هناك أماكن تثير الروح أكثر من غيرها، هناك كذلك اتجاهات تحفزها أكثر من غيرها.. في المكان، للروح جغرافيا تخصها. مثلاً، كل الكائنات الخيالية التي تأتيني، تأتي من الشمال الشرقي ، أينما أكون، تأتي هي من الشمال الشرقي. وفي الغالب لا يقع بيننا حوار إلا وأنا متجهة إلى الجنوب الغربي.. عندما انتبهت لهذه المسألة، لم أكن بعد قد قرأت عن السامانية. ذلك المذهب الذي يعتقد في أهمية الاتجاهات بالنسبة لرحلات الساماني في اكتشاف نفسه والعالم من حوله والطبيعة بكائناتها وأمزجتها.. هناك بوصلة. هذا أمر بديهي.
وبعيداً عن السامانية، فقد انتبهت إلى أن هذه الكائنات لا تحب مواجهتي وجها لوجه. لهذا فهي تأتي دائما من خلفي. لم أفكر أبداً في أنها تريد مباغتتي من الخلف، أو طعني من الخلف.. ربما لهذا فقط لم تفعل.. لأنني لم أتخيل ذلك منها ولا من غيرها.. حمتني براءتي في كثير من المواقف، بل وحمت غيري معي. مثال لذلك عبد العزيز وسماح.. هل يسمحان لي بأن أحكي عن علاقتي بهما؟..
قبل أن يعلن عبد العزيز عن وجوده، كنت كلما وضعت لمبة جديدة للإضاءة في أي مكان من الشقة، خصوصاً في الحمام والمطبخ والصالة، كانت تنفجر لحظة ما أضغط زر النور.. حتى أنني في النهاية يئست من وضع لمبات جديدة وبقيت الحجرات الثلاثة يصعب دخولها ليلاً لشدة ظلمتها اللهم بإيقاد شمعة.
ثم بدأت تحدث أشياء غالباً في المطبخ. صوت ارتباك ما. أدخل، أجد الأطباق قد وقعت، أو زجاجة زيت انسكبت..أي شيء.. أي تدمير.. أحياناً لا شيء، سوى الشعور كأن هناك حركة في المطبخ.. دائماً كان يحدث ما يدفعني للدخول إلى المطبخ.. كأن شيئاً هناك يريد أن يجرني إلى أرضه.. بلا سبب منطقي أو ترتيب مني، لم أكن أنفعل غاضبة تجاه ما يحدث. بالعكس، كنت أبتسم. وأفكر أن هناك كائناً خجولاً هنا يثير الضجة صحيح، لكنه بالخجل الكافي الذي يجعله يختفي وراء هذه الأفعال ولا يعلن عن وجهه. وبدلاً من أن أشعر بالسخط وأقول "تبا لك" كنت أشعر بحنان وإشفاق أموميين وأقول "لا تخف".
ثم حدث شيء عنيف بالنسبة لي وكأنه اختبار. كنت في أسوأ حالاتي الصحية والبدنية ومع ذلك ذهبت إلى العمل. هناك أخبرت زميلتي في العمل أنني"في أول يوم من الدورة الشهرية وعندي الفلوانزة حادة وأضراسي ولثتي تؤلمانني بعنف" قالت لي" عليك بالعسل الأبيض والليمون" ثم تركت عبء العمل عليّ وقالت إنها مضطرة للذهاب لأسباب شخصية!
في طريق العودة من العمل اشتريت الليمون والعسل بروح باسمة، فخورة بأنني استطعت أن أنهي العمل وحدي في هذه الظروف.. وضعت الليمون على طاولة المطبخ ووضعت برطمان العسل في الثلاجة اتقاءً للنمل. وكنت كلما دخلت المطبخ شعرت أن أحدا هناك..
احتميت بحجرتي المفضلة، الصالون، ونمت على كنبتها رأسي باتجاه الغرب وقدمي باتجاه الشرق.. وبين النوم واليقظة رأيت دخاناً أسود في سماء الصالة يتجمع كالخيوط من كل المسارب حتى يصير غيمة، كان كل خيط يشبه دخان نار شمعة.. قلت لنفسي أخيراً قرر الكائن الخجول الذي سافر إلى بيتي أن يعلن عن وجوده.. هذه خطوة لا بأس بها.. قمت لأتواصل معه لكنه تبدد مجددا من الهواء ما إن وجدني أتحرك.. شعرت ساعتها بمنتهى التعاطف معه، إذ أدركت أن هذا الكائن رهيف لدرجة أن تبدده ذبذبات حركتي المترددة في موجات الهواء. بخفة وحرص على ألا أشرِّد ما تبقى من ذراته ذهبت إلى المطبخ لكي أصنع العسل بالليمون الذي قد يشفيني.. شققت ليمونتين بسكين من المنتصف، ثم فتحت الثلاجة وأمسكت ببرطمان العسل الذي ما إن قبضت عليه إلا وانزلق من يدي مهشماً كأنما هي بودرة زجاج مطحونة في لزوجة العسل الأبيض، على الأرض، قرب الثلاجة. فاضطررت في الحمى والبرد، وآلام اللثة وأسنان وسخونة وألم الدورة الشهرية، أن أمسك بخرقة وأغرقها في الماء لأنظف ما انقلب من العسل..
عرفت أنني أمام كائن يتحداني في صبري وعفوي. كائن يريد أن يثير غضبي لكي يجد مبرراً يقنعه بإيذائي.. عرفت أنه أتى أصلا لإيذائي مرسلاً من قبل إحدى الصديقات اللاتي يغيظهن هدوئي بل وبرودي أحياناً تجاه المواقف المستفزة.. وكنت نائمة على كنبة الصالون. شعرت بهلال أبيض يحتضنني من جزعي. الأرجح أنه كان يحتضن الكنبة التي أنام عليها بحيث يحتضنني ضمناً. كان شعوراً مريحاً وهادئاً. حتى تحول هذا الهلال تدريجياً إلى كائن مكون من النفايات المعدنية. دوائر ومثلثات من الرصاص والصلب بداخلها طلقات غير مفرغة بعد. كائن على هيئة رأس وجسم حصان، وأقدام وذيل تمساح. كائن عملاق مخيف يحيط بي أنا وكنبتي المحببة بينما يتلفت برأسه المعدني يمينا ويساراً بصليل مزعج يدعو للصراخ، وكأنما يريد أن يقول: هذه منطقتي وهي لي، ولا أحد ينازعني عليها..
لم أعتلِ حصاناً من قبل. برغم رغبتي الحثيثة في تعلم ركوب الخيل. هذه المرة كنت وكأنما أكون معه شكلاً يشبه الصليب. أنا الغرب والشرق وهو الشمال والجنوب. في المعتقد الساماني، يعتبر اتجاه الشمال (حيث رأسه) الاتجاه نحو رحلة البحث في العلوم، البحث عبر التجارب المعملية والعملية. أما الجنوب (حيث ذيله) فهو رحلة الساماني للبحث عن جذوره، البحث في الأرض، في منبته ومنشأه، في التربة. في طفولة روحه. في الملموس. بينما الغرب (حيث رأسي) فهو اتجاه رحلة الساماني الفردية. رحلة اكتشاف ذاته والتي لا تكون نتيجتها متشابهة بين ساماني وآخر. بينما يمكن أن تتشابه نتائج الرحلات في الاتجاهات الأخرى.. أما الاتجاه الشرقي (حيث قدمي) فهي رحلة الاستنارة الروحية، رحلة البحث عن النور والنار المعتقد والروح. لم أكن ساعتها أعرف كل هذا بعد.. لكنني كنت متأكدة أن للاتجاهات علامة فيما يحدث لي.
فتحت عيني ببطء فتلاشى الحصان التمساح الرصاصي، لكن دخاناً عاد يتجمع في سماء الصالة. قررت أن أخاطبه وأنا مستلقية على الكنبة ومتخلية تماماً عن كل ما يدل على الحياة من الحركة. أغمضت عيني وبدأن أحاول أن أبث في هذا الدخان كل ما يمكنني من طاقة حتى يصير أكثر تجسيماً، أو على الأقل حتى أفهمه أنني لا أريد أن أستخدم مادتي وحركتها في تشتيته.. وبدلاً من أن يتخذ هذا الدخان شكلاً، وجدته يتجمع في صف ويتحرك مخذولاً باتجاه المطبخ، حيث الركن الشمالي الشرقي الأثير الذي بدأ رحلته إلي منه. وبينما كان يفعل ذلك طلب مني أن أخرج اتقاءً لشره، وأن أفتح عيناً عليه ليخبرني عن بعد بما في داخله.
قبل أن أستجيب لطلبه، جلست إلى مكتبي حيث تكون الكنبة خلفي. اتجهت جنوباً دون أن أدري.. وكتبت:
الشبح
ينبغي أن أدعي الموت
كي يمكنك أن تجمع شتاتك من الهواء
وتقف أمامي
يا مسكين
ألهذا الحد
تخيفك مادتي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق