الأحد، 4 ديسمبر 2011

مراوغة - هدي حسين



كلما بدأت الكتابة عن عبد العزيز وسماح يحدث شيء يمنعني من ذلك. أولا مرضت مرضا شديداً واضطررت لأن أبقى أسبوعين في الفراش. ثم تشاجرت مع أحد أفراد العائلة لدرجة رفعت ضغطي لدرجة يمكنها أن تصيبني بتسمم الحمل. ثم جاءني حمد لينقذني وزوجي من القطط في حلم.. ثم الأمس، جاءني حلم آخر. كان ملونا. كان بالللغة الانجليزية كله. وكان حلما شيقاً جداً. فيه الكثير من الموتي يعودون إلى الأرض وهم يشبهون أنفسهم تماماً عندما كانوا أحياء.. كانوا كثيرين جداً.. جحافل جحافل من الأموات المتوردين ذوي الصحة الجيدة.. وكنت أنا وزوجي منهم. ولم أكن ساعتها في الحلم أعرف أننا جميعا أموات.. لكن يبدو أن زوجي كان يعرف شيئاً ويخفيه. أنا كنت متحمسة جدا للحياة، تماماً مثلما أكون في مطار القاهرة متحمسة جدا لملامسة أرض الوطن بعد رحلة طويلة إلى بلاد غريبة.. كان المكان أشبه لمدينة ملاهي بها مطاعم كثيرة وحمامات وأماكن للتسوق. الألوان والأضواء أخاذة جدا.. لكنني كلما شربت شيئاً و أكلت شيئاً لم أجد له طعماً، لم يملأ فراغ معدتي.. كان يختفي ما إن يلامس فمي.. حدثت أشياء كثيرة في هذا الحلم لا أتذكرها الآن، لكنني أتذكر جيدا البنت والولد اللذين كانا معنا أنا وزوجي. كانا يتقدماننا. وكانا في سن بين السادسة والثامنة. البنت كانت أكثر إقداماً، الولد كان يتبعها تقريبا. البنت بشعر أصفر مجعد وملابس تميل ألوانها للأحمر والأسود، أما الولد فشعره بني ناعم وملابسه تميل إلى البني والأصفر الصحراوي.. لم يقل الولد كلمة واحدة في الحلم.


وبعد أن تجولنا كثيرا في مدينة الملاهي هذه، وكلما طلبت شيئاً حدثت الصدمة ذاتها بأنني لا أجد له طعماً، قال زوجي: - "حواسنا أين ذهبت؟
فأجبته: - " لا أعرف، لكن ينبغي أن نذهب للبحث عنها..
قالت البنت: - " هناك مكان قريب هنا يسكنه من هم مثلنا فقط ربما ينبغي أن نذهب إليه."
ذهبنا حيث وجهتنا البنت. ووجدناه فعلا مكاناً أبيض جيرياً واسعاً ومليء بالعنابر ذات الشبابيك الواسعة. ذهبنا كلنا بكل جحافلنا إلى هناك. كان منا المتخلفون عقلياً، والمذهولون، والمستسلمون، كان منا من كل نوع من البشر، لكن لم يكن منا من الثائرين ولا المتمردين واحدا.. وبينما نحن هناك، وبينما أنا أنظر إلى أشكال الآخرين الذين معنا.. قلت لزوجي: - " هذا مستحيل.. هذا مقرف.. كيف يمكن أن نكون مع هؤلاء البشر..!!!
أجابني: - " هذا هو الحال..
- لكن أيضاً، البشر الآخرون في مدينة الملاهي هذه، لا يشعرون بنا وكأننا لسنا هنا..
- نعم هذا صحيح..
- تقصد أننا؟.. (هنا جاءتني فكرة أننا أموات لكن زوجي لم يجب.. ولم أكن بحاجة لإجابة وكأن اليقين جاءني هكذا فجأة وقبلته.)
قلت وقد فهمت أيضا أنني أنا وزوجي والطفلان أسرة ضمن مجموعات أخرى من الأسر، قلت: أنا لا أحب المكان الذي تلغى فيه حواسي حتى لو كان الكرة الأرضية كلها، ولا أحب المكان الذي يجمعني بهؤلاء البلهاء الراقدين في عنابر بيضاء ينهشهم جيرها.. إذا كنا فعلا أمواتاً فنحن لا ننتمي لهذا المكان بالمرة. ينبغي أن نتحرر من هنا.
وبينما كنت أقول ذلك كنت أجد الطفلة تشاركني الرأي لكن بحماسة أشد وقوة تكاد تشبه القدرة على القتل أو قطع الحبل السري لوليد لا حول له ولا قوة.. كانت أشجع مني بكثير.. كانت تشبح شفرة الموس بينما كنت أنا ماكينة الحلاقة فقط.. وكانت استجابة زوجي رائعة، وكأنه كان ينتظر أن أطلب الخروج من هذا المكان..قال:
-" عظيم.. !
ووجدت نفسي أقول له مبررات للخروج بينما نخرج ويخرج معنا أغلب الجحافل الميتة المتوردة بحيويتها.. وجدت نفسي أقول له:
-" إذا كنا أمواتاً فعلاً، فلماذا نرضى بحياة محدودة في حدود إمكانيات الجسد؟! بل وأيضا لماذا نسجن أنفسنا في موت أجسادها داخل عنابر ليس فيها أي فعل إبداعي يمكن للواحد أن يمارسه؟! إذا كنا فعلا أمواتاً فلماذا لا نستغل هذه الاحتمالات المطروحة أمامنا بموتنا.. علينا أن نستغل طاقة موتنا هذه. ينبغي أن نبدع أكثر ونعود إلى عالمنا المليء بالإمكانيات..


هكذا ما إن كان أحد منا يخرج من بوابة السور الأخضر للعنابر البيضاء إلى ويسحبه شيء لأعلى ثم يتلاشى.. حتى صرنا نبتعد جميعنا عن عدسة كاميرا الحلم. هنا وجدت أننا نجلس كمتفرجين في سينما صيفي مكشوفة أمام شاشة عرض، خلفها رجل مفتول العضلات، ومربوط بحبال من كل مفصل في جسمه بالأجهزة خلف الشاشة. وكان حوله رجال آخرون يهددونة.. كان هذا الرجل ميتاً. ولهذا ربما عرفت أن أتواصل معه.. كان عبد العزيز..وقد عاد.


ورغم كل هذا، أعرف أن هذا الحلم لا يعني شيئاً في ذاته. صحيح كان يحتوي على كثير من المشاهد الممتعة لحظة رؤيتها، والكثير من الألوان والأضواء.. إلا أنني أعرف تماماً أن هذا الحلم مزجوج من عبد لعزيز إلى رأسي، بعد أن حاول بالترهيب أن يمنعني عن كتابة حكايته هو وسماح.. الآن يحاول بالترغيب.. بأن يجعلني كلما بدأت أتوغل في حكايتهما يصيبني النوم وأحلم بشيء جديد وجميل ومثير لدرجة تجعلني أبدأ بحكيه قبل حكي قصتهما.. أعرف أيضاً أن عبد العزيز لا يفعل ذلك عن عنف منه. لكنه خجول جدا.. كما عرفته دائماً، ولا يحب أن يتعرف على خصوصياته أحد.. إنه حكي لي كل شيء لأنه شعر بالطمأنينة نحوي، وبأنني لا أريد منه شيئاً.. الآن وقد صرت أكتب سيرة خيالي النائم والصاحي، لا أستطيع أن أحذف عبد العزيز وسماح هكذا.. هو يعرف جيداً كم أحبهما.. لكنه يحتاج وقتاً ربما لكي يعرف أن قصته السرية هذه، ليس فيها ما يشين أبداً، بالعكس، فيها الكثير من الشجاعة والمروءة التي تجعله بطلاً. وبرغم أنه فعل كل ما فعله بلا رغبة حقيقية في الظهور كبطل، إلا أنه كان كذلك فعلا في استماتته للدفاع عن اختياراته.. وكان ممكن أصلا أن يكفيه بطولة أن يحرر نفسه من العبودية بأن يقرر يوما أن يختار.. حتى لو لم يستطع الدفاع عن اختياراته. عبد العزيز شبح مسئول ويستحق أن يفخر به معي كل من يدخل إلى أحلامي.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق