الجمعة، 9 يوليو 2010

مسألة جغرافيا - هدي حسين













لم يعد يعنيني السبب الأساسي من الرحلة إلى ليبيا. بدا لي هذا السبب واهياً وسخيفاً. أن أكمل الرحلة التي بدأتها أميرة الجنوب.رحلة مقاومة المحتل وتحرير الوطن..هذا أمر مضحك..لكن الرحلة ذاتها أخذتني. ليس الرحلة إلى ليبيا، بل مسألة أن أرحل.. أنا أعرف نفسي.. أحب شعور السائح. أحب الاغتراب عن بلدي. أحب أن أتفرج على الأشياء حولي بمسافة التأمل عن بعد دون الانخراط في تفاصيلها وأحشائها. أفضل التماس عن التفاعل. هذه أنا، أعرفها جيداً. ولهذا أحب القاهرة جدا. القاهرة مزدحمة ومكتظة. القاهرة طاردة. هذه ميزتها. وأنا عندما أعتبر القاهرة هي المقر الخاص بي، تدفعني القاهرة للسفر. ولأنها مقري، تدفعني للعودة، حتى أنطلق من جديد، من على أرضها إلى رحلة أخرى.. زمانية أو مكانية، خيالية أو واقعية. كلها رحلات تؤكد على وضعي كغريبة في أرض ليست مستقري. وهذا أفضل بكثير من الشعور بالغربة داخل أرضي.. لهذا أحب مستقري الطارد – القاهرة – ولهذا أحب السفر. إنه الطريقة الوحيدة لأن أجد مبرراً منطقياً لشعوري الدائم بالغربة: أنا لست في بلدي.


مع ذلك كان أول ما وقعت عيني عليه في طرابلس هو محل فول وفلافل. ابتسمت. كان المحل عبارة عن زاوية من الرخام تغطيها من أعلى قوائم معدنية وزجاج. دخلت:
- صباح الخير. ممكن طبق فول بالزيت الحار والطحينة وبازنجان بالثوم؟
- يا أهلا يا أهلا. لهجتك مصرية، شرفتي البلد، سياحة أم عمل؟
- سياحة. (كذبت) رحلة برية إلى المغرب.
- تفضلي يا هانم، المحل زاد نوره. أنا من دمياط وعندما جئت هنا كنت وحدي. سرحت بعربة فول، ولما استقر الحال فتحت هذا المحل وتزوجت وجلبت زوجتي وإخواني للعمل معي هنا. الرزق كتير والحمد لله.
- الحمد لله. تعرف فندق هنا ممكن يستقبلني وحدي؟
- لماذا، أليست رحلتك البرية للمغرب رحلة سياحية؟ أي مع فوج سياحي؟
- لا، أنا قررت أقوم برحلة فقمت بها.
- انت في ورطة؟ هربانة من حاجة؟ (همس لي البائع)
- لأ! لماذا تظن ذلك؟! ألا يمكن للمرء أن يتحرك وحده؟ هل ينبغي أن أتحرك في فوج سياحي حتى أكون غير موروطة أو هاربة؟ أنت نفسك قلت إنك عندما أتيت إلى هنا أتيت وحدك.
- لا مؤاخذة يا ست هانم أنا رجل، وأجري على أكل عيشي، وبلاد اللة واسعة. إنما حضرتك بقى.. (صمت).. شوفي يا هانم لو بنت اصول والحال انحدر بك أنصحك تذهبي للسفارة وهم يتولوا أمرك.


الصدمة التي صعقتني بسبب هذا الحوار جعلتني أدفع له بقشيشا كبيرا، حتى أجبره على شكري وأن يقول لي "ست هانم" مرة أخرى ولكن بمنتهى الاحترام، كأنه خدام عندي!..في البداية فكرت إنها مسألة رجل وامرأة. يعني تحيز نوعي. هو رجل، يظن أن هذا سبب كافي لكي يذهب إلى حيث يريد. أما أنا فامرأة ولا يجب أن أغادر داري إلاّ في مجموعة، اسرة، أو فوج سياحي. لكن مع الوقت طرأت على ذهني فكرة أخرى. ليست مسألة رجل وامرأة. فأنا عندما أذهب إلى فرنسا أو بلجيكا وأقابل بعض الأصدقاء المصريين أو العرب لا يظن أي منهم أنني "انحدر بي الحال" ولهذا اضطررت للسفر وحدي إلى هناك. المسألة ليست مسألة نوع وإنما مسألة جغرافيا. لو قابلت أي فتاة عربية سافرت وحدها إلى بلد أوروبي أو أمريكي تقول إنها بطلة ومتمردة على أوضاع التمييز ضد المرأة في البلدان العربية وتشجعها، أما إذا سافرت هذه الفتاة ذاتها وحدها إلى بلد عربي فقير أو تحت الإنشاء أو متزمت بعض الشيء ينبغي أن تظن فيها الظنون وإلاّ ما الذي "أجبرها" على السفر إلى هناك؟... أليس كذلك؟ هذه هي العقلية العجيبة المزدوجة التي نتعامل بها؟ أليس كذلك؟ وكأنه لا يوجد من ضمن دوافع السفر إلى هنا أو هناك سبباً اسمه "أريد ذلك"! بغض النظر عن التمرد على أوضاع ما، أو الهروب من ورطة ما!


خرجت إلى الشارع وأخذت أمشي غاضبة على غير هدى مستغلة فرصة أن الشمس ساطعة ولن يجرؤ أحد حتى تختفي الشمس أن يظنني مومساً...في باريس أيضاً، خصوصاً في الصيف، هناك موعد بعده ينبغي على المرء ألا يدخل الشوارع الجانبية والأزقة والحارات خوفاً من السرقة.. هذا الموعد ملزم للرجال والنساء معاً، خصوصاً الذين لا يحبون المغامرة بحياتهم في الليل. أما الرجال والنساء أيضاً الذين لا يخشون المغامرة فلا يلتزمون بهذا الموعد المتعارف عليه. في باريس غروب الشمس يكون على الرجال والنساء الحريصين. أما هنا فغروب الشمس على النساء فقط. كل النساء.


بسخط قررت أن أتعامل وكأنني في مصر! أوقفت تاكسي وقلت له أريد الذهاب إلى بيت الشباب. سألني وماذا تفعلين في الاستاد؟ قلت، لأ بيت الشباب! أليس هناك بيت شباب في طرابلس كما هناك بيوت شباب في القاهرة والمحافظات الأخرى في مصر. أنا مشتركة في جمعية بيوت الشباب الدولية ومعي كارنية ويمكنني أن ابيت في أي بيت شباب في العالم!


كان بالفعل بيتاً للشباب. للشباب فقط. لم تكن هناك أي سيدة أو فتاة. أخذ الصبية الصغار يرمقونني ببنطالي الجينز الأزرق وقميصي الكاروهات وشعري الأشعث كأنني شيطانة تنفتح على يديها أبواب الشر، أو ساحرة شريرة ستجلب معها كل المغريات. أو أضعف الإيمان، فتاة سهلة، وجودها يجعل العيون تحملق بخيالها في مغامرات غير مسبوقة! قد يكونوا أيضاً ينظرون لي وكأنني شحاذة أو امرأة تدعو للسخرية أو السخط. هكذا كان أغلب الصبية المراهقين يذهلون ثم يتهامسون ويضحكون، أما الشباب الناضج فكانوا يغضون الطرف ويلمحوني باشمئزاز. وبغض النظر عن تفاوت الحكم الواضح في النظرات، في العموم كنت أنا التليفزيون، المحطة المبثوثة حديثاً، والكل غيري متفرجين.


بسخط مضاد قررت أن افرض واقعي أنا. توجهت إلى أحد الصبية لأسأله إن كان هذا بيت شباب طرابلس. قلت: صباح الخير. فوجته ينظر في عيني بوله ولا يجيب. قلت:
- هل هذا بيت شباب طرابلس؟ وبنفس الوله والتوهان أجابني:
- ماذا؟
- هل هذا بيت شباب طرابلس؟ (قلت بصوت حاد ومنفعل فضحك الأصغر منه سنا وهربوا أما هو فظل على ذهوله حتى سئمت منه وأعدت السؤال على أحد الشباب الملتحين الساخطين فذهب ليخبر مديره.


خرج رجل بكرش كبير وجلباب أبيض ولحية. قال نعم هذا بيت شباب طرابلس. سألته إن كانت هناك حجرات شاغرة. فأجاب بالإيجاب. فرحت وأخرجت كارنية بيوت الشباب وبدأت بينما حقيبتي مازالت مفتوحة ويدي بداخلها أسأل الشيخ عن الرسوم المطلوبة. فأجابني:
- هل يمكن أن تنظري إلى اللافتة يا .. آنسة، أو مدام...! هذا ليس بيت شابات هذا بيت شباب.
- وأين بيت شابات طرابلس؟ (سألته بسخرية بينما صدمتني جملته)
- لا يوجد.


كيف يمكنني أن أُفهم هذا الرجل أن كلمة شباب هي جمع تكسير وليس جمع مذكر سالم؟ كيف أشرح له أن بيوت الشباب على مستوى العالم كله مقصود بها الشبان والشابات؟ حتى عندما أخبرته أن ما كتب على اللافتة هو "شباب" وليس "شبان"، قال:
- شباب، شبان، الكلمتان جمعان لكلمة شاب. أم أنك لا تعرفين اللغة العربية يا.. مدام؟


كلما اشتد غضبي اشتد ضحك الصبية الصغار. وكلما اشتد غضب شيخهم زاد صمتهم وانكماشهم قرب بعضهم البعض. لا أعرف كيف يمكنني أن أعبر عن هذا الشعور الذي يمكن أن ينتاب المرء عندما يغضب فيسخر من غضبه الآخرون.. لم يكن أمامي حيلة. تركت المكان مهزومة تماماً.


في الطريق إلى الخارج قابلني شاب بدا من لهجته أنه مصري. طلب أن يرافقني إلى حيث أريد حتى لا أتعرض للأذى وحدي. قال إنه يعرف دكتور في الجامعة يمكنه أن يساعدني لأنه مصري وأنه سيأخذني إلى سكن الأساتذة حيث يمكن مقابلة هذا الدكتور. وافقت على كل شيء بدون كلام. لم أكن في حالة تسمح بالتفكير. كان يمكنني أن اقول له أريد العودة إلى القاهرة. أن يدلني على الطريق إلى القاهرة من طرابلس. لكن شعوري بالهزيمة أمام صلابة شيخ بيت الشباب جعلني لا أريد أن أستسلم وأتقهقر من طرابلس هكذا بسهولة. زاد عنادي ما إن أدركت أن هناك طريق آخر للمبيت في هذه البلد، وذلك عبر التعرف على دكتور جامعة مصري يعمل في جامعة طرابلس. أما عن الشاب الذي اقترح علي هذه الفكرة فكان أصلاً من الأسكندرية وأسمه أحمد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق