الخاتم بجوار المصباح . الصمت يحل فتعمى الاذان . فى الصمت يتسلل الإصبع . يضع الخاتم. فى صمت أيضا يطفأ المصباح . والظلام يعم .
فى الظلام أيضا تعمى العيون. الأرملة وبناتها الثلاث. والبيت حجرة. والبداية صمت .
* * *
الأرملة طويلة بيضاء ممشوقة ، فى الخامسة والثلاثين. بناتها أيضا طويلات فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسى الأسود بحداد أو بغير حداد . صغراهن فى السادسة عشرة وكبراهن فى العشرين .. قبيحات ورثن جسد الأب الأسمر الملئ بالكتل غير المتناسقة والفجوات ، وبالكاد أخذن من الأم العود .
الحجرة ، رغم ضيقها تسعهن فى النهار . رغم فقرها الشديد مرتبة أنيقة ، يشيع فيها جو البيت وتحفل بلمسات الإناث الأربع . فى الليل تتناثر أجسادهن كأكوام من لحم دافئ حى ، بعضها فوق الفراش ، وبعضها حوله ، تتصاعد منها الأنفاس حارة مؤرقة ، أحيانا عميقة الشهيق .
الصمت خيم مذ مات الرجل ، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل . انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى وأبرزها الصمت .. صمت طويل لا يفرغ اذ كان فى الحقيقة صمت انتظار فالبنات كبرن والترقب طال والعرسان لا يجيئون . ومن المجنون الذى يدق باب الفقيرات القبيحات ، وبالذات إذا كن يتامى ؟ . ولكن الأمل بالطبع موجود ، فلكل فولة كيال ولكل بنت عدلها . فإذا كان الفقر هناك فهناك دائما من هو أفقر ، وإذا كان القبح هناك فهناك دائما الأقبح والأمانى تنال .. أحيانا تنال بطول البال .
* * *
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة … يتصاعد فى روتين لا جدة فيه ولا انفعال . والتلاوة لمقرئ ، والمقرئ كفيف ، والقراءة على روح المرحوم وميعادها لا يتغير .. عصر الجمعة يجئ بعصاه ينقر الباب ، ولليد الممدودة يستسلم ، وعلى الحصير يتربع . وحين ينتهى يتحسس الصندل ، ويلقى بتحية لا يحفل أحد بردها ، ويمضى . بالتعود يجئ ..بالتعود يقرأ .. بالعادة يمضى ، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد ..
دائم هو الصمت ، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت . دائم هو كالانتظار ، كالأمل .. أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل فى الأقل . دائما هناك لكل قليل أقل ، وهن لا يتطلعن لأى أكثر .. أبدا لا يتطلعن .
يدوم الصمت حتى يحدث شئ .. يجئ عصر الجمعة ولا يجئ المقرئ . فلأى اتفاق مهما طال نهاية وقد انتهى الاتفاق .
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم ، ليس فقط الصوت الوحيد الذى كان يقطع الصمت ، ولكن أيضا الرجل الوحيد الذى كان ولو فى الأسبوع مرة يدق الباب ، بل أشياء أخرى يدركن .. فقير مثلهن هذا صحيح ، ولكن ملابسه أبدا كانت نظيفة ، وصندله دائما مطلى ، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون ، وصوته قوى عميق رنان .
والاقتراح يبدأ : لماذا لا يجدد الاتفاق ومنذ الآن ؟ ولماذا لا يرسل فى طلبه هذه اللحظة ؟ مشغول ، فليكن ! الانتظار ليس بالجديد . وقرب المغرب يأتى ، ويقرأ وكأنه اول مرة يقرأ ، والاقتراح ينشأ .. لماذا لا تتزوج إحداهن رجلا يملأ علينا بصوته الدار ؟ هو أعزب لم يدخل دنيا ، وله شارب أخضر ، ولكنه شاب . وبالكلام يجر الكلام ، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال .
البنات يقترحن والأم تنظر فى وجوههن لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح . ولكن الوجوه تزور مقترحة – فقط مقترحة – قائلة بغير الكلام : أنصوم ونفطر على أعمى ؟ هن مازلن يحلمن بالعرسان ، والعرسان عادة مبصرون ، مسكينات لم يعرفن بعد عالم الرجال ، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه .
- تزوجيه انت يا أماه .. تزوجيه
- انا ؟ يا عيب الشوم ! .. والناس ؟
- يقولون ما يقولون .. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال .
- أتزوج قبلكن ؟ مستحيل
- أليس الأفضل أن تتزوجى قبلنا ، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك ؟ تزوجيه يا اماه
وتزوجته .. زاد عدد الأنفس واحدة ، وزاد الرزق قليلا ، ونشأت مشكلة أكبر .
الليلة الأولى انقضت وهما فى فراشهما ، هذا صحيح ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب .. ولو صدفة ! .. فالبنات الثلاث نائمات ، ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما .. كشافات عيون ، وكشافات آذان ، وكشافات إحساس . البنات كبيرات ، عارفات ومدركات ، والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحى إلى ضوء نهار . ولكن بالنهار لم تعد ثمة حجة ، وواحدة وراء الأخرى تسللن ولم يعدن إلا قرب الغروب ، مترددات خجلات يقدمن رجلا ويؤخرن رجلا ، حتى يزددن قربا وحينذاك يدهشهن .. يربكهن .. يجعلهن يسرعن ضحكات .. قهقهات رجل تتخللها سخسخات امرأة .. أمهن لابد تضحك ، والرجل الذى ما سمعنه الا مؤدبا خاشعا ها هو يضحك ! بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك ، رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك ، وجهها .. ذلك الذى أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشعش فيه العنكبوت والتجعيدات ، فجأة أنار ، ها هو أمامهن كلمبة الكهرباء مضئ . ها هى عيونها تلمع وقد ظهرت وبانت وتلألأت بالدمع الضاحك .. تلك التى كانت مستكنة فى قاع المحجر .
الصمت تلاشى واختفى تماما ، على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء نكت تترى وأحاديث وغناء ! صوته حلو وهو يغنى ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب ، صوته عال أجش بالسعادة يلعلع .
خيرا فعلت يا أماه ! وغدا تجذب الضحكات الرجال ، فالرجال طعم الرجال .
نعم يا بنات ، غدا يجئ الرجال ويهل العرسان . ولكن الحق إن ما أصبح يشغلها ليس الرجال أو العرسان ولكنه ذلك الشاب كفيف فليكن ، فما أكثر ما نعمى عن رؤية الناس لمجرد أنهم عميان . هذا الشاب القوى المتدفق قوة وصحة وحياة ، ذلك الذى عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير أوان .
الصمت تلاشى وكأن الى غير رجعة ، ضجيج الحياة دب . الزوج زوجها وحلالها وعلى سنة الله ورسوله ، فماذا يعيب ؟ وكل ما تفعله جائز ، حتى وهى لم تعد تحفل بالمواربة أو بكتمان الأسرار . حتى والليل يجئ وهم جميعا معا ، فيطلق العقال للأرواح والأجساد، حتى والبنات مبعثرات متباعدات يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات ، مسمرات فى مراقدهن يحبسن الحركة والسعال .. تظهر الآهات فجأة فتكتمها الآهات .
كان نهارها "غسيل " فى بيوت الأغنياء ، ونهاره قراءة فى بيوت الفقراء ، ولم يكن من عادته أول الأمر أن يؤوب إلى الحجرة ظهرا ، ولكن لما الليل عليه طال والسهر أصبح يمتد ، بدأ يؤوب ساعة الظهر يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى واستعدادا لليل قادم . وذات مرة بعدما شبعا من الليل وشبع الليل منهما ، سألها فجأة عما كان بها ساعة الظهر، ولماذا هى منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها ؟ ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن – إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا – ولماذا لم تكن تضعه ساعتها؟
كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة . كان ممكنا أن تجن . كان ممكنا أن يقتله أحد . فليس لما يقوله إلا معنى واحد ، ما أغربه وأبشعه من معنى !
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا وحبست معه أنفاسها .. سكتت . بآذانها التى حولتها إلى أنوف وحواس وعيون راحت تتسمع وهمها الأول أن تعرف الفاعلة . إنها متأكدة لأمر ما إنها الوسطى . إن فى عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذا أطلق .. ولكنها تتسمع الأنفاس الثلاثة تتعالى عميقة حارة كأنها محمومة .. ساخنة بالصبا تجأر ، تتردد ، تنقطع ، أحلام حرام تقطعها .. أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح .. فحيح كالصهد الذى تنفثه أراض عطشى ، والغصة تزداد عمقا واحتباسا . إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حى ساخنة مكتومة وكومة أخرى . كلها جائعة ! كلها تصرخ وتئن ، وأنينها يتنفس ليس أنفاسا ، ربما استغاثات . ربما رجوات .. ربما ما هو أكثر .
غرقت فى حلالها الثانى ونسيت حلالها الأول .. بناتها ! والصبر أصبح علقما ، وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر . فجأة ملسوعة ها هى كمن استيقظ مرعوبا على نداء خفى .. البنات جائعات ! الطعام حرام صحيح ولكن الجوع أحرم .. أبدا ليس مثل الجوع حرام ! إنها تعرفه .. عرفها ويبس روحها ومص عظامها ، وتعرفه – وشبعت ما شبعت – مستحيل أن تنسى مذاقه .
جائعات وهى التى كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن … هى التى كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن ، هى الأم ، أنسيت ؟
وألح مهما ألح تحولت الغصة إلى صمت. الأم صمتت ومن لحظتها لم يغادرها الصمت .
وعلى الإفطار كانت – كما قدرت تماما- الوسطى صامتة
وعلى الدوام ظلت صامتة
والعشاء يجئ والشاب – سعيدا وكفيفا ومستمتعا – ينكت لا يزال و يغنى ويضحك ولا يشاركه الضحك إلا الصغرى والكبرى فقط .
ويطول الصبر ويتحول علقمه إلى مرض ولا أحد يطل .
وتتأمل الكبرى ذات يوم خاتم أمها فى إصبعها وتبدى الإعجاب به ، ويدق قلب الأم وتزداد دقاته وهى تطلب منها أن تضعه ليوم ، لمجرد يوم واحد لا غير . وفى صمت تسحبه من إصبعها . وفى صمت تضعه الكبرى فى إصبعها المقابل .
وعلى العشاء التالى تصمت الكبرى وتأبى النطق
والكفيف الشاب يصخب ويغنى ويضحك، والصغرى تشاركه
ولكن الصغرى تصبح – بالصبر والهم وقلة البخت – أكبر ، وتبدأ تسأل عن دورها فى لعبة الخاتم ، وفى صمت تنال الدور .
والخاتم بجوار المصباح … الصمت يحل فتعمى الآذان . وفى الصمت يتسلل الإصبع صاحب الدور ويضع الخاتم فى صمت أيضا ويطفئ المصباح والظلام يعم ، وفى الظلام تعمى العيون . ولا يبقى صاخبا منكتا مغنيا ، إلا الكفيف الشاب .فوراء صخبه وضجته تكمن رغبة تكاد تجعله يثور على الصمت وينهال عليه تكسيرا . إنه هو الآخريريد أن يعرف .. عن يقين يعرف . كان أول الأمر يقول لنفسه إنها طبيعة المرأة التى تأبى البقاء على حال واحد ، فهى طازجة صابحة كقطر الندى مرة ، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى . ناعمة كملمس ورق الورد مرة . خشنة كنبات الصبار مرة أخرى . الخاتم دائم وموجود صحيح ، ولكن وكأنما الإصبع الذى يطبق عليه كل مرة إصبع إنه يكاد يعرف، وهن بالتأكيد كلهن يعرفن، فلماذا لا يتكلم الصمت ؟ لماذا لا ينطق ؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء، ماذا لو نطق الصمت ؟ ماذا لو تكلم ؟
مجرد التساؤل أوقف اللقمة فى حلقه
ومن لحظتها لاذ بالصمت تماما وأبى أن يغادره
بل هو الذى أصبح خائفا أن يحدث المكروه مرة ويخدش الصمت . ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله ، والويل له لو انهار بناء الصمت
الصمت المختلف الغريب الذى أصبح يلوذ به الكل
الصمت الإرادى هذه المرة ، لا الفقر ، لا القبح ، لا الصبر ولا اليأس سببه .
إنما هو أعمق أنواع الصمت ، فهو الصمت المتفق عليه أقوى أنواع الاتفاق ، ذلك الذى يتم بلا أى اتفاق
* * *
الأرملة وبناتها الثلاث
والبيت حجرة
والصمت الجديد
والمقرئ الكفيف الذى جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه إن شريكته فى الفراش على الدوام هى زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه ، تتصابى مرة أو تشيخ ، تنعم أو تخشن ، ترفع أو تسمن ، هذا شأنها وحدها ، بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم ! هم الذين يملكون نعمة اليقين ، إذا هم القادرون على التمييز . وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك ، شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر ، ومادام محروما منه فسيظل محروما من اليقين ، إذ هو الأعمى ، وليس على الأعمى حرج
أم على الأعمى حرج ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق