علي الرغم من أن توفيق الحكيم (1898- 1987) كان يمثل في حياتنا الثقافية - بعد رحيل طه حسين - شيخ القبيلة الأدبية الذي يحيط بكل ما تتعرض له، إلا أنه كان يحرص دائما علي أن يلتقي بالأدباء علي انفراد، بعيدا عن جلسة الخميس الأسبوعية التي يعقدها في مكتبه في «الأهرام»، وفيها تدور حوارات الأدباء بعضهم ببعض، وبينهم وبينه من الحادية عشرة صباحا إلي ما بعد الثالثة بعد الظهر. وبعد أن تنفض الجلسة، ويستعد الحكيم لمغادرة المكتب، يصحبه أحد الأدباء المقربين إليه في عودته إلي بيته. وخلال المسافة بين مبني «الأهرام» في شارع الجلاء وبيت الحكيم في الجيزة أمام حديقة الحيوان، يستكمل الحكيم مع رفيقه الحوارات التي لم تكتمل أو انقطعت لسبب أو آخر، خاصة في الفترات التي كانت فيها السلطة لا تقبل المعارضة، وتمنع الكتّاب من الكتابة وإبداء الرأي، وتصادر الكتب والمسرحيات التي تطالب بالتغيير، معبرة عن أفكار متحررة لا يتحملها النظام، كما حدث لنعمان عاشور، ويوسف إدريس، وعبدالرحمن الشرقاوي، وألفريد فرج وغيرهم. ولهذا لم يكن غريبا أن يكون لدي الحكيم دائما ملاحظات وتساؤلات لا يستطيع الافصاح عنها أو مناقشتها في مكتبه الذي يغص - في هذه الجلسات - بالزوار الغرباء الذين يدفعهم الفضول لحشر أنفسهم في هذا التجمع الثقافي المفتوح، الذي يضم ألمع الأسماء، وقد يكون بين هؤلاء الغرباء، إن لم يمكن من المؤكد، وجود أفراد من أمن الدولة، أو من الشرطة السرية، اندسوا وسط المثقفين لكتابة التقارير عنهم، إذا أحسنا الظن بالأدباء، واستبعدنا أن يكون بينهم من يكتب التقارير عن زملاء القلم. وقد وجد الحكيم أنه ليس هناك حل للتغلب علي هذا الخطر غير الرسائل التي يكتبها لمن يريد من المثقفين الذين يحيطون به ويعتبرون أنفسهم من أبنائه، مضمنا إياها كل ما يريد قوله والتعليق عليه، دون خوف من أحد، ويضع ما يكتبه في مظروف مغلق، يرسله مع مخصوص إلي المرسل إليه، في منزله أو في مكتبه الذي قد يكون ملاصقا لمكتب الحكيم في الدور السادس في «الأهرام». قد تكون هذه الرسائل، كما سنرى، تعليقا علي موقف أو حدث سياسي يشغل الرأي العام، أو تعبيرا عن ظاهرة لم تتح الفرصة لمناقشتها، أو مجرد خواطر لا تقال إلا لصديق له وزنه ومكانته مثل لويس عوض، ويوسف إدريس، وحسين فوزي، وغيرهم من الشخصيات التي يكن لها الحكيم كل تقدير واحترام. ولو كان توفيق الحكيم يمارس النقد الأدبي، لكتب المقالات الطوال عن هذه الشخصيات التي عرفها، خاصة التي تلتقي معه في أفكاره ومبادئه الفنية، أو التي يجد فيها وفي أدبها شبها به وبأدبه. ولكنه لم يكتب كلمة واحدة عن أحد منهم أغلب الظن لأنه، ككل المبدعين، كان يعتبر نفسه المبدع الفرد الذي لا يحب أن يعترف بقيمة أحد سواه، وإن لم يمنعه هذا الموقف من أن يهتم بشئون الأدباء، ويتابع إنتاجهم، بصفته شيخ هذه القبيلة، كما كان شيخ الحارة يصنع في الأحياء الشعبية. ومن بين الرسائل العديدة التي وجهها الكتّاب للحكيم، ننشر هذه الرسالة المخطوطة ليوسف إدريس (1927 -1991) التي كتبها رداً علي رسالة سابقة للحكيم، يسأله فيها لماذا توقف قلمه المطبوع عن الكتابة. وكل من يعرف يوسف إدريس يعرف أنه كان صاحب طبيعة انفعالية، يكتب بأحاسيسه ومشاعره، وأنه كان يمر بحالات نفسية من الكآبة، يلزم فيها الصمت، نتيجة للظروف الصعبة التي تنزل به أو بالوطن، ثم يعود لحالته الطبيعية، أكثر صخبا مما كان من قبل. في هذه الرسالة يعد يوسف إدريس توفيق الحكيم بالعودة إلي الكتابة بعد هذا الانقطاع الذي لم تكن له أسباب معلنة غير ما ذكره يوسف إدريس في مقدمة كتابه «البحث عن السادات» من إساءة فهم ما قاله عن حرب أكتوبر واتفاقية كامب ديفيد، وهو ما دفع الحكيم إلي توجيه هذا السؤال له. وهذا نص رسالة يوسف إدريس: أستاذنا الكبير توفيق الحكيم رسالتك تلك - ولو أنها بلا تاريخ - إلا أن لها قيمة «تاريخية» عندي، وعند أي كاتب في مصر أو في العالم العربي، فهي من شيخ الكتاب حين يقرأ، وحين يحس بغياب كاتب، وقد أكون أنا الغائب هذه المرة، ولكني لن أكون الأخير، فما أكثر الأسباب التي ترغم الكاتب علي الغياب في عالمنا هذا، ولكن المهم أننا - أخيرا - قد حبانا الله بشيخ خليل لفنوننا وآدابنا «يتمم» بين الحين والحين علي أبناء المهنة، ويعرف من مات ومن عاش ومن غيب. وبعد.. لم أسكت يا أستاذنا، ولن أسكت، فالسكوت للكاتب ليس نوما، ولا بتأثير مخدر يضعه كاهن لكاتب، السكوت للكاتب موت محقق. وإذا كنت أنا قد سكت عن الأهرام أو سكت الأهرام عني، فأسباب عاصفة كانت وهو جاء يعرفها الناس جميعاً وباستطاعتك أن تسأل عنها أي عابر سبيل في شارع الجلاء، إذا كان هذا قد حدث، فلا تزال المسئولية مشتركة، ولايزال السؤال حاداً كالنصل: وما ذنب القارئ؟ وكم كثيرون قد أرسلوا يسألونني ويلحون في السؤال حتي اضطررت أن أرسل لبعضهم خطابات خاصة، أما حين يجيء السؤال من أشهر كاتب وأشهر قارئ بالتالي فلاأملك، ولا يملك الأهرام فيما أعتقد، إلا أن نجيبه علي الملأ. ولا أملك أنا أيضا، إلا أن أعدك - أيها الأستاذ والقيمة والرمز - أن أكون عند حسن ظنك وظن القراء الأعزاء، وإلا أن أبدأ الكتابة عن رحلتي الأخيرة إلي أوروبا تلك التي بلسمت الجراح وملأني التأمل لحياتنا خلالها بكثير من الطمأنينة. ودوما - أنت هكذا وستظل - سباقا إلي المودة وإلي السلام. تمنياتي لك وللكتّاب والقراء جميعا بعام جديد حافل بكل ما هو «أرفع وأنفع» في الفكر والخلق والإبداع.
نقلا عن جريدة القاهرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق