بدأت المسألة بأنني لم أكن أجد النوم بسهولة. كلما رغبت في النوم، وجدت أشياء أخرى تشغلني، كتابة، فيلم حلو، كتاب شيق.. فجأة أصبح العالم كله جميلا لدرجة تدعو للتعجب.. لكنني لم أحاول أن أربط بين الأشياء..
بدأت أيضاً بالتالي أستيقظ متأخرة، واضطر دوما للذهال للعمل بتاكسي لكي ألحق به في الوقت المطلوب، مما أثر على طبيعة نفقاتي وجعلني أقتصد كثيراً في الأكل والخروج لمقابلة الأصدقاء أو الذهاب لسينما وما إلى ذلك.. مما جعلني أكثر مكوثاً في البيت..
تدريجياً تعودت على البقاء متيقظة حتى الفجر أحياناً.. بدون أن يساعدني في ذلك أي أداة جذب أو تشويق مما سبق.. وصرت أحس بإحباط شديد لأنني لا أستطيع أن أستيقظ في الميعاد المطلوب للذهاب للعمل عن طريق الأتوبيس، مما يوفر لي ما يكفي من المال للاستمتاع بحياتي خارج البيت.. هذا الإحباط كان نابعاً من شعوري أني لا أستطيع أن أتحكم في حياتي لأنني ببساطة لا أستطيع أن أواظب على النظام الميقاتي الذي وضعته لنفسي. عندما ترتبك الساعة البيولوجية الطبيعية للإنسان، فكيف يمكنه أن يتبع النظام الكوني. كيف يقيس المسافة والزمن؟ كيف يتعرف على السياق الذي فيه تتبلور أحداث حياته؟.. قد يبدو هذا الكلام فارغاً، لأن هناك الكثيرين الذين يستطيعون أن يعيشوا فيما قد يسمى "فوضى".. لكن حتى هذه أنا لا أراها فوضى، إنهم لهم نظامهم الخاص الذي يتوافق مع متطلباتهم.. أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك. لقد عودت نفسي طوال حياتي أن يكون لي "برنامج" أقوم به. أستيقظ في ساعة معينة وأنام في ساعة معينة وبينهما جدول منظم من الأحداث يتفق مع متطلبات اليوم، حتى "الصياعة" كان لها جدول.. وبسبب هذا الجدول، كان الناس في الأوساط الثقافية يشعرون أنني دائما موجودة بينهم، ويتعجبون متى أقوم بهذه الكتابة الغزيرة.. المسألة تتلخص في الجدول الزمني.
بإصراره على أن يحدثني بينما أنا خارج البيت ليلاً، بدأ عبد العزيز بضرب ساعتي البيولوجية التي يعتمد عليها جدولي الزمني، الذي عليه يعتمد كل شيء في حياتي. كان ماكراً ربما.. لكنه كان يبدو صادقاً جداً في خوفه من مادتي. لكن رفضي لرغبته المحمومة أن أبقى معه في البيت يبدو أنه حرك شيئاً عنيداً فيه.. جعله يقلب حياتي هكذا رأساً على عقب. حتى قلت مناعتي بسبب إحباطي وصرت مستسلمة لأي مرض فأصبت ببرد حاد اضطرني في النهاية إلى التغيب عن العمل لأسبوعين والبقاء - كما أراد هو – معه في البيت..
كنت أشعر أن لعبد العزيز دخل في كل ما يحدث لي، وكأنه عنكبوتا ينسج فخاً لذبابة، ولكي يجذبها يقول لها "هذا بيت" وليس فخاً.. لكنني مع ذلك كنت أحاول أن أقنع نفسي بغير ذلك. كانت فكرة أن شبح ما يتحكم في حياتي تبدو لي جنونية برغم شعوري بصدقها.. لم أكن أستطع أن أتحدث عنها مع أحد.. كنت ببساطة أخجل من نفسي كيف أنا كبيرة وناضجة وأترك لأي ما يكون أن يتحكم في حياتي هكذا.. لم أكن أعرف كيف تمكن من ذلك.. وكلما فكرت أكثر كلما أنهكت أكثر، ووقعت في فخ الإحباط أمام خزلان إرادتي لي والاستسلام للمرض أكثر.. لقد فتحت باباً من عقلي على عبد العزيز لكي أنصت له وأراه عندما أكون خارج بيت، والآن لا أعرف إن كان هذا الباب مازال مفتوحاً. حرارتي ترتفع من أثر المرض. وجسمي همدان جداً.. هذه مادتي التي يخاف منها عبد العزيز تتدهور بمنتهى البساطة. ولو كان ذلك الباب مازال مفتوحاً سيتمكن أن يرى منه كل ما في عقلي بينما أن سخنة أخرف ولا أستطيع حتى أن أعمل لنفسي كوب ليمونادة.!
ما لم يكن يعرفه عبد العزيز، هو أن عقلي يعمل بحدة عندما أصاب بالبرد. هناك لحظة ثمة لحظة بينما تعلو دجة حرارة الإنسان لدرجة الهلوسة، هناك لحظة يمكنه أن يعي فيها بماذا يهلوس بالتحديد. هذه هي اللحظة التي يكون فيها ذهني ثاقب وعقلي منتبه لأبعد حدود. في هذه اللحظة (وهي لحظة زمنياً فعلا) لا تخرج فيها الأفكار على هيئة كلمات.. تخرج على هيئة كتل لونية في كل كتلة فكرة طويلة مفصلة، ومتصلة بأخرى ذات لون وكثافة وشفافية مختلفة.. هنا، لا يمكن لعبد العزيز أن يعي ما أفكر فيه، حيث التفكير خام مازال لم يتبلور في كلمات يمكن لذهنينا أن يتبادلاها. تأتي الفكرة خام ككرة سلة تدهم جمجمة الواحد فجأة. ولا أعرف كيف، في لحظة، يكون قد استوعب كل تفاصيلها.. هذا ما لم يكن يعرفه عبد العزيز..
عندما داهمتني هذه اللحظة وأنا أثناء الحمي، فهمت أشياء كثيرة. وعندما استيقظت غارقة في عرقي داخل البطانية واللحاف، كان ذهني كبرنامج كمبيوتر تم تحديثه. أغمضت عيني وبدأت أول خطوة: التركيز.
وكان تركيزي أساساً على أهمال عبد العزيز، تجاهل وجوده. اعتباره "غير موجود."، ثانياً، كان تركيزي على استعادة هواء البيت. (لم أكن أفكر أن عبد العزيز مستعمر وأن هذا هو هوائي الإقليمي!) كنت أركز على إعادة بصمتي إلى الهواء. أولا ملء الهواء ببصمتي مجدداً، وكأنك تملأ الهواء برطوبة ما تخصك، ثانياً إفراغ حرية عبد العزيز في التجول في الهواء الخاص ببيتي بدون علم كل بصمة لي في هذا الهواء.
عندما انتهيت من هذه الخطوة، أخذتها معي وبدأت أراكم عليها. بألا أنساها مقابل الذهاب إلى ما بعدها. فبتركيز كنت أحث توازني على أن يعمل بحيث يمكنني أن أقف برغم الدوار. وأن أقطع الهواء بهدوء اليوجا من الصالون إلى الصالة إلى المطبخ حيث اتخذ عبد العزيز لنفسه منزلا، وبدون كلام معه، أصنع لنفسي كوب نعناع بالليمون، وأفكر في الشفاء بالإرادة. أو لنقل، أجعل الشفاء هدفاً يشبه الطُعم لكي أصطاد به إرادتي مجددا.. وعندما أتمكن من إرادتي وأجدها قد تمرنت كفاية عبر اختبار شفائي، يمكنني أن استخدمها في أي شيء بعدها.
أثناء الحمى تذكرت أمي وأبي وطريقة العقاب والثواب لديهما. اللوم والحب. الشعور بالذنب والعرفان بالجميل.. وفهمت أن ما حدث هو أن عبد العزيز حاول أن يدخل إلى عن طريق حيلة العرفان بالجميل، التملق.. الخ.. واستطاع في النهاية أن يشعرني بالذنب، وتجاه من؟ تجاه نفسي.. وبذلك جعلت من نفسي المجني عليه والجلاد في آن واحد.. تماماً مثل مرض السرطان.. خلية تنقسم على نفسها وتحارب نفسها. هكذا كنت منقسمة على نفسي وبدأت أحاربها. عاقبتها بالإحباط، وحاربتها باليأس الذي يقلل من مناعة الجسم.. إذاً، لو نظرت للمسألة بتمعن، سأجد أن عبد العزيز لم يفعل شيئاً، وأنني أنا من فعل كل شيء لنفسي وضدها.. بالتالي، أولا، ليس هناك سبباً لأن أغضب من عبد العزيز - خصوصاً أنني أعرف أن الغضب عدوي - فهو ببساطة لم يفعل شيئاً.. وما أحتاج إليه هو أن أتخلص من الشعور بالذنب تجاه نفسي. وهذا أمر يمكنه أن يحدث لو أنني تخلصت مما جعلني أشعر بالذنب.. هكذا قررت أن أتخلص من كل ما يؤثر على ساعتي البيولوجية بالسلب.
وبينما أنا أفعل ذلك كان عبد العزيز يتقلص في ركن المطبخ خائفاً. يراني أستجمع إرادتي شيئاً فشيئاً ولا أعيره أي اهتمام، اللهم أحياناً أبتسم له في حنان يتجاوز المرض ويبدو اقرب للشفاء.
أحضرت بطارية للمنبه. استيقاظ في الخامسة والنصف صباحاً. السادسة إفطار. السادسة والنصف خروج للمشي حول النيل وشراء الجرائد. السابعة والربع، عودة واستحمام ونسكافيه في البلكونة مع الجريدة. الثامنة خروج للعمل.
بعد فترة من الاستمساك بالنظام الخاص بي، فترة استطعت فيها أن أستعيد حريتي المالية عبر الاستيقاظ المبكر، وأستعيد ذهني للكتابة، واستعيد بصراحة ثقتي في إرادتي قبل كل شيء، وأن أمسك بزمامها بنفسي.. بعد فترة من كل هذا، وكأن عبد العزيز كان يريد أن يتأكد أنني لم أكن أفعل كل هذا "حلاوة روح" لكن بجد ومثابرة، وقف عند باب الصالون المغلق، يستأذن في الدخول. أذنت له. قال:
- أنا آسف. حنق العبد على الحر ليس هناك ما يساويه..
- وهل هنا عبد؟ (أجبته بابتسامة)
وضع عبد العزيز نفسه على كنبة نومي، وأخذ يشكل نفسه على هيئة كتكوت أصفر له ريش وأخذ ينظف ريشه:
- هل أعجبك هكذا؟
- يعجبني أنك تحاول وتثابر للتجسد. أنا متأكدة أنك تبذل طاقة كبيرة من أجل هذا.. المهم أن يكون هذا هو فعلا ما تريد أن تفعله..
- أريد أن يكون لي اسم.
- حسناً، أنت الآن كتكوت أصفر له ريش! (قلت ضاحكة، ثم اردفت بجد) وهذا أفضل بكثير من دخان في الهواء، هل تتذكر؟
- عندك حق..
- حسناً سأذهب الآن. (قلت بعد أن وضعت حقيبتي على كتفي مستعدة للخروج.)
- لكن اليوم أجازتك من العمل، ابقى معي..
- (مبتسمة وبخفة) نعم اليوم أجازة وعندي مواعيد مع بعض الأصدقاء.. لو أردت تعالى معي..
- لا!
- حسنا، سأبقى بابا من ذهني مفتوحا عليك ربما تغير رايك.. أنا شخصيا لا أعرف لماذا تحب البقاء في البيت إلى هذا الحد.. هذا ممل جدا بصراحة.. سلام، لا تنسى لو غيرت رأيك، باب ذهني مفتوح..
- لا سآتي معك، لا تتركيني وحدي.. فقط خبئيني.. في أي شيئ.. في ملابسك، في حقيبتك.. فقط خبئيني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق