حين سئل يوسف إدريس عن تعريف القصة القصيرة، فقط.. أشرع كفه وحك إبهامه بالوسطي، محدثا تلك الطرقعة الشهيرة، الدالة علي المباغتة والاكتناز والسرعة والتكثيف والإيجاز.. هكذا عرف إدريس القصة القصيرة وهكذا كان يكتبها وبتعريفه هذا اختصر إدريس كتبا كثيرة حاولت استكناه ملامح وجماليات أكثر الفنون قدرة علي المراوغة والخداع: القصة القصيرة، كنا كلما ضبطنا أنفسنا غارقين في لجتها دون جدوي فعلية، نتذكر حركته تلك ونحاول أن نكتب وفقا لمقاييسها، ساعين لإحداث الشرارة الرقيقة ، الهادئة، التي تشتبك بالوعي مباشرة وتقر فيه، وإذا فشلنا ، لذنا بقصته «نظرة» (1953)، نستلهم منها الأمل في مراودة السر وفض المغاليق أو نقرأ - ربما - للمرة الألف «المرتبة المقعرة» (1969)، نتلوها بصوت عالٍ، علي أنفسنا، وفي حضرة من نحب ومن يتوق لملامسة الأفق، واقترح هنا أن نقرؤهما من جديد.
نظرة
كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدا حقا ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن»، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتي أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط.
ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيري، وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلا كثيرة وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية. ثم أضبطهما معا فيميل رأسها هي. ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلي الفرن وكان قريبا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أري لها رأسا وقد حجبه الحمل. كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير، لم تلتقط أذناي منه غير كلمة (ستي)..
ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتي عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.
وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك، ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي.
راقبتها طويلا حتي امتصتني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة.
وأخيرا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.
واستأنفت سيرها علي الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك.
وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها. وحين وصلت كان كل شيء علي ما يرام والحوض والصينية في أتم اعتدال، أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون.
ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها. وقبل أن تنحرف استدارت علي مهل واستدار الحمل معها، وألقت علي الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة.
المرتبة المقعرة
« في ليلة الدخلة » و«المرتبة» جديدة وعالية ومنفوشة، رقد فوقها بجسده الفارع الضخم، واستراح إلي نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التي كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة :
- انظري .. هل تغيرت الدنيا ؟
ونظرت الزوجة من النافذة، وقالت :
- لا ... لم تتغير.
- فلأنم يوما إذن.
ونام أسبوعا، وحين صحا كان جسده قد غور قليلا في المرتبة. فرمق زوجته وقال:
- انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت :
- لا .. لم تتغير.
- فلأنم أسبوعا إذن.
ونام عاما، وحين صحا كانت الحفرة التي حفرها جسده في المرتبة قد عمقت أكثر، فقال لزوجته :
- انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت :
- لا .. لم تتغير.
- فلأنم عاما إذن.
ونام عشرة أعوام. كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدودا عميقا. وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه فاستوي سطحها بلا أي انبعاج، وحملوه بالمرتبة التي تحولت إلي لحد وألقوه من النافذة إلي أرض الشارع الصلبة.
حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد حتي مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة، وأدارت بصرها في الفضاء، وقالت :
- يا إلهي ! لقد تغيرت الدنيا !
***
هكذا كانت قصص يوسف إدريس، درسَ حضرة الناظر، الذي رسم خطا قصيرا ودقيقا، ليصل بين أهم نقطتين في الخريطة، ولسانه يقول موضحا: إن لغة القصة يجب أن توزن بميزان الذهب .
إنها إذن.. الذرات الصغيرة التي لا تلتقطها غير عين الساعاتي ولا يقيم وزنها إلا بائع الذهب، وحده يستطيع أن يفصل بين الحقيقي والمختلق، وهكذا كان «الأستاذ يوسف»، يملك أصابع حرفي خبير وعين وعقل فيلسوف عظيم.. إنه نافخ الروح في القصة المصرية، وهو المنذور للأزمات دوما والتي إن لم تأت إليه سعي إليها.
جرأته لم تتجل - فقط - يوم صحح عامل المطبعة عنوان مجموعته الأولي: أرخص ليالي (1953)، إلي أرخص ليال، فأصر إدريس علي ليالي وحين استغلق علي الناس فهم مقصده وطاله هجوم اللغويين والنقاد، أعلن: أنا أنطقها هكذا، وأوضح: إنني ملتزم في كتاباتي بقواعد الحياة وليس بقواعد النحو، ليتحول كل ما يكتبه ويقوله فيما بعد إلي حبوب فوارة تقلب محتويات الكوب الهادئ، المستقر، فتقينا أمراض الاستطراد، وخدعة الجمل الأليفة، والكتابة عن نماذج مستهلكة، جاهزة على رف «التلاجة».
يفاجؤك إدريس بأبطال من لحم هذا الواقع، لكنهم يدورون في سياق خاص بهم، أشبه بأحلام اليقظة، حيث تختلط الرغبات ، فتشتبك الفانتازيا بالواقع والحقيقة بالعبث، وحيث «لا يمكن للوصف المنهجي أن يضارع في بلاغته أكثر قصص يوسف إدريس قصرا- المرتبة المقعرة» (ب.م. كربر شويك) .
من هذه المنطقة المتوترة يطل عليك وجه عبد الكريم في أرخص ليالي (1953)، ومحمد في قصة صح (1956)، والبطل (1957،) والشيخ شيخة (1957)، ومسحوق الهمس (1967)، والإمام في قصة أكان لابد يا ليلي أن تضيئي النور (1970)، وزوج الأم في : بيت من لحم (1971)، كلها نماذج تشبه الموسيقي، التي تتفجر من أعطاف غامضة، لتأخذك إلي حيث تظن الحقيقة كاملة وهي لم تزدك إلا عطشا للجمال والمعرفة.
«عرفت يوسف إدريس وجها غزير الملامح المتغيرة دون انقطاع، حتي بدت لي في بعض الأوقات كأنها أقنعة لا تحصي» غالي شكري.
حالة إبداعية كاملة تفجرها فيك قراءة إدريس، الذي ستظل قصصه مرجعا لا ينضب، لكل من يريد أن يكتسب خبرة هذا الفن: شخوصا ولغة وحبكة، ومقدرة فذة على تمرير الأفكار الضخمة عبر تفاصيل متناهية الصغر، مثل أن يلعب محمد بحجر أبيض علي جدران قصور جاردن سيتي في قصة «صح»، ليحدث بهذا العبث الصبياني البسيط خرقا بالغا في هندسة الصرامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق