الاثنين، 5 ديسمبر 2011

يوسف إدريس نحو مسرح مصرى




نحو مسرح مصرى، واحد من ثلاث مقالات كتبها يوسف إدريس، فى محاولة منه للتأصيل لهوية مسرحية مصرية، أو كما كتب هو فى مقدمة كتابه الذى يحمل العنوان ذاته "استنبات المسرح المصرى أو العربى اعتمادا على أشكالنا وتراثاتنا المسرحية" وهو الاتجاه الذى حاوله مع إدريس أيضا عدد آخر من المسرحيين العرب، وقد رأوا أن فى تراثنا من أشكال الفرجة والمسرحة كالأراجوز والحكواتى والمحبظين والسامر الشعبى وغيرها من أشكال، ما يمكن أن نستعيض به عن المسرح الغربى المستورد والعلبة الإيطالية، وما يؤكد هويتنا المصرية والعربية وما يناسب ذائقتنا، لأنه منا. أما المقالين الآخرين فهما: ردا على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا. 


نحو مسرح مصري 
يوسف إدريس 


نقرأ دائما في الصحف وفي الكتب ونسمع في الندوات السؤال: هل هناك مسرح مصري حقيقة؟ هل وجد أصلا ؟! وأين اختفى إذا كان قد وجد؟ ولماذا اختفى؟ 
أسئلة غريبة لأنها لو ترجمت لمعناها الحقيقي لكانت مثل أن نسأل: هل هناك شعب مصري حقيقة؟ هل وجد أصلا؟ وأين اختفى إذا كان قد وجد ولماذا؟ 
والتشبيه فيه مبالغة ولكنه ادق فما دام هناك شعب فمن خصائص الحيوية ولزوميات وجوده أن يأكل وأن يشرب وأن رقص ويضحك وأيضا أن يتمسرح إذا صحت الكلمة تحت أي ظرف وفي كل وقت وما دامت هناك حياة. 
كل ما في الأمر أن التساؤل سببه أننا نقصد، حين نتكلم عن المسرح، ذلك المكان العالي ذا القبوة والخشبة والممثلين والروايات، وهذا مسرح صحيح ولكنه ليس كل المسرح، فللمسرح أشكال كثيرة متعددة ليس هذا النوع سوى أحدها فقط، مجرد شكل واحد تطور على يد الإغريق ثم جاء الدين المسيحي في أوروبا فقضى عليه وكبته باعتباره أحد الأشكال الوثنية للعبادة لكن قبضة الدين حين خفت عاد المسرح الإغريقي مرة أخرى فيما بعد العصور الوسطى وأصبح له شكسبيره ومولييره .. إلى آخر القصة. 
أما بقية الأشكال المسرحية فهي موجودة في حياة كل شعب، ولابد أن تكون موجودة وحية سرت ولا تزال سارية وستبقى سارية إلى الأبد، هذه الأشكال ممكن جمعها تحت ظاهرة واحدة، ظاهرة بيولوجية حيوية تدفع الناس بعد انتهاء العمل واكتفاء غريزتي الوجود وحفظ النوع أو حتى من أجل اكتفائهما إلى غريزة التجمع بلا سبب فردي أو ذاتي وإنما بتأثير الغريزة الجماعية في كل إنسان وتلبية لها، هذا التجمع يأخذ أشكالا كثيرة ولكن يحدث فيه دائما وأبدا نفس الشئ، ذلك الشعور بالأمن الجماعي الذي يدفع كل فرد إلى نسيان خوفه الفردي ومنغصاته الذاتية وقلقه على وجوده الخاص .. شعور يشبه كثيرا أسطورة البجع المسحور الذي كان يتجمع وعند البحيرة تخلع كل بجعة غطاءها الخارجي كبجعة ويلتئم شمل الحوريات الخارجة ليرقصن ويمرحن ويستحممن معا، في التجمعات الإنسانية التي تحدث بلا سبب معيشي أو جنسي يحدث نفس الشئ ويخرج كل فرد في الجماعة من ذاته الخاصة وتلتقي الحوريات مكونة الذات الكبرى للجماعة لكي تمرح وترقص وتنعم بكل ما يولده شعور الأمن الجماعي من نزوات. 
هنا في اللقاء باستطاعة كل فرد أن ينظر في ذاته دون خوف وأن يسخر منها وأن يتحرر من قبضة خوفه الدائب عليها ويصبح أكثر حرية وتبدو له خصال أخرى فيزداد كرمه ورغبته في السخاء على إخوته الآخرين ويصبح أكثر استعدادا للتضحية وبذل النفس إلى آخره. 
هذا التجمع، وتلك الأشكال المسرحية كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية في الأفراح والمآتم والمناسبات، في الاحتفالات الكثيرة التي ابتكرها الجنس البشري كحجة ( أحيانا مضحكة) للتجمع مثل التجمع للاحتفال بظهور أحد الأولاد، أو الاحتفال بنزول النقطة أو أعياد الحصاد والمناسبات الدينية، أكثر من هذا السهرات اليومية في البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، التجمعات التلقائية في الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء، بل إن الشعوب ابتكرت أماكن ثابتة لتجمعات مستمرة يذهب إليها الفرد استجابة لغريزته الجماعية مثل القهاوي والحانات والنوادي.. 
هذه كلها لحظات مسرحية، وأشكال مسرحية كان لابد بمرور الأزمان أن تتطور ويصبح لكل شكل منها تقاليد وتراث، وقد حدث أن أحدها وهو الصلاة لآلهة الإغريق ظلت تتطور إلى أن أصبحت اليوم ما نسميه بالمسرح، الذي كان إغريقيا ثم أصبح أوروبيا ومن ثم انتشر إلى العالم أجمع، ولكن ليس معنى هذا وليس معنى انتشاره والاعتراف به عالميا أن كل شعب من الشعوب لم يتطور لديه شكل يؤدي نفس الوظيفة الاجتماعية التي خلقت المسرح الإغريقي. 
ولست مؤرخا ولا فيلولوجيا ولا عالم تراث أو فولكلور، لأعرف على وجه الدقة أن كل المصريون القدماء قد عرفوا المسرح الديني بمعناه الإغريقي فما أعرفه أن التمثيل في هذا المسرح كان يقوم به الكهنة في حجرات مغلقة وهو شكل احتفالات عامة لا سرية فيها ولا غموض، كل ما يمكن الجزم به أن المسرح المصري الديني القديم كان لابد مختلفا تماما عن المسرح الإغريقي اختلاف الديانة الإغريقية عن الديانة المصرية وزيوس الأسطوري عن فرعون الإله الحي المعبود.. 
الحياة المصرية القديمة كان طابعها التجمع على النطاق الشعبي الواسع والاحتفالات الضخمة التي يشهدها الشعب كله، بعكس الحال في اليونان حيث لم تكن هناك دولة كبرى بل تقريبا كل مدينة كانت دولة وفي المدينة الواحدة كان طابع الحياة هو الاجتماعات المحدودة بل تقريبا كل مدينة كانت دولة وفي المدينة الواحدة كان طابع الحياة هو الاجتماعات المحدودة الكثيرة التي هي أصلح مادة مادة خام لنشأة المسرح لأن المسرح لابد أن يكون حضوره محدودي العدد. 
في مصر على ما أعتقد كان الأمر مختلفا، والشعب كان دائما موحدا واجتماعاته تشهدها الساحات الكبرى التي يحضرها مئات الآلاف، لهذا فلابد أنها كانت اجتماعات شبه رسمية إلى حد بعيد الجمهور فيها لا يقوم إلا بدور المتفرج على احتفال أعد قبلا، وأمثال هذه الاجتماعات لا تدخل تحت بند المسرح لا بمعناه الحديث ولا بمعناه العام، لأن دور الجماعة البشرية فيها سلبي تماما. 
الفرق بين الفرجة والتمسرح 
التجمعات البشرية المسرحية كانت تحدث بعيدا عن هذا الشكل الرسمي بنفس تلقائية حددتها في أي زمان ومكان تلقائية سرعان ما ابتكر لها الشعب مناسبات شعبية محضة لا تمت إلى الدين أو الحاكم أو أكل العيش بصلة ولهذا ظلت سارية مهما تغير شكل الحضارة في مصر أو نوع الحكم أو تغيرت الديانات، بل حتى رغم مقاومة الدين فالخروج إلى المقابر كثيرا ما قاومه الإسلام وندد به خطباء المساجد ولكن أحدا لم يستطع منع النساء وقد فرض عليهن الحجاب إلى الخروج إلى المقابر لمزاولة غريزة التجمع، وحفلات الذكر ليست سوى تجمعات الرقص الديني الفرعوني وقد أخذت ثوب الإسلام. 
ولكننا لا نزال لم نصل بعد إلى التمسرح أو التجمع الناطق المنقسم إلى ممثلين وجمهور، وأنا لا أستعمل كل هذه الصفات من باب التفاصح لأني حقيقة أريد أن أصف بها المسرح كما نعرفه وكما لا يزال بعضنا يخطئ في فهمه، فالمسرح ليس هو المكان أو الاجتماع الذي (تتفرج) فيه على كل شئ، إن هذا ابتكر له شعبنا كلمة "فرجة" أو رؤية ومشاهدة، أما المسرح فهو اجتماع لابد أن يشترك فيه كل فرد من أفراد الحاضرين، مثله مثل الرقص من بدائيته إلى احتفالات قصر الملكة فيكتوريا، لا يسمى رقصا إلا إذا اشترك في الرقص كل الحاضرين، أو الأغنية الجماعية لا تعد جماعية إلا إذا غناها كل الناس معا لأنه في كل تلك الأشكال المسرحية لابد من توفر عنصرين .. أولا الجماعة والحضور الجماعي وثانيا قيام الجماعة كلها بعمل ما، وقد نسأل: وماذا إذن عن الأشكال التي نذهب لنتفرج فيها على راقص أو نسمع مغنية تغني أو نشهد فيها فيلما؟ أليست أشكالا مسرحية، والجواب لا، ليست أشكالا مسرحية وليست إلا إشباعا فرديا لا يمكن أن يغني أو يحل محل الإشباع الجماعي، هذه الأشكال ازدهرت فقط في بلادنا بالذات لأسباب لا علاقة لها بالمسرح، ازدهرت لأن الأديان السماوية اعتبرت كافة الاحتفالات الجماعية أشكالا وثنية متخلفة حرمت القيام بها، وهكذا نشأ "تابو" جماعي ضدها واصبحت مزاولتها مقصورة على الأفراد الساقطين في نظر المجتمع الذين طردهم المجتمع فسقطت عنهم كل تابوهاته ومحرماته بل أصبحوا هم أنفسهم تابوها مجرما على المجتمع وبحيث أصبح كل ما يزاولونه لا خطر البتة من تقليده أو تسرب عدواه إلى الأجيال الناشئة، ومعظم هؤلاء الساقطين كانوا لسوء الحظ فنانين وكانوا يكونون مجتمعا منبوذا كمجتمع الغوازي في سنباط أو العوالم في شارع محمد علي أو مجتمع الجيشا في اليابان. 
هؤلاء الأفراد كان يستعملهم المجتمع ليتفرج عليهم وهم يزاولون الأشياء المحرمة ويحصل بهذه الطريقة المعذبة على إشباع لغريزته المسرحية، تماما مثلما ينشأ دين يحرم التدخين ويشبه واحد من أفراده ولكنه في نفس الوقت وليشبع رغبته في التدخين تلتقي جماعاته "تتفرج" على هذا الساقط وهو يدخن لكي تحصل بمجرد الفرجة على ما تحن إليه حنينا شديدا وهو محرم عليها تحريما أشد. 
وإلى عهد غير بعيد كانت الممثلات يعتبرن في نظر المجتمع ساقطات لأن الفنانة منهن كانت لا تجرؤ على الوقوف على خشبة المسرح إلا بعد أن تتخلص من تابوه التحريم بالسقوط وبالتحول إلى كائن محرم لكي يسمح لها المجتمع والدين والتقاليد أن تمثل ما تشاء. 
الفنون أصلها جماعية 
وهكذا نرى كيف أن الاجتماعات الكبرى للمصريين كانت تسودها الرسميات ولا يشترك فيها الحضور، والاجتماعات الصغرى في المناسبات جاءت الأديان السماوية وحرمت المساهمة الجماعية فيها وأصبح حق مزاولة الرقص أو التمثيل أو الغناء مقصورا على الساقطين والساقطات ولكن لحظات الالتقاء الجماعي لا يمكن، كما قلنا، أن تنعدم مطلقا، إنها فقط تتراجع وتختفي عن أنظار الأوصياء على التابوهات والتقاليد وحراسها، بل يمكن أن تلجأ إلى السرية التامة ولكنها أبدا لا تنقطع. 
وتراجعت اللقاءات إلى مستوى لقاء الشلة أو الصحاب وإلى دواوير زمان وصلا ملكات البيوت والجلسات الخاصة، أي التي يحل للفرد فيها أن يقوم بالمساهمة في احتفال جماعي صغير بعيدا عن نظر المجتمع الأكبر، في هذه الجلسات كان الكل يغنون ويرقصون ويسكرون و ... يمثلون، فالتمثيل أيضا، كالضحك خاصية بشرية لا يمكن إسقاطها عن الإنسان، ولكن التمثيل في هذه الجلسات كان لا يأخذ طابع الروايات كان يأخذ أشكالا أخرى، مثل أن يروي كل حاضر نكتة أي يأتي عليه الدور ليؤثر في الحاضرين مثلما تأثر هو بهم أي يحدث هذا التفاعل الاحتفال الجماعي .. بل إنه في مصر بالذات، اخترعت المحاورة التي يسمونها (القافية) وهي شكل مسرحي بدائي جدا ورغم هذا فرض نفسه على المسرح المصري المنقول فترة طويلة وكان علي الكسار يقطع المسرحية ليدخل قافية مع أحد الحاضرين. 
وليس معنى مشاركة كل إنسان أن يحدث هذا بالتساوي فهي مشاركة ذات درجات ولكن لابد من حد أدنى لها ولهذا كان دائما يحدث أن ينبغ بعض الأفراد في ناحية بحيث يبدأ الرقص جماعيا مثلا ثم لا يلبث الحضور أن يكتفوا بالتفرج على فرد أو أفراد منهم وهم يرقصون وذلك حين تصل متعة التفرج حدا اكبر من متعة المشاركة، ولكنه اختلاف في الكم فقط وليس في النوع، إننا إذا بدأنا الغناء جميعا وأوجدنا حالة المتعة الجماعية المشتركة نكون قد دخلنا في حالة من "التجلي" تجعل إحساس الفرد بصوته وبغنائه يتلاشى إلى درجة أنه إذا توقف لا يحس لأن أي مغن آخر يكون وكأنما يغني بحنجرته هو، ولعل هذا هو فكرة الكورس الأولى في الغناء الشرقي حين يبدأ احتفال الغناء بغناء الجميع إلى لحظة فقدان الإحساس بالذات حيث يكتفي بغناء الجميع إلى لحظة فقدان الإحساس بالذات حيث يكتفي بغناء فرد واحد حبذا لو كان أجمل الأصوات أي أكثرها غنائية أو موسيقية. 
ولابد من ملاحظة ظاهرة هامة في مجال الحديث عن الإحساس بنسيان الذات الفردية أو (خلعها)، إذ المعروف أن جميع هذه اللقاءات والاحتفالات وإن كان يصاحبها شرب الخمر مثلا أو تدخين المخدرات وهي كلها وسائل "تعجل" بحالة (الايوفوريا) أو ارتفاع الروح المعنوية والمرح وتسهل عملية الانزلاق من الذات الصغرى إلى الذات الأكبر. 
واجتماعات تدخين الحشيش في مصر دائما يسمونها "القعدة" لأنها ليست أولا وأساسا لعملية التخدير أو التدخين، إنها أولا وأساسا للحظتها المسرحية، للسمر، للونس، والحشيش ليس إلا "الشراب" الذي لم يرد تحريمه قاطعا في القرآن ربما لأنه لم يكن معروفا. 
أين المسرح المصري 
ونعود إلى السؤال: أين المسرح المصري إذن رغم كل ما قلنا، في الريف لا يزال السامر مسرحا شعبيا لا يعرف أحد متى بدأ وفي المدينة كاد ينقرض مسرح مماثل، مسرح الحواري، وخيال الظل والأراجوز وكل تلك الأشكال المسرحية الصريحة، ولكني لا أعتقد انها أشكال من احتكار الشعب المصري ولا يمنع هذا أن شعبنا بمواهبه التمثيلية والتأليفية طورها ونبغ فيها ذلك لأن الشعب المصري حدث له شئ في تاريخه لم يحدث لشعب آخر، شئ قطع تماما كل صلته بتاريخه الطويل الذي يعتبر أطول تاريخ لأي شعب معروف، وأوقف تماما سريان وتوارث التقاليد الحضارية وتراكمها في وجدان الشعب وعقله الباطن والواعي. 
فبعد سلسلة من الحكومات الأجنبية التي كانت الحضارة المصرية تبتلعها دائما وتمصرها جاء الدين المسيحي فآمن به الشعب إيمانا راسخا أقوى بكثير من إيمان أهل روما أو بيزنطة لأنه كلما تقدم الشعب حضاريا أصبح أكثر قابلية لتغيير معتقداته والتعصب لكل ما هو أرقى وأحدث، وتلقف الشعب الراقي هذا الدين الجديد فآمن به بإخلاص جعله يغير من ذاته تماما ويبتر كل صلة بكل معتقداته السابقة، وفعل هذا لمئات طويلة من السنين حتى جاء الدين الإسلامي فاعتنقه بإخلاص كامل أيضا وغير من ذات نفسه ليخضعها لتعاليمه. 
بالاختصار جاءت كتلة صلبة سمكها مئات السنين من العقيدة المسيحية والإسلامية لتقطع سلسلة التطور الحضاري فكانت وكأنما قضينا على الحياة المصرية القديمة وخلقنا حياة جديدة مسيحية أولا وكأن الشعب تحول كله إلى كهنة وقسس، إسلامية إلى أقصى حد وكأن الشعب تحول إلى أئمة ووعاظ، إن العبادة أي إفناء الذات الصغرى في الذات الشاملة الكبرى كانت دائما علامة رئيسية من خصال الشعب المصري في قديمه وحديثه وباستمرار وكأنه يتحضر ليؤمن بشئ أو ليعبد ويمجد العقيدة أو الفكرة.. 
هذا الحادث الضخم كان له أثره في حياتنا اليومية إذ كان علينا بعد الإسلام أن نبدأ في ابتكار حياة اجتماعية إسلامية جديدة، ابتكارات ظلت تتطور حتى وصلت في عهد الفاطميين إلى حد تكاملها الأول، وهو تكامل لم يكن كله من ابتكار الشعب المصري فدولة الإسلام الكبرى التي أصبح جزءً منها قد حملت إليه عادات وابتكارات من أقصى الشرق في الصين إلى أقصى الغرب في الأندلس ولأن نفس الشئ كان يحدث تقريبا في كل أجزاء الدولة الإسلامية فقد تقاربت أشكال الحياة اليومية في الممالك الإسلامية إلى حد بعيد. 
وفي المسرح بالذات لم يكن هذا هو ما حدث في أوروبا فالمسرح الإغريقي لم يمت تماما أو اندثر وإنما بقي في الكتب وبقيت نصوصه، وصحيح أنه كبت بالمسيحية ولكنه حين خفت قبضتها وتحركت الغريزة الجماعية لتعيده وجد كل شئ معدا لحياته الثانية ومنها انطلق. 
في مصر حين خف الإيمان المتعصب بالإسلام أيام الفاطميين لم يكن هناك ليزدهر إلا بعض الأشكال البدائية التي نمت بصعوبة في ظل الإيمان الجديد فلم يسترجع الشعب عاداته في الرقص ولكنه استرجع عاداته في تمجيد الموتى وبدأ العصر الذهبي للعمارة وأولها إقامة مدافن على شكل مساجد للحكام والأعيان، هناك، وعلى صورة واهية شديدة البهتان كانت ذكريات الحضارة القديمة لا تزال، مجرد أحاسيس غامضة خرجت هذه المرة على شكل إسلامي المظهر والمحتوى، احتفالات رمضان، وحفلات الذكر، ووفاء النيل وعودة مجالس القصاصين والحكايين وازدهار خيال الظل والأراجوز، كله إلا أن يمثل الشخص أو يقلد شخصا آخر لأن التحريم الديني كان يمنعه إذ كان فقهاء ذلك العصر وحتى إلى عهد قريب يعتبرونه نوعا من الاعتراض على الخالق في خلقه، فالإنسان في الجين الإسلامي من صنع الله وأي انتقاد له يحمل في طياته انتقادا لصانعه، وكذلك ارتداء قناع أو تغيير ملامح الوجه حتى لو كان وجه الشخص نفسه فهو أيضا تشويه في خلقة الله. 
ولكن التمثيل نفسه لم يتوقف، ظل يزاول بأشكاله غير المحددة ودون جرأة على تعريفه أو تحديده أو تطويره وهكذا نشأت القافية المصرية وخلقت العبقرية المصرية وطورت فن النكتة وإلقاء النكتة ووضعت فيها كل قدرة الشعب على السخرية وكل طاقته على الإيجار، والنكتة فن مسرحي أو على الأقل نوع من الحضور المسرحي الذي يقوم فيه شخص بإلقاء أو "تمثيل" موقف واحد متناقض من مواقف الحياة ولقد ازدهر هذا الفن لاحتوائه على كل الطاقة الدرامية لشعب محروم من إخراج هذه الطاقة على صور أخرى كما ازدهر فن الزخرفة المصري الإسلامي حيث حرم على الشعب إظهار طاقته الفنية التشكيلية في صور الأشخاص. 
نستطيع القول إذن أن محاولة العثور على شكل صريح للمسرح المصري في العصرين المسيحي والإسلامي تعتبر نوعا من الافتراء على الواقع، إذ الواقع لم يكن يشتمل إلا على أشكال بدائية وإن استطاعت أن تكفي إلى حد ما حاجة المصريين إلى التمسرح فهي أبدا لا يمكن أن تكون قد وجدت بمثل الصراحة والتحديد اللذين وجد بهما المسرح فيما بعد العصور الوسطى من أوروبا المسيحية. 
بداية مسرحنا 
حتى إذا عبرنا تلك الفترة وجئنا إلى بداية العصور الحديثة في مصر بالذات وجدنا حركة ترجمة نشيطة على يد المهاجرين اللبنانيين لنقل المسرح الفرنسي إلى اللغة العربية، تلك الحركة التي لا تزال سارية في حياتنا المسرحية إلى اليوم ولا يزال الاقتباس والتعريب والتمصير من العمد الرئيسية التي يقوم عليها مسرحنا. 
هذه الحركة التي تعتبر بداية حقيقية لمسرحنا المعاصر نستطيع أن نسميها بكل ثقة أنها كانت ولادة غير شرعية لذلك المسرح بحيث نشأ مسرحنا كحفيد ملفق للمسرح الفرنسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتطور الأمر من لاترجمة الحرفية إلى التعريب والاقتباس، وليس فقط ترجمة واقتباسا للنصوص وإنما لمدارس التمثيل وللتقاليد المسرحية والتسميات المسرحية مما لا يزال شائعا إلى يومنا هذا ككلمات الديكور والاكسسوار والجان بريميير والفيديت والفودفيل والدراما وغيرها، وهي ترجمات واقتباسات كانت أولها ركيكة متهافتة بحيث كانت ملابس العمل المسرحي الأصلي الداخلية تبدو من تحت رداء الاقتباس أو الترجمة المهلهل، ولكن الوضع لم يستمر هكذا، تطورت الحركة، وبالذات على أيدي عزيز عيد ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلى الكسار وأصبح للتمصير أو للتعريب النصيب الأكبر بحيث أن معالم المسرحية كانت في كثير من الأحيان تتوارى عن الأعين، وبحيث أصبح الاقتباس هو مجرد اقتباس "الرواية الجيدة الصنع" أو الهيكل العظمي المسرحي "ومعظمه لمسرحيات من ساردو" وتغطيته بلحم ودم مصري بحت كما كنا نرى في "كوميديات الريحاني الأخيرة" و"تراجيديات" يوسف وهبي في الثلاثينيات، بل تطور الوضع خطوة أخرى ووجد في أعقاب ثورة 1919 مؤلفين مسرحيين مصريين لا يقتبسون ولا يترجمون ولكنهم يؤلفون قطعا مسرحية كانت إلى حد ما تدور في فلك التراث الوروبي المترجم والمقتبس، ولهذا لم تعش مؤلفاتهم كثيرا وطغى عليها تيار الاقتباس المباشر ممثلا في الريحاني من ناحية ويوسف وهبي من ناحية أخرى إلى الدرجة التي ذبلت فيها حركة التأليف بحيث كادت مسرحياتنا كمسرحيات أحمد شوقي الشعرية تولد ميتة وكاد توفيق الحكيم "وهو واحد من مؤلفي سنة 1919" يتوب عن التأليف المسرحي كلية ويذهب إلى فرنسا حيث يتحول إلى كتابة الرواية وحيث يفاجأ هناك بالمسرح الفرنسي نفسه قد تطور إلى مدارسه الحديثة التي لم يكن شئ منها قد وصل علمه إلى المقتبسين في مصر، وبهره ما رأى إلى درجة أخذ يؤلف متأثرا بالمسرح الفكري الفرنسي فأنتج أهل الكهف وشهرزاد. 
ولكن درجات النجاح الساحق التي كان يقابل بها ما يقدمه الريحاني ويوسف وهبي وعلي الكسار لم تستطع أن توقف أبدا إلحاح الحاجة إلى المسرح المصري فكرة ودما ولحما، وهكذا حين عاد توفيق الحكيم عاد يكتب للمسرح أيضا ولكنه لم يشأ أن يدخل برواياته لتتنافس مع البضائع الرائجة في السوق، فوضعها في كتب، وسماها تمييزا لها وارتفاعا بها عن المسرح التجاري الناجح "المسرح المقروء" وتقريبا وعلى نفس هذا المنوال نسج محمود تيمور وعلي أحمد باكثير وعزيز أباظة. 
ومرة أخرى أنبه الأذهان إلى أن هذا العرض ليس تاريخا للحركة المسرحية ولكنه عرض لهذا التاريخ من خلال وجهة خاصة، فما كادت الحرب تنتهي وتتهيأ بلادنا للثورة العارمة المقبلة حتى كانت منشئات ثورة 19 ومخلقاتها قد بدأت تلهث الأنفاس وتتسرب منها الحياة، فلم تشارك الفرقة القومية التي أنشئت لعرض المسرح المصري المؤلف أساسا مشاعر الشعب ولا بوادر تحركاته الثورية، كانت في واد والشعب في واد، وحتى التأليف المسرحي المصري كان هو الاخر في واد إذ كان توفيق الحكيم قد أصبح همه أن يطور مسرحه الفكري الخاص بطريقة أصبح يبتعد بها عن الحياة وعن الناس بسرعة، وكان تيمور يؤلف عن الجن وباكثير عن سر الحاكم بأمر الله وعزيز أباظة عن قيس ولبنى في الوقت الذي كان الشعب فيه يغلي تحت حكم ملك حاكم بأمر الشيطان، وهكذا حين جاءت ثورة 1952 كان مسرح ما بين الحربين قد مات دون أن يتفضل أحد بمنحه شهادة الوفاة ولهذا لم يكن غريبا أبدا أن يصل عدد الرواد في إحدى حفلات يوسف وهبي إلى خمسة أشخاص بطريقة يضطر معها هذا الفنان الكبير إلى إلغاء الحفلة والفرقة المصرية الحديثة "القومية سابقا" قد استنفدت أغراضها في عرض البخيل وطرطوف ولويس الحادي عشر، وثمة فرقة أخرى، فرقة المسرح الحر قد خرجت إلى الوجود ولكنها لا تزال مواهب تمثيلية بغير تأليف مسرحي. 
في هذه الفترة بالذات أصبحت الحاجة ماسة إلى مسرح من نوع جديد وأبطال جدد، وهكذا جاء تقديم "الناس اللي تحت" لنعمان عاشور، وجمهورية فرحات وملك القطن والصفقة وقهوة الملوك والمحروسة والفراشة بمثابة بداية جديدة لمرحلة تطور هامة من مراحل المسرح المصري. 
هل خلقت الحركة مسرحنا المصري الحقيقي 
ولكن هل جاءت تلك المسرحيات لتخلق المسرح المصري البعيد عن الاقتباس والترجمة والتعريب، البعيد عن كوميديات الريحاني وتراجيديات يوسف وهبي؟ 
لكي نكون صرحاء مع الواقع يجب أن نقول أن هذه النهضة المسرحية الجديدة لم تكن إلا طورا أرقى من أطوار الاقتباس والتأثر فهي قد جاءت لتضيف دورا جديدا إلى بناية من أساسها أوروبية فرنسية معربة، كل ما في الأمر أنها، هذه المرة، نتيجة تأثرات بمدارس أوسع، منها المسرح التشكوفي والأبسني والأمريكي الحديث، التأليف أكثر تماسكا هنا والشخصيات أكثر مصرية ولكن القالب والموضوع لا يزالان في حدود القوالب المسرحية الروسية أو الفرنسية أو الأمريكية، إن هناك تشابها كبيرا بين الروح التي أملت كتابة هذه الروايات وتقديمها وبين الروح التي سادت مصر أثناء ثورة 19 وفي أعقابها والتي املت على محمد تيمور ومحمود تيمور وبديع خيري ونجيب الريحاني وتوفيق الحكيم كتابة رواية "الثورة المصرية الولى"، روايات هدفها الانسلاخ بالموضوع وصبغه بصبغة مصرية ثورية، ولكن المشكلة الكبرى أننا فعلنا هذا في الثورة الأولى والثورة الثانية بوسائل وتكنيك ومسرح ليس مسرحنا النابع منها ومن تقاليدنا. 
وهنا يبرز السؤال الخالد، هل هناك سوى طريق واحد على المسرح المصري أن يمضي فيه وذلك بقبول الأساس المعرب والمضي في تطويره إلى أن يتلاءم مع طبيعتنا؟ 
أم لكي نكتشف مسرحنا الحقيقي الخاص بنا علينا أن نسلك طريقا مختلفا تماما، يكاد يكون عكس الطريق الأول، طريقا أشق قليلا لأن علينا فيه أن نكتشف أنفسنا ونكتشفها في نقطة يكتنفها غموض كثير هي طبيعتنا الدرامية وكنهنا المسرحي؟ 
تلك هي المشكلة الملحة التي أعتقد أنها أصبحت تواجه جميع المشتغلين بالمسرح المصري المهتمين به، لأنها ليست مشكلة تختص بالتأليف المسرحي وحده ولكنها تشمل طرق التمثيل والإخراج وحتى شكل المسرح نفسه وهندسته، مشكلة خطيرة ملحة ولكني أعتقد أننا قد وصلنا في طريق النضج إلى مستوى أصبح علينا فيه أن نناقش أمثال هذه المشاكل الخطيرة الملحة ونواجهها، بل ويذهب بعضنا إلى حد تقديم النماذج. 
ولنبدأ بالسؤال الأول 
إنني أعتقد أننا مهما غيرنا وبدلنا وطورنا في المسرح الأوروبي فستبقى طبيعته أوروبية بعيدة عنا بعد أوروبا عنا لا تندمج معنا ولا نندمج معها مثلنا مثل الماء والزيت، فلكل شعب من الشعوب طبيعته الخاصة التي ينتج فنونه استجابة لها، إن هناك فارقا أساسيا بين العلم والفن، فالعلم ممكن أن يكون قوانين عالمية يتداولها كل البشر ويفيدون منها ويطبقها كل شعب بنفس الروح والعقلية، ولكن حتى حتى هذا العلم يجب أن يكون شاملا وعالميا نجد له انواعا، ففي الهند والصين مثلا توجد ثلاثة أنواع من الطب، الطب الأوروبي التقليدي، والطب التجريبي الهندي الشعبي والطب العربي اليوناني الذي يستعمل تركيبات المؤلفين العرب واليونانيين القدامى، بل لقد أخبرني الصديق الكبير الدكتور أنور المفتي أن نتائج العلاج بالأنواع الثلاثة تكاد تكون متقاربة في درجة فاعليتها بل أحيانا يتفوق الطب الشعبي التجريبي والطب العربي اليوناني على طب أوروبا نفسه، هذا في العلم فما بالك في الفن، حيث هو ليس فقط محليا بطبعه ولكنه مالم يكن محليا فقد طبعه وطبيعته كفن، إن الفن الذي نسميه عالميا ليس سوى الفن الأوروبي الذي نسميه من باب التجاوز أوروبا نظرا لدرجة انتشاره الكبرى، ولكنه أولا وأساسا فن أوروبي بحيث إذا عزلناه عن أوروبا التي أنتجته لفقد تأثيره تماما وفنيته، لأن كل فن هو نتاج شعب أو شعوب تحيا في بيئة وذات معينة وذات مزاج وتكوين نفسي معين بحيث لابد أن يتطابق الناتج "الفن" مع المنتج "الشعب" أو الفنان النابع من هذا الشعب. 
ولهذا أيضا فالمسرح بشكله "العالمي" المزعوم أصبح يهدد المسارح الشعبية الأخرى في كل بلاد الدنيا إلا في بلاد راسخة التقاليد المسرحية الخاصة كالصين واليابان، وهذا المسرح هو الذي قضى على مسرحنا الخاص بنا والذي كان محتما أن يظهر إلى الوجود يوما، وهذا المسرح أيضا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحل محل مسرحنا الخاص بنا أو يمنع ظهوره إلا إذا كان باستطاعة اللغة الفرنسية أو الإنجليزية أن تغنينا عن لغتنا العربية وتقضي عليها وتحل محلها، فالفن كاللغة جزء لا يتجزأ من طبيعة الشعب وخصائص وجوده . 
والحديث هنا ليس فقط عن المسرح الأوروبي الصريح ولكنه أيضا عن المسرح "المصري" الناتج عن التأثر بالمسرح الأوروبي، ذلك المسرح الذي يكون معظم بل كل رواياتنا التي ألفت للمسرح إلى الآن وبما فيها المدرسة المصرية الحديثة، إن ازدهار هذا النوع ورواجه لا ينفي أبدا أنه ليس منا وليس من طبيعتنا بل أنه يؤكد حاجة شعبنا إلى المسرح بشكل عام وأهميته في حياته بحيث أنه حين لا يجد مسرحه يقبل على المسرح الآخر "وشئ خير من لا شئ بالمرة". 
الفن إذن خاصية من خواص كل شعب، والمسرح أيضا كما رأينا جزء لا يتجزأ من طبيعة كل شعب، والمسرح الأوروبي سيظل أوروربيا بالنسبة لنا وكذلك كل الأشكال المتفرعة منه والمتأثرة به وكل مدارسه في التمثيل والإخراج والهندسة المسرحية .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق