الأحد، 4 ديسمبر 2011

التوهان عن عمد- هدي حسين





يرتبك المرء أحياناً عندما يكون محاطاً برعاية عائلية شاملة. فداخل نظام "الأوفر كير" over careالاجتماعي الذي تفرضه الأسرة البرجوازية العليا على بناتها، داخل هذا الحرص الشديد المبرر بحب قد يقتل أحياناً شخصية الطفلة المحبوبة زيادة عن اللزوم، تكون هذه الفتاة في صراع دائم بين الفضول الذي يولد الرغبة في استكشاف العالم خارج القفص الذهبي المبطن بالقطيفة الحمراء، وبين الشعور بالذنب تجاه عصيان أوامر الوالدين المحبين جدا، الرقيقين جدا، والذين بالتالي "لا يستحقان" تخييب آمالهم، أو كسر توقعاتهم بالخروج عن المسارات التي حددوها هم مسبقاً للإبنة التي "ينبغي" أن تكون مطيعة ومهذبة ولا "تكسر قلب" والديها الحاني.


منذ الصغر إذاً عرفت أن الحب سلاح قاتل. وأنه مبرر لا يقهر لكثير من الجرائم الشنعاء. ولا أقصد هنا جملاً مثل "أضربك يا بنتي لأني أحبك" ببساطة لأنني لم أتعرض في حياتي لهذا الموقف أبداً من والدي.. لكن أفكر في جمل مثل "خيبتي أملي فيكي، الله يسامحك، إيش حال إما كنت بحبك؟!" هنا تكون كلمة الحب أداة لأبشع الجرائم التربوية وهي التربية من خلال الإشعار بالذنب والعرفان بالجميل.. في سن صغيرة لم أكن أعرف كيف أعبر عن هذه الأشياء.. فقط عرفت أن في الحب شيء مريب ويستحق التوجس.. وأن الإحساس بالذنب عبارة عن غصة فظيعة في القلب خصوصاً عندما تجد نفسك تشعر بالذنب دون أن تكون فعلا مقتنع أنك أخطأت في شيء مما فعلت، مما تعاقب عليه بـخصام ماما لك.. كنت أشعر بالذنب لأنني أغضبها، لكنني لم أكن أشعر بالذنب لما يغضبها مني.. ضميري فقط كان ما استطاعت شبكة الحب أن تصطاده. ومن هنا، حدث شرخ في هذه التربية، إذ أن عرفاني بالجميل الموجود بالفعل، لم يكن مبالغاً لدرجة أن تبقيني للأبد داخل القفص الذهبي.. فقد بقيت أفعل ما يغضبهم. لكن شيئاً فشيئاً توقفت عن الافتخار أمامهم، بما – يا للغرابة – يصعقهم لدرجة أن يلومونني.


بدأت محاولاتي في استكشاف العالم خارج القفص الذهبي مبكراً جداً.. إذ كنت في سن صغير أتهرب بأية حجة من ركوب أتوبيس المدرسة عودة إلى البيت، وبدلاً منه أركب الأتوبيس العام، أو أمشي من جاردن سيتي حيث المدرسة إلى البيت حاملة الحقية الثقيلة على ظهري لكن بعزم وخفة من شعر فجأة أنه لا خوف عليه، وأنه يستطيع الاعتماد على نفسه.. عندما آخذ الطريق مشياً أعود في نفس ميعاد أتوبيس المدرسة، لكنني عندما أركب الأتوبيس العام أعود مبكراً فأضطر للتسكع قليلاً حتى لا ينكشف أمري.. لكنني كنت أريده أن ينكشف حتى أفخر بنفسي أمامهم وأظهر لهم كم كبرت ويمكنني الاعتماد على نفسي، وأنه لا داعي "للقلق الشديد" عليّ. لكن كانت النتيجة "خوفتينا عليكي، كان ممكن يخطفك حد من الأتوبيس، أو تتوهي وانتي ماشية في الشارع!" كان يمكن.. لكنه لم يحدث أبداً. ما حدث فقط أنني كنت أفقد مفتاح البيت كثيرا لا إرادياً.. وكلما زاد اللوم زادت مرات فقدي للمفتاح.. حتى جاء يوم سمح لي فيه بركوب التاكسي وحدي. كنت ذاهبة لتمريني المعتاد في النادي بالمهندسين. وعند العودة، لم يوافق أي سائق تاكسي أن يأخذني معه إلى المنيل. وقفت أنتظر على محطة الأتوبيس، لكن كلما جاء أتوبيس كان شديد الازدحام كأنه كيس لحمة مفرومة.. في النهاية وبعد نصف ساعة من كل ذلك، قررت في لحظة غضب وحماس أنني عندي قدمين وعقل، وبالتالي لا أحتاج لا لتاكسي ولا لأتوبيس. وأخذت أمشي في الطريق الذي اعتاد التاكسي أن يأخذني فيه إلي البيت. كنت أتبع لافتات الطريق، علامات أخرى مثل أسماء المحلات ومكانها مني (عن يميني أم عن يساري)، أشكال بعض البيوت المميزة..الخ.. وصلت البيت بعد ساعتين مشي، وكنت سعيدة جداً وفخورة أنني وصلت البيت دون أحتياج لأن أسأل أحدا عن الطريق، ودون أن أضطر للانتظار مذلة تحت رحمة أي تاكسي.. كنت سعيدة وفخورة لدرجة أكسبتني طاقة جعلتني أستمر في الرقص بعد عودتي للبيت من التمرين مشياً لمدة ساعتين أخريين! عندما أخبرت والدي بما حدث كانت صدمتي كبيرة، كان أبي ساخرا مستهزئاً وأمي ساخطة غاضبة. قال أبي: "لو كان عندك عقل كنت اتصلت بنا وأتينا لنأخذك للبيت، لكن ماذا يمكنك أن تفعلي، جسم عجول وعقل خنافس!.." وقالت أمي: "والله انت ليس عندك أي إحساس بالمسئولية! وتجروئين على أن تخبرينا بما فعلتِ(تقصد بما اقترفتِ من اثم!) ألا تخجلين من نفسك؟! انت إيه؟! ماعندكيش قلب؟! مش عارفة إننا ممكن نقلق عليكي؟! خلاص صرنا في نظرك أمواتاً! لا تقيمين لنا أي خاطر ولا أي حساب!"


قررت أمي بعدها ألا تكلمني لفترة، وأبي صار يعاملني كأنني قطة منزلية مستأنسة أكثر مما يعاملني كإنسان حر مسؤول له عقل واختيارات وقرارات.. لكن هذه اللحظة كانت فاصلة بالنسبة لي. فكثرة اللوم مثل كثرة الضرب، مع الوقت تعتادها ولا تصبح مؤثرة لدرجة شديدة، خصوصاً أن من يلومك بشدة هكذا يفترض فيك عدم الإحساس، بما أنه يزيد من جرعة لومك كل مرة..في تلك اللحظة كنت أفكر: "ألم يخطر ببالهما أنهما أيضا يخيبان أملي أحياناً ومع ذلك أتغاضى عن أفق توقعاتي تجاههما بينما هما لا يتنازلان عن ذلك ابداً؟ لم يخطر ببالهما أنني كان يمكنني أن أفخر بنفسي بعيدا عنهما، ولا أترك لهما بذلك مجالاً لمشاركتي حياتي بتفاصيلها اللطيفة الصغيرة المختلفة عن الراكد اليومي الممل؟! ثم لماذا هذا التسفيه من أفعالي؟ وهذا اللوم العنيف؟ لماذا؟


لم أكن ساعتها أستطيع أن أعبر عن هذه الأشياء بكلام مثل: "من أسس التربية السليمة أن تترك لطفلك مساحة من التعبير عن ذاته والفخر بها لأن ذلك يساعد على ازدياد ثقته بنفسه وبهذا يساعده أن يكون أكثر اجتماعية وتفاعلاً مع البيئة المحيطة، وأن أي تسفيه أو زجر في غير محلهما قد يربكاه ويشعراه بالخزي مما قد يكسر ذاته قبل حتى أن تتكون كاملة"..وبرغم ذلك كنت أعرف أن ما يفعلاه يسيء لي وأنني يجب أن أقاومه واستمر على العكس في استكشافاتي بعيدا عنهم. قد يكون ذلك لأن دفة "الشعور بالذنب" القوية لم يكن يوازيها من الجهة الأخرى لغلاف دستورهم العائلي، دفة"عرفان بالجميل" بنفس القوة، ربما لهذا لم يستطيعا أن يغلقا على زهرة صباي الدفتين..


منذ ذلك الحين بدأت أتعمد التوهان. صارت هواية لي. أن أركب أي أتوبيس لا أعرف يذهب إلى أين، وأن أنزل في أي محطة منه، وأتجول بالمكان متأملة المباني والناس والمقاهي واللافتات لفترة تسمح لي بتصفية ذهني واكتساب بعض الذكريات البصرية إلى أن أتعب وأبدأ أسأل "لو سمحت، كيف أذهب إلى المنيل؟" كانت بدأت تتكون بداخلي طبقة حزن غريبة وغير مفهومة.. وكنت بدأت أدخل أكثر في فكرة "إنك ميت وإنهم ميتون"، أي أنه لا شيء في الحياة يستحق الحنق أو المنافسة أو الصراع من أجله.. كنت قد بدأت أتعلم معني الصمت، ومعنى أن أتكلم فقط عندما يكون هناك ضرورة لذلك، وألا أبدأ أبداً أي حديث كان.. لم أكن أشعر أنني في محنة. كنت أشعر على العكس، أنني ينبغي أن اساعد الآخرين.. الحقيقة التي كانت غائبة عني هي أنني كنت أستنجد بلا وعي مني، بالآخرين، أرتمي في حيواتهم بتفاصيلها لألهو بعيدا عن حياتي قليلاً.. ذات مرة مثلاً في إحدى توهاناتي المتعمدة، ساعدت أما في شراء شبكة ابنتها، تلك البنت التي كانت سعيدة جدا، وكنت أنصحها كأنني خبيرة في شراء الذهب، بل وأنني دخلت بيتهم معهم بعدها وشربت معهم شربات شراء الشبكة.. أمور كهذه كانت تحييني من جديد.. أن يثق فيك أحد لا يعرفك بالمرة، أن يسألك عن رايك ويستشيرك في أموره الخاصة.. هذه الثقة التي تغزي ثقتك في أنك تفعل الصواب، برغم استخفاف وتشكك أبيك، وقلق وتوبيخ أمك لو أنك قلت الحقيقة، أو هذا الصمت المرتاب المحمل بخيبة أمل من كليهما تجاهك، لو أنك قررت فجأة أن تكذب لتتكتم حياتك الخاصة بعيداًُ عن هذا الشرَك.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق