الأحد، 4 ديسمبر 2011

الخروج للشارع - هدي حسين





كانت أول مرة يخرج فيها عبد العزيز إلى الشارع مضحكة وعجيبة. فلو قدرنا كم الرعب والفزع الذي كان يعتريه كلما اشتد زحام، أو علت آلات تنبيه السيارات، لملأنا به بحوراً.. عبد العزيز يخاف المادة. وأنا كنت أخرج للعب اليوجا. اليوجا تهتم بالعمود الفقري والجهاز التنفسي والدورة الدموية.. اليوجا تجعل العقل مسلط على جزء من البدن بغرض ترويضه على المرونة والتحكم فيه وفي حركاته بإرادة قوية. كان عبد العزيز مبهوراً باليوجا. لدرجة أنه مرة قال لي إنه كان يتمنى أن يكون له جسد يستطيع أن يلعب به في الهواء هكذا.. لكن كان يفزعه ازدحام المقاهي، فوضى المرور.. الصدام والصراخ.. كان يرتعب من شيئين: شرور الناس، وهمجيتهم. لكنه أحب الشجر والعصافير. مرة أخذته حديقة الحيوان، كان كالطفل المنبهر المرعوب الذي لا يعرف كيف يعبر عن كم النشوة التي تجتاحه. حتى أنه استطاع أن يحول نفسه من شكل كتكوت أصفر له ريش إلى شكل ست سبائك ذهب ثلاثة منها على ظهر كل كتف من كتفيّ، وهذا يعني أنه استطاع أن يخرج، مع الوقت والتعود على الشارع، من الرعب والرغبة في الاختباء داخل حقيبتي، إلى الرغبة في الإعلان عن نفسه ملتصقاً بكتفي، لأن التصاقه بي كان يطمئنه..
ذات يوم قررت أن أخرج بعبد العزيز كقطة شارع سوداء، طوال الليل.. بقي عبدالعزيز ملتصقاً بكتفي على هئية السبائك الذهبية. وكنت أجلس في أحد المقاهي التي تفتح 24 ساعة.. في الثالثة صباحاً شعرت فجأة بالملل. كل الوجوه حولييي متكرره، كل التعبيرات والابتسامات.. كل الرواد أعرفهم.. أغلبهم فنانين مسرحيين وشعراء ومدعين سياسة ومتسلقين وأفاقين.. كلهم يلعبون الطاولة والاستيميشن وتدور أحداقهم على أي سيدة تمر.. كلهم بأصوات مصطنعة يختلقون لأنفسهم شخصيات مكشوفة وعبيطة ولامبرر لها بالنسبة لي.. الوحيد الصادق إلى حد ما وسط هذا الجمع كله، هو النادل الذي يعرفهم كلهم، ويحتملهم.. وينتظر منهم حق "المشاريب".
فجأة قمت. حقيبتي على ظهري، وعبد العزيز بين كتفي: "سلام بقى يا جماعة".. هكذا قررت بدون مقدمات لأحد. تعجب الجميع وظنوا أنني على موعد متأخر مع أحد.. فلم تجد عقولهم أبعد من ذلك للتفكير فيه.. وبينما أنا في الشارع، أخذت السماء تمطر رزازاً قليلاً ورقيقاً.. بدت الشوارع مبتلة ورطبة وحنونة بدون مبرر.. وبين ندرة المارة والرزاز البارد، كانت حميمية وألفة تجمعني بذكرياتي في الأسكندرية.. قبل معرفتي بعبد العزيز بسنوات. كان لي حبيب هناك.. لم تكن ذكرياتي في الأسكندرية سعيدة. كانت كثيفة.. ولم أكن أحن إلى ذكرياتي.. كنت أحاول أن أتلافاها قدر المستطاع.. لكنني في تلك الليلة وجدت الشجاعة لأن أقول لنفسي إنه ينبغي أن أفصل بين الأسكندرية كمدينة وبين ذكرياتي فيها باعتبارها حوادث فردية.. قررت أن أختبر شجاعتي ومصالحتي للمدينة بعد أن خاصمتها سنوات لأنها لم تسعفني وأنا أعاني.
هكذا، ببطء وتحفز، أخذت أمشي من ميدان طلعت حرب في وسط البلد بالقاهرة إلى ميدان رمسيس حيث محطة القطار الرئيسية وحيث ميكروباصات وبيجوهات الاسكندرية. بينما أتذكر كل شيء عن الأسكندرية.. الأصدقاء هناك وتجمعاتنا في مقهى كريستال على البحر.. بعض الشجارات العجيبة التي كانت وقتها خطيرة جدا والآن صارت تثير الابتسام.. أصدقاء القاهرة الذين كنا نسافر معاً ونبيت في أي مكان.... كنت أتذكر كل هذا وأعرف أنني وحيدة جداً.. لم أعد منتمية لأية "شلة" ولا جماعة بعد أن تفرق الجميع، هنا وهناك.. في القاهرة وفي الأسكندرية. وأنا كنت أعتبرهم جميعاً بديلا مختاراً عن العائلة..
وبينما أنا غارقة في هذا الشعور باليتم، إذا بي أصادف أيمن. صديقي الشاعر الصوفي. كنت من قبل قد أطلعته على حكاية عبد العزيز، ذلك بعد أن شفيت من الحمى والبرد.. أخبرته أن عبد العزيز موجود بيننا الآن. وأنه يحاول التجسد وقد وصل إلى شكل كتكوت أصفر له ريش، وإلى شكل ست سبائك ذهبية ملتصقة بكتفيّ.. برقت عيناه وصمت قليلا.. ثم قال: خلي بالك على نفسك.. ابتسمت وأجبته: حاضر.. لم يسألني أيمن ما الذي أفعله في الشارع في هذا الوقت المتأخر؟ ولا لماذا أنا متوجه عكس اتجاه بيتي؟ ظننت ساعتها أنني لهذا السبب لم أقل له أننه متجهة إلى ميدان رمسيس ومنه إلى الأسكندرية.. لكنني ما إن غادر أيمن بدقائق قليلة إلا وقابلت أخي، صديقي وأخي منذ أكثر من 15 عاماً.. وما إن قابلته إلا ودعوته للسفر معي فوافق على الفور. وبينما نحن في الطريق مشيا إلى ميدان رمسيس، رغب أخي في قضاء حاجة، كنا ساعتها بالقرب من أحد مقاهي ال24 ساعة في ميدان التوفيقية. قال أخي:
- لن أتركك في الشارع وحدك. سنجلس في المقهى وأطلب لك قهوة ثم أستأذنهم في دخول الحمام.


في أخي مسحة ابوية لا يعرفها عنه الكثيرون، لأنه يداريها تحت غلاف من السخرية من كل شيء.. ومهما قلت لأخي أنني بخير خارج المقهى وأنني أريد أن أسافر إلى الأسكندرية الآن، كان سيظل متشبثاً برأيه أنني داخل المقهى أكثر أمنا لي، خصوصاً أنه يعرف كل ندلائه وسيوصيهم علي.. أظن أن هذا بالتحديد هو ما جعلني أنفعل عليه: الوصاية. وأظنه لم يأت معي إلى الاسكندرية لأنه يرغب في ذلك بقدر ما يريد أن يطمئن علي في الطريق إلى هناك. كما أعتقد أنه رغبته في دخول الحمام ليست إلا حيلة لتأجيل السفر حتى الصباح الباكر لربما يغلبني النوم فأعود إلى بيتي وأعدل عن رغبتي في السفر.
قررت أن أجلس في طاولة على مقدمة المقهى مواجهة للشارع. انتظر أخي إلى جواري حتى جاءت قهوتي ثم ذهب لقضاء حاجته.. لم يكن يعرف أن عبد العزيز معي.


سألت عبد العزيز ما رأيه في أخي. قال إنه لا يخشى وجوده. لأنه يريد أن يحافظ عليّ. ولهذا فهو يعتقد إنه طيب. سألته عن أيمن فقال: مخيف.
وبينما كان شباب الشوارع يمرون في المقهى وعبره وحوله، كان عبد العزيز يزداد تحفزاً. ومن سبائك الذهب الست، عاد عبد العزيز يتحول إلى أشياء أخرى.. بالأحرى "يلبس" الأشكال المحيطة بنا. مثلاً، خلف طاولتي أحد عمدان المقهى. بقي عبد العزيز متحجرا فيه لفترة. وبينما أنا شاردة في ذكرياتي عن الأسكندرية، وقف ثلاثة شباب مستندين إلى سيارة تماماً أمام طاولتي وبدأوا في التخين والهمز واللمز.. يبدو أنهم كانوا يبحثون عن واحدة تكمل عدد ركاب السيارة! اغتظت منهم جداً لكنني قررت أن أتجاهلهم خصوصاً أنني أشعر أن عودة أخي قريبة.. ثم إنهم لن يستطيعوا شيئاً طالما أنا لم أترك مكاني في المقهى. تجاهلتهم وعدت إلى أفكاري. وبينما أنا كذلك فوجئت بعبد العزيز يعود إلى شكل الحصان التمساح المعدني العملاق ويحيط بي من خلفي وكأنني صغير كنجارو في جراب أمه. ثم لوح برأسه ذي الرقبه الطويلة ناحية اليسار ثم اليمين ثم دفعة قوية إلى اليسار مرة أخرى. وبينما هو يفعل ذلك إذا بي أرى رياحاً عاتية تنبعث من موقعه وتمس هؤلاء الشباب. رياح باردة ثلجية مخيفة.. وإذا بهم في اللحظة ذاتها، ينظرون جميعا معاً وكأنما حركة متفق عليها، ينظرون إلى يساري ثم يميني ثم يرحلون عن يساري.. كل هذا حدث في لحظة. وبعدما انتهى، عاد عبد العزيز إلى هيئة الكتكوت الأصفر ذي الريش ودخل في حقيبة ظهري مخرجاً رأسه فقط.
غضبت بشدة من عبد العزيز وأنبته على فعلته فأخذ يبرر:
- كنت أدافع عنك
- لم أطلب دفاعاً.
- وهل أنتظر حتى تطلبي.
- نعم، وأنا لن أطلب..
- لماذا؟
- ألا تفهم! لا أريد أن أعتمد عليك يا أخي! هذه الأشياء تحدث كثيرا في هذا الوقت من الليل وأنا أعرف كيف أتصرف معها!
- لكنني أريد أن..
- وأنا لا أريد حماية أحد
- لماذا تتقبلينها من أخي إذا؟!
- أنا ألزمه حدوده أيضا في الحماية عندما تتفاقم المسألة. ثم إن هذا الأمر لا يخصك.


عاد أخي من الحمام فأخبرته بأمر عبد العزيز:
- هناك شبح معي الآن، يسكن بيتي وسيأتي معنا إلى الأسكندرية..
رأيت في وجه أخي نظرة ريبة ورعب بينما كان يحاول أن يسخر من كلامي.. وبدأ يضحك ويتصرف معي باعتباري أكاد أكون مجنونة من أثر العيش وحدي..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق