأنها كانت تتابع أخباره ونشاطه الثقافى. ومع ذلك لم يُشر إدريس إلى نداهة سليمان فياض، ولم يبرر استعارته للعنوان.
إذا تجاوزنا احتمال أن المجتمع الثقافى فى ذلك الوقت لم يكن يعترض على استعارات من هذا النوع، فيمكن اقتراح سبب فحواه أن إدريس قرأ قصة فياض، وتأثر بفكرتها المختزلة فى عنوانها، فألهمته فى التو قصته، ولأنه ليس السابق استطاع تنمية الفكرة وإخضاعها لرؤيته الفكرية والفنية، فجاءت قطعة أصلية تذكر بتقدير عظيم فى تاريخ يوسف إدريس وتاريخ القصة المصرية.
أيا كان الحال فالثابت أن لدينا قصتين متشابهتين فى كثير من العناصر، أولاهما لسليمان فياض والأخرى ليوسف إدريس، وقد يكون مجديا أكثر أن ننظر كيف تطورت فكرة سليمان بين يدى يوسف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق