رسم الحدود بحبل
هذا دغلي، تلك صحراؤكم
لم يكن والداي يستوعبان ما أقوم به، لكنهما لم يمنعاني. كانت أمي تجدني في علب كرتونية، داخل حقائب السفر، وفي رف الدولاب.. كنت أقول الحقيقة لكنني كنت مع ذلك أكتم أسراري. أخبرت أمي أنني في الدولاب أتفرج على الظلام. أنني رأيته وأنه يشبه فرو الخروف.. لكنني لم أقل لها إننا تحدثنا أنا والظلام، ولا ماذا قلنا لبعضنا البعض. في المدرسة كنت أمارس خيالي على صديقاتي. أحكي لهم عن الشجرة التي دخلتها باعتبارها حقيقة وليس حلماً. أحكي لهم عن الأراجوز الذي يجلس في حجرتي. واخفي عنهم أنه هنا الآن معنا، في ملابسي. استمتع بالعلاقة ذات الوجهين. علاقات من دم ولحم وأخرى من قماش وخشب وطين الخ.. وأنا بينهما أمارسهما معاً. وأقف في الحدود بينهما بمرح لاعب السيرك.. كنت أعرف أن الوقوف على الحبل على ارتفاع شاهق أمر معجز.. وكنت أعرف أيضاً أنه لا يعني الطيران..
في البيت، لكي أتخلص من تفاهة صديقاتي في المدرسة الساكنات إلى جواري كنت أتبع تعليمات أبي. أصادق أطفال الجيران. وكنا نلعب في الممر الموجود تحت البيت. نلعب كرة قدم. أضع الزي المدرسي على الشماعة، أو أسلمه إلى سبت الغسيل الذي اشتاق إليه وأتركهما في حديث خاص. أنهي واجباتي المدرسية بسرعة، وبدلاً من الفرجة على مسلسل السابعة والربع، أنزل بالبيجامة لألعب مع أصدقائي الجيران: شوط يا ولد! باصي! جون! لأ فاول! إيه هو احنا هانحمرأ!..الخ.. ينزل أبي لشراء الفينو لليوم التالي فينتزعني من اللعب فخورا بي. ونذهب في نزهتنا المسائية، حيث يحدثني عن الكرامة وعزة النفس، والصدق ومعاملة الناس بالمعروف. يستشهد ببعض الأحاديث أو بعض القصص القرآنية. وأحياناً يستشهد بنفسه في عمله وفي بيته.. كانت هذه الاستشهادات تتداخل في رأسي بحيث لا يمكني التفرقة بين ما هو من القرآن والحديث وما هو يخص أبي في البيت والعمل.. كانت كلها تخرج منه. بالنسبة لي، كانت كلها تخصه، اي، تخصني عندما أكون في حجمه، وينبغي أن أحفظها عن ظهر قلب ولا أنساها أبداً، لأنها ستكون زادي عندما أصبح هو: عندما أكبر. وحتى ذلك الحين كنت أتلهى بصداقة الأشياء والزميلات والجيران الأولاد. كنت أشعر بمسئولية ما. بأن أبي لا يحدثني عن هذه الأشياء اعتباطاً. وأن هناك شيء سينبغي عليّ أن أقوم به عندما أكبر وهو يعلمني ما ينفعني لتلك اللحظة. كنت أشعر بالخطر.
كنت نائمة تحت أحدى الشجرات الوارفات في دغل لا يبدو له نهاية.. بين ذراعي المضمومتين كان ينام دب صغير. كأنه جرو ضخم.وكانت الأرانب تجري حولنا، والأشجار تعتليها القرود الهائجة.. الأشجار والنخيل، كانا في هذا الدغل يثمران حزماً من الثعابين التي تتدلى وتتهادى مع نسيم الليل الخفيف.. وكان البوم يحلق بعيدا ويحوم. استيقظت قرب الفجر. وضعت الدب النائم مكاني تحت الشجرة وخرجت أمشي قدماً نحو النهر.. في الطريق، تحولت إلى ولد صغير حافي القدمين، عارٍ إلا من خرقة تستر عورته، وعصا من فرع شجرة مستقيم ينتهي في أعلاه بتفرع على هيئة حرفV. كنت قلقة جدا على أمي. وأريد أن أعبر النهر إليها في الجهة الأخرى الصحراوية. في النهر كانت تسبح التماسيح. تفتح فاها كلما حاولت العبور سباحة.. كان الماء ضحلاً كأنما مستنقع.. ولكنه كان نقيا كالمرآة.. ولكي أعبر إلى الجهة الأخرى، كنت أسد فم التمساح الذي أمامي بالضغط علي فكيه بطرف العصا السفلي وأضيع بعد ذلك قدمي فوق راسه.. هكذا فعلت كع التماسيح كلها، حتى صار الخطر ذاته هو معبري إلى الجهة الأخرى.. هناك كانت الصحراء. وشجرة وحيدة متفحمة ونحيلة بلا أوراق. التفت إلى الجهة اليسري ومشيت إلى أن وجدت أمي.. كانت موسيقى ورقص وكأنما هناك حفل كبير. وكانت أمي مستمتعة جداً ولا تدري ما الذي دفعني للمجيء إليها.. كانت ترقص مع الراقصين.. حيتني بابتسامة وتلويحه كف، ثم انخرطت في الجمع واختفت..
في عودتي إلى الجهة الأخرى كان في انتظاري قارب. كنت حزينة بلا غضب.. وكأنني فقدت أمي للأبد. استخدمت العصا مجدافا للقارب وعبرت إلى دغلي. عند الشط، رايت بعيداً فهداً أسوداً يتشاجر مع ثعبان ضخم. بسرعة شعرت أن الفهد يدافع عني ضد الثعبان الضخم الذي يريد ابتلاعي.. جٌرِح الفهد الذي كانت عيونه الخضراه تلمع وجرح كتفه الأيسر لا يقطر دما، بينما يشع لوناً أحمر نورانياً.. كغرغرة العينين.. عندما تمتلئان بالدمع ولا تذرفانه.. هكذا كان دم جرح فهدي. أما الثعبان الضخم فقد رحل بعيداً.. عندما اقتربت من الفهد ألمس جلده شكراً، ابتعد عني ولم يدعني ألمسه. ثم توارى في تجويف جذور إحدى الشجرات العتيقة. بقي وجهه خارجاً. وبقي مستيقظاً. في لمح البصر فهمت إنه لا يريدني أن أقترب منه لأن الفهود تقاتل مادامت مجروحة. ولا تفرق ساعتها بين عدو أو حبيب.. وهو يحرسني الأن من أجل مهمة ما لي مستقبلاً.. ولا يريد أن يؤذيني أثناء شعوره بالألم.
عدت إلى مكاني تحت الشجرة. أخذت الدب الصغير بين ذراعي.. وعاودت النوم. مطمئنة على نفسي طالما الفهد مستيقظ.. حزينة لأجله.. وسعيدة من أجل أمي. وحزينة لفقدها هنا.. في صحراء الجهة الأخرى بين جمع الراقصين. وبين السعادة والحزن والأسى، ترك الدب ذراعيّ ونام مجاورا لي. رأسه ملامسة لظهري.. بينما بدأت تنمو من عظام ظهري وكتفي فروعاً خشبية، وشعري يتحول إلى حزم من الثعابين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق