الأحد، 4 ديسمبر 2011

قطة بيضاء وقطة سوداء - هدي حسين





سقطع حكـقطع حكايأقطع حكاية عبد العزيز وسماح مؤقتاً من أجل "حمَد"..
"حمَد" غلام بين الثانية عشر والرابعة عشر، زارني بالأمس في الحلم. ولا أستطيع الآن بعد أن زارني أن أتجاهله، وإلا سأكون جاحدة وناكرة للجميل.. حمد صبي أسمر نحيف بشعر طويل ناعم لكن الصحراء ألهمته بعض الالتفافات..


كنت أنا وزوجي في أحد رحلاتنا المحببة.. كنا في الصحراء، ولا يمكنني أن أميز هل كنا في منطقة سقارة أم الأهرامات أم ميت رهينة "ممفيس"، لكنني أرجح أنها إما سقارة أو ميت رهينة.. كنا نتنزه ببطء شديد نظراً لظرفي الحالي – الحمل. وكنت أمسك بذراعه كمن يمسك بصورته في المرآة، وكان ينصت لي كمن ينصت إلى صوت يأتيه من داخله..


كانت الصحراء أمامنا وخلفنا، لكن خطانا كانت تتبع طريقاً معشوشباً قاسياً لما فيه من تعاريج لكنه أخضر.. بعد فترة من المشي، وجدنا مجموعة من السياح يلتفون حول صبي أسمر بجلباب أبيض ناصع، يحمل ثعباناً ضخماً وطويلاً ويعرضه على المجموعة بينما يعدد لهم صفاته، ويوضع لهم هذه الصفات بالكلام النظري وبالتصرف العملي.. الغريب أن "حمَد" كان يشرح كل هذا باللهجة العربية الخاصة بالبدو غير أن السائحين كانوا يفهمونه وظهر ذلك على تعبيرات وجوههم.. لكنني مع ذلك اضطررت أن أشرح لزوجي ما يقوله حمد وأترجمه له إلى اللغة الانجليزية. كان حمد يشبه أحد "الرفاعية" بين ثعابينه، بل وأقوى أيضاً.. لأه كان يبدو وكأنما وسط أهله. في بيئته الطبيعية.. عندما ذهب السائحون إلى جولة حرة في المكان، ذهب زوجي بعدهم بقليل، وأنا بقيت مع "حمَد". كان يحدثني كأنه يعرفني منذ أمد طويل.وكنت أتابعه بعيني وكأنما أستعيد صورته أكثر مني أستجمعها للمرة الأولي.. قال لي حمد بلهجته البدوية إن هذا بيته ودعاني للدخول، لكني شكرته وأخبرته أنني أفضل أن نقف أمام الباب حتى يتسنى لزوجي أن يرى أين أنا فلا يقلق.. قال حمد:
- أي باب. لبيتي بابان، واحد على الخضرة، وواحد على الصحراء..
- الباب الذي يعرفه زوجي يا "حمد".. (قلت مبتسمة)


ذهب حمد وأحضر كرسيين من الخوص، واحد بظهر لي، وواحد بلا ظهر له. أشعل النار ووضع براد الشاي فوقها على الأرض بيننا. وأضاف عشباً ناشفاً لا أعرفه إلى الأكواب الزجاجية الصغيره. عشب يشبه الروزماري بعض الشيء. صب الشاي وقلبه بالعشب الذي ألقاه ما إن انتهي من التقليب. أعطاني كوبي وأخذ كوبه وبدأ يتحدث بينما أنا أشرب:
- أنا وعيت على الدنيا وجدت نفسي هنا. أعرف أن لي حياة أخري قبل ذلك في مكان منعم أكثر راحه بكثير. وذاكرتي تقول لي أنني تمردت واستنكرت كل ما حولي ولم أقدر النعمة التي كنت فيها لهذا وعيت هذه المرة فوجت نفسي هنا. هذا بيتي كما ترين، علبه من الطوب اللبن لها بابين.. باب على الحقول التي غير مسموح لي أطعم منها وباب على الصحراء التي صارت وطني الآن أهيم فيها كيفما أشاء..
- بيتك جميل يا حمد.. انظر. الناس يأتوك من كل بقاع الأرض..وأغلبهم يفضل الخوض في الصحراء لا في الحقول..
- نعم الصحراء أكثر خطورة، وهذه تجربة يمرون بها ليوم واحد في حياتهم، ويحسدونني عليها ويرحلون لكي يتركوني لها ليل نهار..
- لكنك صرت خبيراً بالصحراء..
- الحمد لله.. وإلا كانت أكلتني الصحراء.. انظري مثلاً...


وأخذ "حمَد" يمسك في كل مرة بحشرة أو نوع من الزواحف الصحراوية أو التي تعيش على حواف الحقول ويشرح لي أين سمها وما نوعية ودرجة خطورتها، وكأنما يلقنني درس السنين.. الدرس الذي كلفه حياته سيهديه لي بينما أشرب عند باب صحرائه شاياً.. قال حمد أيضاً إنه يعرف كل الواحات في الصحراء (يقصد الصحراء الغربية) وأنه يمكنه أي وقت أن يصحبني ويقودني فيها وبينها بدون تحت حراسته فلا تتمكن أي زاحفة سامة أن تؤذيني. كان بقول هذا بينما عاد السائحون من رحلتهم وخلفهم زوجي.. وقفتُ فوضع زوجي يده على كتفي، ينما استأذننا "حمد" ليوجه السائحين إلى الجهة الأخى من البيت حتى يتمكنوا الآن من زيارة الحقول.. يبدو أنه كان ينبغي عليهم أن يتسلقوا سقف بيت حمد حتى يتمكنوا من النظر إلى الحقول.. هذه هي الزيارة. فلا أحد يدخل الحقول.. فقط ينظرون إليها من فوق بيت حمد الذي ليس تسلقه سهلاً..


أثناء ذلك كنت قد ترجمت لزوجي من الحوار الذي حدث بيني وبين حمد، الجزء الذي يقترح فيه مرافقتنا في واحات مصر، أما بقية الحوار فاعتبرته سر حمد الذي اءتمنني عليه فلم أبح به. قلت لزوجي أنني أحب أن يرافقنا حمد في جولات كهذه. فأنصت إليّ..


عاد "حمد" بابتسامة راضية:
- إذاً هل توافقون؟
- نعم، ويكون لنا الشرف يا حمد. لكنني الآن حامل كما ترى، ولا يمكنني التجوال كثيراً، لذا سيكون ذلك إن شاء الله بعد أن أضع حملي..
- طبعا طبعاً" قال "حمد" عابساً وكأنما فقد الأمل.. ثم قال زوجي بابتسامة محبة:
- الآن سآخذ زوجتي لأريها ما رأيت، بعد أن أمَّنت لها الطريق. نراك في العودة.


مشى زوجي ومشيت خلفه بقليل. كان يمشي أمامي ليتفقد قبلي مخاطر الطريق وحتى يزيحها من أمامي.. لزوجي خبرة بالثعابين والحشرات أكثر مني بكثير. لكنها لا تفوق خبرة حمد الذي نقلها لي.. كانت هناك حشرة خضراء تزحف على الأرض وتشبه ثمرة البازلاء. كانت هذه الحشرة خطيرة جداً لأنها ما إن تقع على قدم إلا وتلتصق بها وتبدأ في مص دماء الكائن الحي من خلال شعيراته الدموية. كنت أتفادى هذه الحشرة ببراعة لاعبي سيرك.. أما الثعابين والحيات، يا للعجب، كانوا يقفون على حافتي الطريق المعشوشب الذي نمشيه. يقفون بأجسام مرفوعة حوالي نصفها وينظرون لنا. كان من الصعب تحديد إن كانوا يتربصون بنا، أم يقفون لنا تحية وتعظيماً.. زوجي لم يكن مهتماً بهذا الأمر، فقد كان نظره لا يفارق الأرض، أما أنا فرأيتهم، وحمدت الله على كل حال أنهم لا يهاجموننا، بغض النظر عن سبب وقفتهم هذه.. لكن لا مانع أن اقول هنا أنني فعلا ساعتها شعرت أنني في موكب ملكي، بينما الثعابين والحيات المختلفة ما هي إلا خدم وحراس منها المخلص ومنها الخائن المتربص..


شعرت بتعب من المشيء فقلت لزوجي أنني سأعود لأستريح عند حمد حتى يلحق بي. لم يجب، فعرفت أنه مشغول في اكتشافاته الصحراوية.. عدت أدراجي، وكانت الحشرة الشبيهة بالبازلاء أكثر نشاطاً أثناء العودة مما اضطرني للمشي وكأنني بهلوان حتى أتفاداها. كان من الصعب جدا النظر إلى أي شيء آخر.. وكان ينبغي أن يكون كل التركيز على تفادي هذه الحشرة السامة. بعد فترة، وعندما اقتربت من بيت "حمد" صمعت صوت زوجي يصرخ، نظرت خلفي فوجته يجري، وخلفه رأيت شيئاً أسود لو ذيل منفوش يجري.. لم أعرف ما هذا كل ما خطر ببالي إنه ذئب.. جريت أسع حتى أفسح لزوجي المجال عندما يصل إلي حيث أنا الآ،. هنا، نظر حمد من فوق سقف بيته، ثم ناداني وطلب مني أن اسرع. عندما وصلت عند بيته، أخذ بيدي اليمنى وقدمي اليمنى حتى أصعد إلى سقف بيته. كان الصعود صعباً ببطن كبيرة ووزن أثقل. أخذت فترة أحاول الصعود ولا أستطيع حتى كدت أنهار، لولا إرادة دبت في فجأة جعلتني أتحامل على نفسي وأكمل عملية الصعود، بل وأتدحرج على سطح بيته حتى أفسح مكاناً لزوجي كي يصعد. كان حمد قد قدم يده إلى زوجي بالفعل، زوجي الذي أخذها وصعد بخفة وذعر.. عندما نظرنا تحتنا، كانت هناك قطتان سمينتان بعيون حمراء. قطة بيضاء وقطة وسوداء تتربصان بنا أن نهبط فتنهشانا..


في الحلم، كان هذا هو الرعب كله. لا الحشرات ولا الثعابين.. لكن القطط. كانت هي الوحوش الحقيقية. لا أعرف بماذا كان سينتهي الحلم لولا مساعدة "حمد" لنا في الصعود إلى سقف داره.. لا أعرف بماذا كان سينتهي الحلم لو لم يكن لحمد داراً.. داره الذي استنكر كونها من الطوب اللبن، وكون لها بابين.. لولاها ولولاه لما نوجونا من الملاعين القطط... لأجل هذا المعروف، الذي أنقذت به حبيتنا يا "حمد" أنا وزوجي وأطفالي القادمين، كان ينبغي أن أشكرك علنا وأرد لك الجميل.. قبل أن أعاود متابعة تفاصيل حكاية عبد العزيز وسماح..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق