الأحد، 4 ديسمبر 2011

قطة الشارع السوداء - هدي حسين







من التوهان عن عمد، تأتي صحوة. أن تقرر فجأة مثلاً أنه ليس عليك أن تعاقب نفسك بأن تجعل شكل استكشافاتك للعالم الخارجي علي هيئة أنك تضيع فيه.. وكأنك تتصنع لنفسك مبررا للخروج إليه.. لماذا كل هذا العناء؟ المسألة ليست إلا مسألة قرار. اي مسئولية اتخاذه ومسئولية تبعاته. كانت رغبه المحمومة في البقاء في المنزل، مع عدم اطمئنانه الكامل لوجودي المجسم هناك والذي قد يبدد كثافته ورهافة مادته في اي لحظة غضب مني، كان لذلك ولغيره من الأسباب ما جعلني أبدأ في اتخاذ قرارات مثل المبيت في الشارع مثلا.. وما المشكلة؟ ماذا سيحدث لي؟ أريد أن أختبر الكلام الذي يقال عن خطر تواجد الفتيات في الشارع ليلاً. أنا قطة شارع سوداء هذه الليلة. سأقنع نفسي بهذه المسألة وسنرى إن كان أحداً سيكتشفني في الليل، مموهة بلونه.. وإن اكتشفني، فهل يفعل شيئاً لقطة شارع؟ بالفعل، عندما كنت أتخيل نفسي قطة شارع سوداء كانت هي المرات التي لا أتعرض فيها لأي أذى من شرطي أو شباب سكرانين الخ الخ.. لدرجة أنني بدأت أصدق أنني من شدة ما اقتنعت بأني قطة شارع سوداء، لم يرني الآخرون إلا هكذا، ولم أعد مطمعاً لأي عابر يمر في الثالثة صباحاً سكراناً قرب مجمع التحرير.. ولا قضية مضمونة لشرطي يريد أن يثبت جدارته..


عندما طلب مني عبد العزيز أن أخرج من البيت وأن أفتح باباً من عقلي عليه حتى يمكننا أن نتواصل عن بعد، كنت بالفعل قد اختبرت مسبقاً مسألة القطة هذه، لهذا كان من السهل علي أن أبقى خارج البيت لأي مدة يريد هو أن يحدثني فيها أو أن يظهر لي.. وقد كنت بالفعل صرت خبيرة في أماكن وأسعار المقاهي التي تفتح أربع وعشرين ساعة.. لذلك لم يكن من الصعوبة علي تنفيذ طلبه.


لم يكن عبد العزيز قد تشكل على هيئة آدمي بعد، بل وأنه في هذه المرحلة لم يكن قد تخلص بعد من صفته الدخانية التي كانت تحاول أن تتشكل في هيئة مزيج بين الحصان والتمساح العملاق من الحديد والرصاص.. في هذه الرحلة الليلية، عرفت فعلا معني أن افتح عيني على مكان لست فيه. فقد كنت في الشارع، وكنت في الوقت ذاته أري البيت بدقة شديدة، واعرف أين عبد العزيز الآن من البيت وماذا يفعل، وكيف يتحرك ولماذا.. كل شيء كان واضحاً جدا. في هذه الليلة أخبرني عبد العزيز ومثل أمامي صورة كاملة لشكل حياته اليومي. ماذا يفعل بالتحديد. وقد ولد في أحد البلدان من الجهة الأخرى للبحر المتوسط، وتم التقاطه صغيراً من الشوارع لكي يصبح ضمن خدم أحد الملوك. ثم حدثت أشياء مروعة (لم يحكي لي ساعتها ما حدث) ووجد عبد العزيز نفسه تائها في بلاد لا يعرفها. لكنه لا يعرف سوى أن يكون خادماً. لهذا صار يخدم أول مخلوق رآه.. وتدريجياً صار يخدم مقابل الاستقرار داخل بيت المخدوم فحسب لأنه غير معتاد على الحياة خارج البيوت، يراها مرعبة وتكاد تسحقه من شده الفزع.


أخبرني أيضاً أنه لم يأت إلى بيتي من تلقاء نفسه، بل إنه مرسل من إحداهن ليضر بي. لكنه لم يجد مني أي سوء، وقد حاول استفزازي كثيراً، بل وفي لحظات ضعفي أيضاً. قال إنه كان يحاول أن يجد مبررا لإيذائي، لأنه في الأساس لا يحب الإيذاء، لكنه أُخِذ عليه عهد منذ كان صغيراً أن يخدم سيده الذي يأويه. ولآنه لا يعرفني جيدا حتى الآن، طلب مني أن أخرج بعيدا حتى يحدثني دون أي احتمال أن أسيء إليه عن هذا البعد، لأنه ببساطة يشعر أنه لا يريد أن يجد مبررا لإيذائي.. لكنه في صراع ولا يعرف ماذا يفعل.. والحل الوحيد لكي يتخلص من وعده بإذائي لسيدته التي دفعت به إلي، هو أن يستقر في بيتي، وبهذا يخدمني، ويبقى لم يفرط في عهده أن يخدم سيده الذي يأويه.


شعرت براحة شديدة عندما تحدث إلى عبد العزيز.. كنت أريد أن أحتضنه، لكنه لم يكن شيئاً ملموساً.. ابتسمت وأوصلت له شعوري بالراحة هذا.. هو أيضا كان يشعر بالراحة بعد أن حدثني.. أخبرته أنه يمكنه أن يبقى عندي ضيفا مكروما حتى يقرر ماذا يفعل.. وأنني لن أغضب إذا قرر إيذائي.. لأن مجرد أن يقرر شيئاً، فهذا يعني أنه يمكنه الاختيار. والعبد لا يختار. فإذا استطاع أن يختار ويقرر، فإنه يصبح حراً، وبهذا لا يحتاج إلى أن يخدم أحداً لمجرد أنه يبيت لديه، بل قد يخدمه لأنه "يريد" ذلك.. والإرادة هي ما يفرق بين العبد والحر.. العبد تابع لإرادة سيده، أما الحر فله إرادته الخاصة..






استمرت خروجاتي الليلية، حتى انتهي عبد العزيز من إخباري بكل ما يريد أن يخبرني به. لم أفرض عليه أي اعترافات. ولم أحاول التحقق من أي شيء يقوله. أخبرته أنني أثق فيه ثقة تامة، لهذا لا أحتاج إلى أن أستجوبه.. وفي كل رحلة لقطة الشاعر السوداء، كان عبد العزيز يزيد شيئاً من حكايته إلى ذاكرتي. وكنا نتحدث كثيراً إلى بعضنا البعض، بل وبدأنا نتحدث في البيت أيضاً أحياناً عن تفاصيل نهارية تكون قد حدثت لأي منا.. وكنت أراه بدأ يخرج نهائيا من حالته الدخانية وبدأت تزداد رغبته في التجسد. ليس التجسد المعدني كما كان يفعل عندما يحول نفسه إلى تمساح/حصان عملاق ليخيفني منه كنوع من توخي الحذر تجاه أي شر محتمل قد يصدر عني.. صار مكانه المفضل في الشقة هو الصالون، أبعد مكان عن المطبخ الذي كان يختبئ فيه في البداية.. الصالون، حيث أنام وأكتب.. وفي الصالون صارت الكنبة التي أنام عليها مكان جلوسه المفضل.. صارت بيننا ألفة الأصدقاء وكان عبد العزيز فرحاً لدرجة ملأت المكان بهجة. وكنت سعيدة من أجله بحق..
في هذه الفترة كان عبد العزيز يجاهد لأن يصبح كتكوتاً له ريش أصفر فاقع. ينجح أحياناً ويفشل أحياناً.. لكنه كان فرحاً بالمحاولة، وكان مثابراً جداً ولا يحدوه اليأس أبداً.. كان أيضاً طوال الوقت يريد أن يخدمني. وهذا ما كنت أنهره عليه. وكان سبب خلافاتنا وضيقنا من بعضنا البعض أحياناً. مثال:
أعود من العمل مرهقة ومتضايقة من فلانة أو فلان لأنه فعل كذا أو كذا، أو كلمني بطريقة غير لطيفة الخ.. فينبري عبد العزيز مستبقا الكلام:
- أنا أنتقم لك
- لكنني لا أريد ذلك، لو كنت أريد أن أنتقم لكنت فعلت ذلك بنفسي
- أنت بريئة جدا وربما لا تعرفين كيف تفعلين ذلك، أنا عندي قدراتي وإمكانياتي، يمكنني أن آخذ لك حقك من أي مخلوق في العالم، دعيني أحرسك وأحميك فأنت فضلك علي كثير
- اسمع! أنا لا أريد شيئاً من أحد! أستطيع تدبر حياتي وحدي. كنت كذلك قبل أن أراك وسأظل كذلك للأبد..
- دعيني أخدمك.. أريد أن أكون خادمك.. فأنت طيبة ولا تعاقبين.
- لكنني لا أريد خدماً ولا عبيداً! أنا حرة بنفسي ولا أستطيع أن أتخيل نفسي الحرة تقبل أن تستعبد غيرها من النفوس! لو جعلتك عبدا لي سأسقط من نظر نفسي وقد أجد أنها تستحق القتل!
- حسناً، اطلبي مني أي طلب، كأصدقاء، اطلبي مني أي شيء تريديه.
- إذا كنت فعلا صديقي، فاخبرني عن اسمك، عن جنسك، عن نوعك.. فضولي الوحيد تجاهك هو أن أعرفك، وأن أعرف ماذا يمكنني أن أفعل لك لكي أساعدك تتخلص من عبوديتك وتكون حراً، لكن أن أطلب منك شيئاً فهذا محال. أولا، كما قلت لك لا أريد خدما، ثانياًـ لو بدأت أعتاد أن أطلب منك أشياء سأكون بدأت أعتاد على الاعتماد عليك في تنفيذ أغراضي في الحياة. وهذا سيفقدني تدريجياً قدرتي على تنفيذها بنفسي، وسيجعلني عبدة لك لأنك تنفذ لي ما لا أستطيع أن أفعله بنفسي.. سأتكل عليك، كما يتكل العبد على سيده في الطعام. فهل ترضى لي العبودية وأنا حرة؟ اسمع، أو اسمعي.. فأنا لا اعرف لك اسما أو جنسا بعد، عليك أن تفهم إنني لو استعبدتك سيستعبدني استعبادي لك.. هل تفهمني؟ وأنا لا أرضي لنفسي ذلك. اسمع. أنت هنا بكامل اختيارك. ولم ولن أجبرك على شيء. ولن أطلب منك شيء. أليس لك هدف في الحياة؟ شيء يخصك أنت ولا يخص مخدوميك؟ اعتبرها فرصة لأن تفكر في نفسك. لأن تتخذ قراراتك..


كنت أخرج من هذه المناقشات مع عبد العزيز منهكة تماماً..وكان هو أيضا يبدو وكأنه يشعر بخيبة أمل.. بدأ هو ينزوي بعيداً في ركن المطبخ، يفكر ويتدبر أموره.. وأنا بقيت أذهب إلى العمل، وأعود إلى البيت فأجده منشغلا، أو بائساً لا يريد أن يحدثني.. أنا أيضا كنت أخشى أن نفتح حوارا ينهكني .. فكنت أقتصر على السلام، وأعد طعامي وأذهب للصالون حيث أنام أو أكتب أو أجلس في الشرفة.. كانت فترة صمت بيننا، يحتاجها كل منا.


بعد فترة، جاء عبد العزيز وطرق باب الصالون. قال :
- أعرف ماذا أريد. لقد اتخذتُ قرارا.
- رائع، ما هو؟
- قررت أن أبقى معك إلى الأبد.
- لكن هذا لا يمكن أن يكون قراراً فردياً هكذا. إذا كنت قررت أن تبقى معي، أو تريد أن تقرر ذلك فينبغي أن تسألني بأعتباري طرفا في الموضوع! أليس كذلك؟
- لماذا تكرهيني؟
- أنا لا أكرهك. لكنني منذ أكثر من ثلاث سنوات الآن أعيش وحدي، وقد تعودت على هذا، ولم أعد أتحمل فكرة أن يعيش معي أحد للأبد.. أنت ضيفي، إلى أن تجد ما تريد. لكن قرار كهذا فيه الكثير من الاتكالية والكسل، وبما أني طرف فيه يمكنني ألا أوافق عليه.
- لن تشعري بوجودي، سأكون في منتهى الهدوء والدعة. أقسم لك لن أشعرك بوجودي..
- هل تظن أن بيتي مقبرة؟
- ماذا؟
- اسمع! أن تقبع في مكان واحد وفي هدوء تام، يعني أنك ميت في مقبرة. وأنا بيتي ليس مقبرة. لماذا لا تخرج للشارع، للناس، للهواء، للشجر.. لماذا لا تريد أن تعيش؟
- لا! الشارع صاعقة. والناس متعطشين للدماء والهواء كله أشلاء والشجر مقطوع بأدي السفاحين!
- أنت تضحكني يا..، لا أعرف ماذا أسميك.. أنت تضحكني فعلاً.. هذا ليس صحيح بالمرة. تعالى معي وأنت ترى بنفسك..
- لا، هذا خطر، ينبغي ألا تخرجي أنت أيضا. الشارع خطر.. ابقى معي في البيت هنا أمان.
- اسمع، أنا تأخرت وينبغي أن أذهب للعمل الآن!
- انتظري! لا! الخروج للشارع خطر. ابقى! سأوفر لك الطعام وكل شيء، ولن تحتاجي للعمل، ابقى هنا أمان أكثر. الشارع خطر!
- ما الذي يفزعك هكذا في الشارع؟ أليس هذا هو ذاته الشارع الذي طلبت مني أن أذهب إليه حتى يمكنك أن تحدثني؟ هل كنت تريد لي أن أقع في خطر إذا؟
- لا، كنت خائف منك. لكني الآن خائف عليك. ينبغي أن تسمعي كلامي.
- أولا، لا، لا ينبغي أن أسمع كلامك ولا أن أسمع كلام أي أحد غيري. ثانياً أنا ذاهبة للعمل ولا أريدك أن توفر لي شيء ولم أطلب منك ذلك ولن أقبله حتى لو كان طعام الجنة. ثالثاً سأخرج وأعود متى أحب، هذا ما أنا عليه وسأظل عليه بك أو بدونك.. رابعاً، إذا كنت تريد أن تتعفن في البيت، فاختر مكاناً آخر، لأن بيتي ليس مقبرة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق