هناك أحلام تمر ولا تترك أثراً، تماماً كالمعارف من البشر، وهناك أحلام قاسية كخيانة من تحب، لا يمكنك أن تنساها أبداً.. كما أن هناك أحلام ولودة، منها تخرج هلاوس وخيالات.. لو لم يكن هذا صحيحاً، فما الذي يبرر ظهور أسد أفريقي في مدخل المطبخ. أسد شعر رأسه عبارة عن بتلات زهرة عباد شمس عملاقة، تعرق لونا بنفسجياً، أو تمساحاً متجمدا أمامي بينما أنا جالسة على كنبة الصالة أشاهد التلفزيون، تمساح أخضر بعيون حمراء يتسلل من ركن المطبخ الشمالي الشرقي ليهاجمني، وما إن تقع عيني عليه إلا تغطيه طبقة من الثلج.. أشفق عليه فأمسح على ظهره بيدي حتى تزيل الطبقة الثلجية الجيلاتينية ويحل محلها طبقة زيتيه تساعد جلده على المرونة.. هذا التمساح ردا للجميل بقي يحرس باب شقتي، وبعد زواجي رحل معي إلى شقتي الجديدة، الآن كلما ذهبت إلى مكان أبيت فيه ولو عند أمي، صاحبني ليحرس بابي.. لو لم تكن هناك أحلام ولوده، فمن أين جاء هذا التمساح اللهم من حلم قديم بغابة أعبر تماسيح بركتها كي أصل إلى الطرف الآخر؟ في ذلك الحلم البعيد كنت ولداً طفلاً بخرقة وعصا يشبه تمثال "ديونيزوس طفلا" العاجي الموجود بالمتحف اليوناني الروماني بالأسكندرية. بعد أقل بقليل من عشرين سنة من ذلك الحلم، حلمت أنني غلام صبي أشقر بشعر اسود قصير وخشن، أقف على أرض ترابية جيرية، تبدو وكأنها أرض معركة، وخلفي عشة من القش محكمة الإغلاق على من فيها من أمثالي (أصحاب الأرض الذين تنكرت في الحلم في شكلهم وزيهم). هؤلاء الأسري، كانوا يعانون العذاب والإذلال. نظرت إلى ذاتي الحالمة وقلت وكأنني أنبهها: "نحن في المغرب" ثم أشعلت كبريتا وبه أحرقت العشة بمن فيها، فور وصول المستعمرين الغلاظ على خيولهم، وألقيت بنفسي على الأرض وكأنما مت أنا أيضاً بين من ماتوا من الأسرى..
فجأ، أنتقل الحلم إلى بيت جيري على أحد الطرز المغاربية، أبيض تأكله الرطوبة من شدة القدم والملح الذي ينهشه لقربه من البحر. أطفال كثيرون يجلسون بهمجية وصخب على كراسي من الخوص. وحبيبي ساعتها (زوجي الحالي) واقف أمامهم يحاول أن يدرس لهم اللغة الفرنسية. كنت أعلم جيداً في الواقع وفي الحلم أن حبيبي لا يعرف شيئاً مطلقا عن اللغة الفرنسية. في الحلم كنت أقف عن باب الفصل الدراسي المغلق. وأعرف أنني لا يمكنني أن أفتحه إلا لو استعنت بمادتي. كنت أعلم ايضاً أنني في الحلم مجرد صورة لي. لذلك لن يمكنني الدخول إلى الفصل عبر الإمساك بمقبض الباب وفتحه.. حولت نفسي إلى سائل فضي وتسربت كالماء من تحت الباب، وعندما وصلت إلى المكان الذي سأجلس فيه أعدت نفسي إلى الشكل الآدمي لكن على هيئة تلميذة نجيبة تعرف الفرنسية بطلاقة. وبدأت أحاور الأستاذ فيما يقول وأصحح له دون أن أشعره بأي حرج.. كنت متخيلة أنه سيعرفني تحت أي شكل، وأنه سيسعد بوجودي. لكنه بقى يظنني تلميذة، مشاغبة، وطرني من الفصل.. خرجت من الجهة المقابلة للباب حيث كان جدار قد اختفى ليدخلني إلى منطقة مظلمة جداً. وصوت أختي يحكي لي عن رحلة الشمس السفلية. وكيف أن حورس في مركبه السفلي يحمل على أفعى، وأن هناك ثلاثة ثعابين في انتظاره داخل الماء السفلي ليقلبوا مركبه أو يقضوا عليه. وبينما هي تحكي لي ذلك أرى الأفعى على تاج حورس تصدر أشعة حمراء تشوي الثعابين الأخرى وتحولها تراباً في لحظة. التفتُ بينما أنا جالسة، فوجدتني في بيت طفولتنا أنا وأختي. البيست الذي فيه حلمت أغلب أحلامي وشاهدت أغلب مشاهداتي. أنا أجلس على مقعد وثير قرب الأرض، وهي تجلس على مقعد عالٍ وتميل برأسها فوق رأسي، تحكي لي مستنكره ما حدث بعد أن تركت أرض المعركة إلى الفصل الدراسي. قالت أن الطاغية ملك الغزاه استعبد أميرتهم بعد أن قتل والديها. وبينما أختى تحكي لي، أثناء الحلم، كنت أرى في صورة الحلم المركبة على صوت أختي، موقع المعركة الذي كان في أول الحلم، والطاغية يجلس على كرسيه وسط الأرض الجيرية، بينما الأميرة تحلق له ذقنه، تمشط له شعره، تغسل له قدميه بل وتنظف أنفه. وافقة. وبينما أختي تقول مستنكرة: لا أعلم كيف يمكنها أن تقبل بكل هذا الزل، المفترض أن تغضب وأن تثور. وكلما سألتها لماذا لا تثوري؟ قالت: اصل كلي ثم أصل صُلّي!
نظرت إلى وجه أختى ثم نظرت إلى المشهد على يساري، فوجدت أن الغازي المستبد كان يطلب منها كل شيء قد يدعوها لأن تثور لكرامتها، كأنه هو الذي يريدها أن تغضب.. وكأن الغضب سيمكنه منها أكثر أو سيرضي شيئاً في نفسه.. كان في ذلك يشبه أختى، وبالرغم من ان الأميرة المزعومة، كان هي الغلام الصبي الذي تنكرت في هئته أول الحلم، لكنه قد اضطر للكشف عن شخصيته في نهاية الحلم باعتباره تنكراً لأميرة ما، إلا أن الأميرة لم تكن تشبهني، كانت بيضاء فارعة وسمينة بعض الشيء، بشعر أسود ناعم.. ومع ذلك فقد سمعت جملتها بينما تمشط شعر الغازي وفي رأسها أفكار تخطط لاستعادة الأرض، عندما سمعتها ناقضت أختي: لا يا أختي! كانت تقول: أصل صِلّي ثم أصل كلّي!.. هنا انتهى الحلم فجأة وفتحت عيني وكأنني لم أنم أبداً..
خرجت من الحلم متذكرة تماماً هذه الجملة. بحثت عن معنى كلمة صُل، فلم أجد شيئاً. بحثت عن معنى كلمة صِل، برغم أنني كنت متخيلة معناها، "الشخص الذي أصله، أي أتصل به" بذلك كنت متخيلة أن معنى الجملة: ينبغي أن أجد من يمكنني التواصل معه حتى أستطيع أن أشعر باكتمالي." ، بحثت. وبدون أن أبحث، مجرد أنني رغبت في البحث إلا والكلمة تتردد في كل مكان، في الراديو وفي التلفزيون وبين أصدقائي.. هكذا صدفة، ويتبرع الجميع لتفسيرها دون أن أطلب.. عرفت أن الصِل هو أفعى سامة مرتبطة في التراث الديني بالقبور، ففهمت ما الذي أتى بمركب حورس في رحلة الشمس السفلية. عرفت أيضا أن الصِل هو سم قاتل على الفور لأفعى ما، يخيل أنها الحية ذات الجرس.
بعد فترة من هذا الحلم، شبه طويلة، قابلت أحد أصدقائي المقربين جداً. وهو شاعر وصوفي متعمق. حكيت له الحلم فابتسم. قال: لا يعني أن الحلم بدأ في المغرب أنك في الحلم كنت في المغرب العربي، لكن تريد ذاتك الحالمة أن تقول لك أن هذا الحلم يبدأ من مغرب الشمس، أي هو رحلة عكسية ولا ينبغي أن تأخذيه كما هو، بل ارقبي عكسه. إنها شفرة تعطيها ذاتك الحالمة لك. ستدخلين حرباً وتنتصرين، وستقفين إلى جوار حبيبك ولن يخذلك، بينما أختك في الحلم تحاول مرتبطة بهذه الرحلة السفلية، إذ أنها بينما تحدثك بدون سبب واضح عن الحية في تاج حورس، تقول لك جملتك بالمقلوب.. من الطبيعي أن ينتهي الحلم عندما تعدلين أنت الجملة. لأنك رددت على ناقص واحد بزائد واحد حتى يتعادل الميزان عند مستوى الصفر.. فتفيقين..
- وماذا عن الجملة؟
- لا يمكن للإنسان أن يصل إلي شيء بعد أن يصل إلى كله. فالكل هو الله ونحن اجزاء نحتاج لبعضنا البعض. فمن الطبيعي أن يكون الوصول للكل هو نهاية الجملة ونهاية المطاف أيضاً
- وماذا عن الصُل أو الصِل هذا؟
- لا شيء يدعى الصُل في الصوفية. لكن هناك الصِل، وهو حيوان، يمكنك أن تعتبريه خرافياً، البعض يعتبره أفعى لها سم قاتل على الفور، وهي أفعى تنظر في وجه الإنسان فإن كان يتبع الحق تركته، وإن كان يتبع الباطل حولته إلى تراب. كما يظهر الصِل أيضا في أمور نادرة على هيئة تمساح بعيون حمراء، وهو تمساح حارس للحق، فإذا نظر إليه إنسان وهو على باطل تفحم، أما إذا كان على حق وصدق فيحرسه التمساح الصِل حراسته للحق والصدق طالما الإنسان عليها.
- أنا رأيته يا أيمن! كان يريد الفتك بي عندما خرج من باب المطبخ، لكنه الآن حارسي، وبيض صغاره يفقس في ركن المطبخ الشمالي الشرقي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق